موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

كلهم ـ على حلف واحد ـ أو يقتلوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب فنزل جبرئيل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقصتهم وما تعاقدوا عليه وتواثقوا ، وأمره أن يبعث أبا بكر (١) إليهم في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار.

فصعد رسول الله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معشر المهاجرين والأنصار ، إنّ جبرئيل أخبرني : أن أهل وادي اليابس اثني عشر ألف فارس قد استعدوا وتعاقدوا وتعاهدوا أن لا يغدر رجل بصاحبه ولا يفرّ عنه ولا يخذله حتى يقتلوني وأخي علي بن أبي طالب ، وقد أمرني أن اسيّر إليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس ، فخذوا في أمركم ، واستعدوا لعدوّكم ، وانهضوا إليهم على اسم الله وبركته يوم الاثنين إن شاء الله تعالى.

فأخذ المسلمون عدتهم وتهيئوا ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر بأمره ، وكان فيما أمره به أنه إذا رآهم أن يعرض عليهم الإسلام ، فإن تابعوه ، وإلّا واقعهم فيقتل مقاتلتهم ، ويسبي ذراريهم ، ويستبيح أموالهم ، ويخرّب ضياعهم وديارهم. فمضى أبو بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار في أحسن عدّة وأحسن هيئة ، يسير بهم سيرا رفيقا ، حتى انتهوا إلى أهل وادي اليابس.

فلما بلغ القوم نزلوا إليهم ، ونزل أبو بكر وأصحابه قريبا منهم. وخرج إليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدجّجين بالسلاح ، فلما صادفوهم قالوا لهم : من أنتم! ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ فخرج إليهم أبو بكر في نفر من أصحابه المسلمين فقال لهم : أنا أبو بكر صاحب رسول الله. قالوا : ما أقدمك علينا؟ قال : أمرني رسول الله أن أعرض عليكم الإسلام ، فإن تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون

__________________

(١) كذا في نسخة بحار الأنوار ، وتفسير فرات الكوفي ، وفي المطبوع : فلانا ، وكذا في سائر الموارد.

١٦١

فلكم ما لهم وعليكم ما عليهم ، وإلّا فالحرب بيننا وبينكم. فقالوا له : أما واللات والعزّى ، لو لا رحم بيننا وقرابة قريبة (؟) لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن يكون بعدكم ، فارجع أنت ومن معك واربحوا العافية ، فانّا انما نريد صاحبكم بعينه وأخاه علي بن أبي طالب. فقال أبو بكر : يا قوم ، إنّ القوم أكثر منكم أضعافا وأعدّ منكم ، وقد نأت داركم عن اخوانكم من المسلمين ، فارجعوا نعلم رسول الله بحال القوم. فقالوا له : يا أبا بكر ، خالفت قول رسول الله وما أمرك به ، فاتّق الله وواقع القوم ولا تخالف رسول الله! فقال : إنّي أعلم ما لا تعلمون ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

فانصرف وانصرف الناس أجمعون ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقالة القوم وما ردّ عليهم. فقال رسول الله : يا أبا بكر ، خالفت أمري ، ولم تفعل ما أمرتك ، وكنت لي ـ والله ـ عاصيا فيما أمرتك! ثم قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معشر المسلمين ، انّي أمرت أبا بكر أن يسير إلى أهل وادي اليابس ، وأن يعرض عليهم الإسلام ، ويدعوهم إلى الله ، فإن أجابوه ، وإلّا واقعهم. وإنّه سار إليهم ، فخرج إليه مائتا رجل ، فلما سمع كلامهم وما استقبلوه به انتفخ سحره (١) ودخله الرعب منهم ، فترك قولي ولم يطع أمري. وإنّ جبرئيل أمرني عن الله : أن أبعث إليهم عمر مكانه في أصحابه الأربعة آلاف فارس. فسر يا عمر على اسم الله ، ولا تعمل كما عمل أخوك ، فانه قد عصى الله وعصاني. وأمره بما أمر أبا بكر.

فخرج ومعه المهاجرون والأنصار الذين كانوا مع أبي بكر ، يقتصد بهم في سيرهم ، حتى شارف القوم وكان قريبا منهم حيث يراهم ويرونه. فخرج إليهم

__________________

(١) كذا في تفسير الكوفي ، وفي القمي : صدره. والسحر : الرئة ، أي انتفخت رئته خوفا. انظر مجمع البحرين.

١٦٢

منهم مائتا رجل ، فقالوا لهم مثل مقالتهم لأبي بكر ، فانصرف ، وانصرف الناس معه ، وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم!

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمثل ما أخبره به صاحبه. فقال له : يا عمر ، عصيت الله في عرشه وعصيتني ، وخالفت قولي ، وعملت برأيك! ألا قبّح الله رأيك! وإن جبرئيل قد أمرني أن أبعث علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين ، وأخبرني أن الله يفتح عليه وعلى أصحابه.

فدعا عليّا عليه‌السلام وأوصاه بما أوصى به أبا بكر وعمر وأصحابهم الأربعة آلاف فارس ، وأخبره أن الله سيفتح عليه وعلى أصحابه. فخرج علي عليه‌السلام ومعه المهاجرون والأنصار وأعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب ، وتحفى دوابهم (١) وقال لهم : لا تخافوا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأخبرني أنّ الله سيفتح عليّ وعليكم ، فأبشروا ، فانكم على خير وإلى خير. فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وساروا على ذلك السير والتعب. حتى إذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم ويراهم أمر أصحابه أن ينزلوا.

مواجهة الإمام علي عليه‌السلام القوم :

وسمع أهل وادي اليابس بقدوم علي بن أبي طالب وأصحابه ، فخرجوا إليهم فيهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلما رآهم علي عليه‌السلام خرج إليهم في نفر من أصحابه. فقالوا لهم : من أنتم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ فقال عليه‌السلام : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وأخوه ورسوله إليكم ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن آمنتم فلكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم من خير وشر. فقال له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك وما عرضت

__________________

(١) كان إذا تقشّر حافر الدابّة قيل : حفيت الدّابّة ، كأنّها أصبحت حافية من حافرها.

١٦٣

علينا ، فخذ حذرك واستعدّ للحرب العوان (١) واعلم أنا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعد بيننا وبينك غدا ضحوة ، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينكم! فقال لهم علي عليه‌السلام : ويلكم! تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم ، وانصرف علي عليه‌السلام إلى مركزه. فلما جنّه الليل أمر أصحابه أن يقضموا (٢) دوابّهم ويحسنوا إليها ويسرجوها.

اشتباك الحرب :

فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس (٣) ثم أغار عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتى وطأتهم الخيل ، فلما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرّب ديارهم. وأقبل بالاسارى والأموال معه .. وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس .. وما غنم المسلمون مثلها قط ، إلّا أن يكون من خيبر ، فانها مثل ذلك.

وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم سورة «والعاديات ضبحا» يعني بالعاديات الخيل تعدو بالرجال ، والضبح صيحتها في أعنّتها ولجمها (٤).

__________________

(١) الحرب العوان : التي فيها جولات وكرّات.

(٢) يقضموا الدّوابّ أي يجعلوها تقضم أي تأكل شعيرها.

(٣) الغلس : الظلام في آخر الليل ، والغسق في أوّله.

(٤) كذا في هذا الخبر في تفسير القمي ، والكوفي : ٦٠٢ ، الحديث ٧٦١ والطوسي في الأمالي : ٤٠٧ ، الحديث ٩١٣ بسنده عنه عليه‌السلام أيضا مختصرا قال : وجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر ابن الخطاب في سرية (ولم يعيّن) فرجع منهزما يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، فلما انتهى إلى النبيّ قال لعلي عليه‌السلام : أنت صاحب القوم ، فتهيّأ أنت ومن تريده من فرسان

١٦٤

ونزل جبرئيل فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فتح الله لعلي عليه‌السلام وجماعة

__________________

ـ المهاجرين والأنصار .. وقال له : اكمن النهار وسر الليل ولا يفارقك العين. فسار علي عليه‌السلام إليهم فلما كان عند الصبح أغار عليهم ، فأنزل الله على نبيّه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) إلى آخرها. والخبر من مرويات أبي القاسم بن شبل الوكيل ، وإليه أشار الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٤٠ وإلى الحديث الطويل أشار الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٨٠٣ فقال : نزلت السورة لما بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم .. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس فصلّى بهم الغداة وقرأ فيها(وَالْعادِياتِ) فلما فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها! فقال رسول الله : نعم! إنّ عليّا ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. هذا وقد نقل الطوسي في التبيان ١٠ : ٣٩٥ عن الضحاك : أن السورة مدنية ، والطبرسي أيضا نقل ذلك عن ابن عباس وقتادة. ١٠ : ٨٠١.

وفي آيات اطعام أهل البيت عليهم‌السلام من سورتهم سورة الإنسان قال : إن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة بأن قال : هذه السورة مكية ، فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة؟! واستدل بذلك على أنها مخترعة ، جرأة على الله وعداوة لأهل بيت رسوله ، فأجبت .. كشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه ..

فنقل عن كتاب الإيضاح للاستاذ أحمد الزاهد باسناده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : سألت النبيّ عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة ، على نحو ما نزلت من السماء ، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب .. إلى أن قال : وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة .. وباسناده عن الحسن البصري وعكرمة .. وباسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس .. ورواه الطبرسي أيضا عن الحاكم الحسكاني النيشابوري ١٠ : ٦١٢ ـ ٦١٤ وليس في قوائم هذه الأخبار مدنية العاديات ، بل هي فيها مكية. ولذلك فنحن ذكرنا نزولها في عداد المكيات الأوائل ، وبناء على هذه الأخبار عن الصادق عليه‌السلام بنزولها هنا في المدينة فهي نازلة هنا اما ابتداء أو ثانية وبمعنى ثان.

١٦٥

المسلمين. فصعد رسول الله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين ، وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلّا رجلان ، ونزل.

ثم خرج يستقبل عليّا في جمع من أهل المدينة من المسلمين ، إلى ثلاثة أميال من المدينة ، فلما رآه علي عليه‌السلام مقبلا نزل عن دابّته ونزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى علي عليه‌السلام ، حيث نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

والمفيد في «الإرشاد» نقل الخبر عن أصحاب السير إلى أن قال : فروي عن أمّ سلمة رحمها الله قالت : كان نبيّ الله عليه‌السلام قائلا في بيتي إذ انتبه من منامه فزعا ، فقلت له : الله جارك! قال : صدقت ، الله جاري ، لكنّ هذا جبرئيل عليه‌السلام يخبرني : أنّ عليا قادم. ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليّا عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٣٤ ـ ٤٣٨ ويبدو عنه في تفسير فرات الكوفي ٥٩٩ ـ ٦٠٢ ، الحديث ٧٦١ وروى قبله حديثا أطول منه عن سلمان الفارسي رضى الله عنه فيه : أنّ الذي أخبر النبي بخبر استعداد القوم أعرابيّ من بني لجيم ، وأن القوم من خثعم يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة منهم ، وكان الحارث يعدّ بخمسمائة فارس ، وأنه أرسل إليه عليا رأسا بخمسمائة أو بخمسين ومائة فارس ، فقتل الحارث صباحا وهزمهم وغنم وسبى منهم ، ونزلت سورة العاديات ، واستقبله الرسول والمسلمون على ثلاثة أميال من المدينة. وروى قبله خبرا عن أبي ذر الغفاري وفيه : أنّ النبيّ أقرع بين أهل الصفة فبعث منهم ومن غيرهم ثمانين رجلا إلى بني سليم ولّى عليهم رجلا فهزموا ، فدعا لها عليّا عليه‌السلام فبعثه إليهم وشيّعه إلى مسجد الأحزاب ، فلما طلع الفجر أغار عليهم وكان رئيسهم الحارث بن بشر فقتله ومائة وعشرين منهم وسبى منهم مائة وعشرين فتاة ناهدة ، ونزلت سورة العاديات قبله عن ابن عباس ، وهنا سمّى السرية ذات السلاسل ، وفيه : أنّ النبي بعث فيها أبا بكر ثم عمر ثم خالد بن الوليد فهزموا ، فدعا لها عليا عليه‌السلام وسيّرهم معه ، وكمن لهم خلف جبل إلى السحر ، فلما كان السحر أشرف عليهم من الجبل فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، ونزلت سورة العاديات في ذلك.

١٦٦

وقام له المسلمون صفّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما بصر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما ، فقال له : اركب ، فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان! فبكى أمير المؤمنين عليه‌السلام فرحا. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، لو لا أنّني أشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلت فيك ـ اليوم ـ مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك (١).

وانصرف عليّ عليه‌السلام إلى منزله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم؟ قالوا : لم ننكر منه شيئا إلّا أنه لم يؤمّ بنا في صلاة إلّا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد فقال النبيّ لهم : سأسأله عن ذلك. فلما جاءه قال له : لم لم تقرأ بهم في فرائضك إلّا بسورة الإخلاص؟ فقال عليه‌السلام : يا رسول الله أحببتها.

فقال له النبيّ عليه‌السلام : فان الله قد أحبّك كما أحببتها (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١١٦ ، ١١٧ و ١٦٥.

(٢) الإرشاد ١ : ١١٦ ، ١١٧. وروى خبر سورة التوحيد الصدوق في التوحيد : ٩٤ بسنده عن عمران بن الحصين الأنصاري : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سرية. ولم يسمّها. والطبرسي في إعلام الورى نقل ما ذكره المفيد في الإرشاد أولا ١ : ١١٣ ـ ١١٦. وأرسل النقل الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ١٦٧ ، ١٦٨ ، الحديث ٢٥٧. مع ذكر دور عمرو بن العاص في الغزوة نحو ما في الإرشاد. وأشار المفيد إلى أصحاب السير ولم يسمّهم ، وأشار الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٤٠ ، ١٤١ إلى أسمائهم فقال : وكيع والزجاج والثوري والسدّي ومقاتل وأبو صالح عن ابن عباس. مع ذكر دور خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص.

أما ابن اسحاق والواقدي فقد قالا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة إلى الشام على ما بأرض جذام يقال له السّلسل وبذلك سميت الغزوة : ذات السلاسل. وذلك أنه بلغه أن جمعا من بليّ وقضاعة قد تجمّعوا يريدون المدينة ، فبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يستعين بمن مرّ به من العرب وهي بلاد بليّ وعذرة وبلقين. وانما اختاره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لان أمّ أبيه العاص بن

١٦٧

سريّة أبي قتادة إلى خضرة (١) :

روى ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : أقبل رجل من بني جشم يقال له : رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة بقومه حتى نزل

__________________

ـ وائل كانت من بليّ ، فأراد أن يتألّفهم بذلك. فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا ، فخاف منهم ، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله يخبره ويستمدّه ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح في مائتين من سراة الأنصار والمهاجرين منهم أبو بكر وعمر فساروا وكان قبل هذا يسير الليل ويكمن النهار أما الآن فسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بليّ ، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا به تفرقوا ، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليّ وعذرة وبلقين ، فهناك لقي جمعا غير كثير ، فتراموا بالنبل وتقاتلوا ساعة ، ثم حمل المسلمون عليهم فهربوا وتفرّقوا ، وأقام عمرو هنالك أياما يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشياه والنّعم.

ويروون عن رافع بن عميرة الطائي أنه كان نصرانيا يدعى سيرجس فأسلم وانبعث في هذا البعث مع أبي بكر فاستنصحه فقال له : آمرك أن توحّد الله ولا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ هذا البيت ، وتغتسل من الجنابة ، ولا تتأمّر على رجلين من المسلمين أبدا.

فلما توفي رسول الله واستخلف أبو بكر قدم عليه فقال له : يا أبا بكر ، ألم تك نهيتني عن أن أتأمّر على رجلين من المسلمين؟! فقال : بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك! قال : فما حملك على أن تلي أمر الناس؟! أو : مالك تأمّرت على أمّة محمد؟! قال : اختلف الناس فخشيت عليهم الهلاك ، ودعوا إليّ فلم أجد لذلك بدا ، أو : خشيت على امة محمد الفرقة! سيرة ابن هشام ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٧١ ـ ٧٧٢ وفي مقدمته ذكر أنها كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان.

(١) على عشرين ميلا (ثمانين كم) بناحية نجد عند بستان ابن عامر. مغازي الواقدي ١ : ٦.

١٦٨

بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وروى عنه الواقدي قال : وكنت قد تزوّجت ابنة سراقة بن حارثة النجّاري الشهيد ببدر ، وأصدقتها مائتي درهم ، ولا أجدها ، فجئت النبيّ فأخبرته وقلت له : يا رسول الله أعنّي في صداقها. فقال رسول الله : ما وافقت عندنا شيئا اعينك به ، ولكنّي قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا [في سرية] فهل لك أن تخرج فيها؟ فانّي أرجو أن يغنّمك الله مهر امرأتك. فقلت : نعم.

فبعثنا النبيّ إلى غطفان نحو نجد ، وقال لنا : سيروا الليل واكمنوا النهار ، وشنوا الغارة ، ولا تقتلوا النساء والصبيان. فخرجنا حتى أتينا ناحية غطفان ليلا ، فألّف ابو قتادة بين كل رجلين منّا ، ثم خطبنا .. فأوصانا بتقوى الله : لا يفارق كل رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره ، ولا يأتيني رجل فأسأله عن صاحبه فيقول : لا علم لي به! وإذا كبّرت فكبّروا ، وإذا حملت فاحملوا ، ولا تمنعوا في الطلب. ثم جرّد أبو قتادة سيفه وجرّدنا سيوفنا ، وكبّر وكبّرنا معه ، فشددنا وهجمنا على حاضر منهم عظيم (٢).

وفي خبر ابن اسحاق قال : قربنا حاضرهم عشيشية (عشاء) مع غروب الشمس ، ونحن ننتظر غرّة القوم حتى غشينا الليل وذهبت فحمة العشاء (ظلمتها) فقام صاحبهم رفاعة بن قيس وأخذ سيفه وجعله في عنقه وخرج يتّبع أثر راع قد سرّح فأبطأ عليهم فتخوّفوا عليه ، فقال له نفر ممن معه : نحن نكفيك ، قال : لا والله لا يذهب إلّا أنا. فقالوا له : فنحن معك ، قال : لا والله لا يتّبعني أحد منكم. ثم خرج فمرّ بي ، فلما أمكنني رميته بسهمي فوضعته في فؤاده ، ثم وثبت إليه

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٧٨.

١٦٩

فاحتززت رأسه. ثم شددنا في ناحية العسكر وكبّرنا ، فو الله ما كان إلّا النجاء بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خفّ معهم من أموالهم. ونحن سقنا إبلا وغنما كثيرا فجئنا بها إلى رسول الله. وجئته برأسه أحمله معي. فأعانني رسول الله من تلك الابل بثلاثة عشر بعيرا (١).

وروى الواقدي : أنهم غابوا خمس عشرة ليلة (في شعبان سنة ثمان (٢)) وجاءوا بمائتي بعير وألف شاة ، مع سبي كثير : أربع نسوة ، وأطفال من غلمان وجوار .. وعزلوا الخمس ، وكان سهم كل رجل اثني عشر بعيرا ، وكان البعير يعدل بعشر من الغنم. وجاء محميّة بن جزء الزبيدي إلى النبيّ فقال : يا رسول الله ، إنّ أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة ، وقد كنت وعدتني جارية من أول فيء يفيء الله عليك.

فأرسل رسول الله إلى أبي قتادة فقال : ما جارية صارت في سهمك؟ فقال ابو قتادة : نعم جارية من السبي أخذتها لنفسي بعد أن أخرجنا الخمس من المغنم. فقال النبيّ : هبها لي. قال أبو قتادة : نعم ، يا رسول الله. فأخذها رسول الله فدفعها إلى محميّة بن جزء الزّبيدي (٢).

نزول سورة الطلاق :

نجد في ترتيب النزول المعتمد سورة الطلاق بعد سورة الإنسان (٤) وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : وتسمّى سورة النساء القصرى ، ثم روى عن عبد الله ابن مسعود أنه كان يقول : إنّ سورة النساء القصرى (الطلاق) نزلت بعد قوله :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٩.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٠.

(٤) التمهيد ١ : ١٠٧.

١٧٠

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ..)(١) وروى السيوطي في «الدر المنثور» عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة (يعني قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ..)) بسبع سنين (٢) أي في السنة السابعة للهجرة.

وأيضا في الترتيب المعتمد بعد سورة الطلاق سورة البيّنة ، ثم سورة الحشر. ولم يذكر لسورة البيّنة شأن نزول ولا سبب ، ولم يختلفوا أن شأن نزول سورة الحشر اخراج يهود بني النضير من ديارهم إلى خيبر والاردن والشام ، وكان ذلك قبل خيبر بكثير ، أي قبل السنة السابعة مما يقتضي نزولها قبل هذا.

وفي الترتيب المعتمد بعد سورة الحشر سورة النصر : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : أي فتح مكة ، وفي الروايات في بدايات مقدمات الفتح نزول الآيات الأوائل من سورة الممتحنة ، كما سيأتي ، بينما هي في روايات النزول قبل هذا بعشر سور!

بدايات روايات الفتح

نقض قريش لعهد الحديبية :

مرّ في شروط صلح الحديبية ، «وأنّه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل». ولما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده. وقامت بنو بكر (من كنانة قريش) فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٤.

(٢) الدر المنثور ٧ كما عنه في الميزان ١٩ : ٣١٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٣ و ٣١٤.

١٧١

وآخر ما كان بين خزاعة وبني بكر أن عدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب أبناء الأسود الدّيلي من بني بكر من أشراف كنانة فقتلوهم في عرفات ، قرب علائم حدود الحرم ، قبيل الإسلام بقليل ، ثم تشاغلوا بالإسلام فحجز بينهم (١) فتجاوزوا وكفّ بعضهم عن بعض من أجل الإسلام ، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم ، إلّا أنه قد دخل الإسلام عليهم جميعا فأمسكوا (٢).

وانتصرت خزاعة لرسول الله :

وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية وقبل شهر شعبان (٣) ، قعد أنس بن زنيم الدّيلي يروي هجاء رسول الله ، فسمعه غلام من خزاعة فقال له : لا تذكر هذا! قال : وما أنت وذاك؟! فقال : لئن أعدت لأكسرنّ [فاك] فأعادها الدّيلي ، فوقع عليه الخزاعي فشجّه. فخرج الدّيلي إلى قومه فأراهم شجّته ، فثار الشرّ بينهم (٤).

وأراد نوفل بن معاوية الدّيلي ـ وهو قائد بني الدّيلي من بني بكر من كنانة ـ أراد أن يثأر من خزاعة لمن قتلوه قبيل الإسلام من أبناء الأسود الدّيلي : ذؤيب وسلمى وكلثوم. فأبى عليه بعض بني بكر وتابعه بعضهم ، ومنهم بنو نفاثة من بني بكر ، فكلّموا أشراف قريش أن يعينوهم بالسلاح والرجال لقتال عدوّهم من خزاعة ، وذكّروهم بالقتلى منهم على يد خزاعة ، وبدخولهم في عقدهم وعهدهم ، وأنّ خزاعة انحازت إلى عقد محمد وعهده.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٣.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢١٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٨٢.

١٧٢

فأما أبو سفيان فإمّا لم يشاوروه ، أو شاوروه فأبى عليهم ، وأما سائر القوم فقد أسرعوا لهم. وأما خزاعة فانهم كانوا في دعة وأمان من عدوّهم لما حجز الإسلام بينهم ، ولو كانوا يخافون هذا لكانوا على حذر وعدة فتواعدت قريش فيما بينهم سرّا لئلا تخبر خزاعة فتحذر ، فتواعدوا على ماء لخزاعة يسمّى الوتير ، فوافوا للميعاد ، وفيهم رجال من كبار قريش متنقّبين متنكّرين : صفوان بن أميّة ، ومكرز بن حفص ، وحويطب بن عبد العزّى ، وجلبوا معهم أرقّاءهم ، فبيّتوا خزاعة ليلا ، فقتلوا منهم رجلا يقال له منبّه ، ثم لم يزالوا يقاتلونهم حتى انتهوا بهم إلى علائم حدود الحرم (من قبل عرفات).

فلما انتهوا إلى الحرم قال بنو بكر لقائدهم نوفل الدّيلي : يا نوفل ، إلهك ، إلهك ، قد دخلنا الحرم! فقال نوفل : لا إله لي اليوم يا بني بكر! أصيبوا ثاركم! فلعمري انكم قد كنتم تسرقون الحاجّ في الحرم ، أفلا تدركون ثاركم فيه من عدوّكم؟! لا يؤخّر أحد منكم بعد اليوم من ثاره.

وانتهوا بهم في عماية الصبح إلى مكة ، فدخل الخزاعيون إلى دار الخزاعيّين في مكة : بديل بن ورقاء ورافع مولاهم (١). فانصرف عنهم القرشيون إلى منازلهم وقد قتلوا منهم ثلاثة وعشرين رجلا (٢).

ثم إنهم حضروا وحصروا خزاعة في دار رافع وبديل يريدون قتل من بقي منهم (٣) ثم مشى الحارث بن هشام وقد حبسوهم ثلاثة ايام لم يكلّموا فيهم (٤) وعبد الله ابن أبي ربيعة المخزوميّان إلى صفوان بن أميّة وعكرمة بن أبي جهل

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١ ـ ٣٣ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٨٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.

١٧٣

المخزومي ، فلاموهم على عونهم بني بكر فيما صنعوا ، وذكّروهم أن هذا نقض لما بينهم وبين محمد من عقد وعهد ومدّة. وتولّى سهيل بن عمرو أن يكلم نوفل بن معاوية الدّيلي فقال له : قد رأيت ما قتلت من القوم وأنت اليوم قد حضرتهم وحصرتهم تريد قتل من بقي منهم! هذا ما لا نطاوعك عليه! فاتركهم لنا. فقال : نعم. فتركهم ، فخرجوا (١).

ندوة قريش للمشورة :

قال الواقدي : ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا له : هذا أمر لا بدّ أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه!

فلما علم أبو سفيان بما وقع من الشر قال : هذا والله أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه .. والله ما شوررت ، ولا هويت حيث بلغني! إن صدقني ظنّي ـ وهو صادقي ـ فو الله ليغزونا محمد (٢).

وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد ارتدّ عن الإسلام وتعرّب بعد الهجرة ، فكان يومذاك حاضرا هناك فقال : إنّ عندي رأيا : إنّ محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيّركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه. قالوا : ما هي؟ قال :

ـ يرسل : أن أدّوا (سلّموا دية) قتلى خزاعة ، وهم ثلاثة وعشرون رجلا.

ـ أو : تبرءوا من حلف من نقض العهد بيننا بنو نفاثة (من بني بكر من كنانة).

ـ أو ننبذ إليكم الحرب.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.

١٧٤

فما عندكم في هذه الخصال؟ فقال سهيل بن عمرو : ما خصلة أيسر علينا من التبرّؤ من حلف بني نفاثة. وقال شيبة : لا ، ولكنّا ندي (نؤدّي دية) قتلى خزاعة فهو أهون علينا. فقال قرطة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ، ولا نبرأ من حلف نفاثة ، فهم أعمدة لشدّتنا ، ولكن ننبذ إليه على سواء! فقال أبو سفيان : ما هذا بشيء! وما الرأي إلّا جحد هذا الأمر أن تكون قريش قد دخلت في نقض عهد وقطع مدّة ، فان قطعه قوم بغير هوى منّا ولا مشورة فما علينا؟! قالوا : هذا الرأي ، لا رأي غيره ، الجحد لكلّ ما كان من ذلك. فقال : وإنّي لم أشهده ولم اوامر فيه ، وأنا في ذلك صادق ، لقد كرهت ما صنعتم ، وعرفت أن سيكون له يوم مظلم! فقالوا له : وأنت تخرج بذلك! (١).

وقال : ما لي بدّ أن آتي محمدا قبل أن يبلغه هذا الأمر فاكلّمه ليجدّد العهد ويزيد في الهدنة. فقالوا : قد والله أصبت الرأي. فأسرع الخروج أبو سفيان (٢) بعد يومين ، أي خمسة أيام بعد مقتل خزاعة (٣) مع مولى له على راحلتين ، وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله (٤) هذا وقد سبقه عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي.

استنصار خزاعة بالرسول :

روى الواقدي عن حزام الكعبي الخزاعي عن آبائه قال : كان عمرو بن سالم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٧ ، ٧٨٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.

١٧٥

الكعبي الخزاعي رأس خزاعة ، فخرج في اربعين راكبا من خزاعة (١) صبح الواقعة (٢) يخبرون رسول الله بالذي أصابهم ، وأن صفوان بن اميّة حضر ذلك في رجال من قومه متنكّرين فقاتلوهم بأيديهم ، وأعانوهم بالرجال والسلاح والكراع ، فهم يستنصرون رسول الله عليهم. فقدم على رسول الله المدينة ، ودخلوا مسجده وهو جالس بين ظهراني الناس ، وقام يستأذن النبيّ ينشده شعرا ، فأذن له ، فقال :

لا همّ إني ناشد (٣) محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا (٤)

قد كنتم ولدا وكنّا والدا (٥)

ثمّت أسلمنا (٦) ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا (٧)

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا (٨)

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا (٩)

إنّ قريشا اخلفوك الموعدا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.

(٣) ناشد : طالب.

(٤) الأتلد : الأقدم ، وابوه الأقدم جدّه عبد المطّلب.

(٥) لا يعني الولد الذكر بل الوالدة ، فوالدة قصيّ : فاطمة بنت سعد الخزاعية ، ووالدة عبد مناف منهم أيضا. فهذه الأواصر هي التي استتبعت الحلف مع عبد المطلب.

(٦) لم يثبت إسلام عمرو بن سالم يومئذ ، نعم كان قد أسلم بعضهم ولم يهاجر ، ولعله يعني : اسلم بعضنا وسالم سائرنا.

(٧) أعتد : المعدّ الحاضر.

(٨) تجرّد للأمر : تهيأ وأعدّ واستعد ، وشمّر فجرد ساعديه.

(٩) الفيلق : العسكر الكثير. المزبد : الهائج المائج.

١٧٦

ونقّضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعّلوا لي في كداء رصّدا (١)

هم بيّتونا بالوتير هجّدا (٢)

نتلوا القرآن ركّعا وسجّدا (٣)

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا

فلما فرغ ، قال الركب لرسول الله : إنّ أنس بن زنيم الدّيلي (النفاثي البكري من كنانة) قد هجاك. فأهدر رسول الله دمه (٤).

وقال لعمرو بن سالم : نصرت يا عمرو بن سالم (٥). ثم قال : لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدّد العهد ، وزد في الهدنة! وهو راجع بسخطه (٥).

ثم عرضت سحابة في السماء ، فنظر إليها رسول الله وتفأّل بها فقال : إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب (من خزاعة) (٧). ثم قام وهو يجرّ طرف ردائه ويقول : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! ثم قال لعمرو بن سالم وأصحابه : ارجعوا وتفرّقوا في الأودية (٨) (لئلا يعلم خبرهم). ثم دخل دار ميمونة بنت الحارث الهلالية (التي تزوّجها في عمرة القضاء) وقال : اسكبوا لي ماء. فجعل يغتسل ويقول : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! (٩).

__________________

(١) كداء : جبل بمكة قرب المعلاة والحجون. رصّد : جمع الراصد.

(٢) هجّد : جمع الهاجد : النائم والقائم من الأضداد.

(٣) القران بتخفيف الهمزة ، ويعني من قتل منهم مسلما من القتلى ٢٣ شخصا ، ولم يعرف من هو المسلم منهم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٩. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٦ واعلام الورى ١ : ٢١٥.

(٥) و (٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧.

(٧) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧. ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩١.

(٩) إعلام الورى ١ : ٢١٥. ورواها الواقدي عن عائشة في بيتها. قال ابن اسحاق :

١٧٧

لقاء أبي سفيان بالخزاعيّين :

روى الواقدي عن حزام الكعبي الخزاعي قال : لما بلغ الكعبيون الخزاعيون الأبواء في رجوعهم من المدينة إلى مكة ، لزم بديل بن ورقاء منهم الطريق ، وذهبت طائفة منهم (مع عمرو بن سالم) إلى الساحل.

وكان أبو سفيان قد خرج من مكة وهو متخوّف أن يكون عمرو بن سالم وأصحابه قد جاءوا رسول الله ، فلما لقي أبو سفيان بديل الخزاعي في نفر معه أشفق أن يكون بديل قد جاء محمدا. فقال لهم : أخبروني منذ كم عهدكم بيثرب؟ فقالوا : لا علم لنا بها. فعرف أنهم كتموه. فقال : أما معكم شيء من تمر يثرب تطعموناه! فإن تمرهم أفضل من تمر تهامة. قالوا : لا. ثم أبت نفسه أن تقرّه .. فقال لبديل : يا بديل ، هل جئت محمدا؟ قال : لا ، ولكنّي سرت في بلاد كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم. فقال أبو سفيان : انك والله برّ واصل.

ثم تناوم القيلولة معهم حتى راح ـ بعد العصر ـ بديل وأصحابه.

فقام أبو سفيان إلى محلّ نزولهم فأخذ من أبعار إبلهم ففتّه فوجد فيها نوى فجعل يقول : احلف بالله لقد جاء القوم محمدا (١).

__________________

ـ وخرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله فأخبروه بما أصاب منهم بنو بكر ومظاهرة قريش لهم عليهم ، ثم انصرفوا راجعين. فلقوا أبا سفيان بعسفان ـ ٤ : ٣٧. وذكر الواقدي مواجهة بديل لأبي سفيان في رجوعه من المدينة ، ولكنه جعله ممن كان مع عمرو بن سالم ـ ٢ : ٧٩١. وهذا هو الأقرب من وفدين من خزاعة لذلك.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩١ ، ٧٩٢. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧ مختصرا. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.

١٧٨

ابو سفيان في المدينة :

مرّ في الأخبار السابقة أن أبا سفيان كان في مكة حين نقض قريش لعهد الحديبية. وجاء فيما رواه الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي ، عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : انتهى الخبر (بنقض قريش) إلى أبي سفيان وهو بالشام ، فأقبل حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا محمد ، احقن دم قومك ، وأجر بين قريش ، وزدنا في المدة. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال : لا. قال : فنحن على ما كنّا عليه. فخرج. فلقي أبا بكر ، فقال له : يا أبا بكر ، أجر بين قريش. قال أبو بكر : ويحك! وأحد يجير على رسول الله؟! ثم لقي عمر ، فقال له مثل ذلك (فأجابه بمثل ذلك أيضا).

ثم خرج فدخل على أم حبيبة (ابنته) فذهب ليجلس على الفراش ، فأهوت إلى الفراش فطوته! فقال لها : يا بنيّة ، أرغبة بهذا الفراش عنّي؟! قالت : نعم ، هذا فراش رسول الله ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك (١).

فعدل إلى بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له : يا علي ، انك أمسّ القوم بي رحما وأقربهم منّي قرابة! وقد جئتك ، فلا أرجعنّ كما جئت خائبا ، اشفع لي إلى محمد في ما قصدته. فقال عليه‌السلام : ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه!

فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة عليها‌السلام فقال لها : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس ، فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر! فقالت : ما بلغ بنيّاي أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢١٧ ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.

١٧٩

فأقبل على علي عليه‌السلام فقال : يا أبا الحسن ، أرى الامور قد التبست عليّ ، فانصح لي! فقال له علي عليه‌السلام : ما أرى شيئا يغني عنك ، ولكنّك سيّد بني كنانة (١) فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك! قال : فترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال : لا والله ، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس. ثم خرج (٢).

وروى مثله ابن اسحاق (٣) والواقدي وزاد : وكان قد طالت غيبته وأبطأ على قريش ، فاتهموه يقولون فيه : إنا نراه قد صبا فسيتبعه ويكتم إسلامه سرّا!

وبلغ بيته ليلا ، فلما دخل على هند قالت له : لقد حبست حتى اتّهمك قومك! فان كنت ـ مع طول الإقامة ـ جئتهم بنجح فأنت الرجل! فدنا وجلس إليها مجلس الرجل من امرأته ، فقالت : ما صنعت؟ فأخبرها خبره حتى قال : لم أجد إلّا ما قال لي عليّ! فقالت : قبّحت من رسول قوم! وضربت برجلها في صدره! فشعر من ذلك بشدة اتّهامه ، وأراد أن يبرأ إلى قريش من ذلك ، فلما أصبح حمل معه ذبيحة إلى الصنمين إساف ونائلة ، فحلق رأسه عندهما ثم ذبح لهما وأخذ يمسح رءوسهما بدم ذبيحته لهما وهو يقول لهما : لا افارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي! يريد بذلك أن يبرأ إلى قريش مما اتهموه به (٤).

فاجتمع إليه جمع من قريش فقالوا له : ما وراءك؟ قال : جئت محمدا

__________________

(١) يخصّه عليه‌السلام ببني كنانة لعله يعرّض به أن النقض كان منهم.

(٢) الإرشاد ١ : ١٣٢ ، ١٣٣ ومثله في إعلام الورى ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ بالرواية عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي عن الصادق عليه‌السلام. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٣٨ ، ٣٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٥.

١٨٠