موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

احراق مسجد النفاق :

قال ابن اسحاق : ثم اقبل رسول الله حتى نزل بذي أوان : بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار (١) فيقال : خرج إليه المنافقون المتخلّفون يستقبلونه ، فقال رسول الله : لا تكلّموا أحدا منهم تخلّف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم (٢).

وأتاه خبر مسجد الضرار وأهله من السماء (٣) قال القمي : فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عامر بن عدي من بني عمرو بن عوف الأوسي ومالك بن الدّخشم الخزاعي على أن يحرّقوه ويهدّموه! فلما بلغا الى قباء ذهب مالك الخزاعي الى داره فجاء بناره ، وأشعل به سعف النخل ثم أشعله في المسجد ، وكانوا فيه فتفرّقوا فلمّا احترق البناء هدّموا حيطانه (٤).

__________________

ـ وذكر طرفا منه مسلم في الصحيح كتاب المنافقين برقم ١١ وأشار إليه في ٨ : ١٢٣ وأحمد في المسند ٥ : ٣٩٠ ، ٣٩١ و ٤٥٣ وعنه الطبراني (م ٣٦٠ ه‍) في المعجم الكبير ٦ : ١٩٥ وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد ١ : ١١٠ والبيهقي في دلائل النبوة بسنده عن عروة بن الزبير ٥ : ٢٥٦ وعنه في اعلام الورى ١ : ٢٤٥ ، ٢٤٦ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٧ ح ٢٥. وكذلك ابن الأثير في الجامع ١٢ : ١٩٩ ونقل المعتزلي في شرح النهج ٢ : ١٠٣ عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار عن الحسن بن علي عليه‌السلام في مجلس معاوية قال : يوم اوقفوا الرسول في العقبة ليستنفزوا ناقته كانوا اثنا عشر رجلا منهم أبو سفيان. وعن المحلى لابن حزم (م ٤٥٦ ه‍) ١١ : ٢٥٥ نقل حديث حذيفة وان فيهم أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص ثم شكك في صحته.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.

(٣) لم يذكر ابن اسحاق : من السماء ولم يذكر الواقدي : في القرآن ، وزاد القمي ٢ : ٣٠٥ والطبرسي ٥ : ١٠٩ نزلت عليه الآية بشأن المسجد. ثم يصرح هو بأن سورة التوبة وآيات مسجد الضرار نزلت بعد رجوعه بأكثر من خمسين يوما ٥ : ١٠٥ و ١٢٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٠٥.

٤٨١

ويبدو انّ الطوسي في «التبيان» نقل عن قتادة ومجاهد عن ابن عباس قال : دعا رسول الله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم وهو من بني عمرو بن عوف وقال لهما : انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه ثم حرّقاه! فخرجا يمشيان على أقدامهما! ففعلوا ما امروا به (١).

وزاد الطبرسي في «مجمع البيان» قال : وروى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عمار بن ياسر ومعه وحشي ـ قاتل حمزة ـ ليحرّقوه ، وأمر أن يتّخذ موضعه كناسة تلقى فيها النفايات (٢).

وإلى المدينة :

وصبّح النبي الى المدينة (٣) في شهر رمضان (٤) روى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أشرف على

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٨.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١١٠ هذا والمعروف ان النبي قال لوحشي يوم اسلامه بعد فتح مكة : اعزب وجهك عنّي. وزاد الواقدي : انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه ، وامامهم مجمّع بن جارية بن عامر ، فأحرقوه ، وثبت فيه اخو مجمع زيد بن جارية بن عامر فاحترقت أليته. مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٦ واشتبه اسم الرجل بزيد بن حارثة فجاء هكذا في تفسير القمي والتبيان ، مع انّه سماه ابن عامر وليس زيد بن حارثة بن عامر! وتركه الطبرسي.

واما عن أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يتّخذ موضعه كناسة ، فقد روى الواقدي : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول سورة التوبة والآيات بشأن المسجد عرض على عدي بن عاصم أن يتخذه دارا فأبى واقترح أن يعطيه لثابت بن أقرم فانه لا منزل له فاعطاه اياه. وهذا أولى وأقرب وأنسب ، وهو يفيد مصادرته لموضع المسجد ، كأنه غنيمة حرب لمحاربين للاسلام.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٢ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ عن عائشة.

٤٨٢

المدينة قال : هذه طابة ، وهذا احد جبل يحبّنا ونحبّه! ثم قال : انّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد الّا كانوا معكم فيه! فقالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال : نعم ، وهم بالمدينة ، حبسهم العذر (١).

وعن كتاب أبان بن عثمان البجلي الأحمر الكوفي عن الأعمش الكوفي قال : وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، فاستقبل بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، فأخذهما إليه ودخل على امهما ابنته فاطمة وعلي عليهما‌السلام ، وانتظره المسلمون على الباب ، حتى اذا خرج حفّوا به حتى دخل منزله ، ثم تفرّقوا عنه (٢).

ثم بدأ بالمسجد فصلّى فيه ركعتين (تحية المسجد) ثم جلس للناس ، وهكذا كان يفعل اذا قدم من السفر. وكان قد تخلّف عنه بضعة وثمانون رجلا (٣) ، فأخذ هؤلاء يأتون إليه فيعتذرون إليه ويحلفون له ، فيكل سرائرهم الى الله ويقبل منهم ايمانهم وعلانيتهم فيستغفر لهم (٤).

الثلاثة المتخلّفون :

وقد مرّ ذكر نفر ممّن تعوّق عن اللحاق به صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا شك ونفاق ، منهم كعب بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ ولو كان خروجه في ٢٥ رجب ووصوله الى تبوك في ١٥ شعبان وعودته منها في ٥ رمضان فوصوله في ٢٥ رمضان.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٤٧ عن كتاب أبان.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩ و ٩٩٥ وقال أيضا : عسكر الرسول على ثنيّة الوداع ، وعسكر عبد الله بن أبي بحذائه فكان يقال : ليس عسكره بأقل العسكرين وكذلك في السيرة ٤ : ١٦٢! ثم لم يبين ما النسبة بين هذا القول وبين كون المتخلفين ثمانين رجلا؟!

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.

٤٨٣

مالك شاعره ، وقد مرّ صدر خبره عن تفسير القمي ، وإليكم هنا بقيته ، يقول عن نفسه وصاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أميّة الواقفي :

لما بلغنا اقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ندمنا ، فلما وافى رسول الله استقبلناه (١) نهنئه بالسلامة ، فسلّمنا عليه ، فاعرض عنّا ولم يرد علينا السلام (٢) وسلمنا على اخواننا فلم يردّوا علينا السلام. وبلغ ذلك أهلنا فقطعوا كلامنا! وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا احد ولا يكلّمنا! وجاء نساؤنا الى رسول الله فقلن له : قد بلغنا سخطك على أزواجنا ، أفنعتزلهم؟

فقال رسول الله : لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن!

فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا : ما يقعدنا في المدينة ولا يكلّمنا رسول الله ولا اخواننا ولا أهلونا؟! فهلمّوا نخرج الى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت! فخرجوا الى جبل ذناب (٣) بالمدينة ، فكانوا يصومون ، وكان أهلوهم يأتون بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولّون عنهم فلا يكلّمونهم.

__________________

(١) كذا رواه القمي مرسلا ، ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٥ ـ ١٨٠ مسندا وفيه : وصبّح رسول الله المدينة وبدأ بالمسجد فصلّى ركعتين ثم جلس للناس فجئت فسلّمت عليه فتبسّم مغضبا ثم قال : تعال ...

(٢) كذا ، ولا يقول به الفقهاء حتى في الانكار على أصحاب المنكرات.

(٣) وروى الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٥٦ عن ايوب عن أبيه النعمان عن أبيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك (وكان مالك يكنّى أبا القين) : ان كعب بن مالك بنى خيمة (كذا) على جبل سلع وقال في شعر له :

أبعد دور بني القين الكرام وما

شادوا عليّ ، بنيت البيت من سعف

ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ٢٩٧ عن مجاهد وقتادة ، وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥.

٤٨٤

فبقوا على هذا أياما كثيرة (١) يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم. فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب : يا قوم ، قد سخط الله علينا ورسوله واهلونا وإخواننا فلا يكلمنا أحد ، فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت وتفرّقوا في الليل وبقوا على هذه ثلاثة أيام ، كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه. وفي الليلة الثالثة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أمّ سلمة ، اذ نزلت توبتهم على رسول الله قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ ...)(٢).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن مجاهد وقتادة عن ابن عباس وعن جابر

__________________

(١) وفي خبر كعب في السيرة ٤ : ١٧٨ و ١٧٩ و ١٨٠ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥١ و ١٠٥٢ و ١٠٥٣ وفي التبيان ٥ : ٢٩٦ عن مجاهد وقتادة وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ جاء : خمسين ليلة.

(٢) وفصّله الواقدي عن أمّ سلمة قالت : قال لي رسول الله ليلا : يا أمّ سلمة ، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه! فقلت : يا رسول الله الا ارسل إليهم فابشّرهم؟! فقال : لا ، لا يرون حتى يصبحوا.

فلمّا صلّى رسول الله الصبح أخبر الناس بتوبة الله على هؤلاء النفر : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميّة من بني عبد الأشهل ، وكان قد وافى لصلاة الصبح من بني عبد الأشهل الأخوان أبو نائلة سلكان وسلمة ابنا سلامة بن وقش ، فانطلقا الى مرارة فأخبراه. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد الى هلال ببني واقف ، فلمّا بشّره سجد وبكى وكان بكاؤه بالسرور أكثر منه بالحزن! ثم قام فما استطاع المشي لما فيه من الضعف فركب حمارا. وخرج الزبير على فرسه الى بطن الوادي (عن الواقدي) وسعى ساع من بني أسلم حتى أوفى على جبل سلع فبلغني صوته قبل الراكب ، فلما جاءني لم أكن املك يومئذ سوى ثوبين عليّ فنزعتهما وكسوتهما اياه بشارة ، واستعرت ثوبين لنفسي وانطلقت الى رسول الله (السيرة) وقال الواقدي : انّ الذي وافى كعبا على سلع هو أبو بكر ، ولم يرو قصة الثوبين! ٢ : ١٠٥٣.

٤٨٥

الأنصاري : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما عذر المنافقين وجميع المتخلّفين وكانوا نيّفا وثمانين ، نهى عن الكلام مع هؤلاء الثلاثة (١) وتقدم الى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم. فهجرهم الناس حتى الصبيان.

وجاءت نساؤهم الى رسول الله فقلن له : يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكن (٢).

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤.

(٢) التبيان ٥ : ٣١٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٢٠ وفصّله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٨ عن الزهري عن عبد الرحمن عن أبيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك ، قال : اجتنبنا الناس وتغيّروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي التي كنت أعرف! حتى مضت أربعون ليلة ، إذ أتاني رسول من قبل رسول الله (خزيمة بن ثابت ـ الواقدي) فقال : انّ رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك! فقلت : اطلّقها؟ قال لا ولكن اعتزلها ولا تقربها ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض. هذا وأنا شاب.

وكان هلال بن أميّة شيخا كبيرا لا خادم له ، فمضت امرأته الى رسول الله فقالت : يا رسول الله ، إنّ هلال بن أميّة شيخ كبير لا خادم له أفتكره أن أخدمه؟ قال : لا ولكن لا يقربنك! قالت : يا رسول الله والله ما به حركة الي ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان الى يومه هذا حتى تخوفت على بصره!

فلما أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك أن تخدمك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلت : لا استأذنه فانّي لا أدري ما يقول في ذلك وأنا شاب.

ونزلت يوما الى السوق ، فبينا أنا فيه إذا نبطيّ من أهل الشام كان قد قدم بطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدلّني على كعب بن مالك؟ فأشار إليه الناس فجاءني ، وإذا به يحمل إليّ رسالة في شقة من حرير من ملك بني غسّان ، فقرأتها فإذا فيها : «أما بعد فانّه قد بلغنا انّ صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة! فالحق بنا نواسيك» فقلت في نفسي :

٤٨٦

فأقام هؤلاء الثلاثة على ذلك ، وأقام كعب لنفسه على جبل سلع كوخا من سعف النخيل وقال في ذلك شعرا :

أبعد دور بني القين الكرام وما

شادوا عليّ ، بنيت البيت من سعف؟! (١)

وخرجوا الى رءوس الجبال ، فكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ويتركونه لهم ولا يكلّمونهم. فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد ، فهلّا نتهاجر نحن أيضا؟! فتفرّقوا ولم يجتمعوا وثبتوا على ذلك نيفا وأربعين يوما (٢) أو خمسين ليلة ...

ثم نزلت الآيات بتوبتهم ليلا ، فأصبح المسلمون يبتدرونهم يبشّرونهم. قال كعب : وكان رسول الله إذا سرّ يستبشر كأن وجهه فلقة قمر ، فجئته واذا وجهه يبرق

__________________

ـ قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيّ رجل من أهل الشرك! فهذا من البلاء أيضا. وذكره الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٥١ وردّد اسم الملك بين جبلة بن الايهم وبين الحارث بن أبي شمر.

(١) التبيان ٥ : ٢٩٦ ، ٢٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤ ، ١٠٥ وقالوا : نصب خيمة. والقين اسم جدّه كما في الاستيعاب : ١٣٢٣. وكما في مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ وروى البيت عن أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب.

(٢) التبيان ٥ : ٣١٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٢٠ وفيه : ١٠٠ قال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مخرجه الى تبوك ، فلما بلغهم ما انزل الله فيمن تخلّف عن نبيّه أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله (كذا) فلما نزل قوله (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عمد النبيّ إليهم فحلّهم. فهو يفترض نزول الآيات فيمن تخلّف قبل قدومه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك ثم نزول قبول توبتهم بعد ذلك ، وانهم بقوا هذه المدة موثقين بسواري المسجد!

٤٨٧

من السرور فلمّا رآني قال لي : أبشر بخير يوم طلع عليك شرقه منذ ولدتك امك! فقلت : يا رسول الله من عندك أو من الله؟ فقال : من عند الله. فتصدّق كعب بثلث ماله شكرا لله على قبول توبته (١).

إسلام كعب بن زهير الشاعر (٢) :

كان لكعب أخ يدعى بجير بن زهير كان قد أسلم وهاجر الى المدينة ، وكان كعب ممن يؤذي النبي ويهجوه ، فلما أسلم أخوه بجير وهاجر هجاه بقوله :

فمن مبلغ عني بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأسا رويّة

فأنهلك المأمون منها وعلّكا (٣)

وخالفت أسباب الهدى واتّبعته

على أيّ شيء ويب غيرك دلّكا (٤)

على خلق لم تلف امّا ولا أبا

عليه ولم تدرك عليه أخا لكا (٥)

فان أنت لم تفعل فلست بآسف

ولا قائل إمّا عثرت : لعا لكا (٦)

__________________

(١) التبيان ٥ : ١٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ وجاء تفصيله في السيرة ٤ : ١٨٠ وقلت يا رسول الله إن من توبتي الى الله وإلى رسوله أن أنخلع من مالي الى الله ورسوله! فقال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ، فقلت : اني ممسك سهمي الذي بخيبر. وزاد الواقدي : قال : لا ، قلت : فالنصف. قال : لا. قلت : فالثلث. قال : نعم ـ مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٥.

(٢) قال القمي في سفينة البحار ٦ : ١٨٣ : إنّ قدوم كعب كان في شهر شعبان سنة تسع ، بينما كان في شعبان في تبوك ، ولذلك أخّرناه الى هنا.

(٣) يقول له : شربت مع النبي الأمين شراب الاسلام فسقاك النهل وهو الشربة الاولى وسقاك العلل وهي الشربة الثانية.

(٤) ويب غيرك : هلاك غيرك.

(٥) كقولهم : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.

(٦) يقول له : وان ما عثرت في دهرك لا أقول لك : لعا لك ، وهي كلمة كانت تقال للعاثر.

٤٨٨

وبعث بها الى بجير.

قال ابن اسحاق : وانما قال كعب : «مع المأمون» لما كانت تقوله قريش لرسول الله «الأمين» ، ولما أنشدها بجير له صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع منها : سقاك بها المأمون ، قال : صدق ، أنا المأمون ، وانه لكذوب. ولما سمع : على خلق لم تلف اما ولا أبا عليه قال : اجل ، لم يلف عليه أباه ولا أمه. ومن لقي منكم كعب بن زهير فليقتله (١).

ولما فتح النبيّ مكة وقتل رجالا منهم ممن كان يهجوه ويؤذيه وهرب هبيرة بن أبي وهب وابن الزبعرى من شعراء قريش ، وعفا عمن جاءه تائبا منهم ، كان كعب بن زهير ممن هرب على وجهه ، فكتب إليه اخوه بجير بن زهير : انّ رسول الله قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وان من بقي من شعراء قريش : ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ، فان كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله ، فانه لا يقتل احدا جاءه تائبا ، وان أنت لم تفعل فانج الى نجائك من الأرض. وكتب إليه شعرا :

فمن مبلغ كعبا : فهل لك في التي

تلوم عليها باطلا وهي أحزم؟

الى الله لا العزى ولا اللات وحده

فتنجوا اذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت

من الناس الا طاهر القلب مسلم

فدين زهير ـ وهو لا شيء دينه ـ

ودين أبي سلمى عليّ محرّم (٢)

فلما بلغ الكتاب الى كعب وعلم به الناس في حيّه الذي هو فيه ، قالوا فيه : انّه

__________________

(١) نقله الزرقاني في المواهب اللدنية في شرح السيرة النبوية عن ابن الأنباري. وما قبله عن ابن هشام في السيرة ٤ : ١٤٥.

(٢) التي تلوم عليها : الاسلام. أبو سلمى : أبوهما ، ويقول : دينه عليّ محرّم جوابا لقول أخيه : على خلق لم تلف اما ولا أبا عليه ولم تدرك عليه أخا لكا.

٤٨٩

لمقتول ، فضاقت به الأرض وخاف على نفسه ولم يجد بدا من أن يستجيب لأخيه ويسلم ويكفّر عن هجوه النبيّ بمدحه بقصيدة ، فنظم قصيدته اللامية نحو ستين بيتا ، وحملها وخرج نحو المدينة.

ولم يستجر بأخيه بجير لأمر ما ، وانما كان يعرف رجلا من جهينة فنزل عليه ليلا وعرّفه أمره.

فلما أذّن بلال لصلاة الفجر خرج الجهني بكعب وصليا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أشار إليه وقال : هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه.

فقام الى رسول الله حتى جلس إليه ، ورسول الله لا يعرفه ، فوضع يده في يده وقال : يا رسول الله ، ان كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما ، فان أنا جئتك به فهل أنت قابل منه؟ قال : نعم. فقال : يا رسول الله فأنا كعب بن زهير. فوثب رجل من الأنصار وقال : يا رسول الله ، دعني وعدوّ الله اضرب عنقه! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعه عنك ، فانه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه (١) فأسلم (٢).

وقال ابن هشام : انما قال كعب قصيدته في المدينة بعد قدومه إليها (٣).

ويؤيّده ما رواه ابن اسحاق عن عاصم بن قتادة الأنصاري : أن كعبا في قصيدته لم يخص المهاجرين بمدحته ، بل عرّض بهم بقوله فيها عنهم «السود التنابيل» ـ أي السود القصار ـ (٤) فروى ابن هشام انه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين انشده كعب قصيدته قال له : لو لا ذكرت الأنصار بخير فانهم لذلك

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٣) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٧.

٤٩٠

أهل (١). فقال قصيدة رائية يمدح بها الأنصار يذكر موضعهم في اليمن وبلاءهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأنشد قصيدته له صلى‌الله‌عليه‌وآله لديه في مسجده (٢) فقال فيها :

إنّ الرسول لسيف يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول (٣)

في فتية من قريش قال قائلهم

ببطن مكة لما أسلموا : زولوا (٤)

شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل (٥)

نبّئت ان رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا ، هداك الذي أعطاك نافلة

القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

اذنب ، ولو كثرت فيّ الأقاويل (٦)

فروى ابن الأثير الجزري : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين انشاد كعب لقصيدته كانت عليه بردة ، فكساه بها (٧).

__________________

(١) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٨.

(٣) مهند : السيف الهندي ، كان يؤتى به من الهند ، وكان مستحسنا ، وكان من عادة العرب ان يعلقوا السيف في الشمس فيبرق فيأتيهم الناس بلمعان بريقه.

(٤) يمدح المهاجرين من قريش اذا أسلموا فقالوا لهم : هاجروا عنا.

(٥) العرانين : الانوف. شمّ : عال مرتفع. نسج داود : دروع داودية.

(٦) الوشاة : السعاة بالكذب. وهذه الابيات عن (مناقب آل أبي طالب) ١ : ١٦٨ ، ١٦٩.

(٧) قال : فلما كان زمن معاوية ارسل الى كعب ان بعنا بردة رسول الله. فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول الله احدا. فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم. فلبسها بنو أميّة ثم بنو العباس وكانت على المستعصم العباسي لما خرج الى هولاكو

٤٩١

وفد ثقيف وإسلامهم :

مرّ الخبر عن «الأمالي» للطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري في وفد ثقيف الأول بعد عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حصار الطائف الى مكة ، ورجوعهم بلا نتيجة. وكذلك مرّ الخبر عن لحوق عروة بن مسعود الثقفي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وصوله الى المدينة واسلامه وعودته لقومه في الطائف لدعوتهم الى الاسلام وقتلهم ايّاه ولحوق ابنه أبي مليح وابن عمّه قارب بالمدينة واسلامهما وبقائهما فيها حتى اسلام قومهم ثقيف. وأيضا مرّ الخبر عن اسلام القبائل حول الطائف وإغرائهم بهم واغارتهم على مواشيهم ومضايقتهم لهم.

وهنا يقول ابن اسحاق : أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، فرأوا انهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد اسلموا.

فروى بسنده عن المغيرة بن الأخنس الثقفي قال : كان عمرو بن أميّة من بني علاج من أدهى العرب! وكان قد وقع بينه وبين عبد ياليل سوء فكان مهاجرا له ، ولكنه مشى إليه يوما حتى دخل داره ، فلما أخبروا عبد يا ليل بذلك قال : ان عمرا كان أمنع في نفسه من هذا ، فهذا شيء ما كنت أظنه! ثم خرج إليه ورحّب به فلما جلسا قال عمرو : انه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة : انه قد

__________________

ـ فقتله واحرق البردة وذرّها في دجلة. الكامل في التاريخ ٢ : ٢٧٦ والى كسوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكعب أشار الحسين عليه‌السلام قال : وقد أثاب رسول الله كعب بن زهير ، كما في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٦٥ عن انس المجالس ومن شعر كعب في علي عليه‌السلام قال :

صهر النبي وخير الناس كلهم

وكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلاة مع الامّي أوّلهم

قبل العباد وربّ الناس مكفور

كما في الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٢٦٨ ط قم.

٤٩٢

كان من أمر هذا الرجل (محمّد) ما قد رأيت : فقد أسلمت العرب كلها ، فما لكم بحربهم طاقة! فأتمروا لذلك بينكم.

فأتمروا وقالوا : ألا ترون أنّه لا يأمن لكم سرب (ماشية) ولا يخرج منكم أحد إلّا اقتطع! فعرضوا على عبد ياليل أن يرسلوه الى رسول الله. فخشي انّه إذا رجع يصنع به كما صنع بعروة فيقتل كما قتل! فقال : الا أن ترسلوا معي رجالا. فوافقوا. واختاروا : أوس بن عوف من بني سالم ، وعثمان بن أبي العاص من بني يسار وهو اصغرهم ، ونمير بن خرشة من بني الحارث ، وهؤلاء كلهم من بني مالك ، والحكم بن عمرو ، وشرحبيل بن غيلان كلاهما من بني معتب من الأحلاف ، فهؤلاء خمسة خرج بهم عبد ياليل وهو صاحب أمرهم (١).

وكانت نوق أصحاب رسول الله يرعاها رجال منهم نوبا ، وكانت النوبة يوم وصول وفد ثقيف على المغيرة بن شعبة منهم ، يرعاها في وادي حرض من وديان قناة من أودية حوالي المدينة ، بعد أن رجع من تبوك.

فلما وصل وفد ثقيف الى وادي حرض من وديان قناة وجدوا ابلا منتشرة ، فقالوا : لو سألنا عنها وعن خبر محمّد ، فبعثوا أصغرهم عثمان بن أبي العاص من بني يسار ، فلما التقى بالمغيرة تعارفا وجاءهم المغيرة وترك الابل عندهم ليرجع الى المدينة فيبشّر النبي بقدومهم ، وكان في شهر رمضان بعد تبوك.

فلما انتهى الى المسجد لقي أبا بكر فأخبره خبرهم ، فقال له أبو بكر : أقسمت عليك بالله لا تسبقني الى رسول الله حتى أكون أنا احدّثه! فتوقّف المغيرة على باب المسجد حتى دخل أبو بكر على النبي فأخبره خبرهم ثم خرج ، فدخل المغيرة مسرورا على النبي فقال : يا رسول الله ، قد قدم قومي يريدون الدخول في الاسلام على أن يكتبوا كتابا من رسول الله في قومهم وبلادهم وأموالهم.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٣.

٤٩٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يسألون شرطا ، ولا كتابا أعطيته احدا من الناس الا اعطيتهم ، فبشّرهم. فخرج المغيرة ورجع إليهم يخبرهم بذلك ، فروّح الظهر معهم وعلّمهم كيف يحيّون رسول الله بتحية الاسلام : السلام.

فلما قدموا على رسول الله المسجد لم يفعلوا ما أمرهم المغيرة من تحية الاسلام بل قالوا : انعم صباحا! فقال الناس : يا رسول الله يدخلون المسجد وهم مشركون؟! فقال رسول الله : ان الأرض لا ينجّسها شيء!

وكان رسول الله قد خطّ بخطّه للمغيرة بن شعبة من البقيع لداره ، فقال : يا رسول الله ، انزل قومي عليّ واكرمهم ، فرجعوا الى منزل المغيرة للطهارة والطعام ويكونون فيه ما أرادوا ، ورسول الله يجري لهم الضيافة في دار المغيرة ، ويختلفون الى المسجد. وأمر النبي فضربت لهم ثلاث خيمات من جريد النخل في ناحية المسجد ، فكانوا ينظرون الى صفوفهم في صلاتهم ، وكان شهر رمضان (في العشر الأواخر) فكانوا يرون تهجّد الصحابة ويسمعون قراءتهم القرآن ، وخطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمكثوا على ذلك أياما ، يخلّفون كل يوم على رحالهم أصغرهم عثمان بن أبي العاص ويغدون على النبي ، فكانوا إذا رجعوا في هاجرة الظهر وناموا يخرج عثمان الى النبيّ فيسأله عن الدين ويستقرئه القرآن ، وأسلم ، وحفظ سورا من القرآن. وكان إذا يجد رسول الله نائما يذهب الى أبي بن كعب فيستقرئه القرآن ، وفقه الأحكام ، فأحبّه رسول الله واعجب به.

وتقاضى عبد ياليل من النبي الكتاب بالصلح بينه وبينهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أنتم أقررتم بالاسلام ، وإلّا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم! (١).

وكان من أعضاء الوفد من بني الحارث من بني مالك : نمير بن خرشة ، وسمّاه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٦.

٤٩٤

ابن الأثير : تميم بن جراشة وروى عنه قال : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لنا : اكتبوا ما بدا لكم ثم ائتوني به [فكتب لنا علي بن أبي طالب] فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا! فأبى علي عليه‌السلام أن يكتب لنا ذلك! فسألناه خالد بن سعيد بن العاص [فقبل ذلك] فقال له علي عليه‌السلام : تدري ما تكتب؟! قال : اكتب ما قالوا ، ورسول الله أولى بأمره! [فكتب لنا] فذهبنا بالكتاب الى رسول الله ، فقال للقارئ : اقرأ ، فقرأ ، فلما انتهى الى الربا قال : ضع يدي عليها في الكتاب. فوضع يده عليها فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا)(١) ثم محاها ، وما راجعناه ، فلما بلغ القارئ الى الزنا قال : ضع يدي عليها. فوضع يده عليها ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٢) ثم محاها ، وأمر ان ينسخ الكتاب (٣) فكتب :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد النبيّ رسول الله لثقيف ، كتب : انّ لهم ذمة الله الذي لا إله الّا هو ، وذمّة محمّد بن عبد الله النبيّ على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة : انّ واديهم حرام محرّم كله : عضاهه (٤) وصيده ، وظلم فيه وسرق فيه أو إساءة. وثقيف أحق الناس بوجّ (٥) ولا يعبر طائفهم ، ولا يدخله عليهم أحد من المسلمين يغلبهم عليه ، وما شاءوا احدثوا في طائفهم من بنيان أو

__________________

(١) البقرة : ٢٧٨.

(٢) الاسراء : ٣٢.

(٣) اسد الغابة ، ترجمة تميم بن جراشة. وفي نقل الواقدي : ان عبد ياليل قال له : انه لا بدّ لنا من الخمرة فانها عصير أعنابنا! فقال : فان الله قد حرّمها ثم تلا : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) من سورة المائدة. ٢ : ٩٦٧ هذا ولم تنزل المائدة بعد.

(٤) شجر ذات شوك.

(٥) الاسم القديم للطائف قبل أن يبنوا حوله حصنهم الطائف بهم فيسمّى الطائف.

٤٩٥

سواه بواديهم. لا يحشرون ولا يعشّرون (١) ولا يستكرهون بمال ولا نفس ، وهم امة من المسلمين ، يتولّجون من المسلمين حيث شاءوا وأين تولّجوا ولجوا.

وما كان لهم من أسير فهو لهم هم أحق الناس به حتى يفعلوا به ما شاءوا ، وما كان لهم من دين في رهن فبلغ أجله فانّه لياط (ربا) مبرئ من الله وما كان من دين في رهن وراء عكاظ (انعقاد سوقهم في شهر شوال) فانه يقضى الى عكاظ برأسه ، وما كان لثقيف من دين في صحفهم ... فانه لهم. وما كان لثقيف من وديعة في الناس أو مال أو نفس ـ غنمها مودعها أو أضاعها ـ فانها مؤداة ، وما كان لثقيف من نفس غائبة أو مال فان له من الأمن ما لشاهدهم ، وما كان لهم من مال في ليّة (موضع) فان له من الأمن ما لهم في وجّ (الطائف) ، وما كان لثقيف من حليف أو تاجر فأسلم فانّ له مثل قضية ثقيف.

وان طعن طاعن على ثقيف أو ظلمهم ظالم فانه لا يطاع فيهم في مال ولا نفس ، وان الرسول ينصرهم على من ظلمهم والمؤمنين ، ومن كرهوا ان يلج عليهم من الناس فانه لا يلج عليهم. وان السوق والبيع بأفنية البيوت. وانه لا يؤمّر عليهم الّا بعضهم على بعض : على بني مالك أميرهم ، وعلى الأحلاف أميرهم.

وما سقت ثقيف من اعناب قريش فان شطرها لمن سقاها ، وما كان لهم من دين في رهط لم يلط (يربى) فان وجد أهلها قضاء قضوا ، وان لم يجدوا قضاء فانه الى جمادى الاولى من عام قابل ، فمن بلغ أجله فلم يقضه فانه قد لاطه (استحقّه) وما كان لهم في الناس من دين فليس عليهم الّا رأسه.

__________________

(١) أي : لا يحشرون في الغزوات ، ولا يؤخذ منهم العشر ، قيل : سئل جابر بن عبد الله الأنصاري عن اشتراط ثقيف ان لا جهاد عليهم ولا صدقة؟! فقال انه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحتمل لبشر ما احتمل لثقيف وذلك انه علم انهم سيتصدقون ويجاهدون اذا أسلموا. مكاتيب الرسول ١ : ٢٦٥.

٤٩٦

وما كان لهم من أسير باعه ربّه (صاحبه) فان له بيعه ، وما لم يبع فانّ فيه ست قلائص نصفين : حقاق (جمع حقة : ما أكمل ثلاث سنين) وبنات لبون (ما أكمل الثانية من الابل) كرام سمان. ومن كان له بيع (عبد مبيع) فان له بيعه» (١).

قال الواقدي : فلما كمل الصلح وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد الاموي ، كلّموا النبي أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين! فأبى ، فما برحوا يسألونه سنة سنة حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم ، وكانوا يظهرون أنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام فيسلموا من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، فأبى ، فسألوه أن يعفيهم من هدمها ، فقال : نعم ، أنا أبعث أبا سفيان بن الحرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها ، وتوسّعوا فاستعفوا أن يكسروا أصنامهم بأيديهم ، فقال : أنا آمر أصحابي أن يكسروها. فسألوه أن يعفيهم من الصلاة ، فقال : أما كسر أوثانكم بايديكم فسنعفيكم منه ، وأما الصلاة ، فانه لا خير في دين لا صلاة فيه! فقالوا : يا محمّد ، فسنؤتيكها وان كانت دناءة! (٢) أما الصلاة فسنصلّي ، وأما الصيام فسنصوم .. وأسلموا وبايعوا ... وأمرهم رسول الله أن يصوموا ما بقي من الشهر ، فكان بلال يأتيهم بفطرهم وسحورهم (٣) وكان من قبل يرسل إليهم بالطعام مع خالد بن سعيد بن العاص الاموي ، فلا يأكلون منه شيئا حتى يأكل منه خالد (كذا) حتى أسلموا (٤).

وكان خالد بن سعيد هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله حتى كتب خالد

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد : ١٩٠ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٦٣ ـ ٢٧٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٤ ، ١٨٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٧ والسيرة ٤ : ١٨٤.

٤٩٧

لهم الكتاب (١) وهو : «بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمّد النبي رسول الله الى المؤمنين : إنّ عضاه وجّ لا يعضد (٢) من وجد يفعل شيئا من ذلك فانه يجلد وتنزع ثيابه ، فان تعدّى ذلك فانه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمّد ، وان هذا امر النبي محمّد رسول الله ، وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمّد بن عبد الله فلا يتعدّه أحد ، فيظلم نفسه فيما امر به محمّد رسول الله» (٣). واستعمل رسول الله على حمى وجّ الطائف سعد بن أبي وقاص (٣).

فلما أرادوا الخروج قالوا : يا رسول الله ، أمّر علينا رجلا منّا يؤمّنا ، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى فيه رسول الله من حرصه على الاسلام (٥) فروى ابن اسحاق بسنده عن عثمان قال : كان من آخر ما عهد إليّ رسول الله حين بعثني على ثقيف أن قال : يا عثمان ، تجاوز في الصلاة ، واقدر الناس بأضعفهم ، فانّ فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة (٦) فاذا صليت لنفسك فانت وذاك ، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا. واستأذن الوفد النبي أن ينالوا منه بلسانهم فرخّص لهم (٧).

وفد ثقيف الى الطائف :

ثم خرج الوفد الى الطائف ، فلما قربوا قال لهم عبد ياليل : أنا أعلم الناس بثقيف ، فاكتموهم القضية ... وأخبروهم ان محمّدا سألنا امورا عظّمناها فأبينا

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٥.

(٢) عضاه : أشجار أشواك ، وجّ : من الطائف ، يعضد : يقطع.

(٣) و (٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٦.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٩.

٤٩٨

عليه : سألنا تحريم الخمر والزنا ، وأن نبطل أموالنا في الربا ، وأن نهدم الربّة! فابينا عليه. ولما دنوا منهم ورأوا ثقيفا قد خرجت إليهم تغشّوا بثيابهم كمكروبين لم يرجعوا بخير ، فلما رآهم اهلهم حزنوا وقالوا : ما جاء وفدكم بخير!

ودخل الوفد فبدؤوا باللات على عادتهم ، ثم رجعوا الى أهاليهم.

فأتى جمع منهم الى رجال منهم وسألوهم : ما ذا رجعتم به؟ فقالوا : جئناكم من عند رجل فظّ غليظ ، يأخذ من أمره ما شاء ، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس ، ورعبت منه بنو الاصفر في حصونهم ، والناس فيه اما راغب في دينه وامّا خائف من السيف! فعرض علينا امورا شديدة أعظمناها ، فتركناها عليه ، حرّم علينا الربا والخمر والزنا ، وان نهدم الربّة! فكرهنا ذلك وأعظمناه ، ورأينا انه لم ينصفنا ، فأصلحوا سلاحكم ، ورمّوا حصنكم وانصبوا عليه العرّادات والمنجنيقات ، وادّخروا طعام سنة أو سنتين فانه لا يحاصركم اكثر من سنتين ، واحفروا خندقا (!) من وراء حصنكم ، وعاجلوا ذلك فان أمره قد أظلّ لا نأمنه! فخوّفوهم بالحرب والقتال كما امرهم عبد ياليل.

فمكثوا يوما او يومين ثم عادوا إليهم وقالوا لهم : ما لنا به من طاقة قد أداخ كل العرب ، فارجعوا إليه فاعطوه ما سأل وصالحوه ، واكتبوا بينكم وبينه كتابا قبل أن يسير إلينا أو يبعث بجيشه!

وقالوا لهم : فانّا قد قاضيناه وأعطانا ما أحببناه وشرط لنا ما أردنا ، ووجدناه أتقى الناس وأبرّ الناس وأوصل الناس وأوفى الناس وأصدق الناس وارحم الناس! ولما أبينا هدم الربّة تركنا منه وقال : أبعث من يهدمها!

فقال شيخ منهم : فذاك ـ والله ـ مصداق ما بيننا وبينه! ان قدر على هدمها فهو محقّ ونحن مبطلون ، وان امتنعت ... (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٠.

٤٩٩

المغيرة يغير على اللات :

مرّ الخبر عن أبي مليح بن عروة وابن عمه قارب بن الاسود الثقفيّين ، وأنهما بعد قتل عروة بن مسعود لحقا بالمدينة فأسلما وبقيا في جوار المغيرة وأبي سفيان ، واليوم حيث أمرهما رسول الله بهدم اللات في الطائف ، وكان للّات أموال موقوفة من ذهب وفضة وغيرهما ، وكان عليهما من أبويهما دين. فجاء أبو مليح الى رسول الله وقال : يا رسول الله ، ان أبي قتل وعليه دين مائتا مثقال ذهب! فان رأيت أن تقضيه من حلي الربّة فعلت! فقال رسول الله : نعم.

فقال ابن عمّه قارب بن الأسود : وعن ابي ، الاسود بن مسعود ، فانه قد ترك دينا مثل دين أخيه عروة! فقال رسول الله : ان الأسود مات وهو كافر ، فقال قارب : انما انا المطلوب بالدين فهو عليّ ، وتصل به قرابة (يعني نفسه) فقال رسول الله : إذا افعل ، فأمر أبا سفيان والمغيرة بن شعبة أن يقضيا دينهما.

وخرجوا وهم بضعة عشر رجلا بعد الوفد بيومين أو ثلاثة (١) (في اواخر شهر رمضان) فلما قربوا من الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدّم أبا سفيان ، فأبى أبو سفيان وأقام بماله بذي الهدم (٢) أو ذي الهرم بقرب الطائف ، وتقدّم المغيرة ومعه بضعة عشر رجلا فدخلوا الطائف عشاء ، فباتوا ، ثم غدوا صباحا لهدم اللات ، وجاء قوم المغيرة بنو معتّب من الأحلاف حاملين سلاحهم يخافون أن يصاب كما اصيب عروة عمّه. وانكشف رجالهم وخرجت نساؤهم والأبكار والصبيان يبكون على اللات! فأخذ المغيرة المعول وقام على رأس اللات وضربها ضربة ... ثم قال : يا معشر ثقيف! كانت العرب تقول : ما حيّ من أحياء العرب أعقل من ثقيف (وأنا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧١.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧.

٥٠٠