موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

ولكنّ قيسا سفّه رأي الزبيدي وأبى عليه ذلك. فركب عمرو ومعه جمع من قومه حتى قدموا على رسول الله (١) لما عاد من تبوك (٢). فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمرو أسلم يؤمنك الله من الفزع الأكبر! فقال : يا محمد ، وما الفزع الأكبر ، فانّي لا أفزع؟! فقال له : يا عمرو ، انه ليس مما تحسب وتظن ، انّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميّت إلّا نشر ، ولا حيّ إلّا مات ، إلّا ما شاء الله. ثم يصاح بهم صيحة اخرى ، فينشر من مات ويصفّون جميعا ، وتنشق السماء وتهدّ الأرض وتخرّ الجبال ، وتزفر النيران وترمى بمثل الجبال شررا ، فلا يبقى ذو روح إلّا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه إلّا ما شاء الله. فأين أنت يا عمرو عن هذا؟! فقال : ألا إنّي أسمع أمرا عظيما! ثم آمن وآمن من معه من قومه ورجعوا الى قومهم.

وأبصر عمرو قاتل أبيه ابيّ بن عثعث الخثعمي فأخذه وجاء به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : أعدني (أشكني : اقبل شكواي) على هذا العاجر (٣) الذي قتل والدي.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمرو ، أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية. فانصرف عمرو ، ولكنّه ارتدّ عن الإسلام وأغار على قوم ومضى الى قومه.

البعثة الاولى لعلي عليه‌السلام الى اليمن :

فلما بلغ ذلك النبي استدعى عليا عليه‌السلام فأمره على جمع من المهاجرين فيهم خالد بن سعيد بن العاص الاموي وأنفذهم الى بني زبيد.

وكان بنو زبيد قد تحالفوا مع بني جعفي ولذلك أرسل النبي خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب ـ ومعه بريدة وعمرو بن شاس الأسلميان وأبو موسى

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٠.

(٢) كذا في الارشاد ١ : ١٥٨ واستظهرنا أن ذلك كان قبله.

(٣) عاجر إذا مرّ مرّا سريعا من خوف ونحوه (لسان العرب).

٤٢١

الأشعري ـ وأمره أن يقصد بني جعفي ، فإذا التقى بعلي عليه‌السلام فأمير الناس علي بن أبي طالب. فاستعمل خالد على مقدّمته أبا موسى الأشعري ، واستعمل علي عليه‌السلام على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص الاموي.

فلما سمع بنو جعفي بالجيش ذهبت فرقة منهم فانضمّت الى بني زبيد ، وذهبت فرقة اخرى الى تخوم اليمن. وخاف علي عليه‌السلام أن يتّبعهم خالد بن الوليد فكتب إليه أن : قف حيث أدركك رسولي ، وأرسله إليه مع رسوله ثم بلغه أنّه لم يقف ، فكتب الى خالد بن سعيد : تعرّض له حتى تحبسه. أي توقفه. فاعترض له خالد بن سعيد حتى حبسه. ثم سار الى بني زبيد فلقيهم في وادي كسر (من نواحي صنعاء اليمن). فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : يا أبا ثور ، كيف أنت إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتاوة (الزكاة)؟! قال : سيعلم إن لقيني.

مبارزة عمرو لعلي عليه‌السلام :

وخرج عمرو وقال : هل من مبارز؟ وكان معه أخوه وابن أخيه. وكان معه سيفه المعروف بالصمصامة. فقام خالد بن سعيد وقال : يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي دعني ابارزه. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن كنت ترى أنّ لي عليك طاعة فقف مكانك.

ثم برز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام وصاح به صيحة ، وقتل أخاه وابن أخيه وانهزم عمرو وبنو زبيد ، وسبي منهم نساء ومنهم امرأة عمرو ركانة بنت سلامة وولدها. وخلّف علي عليه‌السلام على بني زبيد خالد بن سعيد ليؤمّن من عاد إليه من هرابهم مسلما ، ويقبض صدقاتهم.

فرجع عمرو بن معد يكرب فاستأذن على خالد بن سعيد فأذن له ، فلما وقف بباب خالد بن سعيد رأى ناقة منحورة ، فجمع قوائمها وضربها بسيفه

٤٢٢

الصمصامة ضربة واحدة فقطعها. ثم دخل على خالد بن سعيد فعاد الى الإسلام وطلب منه أن يهب له أهله وولده فوهبهم له ، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة (١).

خبر بريدة الأسلمي :

مرّ أنّ بريدة الأسلمي الأنصاري كان مع خالد بن الوليد في هذه السريّة ، فروي عنه قال : لقد كنت ابغض عليا بغضا لم ابغض مثله أحدا قط حتى أني كنت أحببت رجلا آخر من قريش (خالد بن الوليد) لم احبه إلّا لبغضه عليا! فلما بعث ذلك الرجل (خالد) على خيل (الى اليمن) صحبته لأنّه كان يبغض عليّا؟

وهنا يروى عن بريدة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انما بعث عليا ليخمّس الغنائم والسبايا. قال : وكان في السبي وصيفة هي أفضل السبايا ، فخمّس السبي وأخذ خمسه وقسّم الباقي. ثم خرج علينا ورأسه يقطر ماء! فقلنا : ما هذا يا أبا الحسن؟! فقال : إن تلك الوصيفة التي كانت في السبي صارت في الخمس وصارت لآل بيت النبي! فكتب الرجل (خالد) بذلك الى رسول الله ، فقلت له : ابعثني بكتابك اصدّقه ، فبعثني.

فلما قدمت على رسول الله جعلت أقرأ الكتاب وأقول : صدق يا رسول الله! فأمسك رسول الله يدي والكتاب وقال لي : أتبغض عليّا؟! قلت : نعم! فقال : فلا تبغضه ، وإن كنت تحبه فازدد له حبّا ، فو الذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أكثر وأفضل من الوصيفة (٢).

وروى المفيد الخبر في «الارشاد» وزاد : سار بريدة حتى انتهى الى باب رسول الله فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه ،

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٥٨ ـ ١٦٠.

(٢) عن البداية والنهاية لابن كثير ، في سيرة المصطفى : ٦٨ ، ٦٨١ ولكن المؤلف المعروف شكّك في صحة مفاد الخبر ، وهو في غير محله.

٤٢٣

فأخبره أنّه إنّما جاء ليقع في علي عليه‌السلام ، وذكر له اصطفاءه من الخمس الجارية لنفسه! فقال له عمر : امض لما جئت له فانّه سيغضب لابنته مما صنع علي.

فدخل بريدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه كتاب خالد بما أرسل به بريدة فقرأه وتغيّر وجه النبي ومع ذلك قال بريدة : يا رسول الله ، إنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم!

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بريدة! ويحك أحدثت نفاقا! إنّ علي بن أبي طالب يحل له من الفيء ما يحلّ لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من اخلّف من بعدي لكافة امتي ، واحذر أن تبغض عليا فيبغضك الله! فقال بريدة : اعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله! يا رسول الله ، استغفر لي فلن ابغض عليا أبدا ، ولا أقول فيه إلّا خيرا. فاستغفر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وروى الطبرسي عن الحسكاني النيشابوري عن عمرو بن شاس الأسلمي قال : كنت مع علي عليه‌السلام في خيله (الى اليمين) فجفاني بعض الجفاء فوجدت عليه في نفسي. فلما قدمت المدينة اشتكيته عند من لقيته. ودخلت المسجد ورسول الله فيه فنظر إليّ حتى جلست إليه فقال : يا عمرو بن شاس لقد آذيتني! فقلت : إنّا لله وإنا إليه راجعون! أعوذ بالله والإسلام أن اوذي رسول الله! فقال : من آذى عليا فقد آذاني (٢).

تاريخ هذه السريّة اليمنيّة : لعلّ ارسال رسول الله لعلي عليه‌السلام هذه المرة بهذه السريّة الى بني زبيد باليمن هي التي عناها ابن سعد كاتب الواقدي لما قال : إنّ النبيّ

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٦١ مرسلا ، وروى مثله الطوسي في الأمالي مسندا : ٢٤٩ ح ٤٤٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٥٧ عن المستدرك للحاكم الحسكاني ٣ : ١٢٢ وقبله في الطبري ٣ : ١٣٢.

٤٢٤

أرسل عليا الى اليمن مرّتين : المرة الاولى في السنة الثامنة ... والثانية كانت في شهر رمضان من السنة العاشرة في ثلاثمائة الى مذحج اليمن (١).

ويبدو أن خالد بن الوليد أيضا عاد من اليمن ، ثم بعث للثانية إليها في أوائل جمادى الاولى للتاسعة ، كما يأتي.

غزوة تبوك (٢) :

لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فتح مكة والحنين وحصار الطائف وعمرته في مكة ، الى المدينة ، لستّ ليال بقين من ذي القعدة (٣) سنة ثمان ، فأقام بالمدينة ما بين ذي القعدة إلى شهر رجب (٤) للسنة التاسعة.

وقد مرّ في خبر عمر عن اعتزال الرسول أزواجه في مشربة أمّ ابراهيم قوله : وكنا نتحدث ان غسان تنعل الخيل لتغزونا (٥) وكان ذلك السبب لنزول سورة التحريم ، ثم نزلت سورة الصف ، ثم نزلت سورة الجمعة ، ومرّ فيها خبر وصول قوافل دحية بن خليفة الكلبي الخزرجي التجارية من الشام الى المدينة ، ثلاث قوافل في ثلاث جمع متتاليات (٦).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٢٧ ، والصحيح أنّ الاولى كانت قبل تبوك في التاسعة.

(٢) كانت قلعة قوية ، وهي اليوم من مدن شمال الحجاز تبعد عن المدينة ٧٧٨ كم وعنها الى معان بعد الحدود الاردنية ٢٣٨ كم ، وفي طريقها خيبر وتيماء وطريقها اليوم معبدة.

(٣) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٤٤.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٩ ويظهر من المحاسبات الآتية ان ذلك كان في أواخر شهر رجب والراجح في الخامس والعشرين منه.

(٥) الدر المنثور ٦ : ٢٤٢ والميزان ١٩ : ٣٣٩.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٤٣٣.

٤٢٥

وقال القمي في تفسيره : إن الأنباط الشاميين كانوا يقدمون المدينة معهم الطعام والثياب والبسط ، فأشاعوا بالمدينة : أن هرقل الروم قد سار في جنود اجتمعوا في عسكر عظيم يريدون غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورحلت معهم من عرب الشام غسان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد نزل هرقل في حمص وقدم عساكره الى بلاد البلقاء وفيها قلعة تبوك (١).

وقال الواقدي : وانما كان ذلك مما قيل لهم فقالوه من دون أن يكون شيء منه! وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أراد غزوة قبل هذه يورّي بغيرها حتى لا يبلغ الخبر المقصد حتى يفاجئه بغير اعداد منهم ، حتى كانت هذه الغزوة فما ورّى لها ، بل كاشف الناس بها منذ البداية وأخبرهم بالوجه الذي يريد ، ليتأهّبوا لها اهبتهم.

وبعث الى مكة والى القبائل يستنفرهم :

فبعث بريدة بن الحصيب الى قبائل أسلم حتى موضع الفرع.

وأمر أبا رهم الغفاري أن يطلب قومه الى بلادهم فيبلّغهم.

وبعث أبا واقد الليثي الى قومه بني ليث.

وبعث ابا الجعد الضّمري الى قومه بني ضمرة بالساحل.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٩٠. وأعرض المفيد في الارشاد ١ : ١٥٤ عن هذا وقال : بأن الله هو أوحى الى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستنفر الناس للخروج الى تبوك ، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها الى حرب ولا يمنى بقتال عدوّ فيه ، بل إن الامور تنقاد له بغير سيف. وأفاد دليله على قوله هذا بقوله : ولو علم الله تعالى أن بنبيه عليه‌السلام في هذه الغزاة حاجة الى الحرب والأنصار لما اذن له في تخليف أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ١ : ١٥٨ وعن الغاية من هذا الخروج قال : تعبده الله بامتحان أصحابه واختبارهم بالخروج معه لتظهر سرائرهم فيتميزوا بذلك ١ : ١٥٤. ولا منافاة بين الطريقين العادي والغيبي ، والجمع أولى.

٤٢٦

وبعث الأخوين رافعا وجندبا ابني مكيث الجهني الى قومهم بني جهينة.

وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي الى بني الأشجع.

وبعث بديل بن ورقاء الخزاعي الكعبي الى بني كعب بن عمرو من خزاعة في مكة وضواحيها ، ومعه من قومه بسر بن سفيان وعمرو بن سالم.

وبعث العباس بن مرداس السلمي الى قومه بني سليم ، ومعه آخرون (١).

وقد مرّ الخبر في تفسير الآية الحادية عشرة من سورة الجمعة قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) عن جابر الأنصاري قال : قدمت قافلة دحية الكلبي التجارية من الشام الى المدينة بعد ما أصابتهم مجاعة (٢).

وعند أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم روى ابن اسحاق : أن ذلك كان عند جدب من البلاد وعسرة الناس وشدة الحرّ ، فالناس يحبّون المقام في ظلالهم منتظرين طيبة ثمارهم الصيفية ، ويكرهون السفر على تلك الحال وفي ذلك الزمان لشدته ، والى ذلك المكان لبعد الشقة والمسافة ، وكثرة العدو الذي يصمد له ويقصده (٣) ولا سيما بعد وقائع مؤتة.

«وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم» (٤) :

قال الواقدي : حضّ رسول الله المسلمين على الجهاد ورغّبهم فيه والصدقة له ، فتصدق كثير منهم بكثير من أموالهم : فتصدّق عاصم بن عدي بتسعين وسقا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٩ ، ٩٩٠.

(٢) التبيان ١٠ : ٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٩.

(٤) التوبة : ٤١.

٤٢٧

تمرا ، وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مائتي أوقية (فضة) (١) وحمل العباس بن عبد المطلب (٢) وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن عبادة ومحمّد بن مسلمة أموالا ، وقوّى اناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم ، حتى أن الرجل كان يأتي ببعيره الى رجلين ويقول لهما : تعاقبا عليه.

وروى عن أمّ سنان الأسلميّة قالت في انفاق النساء : رأيت بين يدي رسول الله في بيت عائشة ثوبا مبسوطا وفيه مما بعث به النساء يعنّ به المسلمين في جهازهم : من أقرطة واسورة ومعاضد وخواتيم وخلاخل (٣).

قال القمي في تفسيره : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع (٤) وخطبهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

«أيّها الناس ، انّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأولى القول كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السنن سنة محمّد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الامور عزائمها ، وشر الامور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتل قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب ،

__________________

(١) كذا في مغازي الواقدي ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٩٦ ذكر لعاصم بن عدي مائة وسق ولعبد الرحمن أربعة آلاف درهم. وهو أولى. ولم يذكر غيرهما إلّا أبا عقيل.

(٢) كان قدومه المدينة يومئذ استجابة لاستنفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل مكة ، وبحضوره كان سدّ الأبواب ، وسنذكره.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩١ ، ٩٩٢.

(٤) الثنيّة : المرتفع من الأرض ، وسميت بالوداع عند وداع الأنصار نساءهم وأهلهم عند خروجهم لغزوة خيبر ، كما مرّ ، خيبر على شمال المدينة على طريق الشام ، واليوم أرادوا تلك الجهة أيضا ، وليست على جهة الجنوب الى مكة.

٤٢٨

واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا ، ومنهم من لا يذكر الله إلّا جهرا ، ومن اعظم خطايا اللسان الكذب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما القي في القلب اليقين ، والارتياب من الكفر ، والتباعد من عمل الجاهلية ، والغلول من جمر جهنم ، والسكر جمر النار ، والشعر من ابليس ، والخمر جماع الاثم ، والنساء حبائل ابليس ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل أكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره. انما يصير احدكم الى موضع أربعة أذرع ، والأمر الى الآخرة ، وملاك العمل خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن توكل على الله كفاه ، ومن صبر ظفر ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن كظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرزية يعوّضه الله ، ومن يتبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصم يضاعف الله له ، ومن يعص الله يعذّبه.

اللهم اغفر لي ولامتي ، اللهم اغفر لي ، استغفر الله لي ولكم» (١).

فلما سمع الناس هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رغبوا في الجهاد.

ومنهم من يقول ائذن لي :

قال : ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجدّ بن قيس (السلمي الخزرجي) فقال له :

__________________

(١) ورواها الواقدي في المغازي ٢ : ١٠١٥ ـ ١٠١٧ عن عقبة بن عامر في تبوك وليس في المدينة.

٤٢٩

يا أبا وهب : ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ فقال : يا رسول الله ، والله ان قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشدّ عجبا بالنساء منّي ، وأخاف ان خرجت معك أن لا اصبر اذا رأيت بنات الأصفر (يعني الروم)! فلا تفتنّي! وائذن لي أن اقيم.

وكان يقول لجماعة من قومه (بني سلمة) : لا تخرجوا في الحرّ! أيطمع محمّد أنّ حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا!

(وكان متزوجا بام معاذ بن جبل ، وكان له منها عبد الله ، وكان مؤمنا بدريا) (١) فقال لأبيه : تردّ على رسول الله وتقول له ما تقول! ثم تقول لقومك : لا تنفروا في الحرّ! والله لينزلنّ في هذا قرآنا تقرؤه الناس الى يوم القيامة (٢)! فو الله ما في بني سلمة أكثر منك مالا ولا تخرج ولا تحمل أحدا؟! فقال : يا بني ، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة الى بني الأصفر؟! والله ما آمن خوفا من بني الأصفر وأنا في منزلي في خربى ، فإني ، والله يا بني ، عالم بالدوائر! فأذهب إليهم فأغزوهم! فقال ابنه : لا والله ولكنه النفاق والله!

فرفع الجدّ نعله فضرب بها وجه ابنه عبد الله! فلم يكلّمه ، وانصرف (٣).

والذين أتوه ليحملهم معه :

روى الطبرسي عن أبي حمزة الثمالي قال : جاء سبعة نفر الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٩٢ فهو الذي نزل فيه في سورة التوبة عند رجوع النبي من تبوك قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) التوبة : ٤٩ وفي التبيان ٥ : ٢٣٢ عن مجاهد وابن زيد عن ابن عباس ، وفي مجمع البيان ٥ : ٥٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٢ ، ٩٩٣.

٤٣٠

منهم من بني النجار : عبد الرحمن بن كعب ، وعتبة بن زيد ، وعمرو بن غنمة ، ومن مزينة : سالم بن عمير ، وعبد الله بن معقل ، وعبد الله بن عمرو بن عوف ، وهرم بن عبد الله ، قالوا : يا رسول الله احملنا فانه ليس لنا ما نخرج عليه.

فقال لهم : لا أجد ما أحملكم عليه.

وزاد الواقدي : أنهم كانوا من فقراء الأنصار ، فلما بكوا ، حمل العباس بن عبد المطّلب منهم رجلين وعثمان بن عفان رجلين ، ويامين بن كعب النضري من بني النضير ثلاثة منهم (١).

وروى العياشي في تفسيره بسنده عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم الثقفي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أن أحدهم عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي (٢).

وقال القمي في تفسيره : هم سبعة من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير العمري البدري ممن شهد بدرا بلا خلاف ، ومن بني واقف : هرمي بن عمرو ، ومن بني حارثة : علبة بن زيد ، ومن بني مازن بن النجار : أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، ومن بني سلمة : عمرو بن عتبة ، ومن بني زريق : سلمة بن صخر ، ومن بني سليم : العرباض بن سارية السلمي (٣).

وأتاه عبد الله المزني ذو البجادين وسأله أن يسأل الله له الشهادة! فقال :

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٨٠ ومجمع البيان ٥ : ٩١ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٩٣ ولذلك سمّوا بالبكّائين.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٤ ، ١٠٥.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٩٣ واللفظ للواقدي في المغازي ٢ : ٩٩٤ وكرّره مختصرا : ١٠٢٤. وهم الذين نزلت فيهم في سورة التوبة : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) ...(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) التوبة : ٩١ ، ٩٢ ولذلك سمّوا البكائين.

٤٣١

أبلغني لحاء (قشر) شجرة سمرة! فجاءه بها فربطها على عضد عبد الله وقال : اللهم اني احرّم دمه على الكفار! فقال : ما أردت هذا! فقال : انك اذا خرجت غازيا في سبيل الله فلا تبال بأية كان (١).

إحراق دار النفاق :

روى ابن هشام في السيرة بسنده عن عبد الله بن حارثة قال : بلغ رسول الله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي في موضع جاسوم يثبّطون الناس عن غزوة تبوك. فأحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طلحة بن عبيد الله وأمره ومعه نفر من أصحابه أن يحرقوا بيت سويلم عليهم.

وكان من المنافقين فى الدار الضحّاك بن خليفة ، فلما أحرق طلحة عليهم الدار أراد الضحّاك أن يفرّ من ظهر الدار فانكسرت رجله ، وأفلت أصحابه (٢).

وجاء ناس منهم يستأذنون رسول الله أن يتخلّفوا عنه بلا علة ، ومع ذلك أذن لهم ، وهم اثنان وثمانون رجلا! منهم رجال من الأعراب من بني غفار ، منهم خفاف بن إيماء الغفاري (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٤ وتمامه : فان وقصتك دابتك فانت شهيد ، أو أخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد! فمات بالحمّى في تبوك. وسيمرّ خبره. وروى خبره المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٦٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥ وأشار إليه في التبيان ٥ : ٢٧٨ ومجمع البيان ٥ : ٩٠. وهم الذين نزلت فيهم في سورة التوبة : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ...) : ٩٠.

٤٣٢

وبناء مسجد النفاق! :

كان يسكن في قباء أبناء عوف : بنو عمرو بن عوف ، وسالم بن عوف ، وغنم بن عوف. وبادر بنو عمرو بن عوف لاستقبال الاسلام والمسلمين المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وتبرّعوا بقطعة من أرضهم لبناء المسجد ، فعرف بمسجد بني عمرو بن عوف ، وهو مسجد قباء.

وأسلم أبناء عمومتهم : بنو سالم (١) وبنو غنم على غير ايمان واخلاص بل بشيء من شوب ريب النفاق ، فحسدوا بني عمّهم عمرو بن عوف على مسجدهم : مسجد قباء (٢).

وأشار الطوسي في «التبيان» (٣) نقلا عن ابن اسحاق (٤) والواقدي : أنهم كانوا خمسة عشر رجلا : أبو حبيبة ابن الأزعر ، وبجاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب وخذام بن خالد ، وعبّاد بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، أخو عثمان وسهل ابني حنيف ، ومعتّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجارية بن عامر ـ وكان يعرف بحمار الدار ـ وأبناؤه : زيد ويزيد ومجمّع ـ وهذا أصبح امامهم فيما بعد ـ (٥) وعبد الله بن نبتل. وكان هذا يأتي رسول الله فيسمع حديثه فيأتي به أصحابه المنافقين ، فقال جبرئيل عليه‌السلام : يا محمّد ، إنّ رجلا من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك ثم يذهب به الى المنافقين! فقال رسول الله : أيّهم هو؟ فقال : الرجل

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٠٥.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١٠٩.

(٣) التبيان ٥ : ٢٩٧.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٩ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٧.

٤٣٣

الأسود ذو الشعر الكثير ، كبده كبد حمار وينظر بعين شيطان ، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر وينطق بلسان شيطان (١).

وكانوا يجتمعون مع بني عمومتهم بني عمرو بن عوف في مسجدهم فيلتفت بعضهم الى بعض ويتناجون فيما بينهم فيلحظهم المسلمون بأبصارهم ، فشقّ ذلك عليهم وأرادوا مسجدا يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلّا من يريدون ممّن هو على مثل رأيهم (٢).

فبنوا المسجد من دار وديعة بن ثابت جار أبي عامر الراهب الفاسق ، وأعانهم أبو لبابة بن عبد المنذر بخشب من دون أن يكون منهم (٣).

ثم جاء خمسة نفر منهم : أبو حبيبة بن الأزعر ، وثعلبة بن حاطب ، وخذام بن خالد ، وعبد الله بن نبتل ، ومعتّب بن قشير ورسول الله يتجهز الى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، ونحن نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه. فقال رسول الله : انّي على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلّينا بكم فيه (٣).

ويظهر من خبر عاصم بن عدي انّهم راجعوا رسول الله في ذلك وهم

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٠٠ وفيه : عبد الله بن نفيل مصحفا.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٧ ـ ١٠٤٩ وقال : كان أبو عامر الراهب الفاسق يقول لهم : لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف فان فيه أصحاب رسول الله يلحظوننا بأبصارهم ، ونبني مسجدا يأتينا أبو عامر فيتحدّث عندنا فيه ٣ : ١٠٤٦ هذا وقد قالوا : انّه لحق بمكة حتى فتحت فهرب الى الطائف فكان بها حتى أسلموا ، كما في التبيان ٥ : ٢٩٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٠.

(٣) و (٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٥ ، ١٠٤٦.

٤٣٤

مشتغلون ببنائه : فقد روى عنه الواقدي قال : كنّا نحن نتجهّز مع النبي الى تبوك ، إذ رأيت ثعلبة بن حاطب وعبد الله بن نبتل قد فرغا من اصلاح ميزاب مسجد الضرار ، فلما نظرا إليّ قالا لي : يا عاصم ، إنّ رسول الله قد وعدنا أن يصلي فيه اذا رجع. وأنا أعلم في نفسي أنه أسّسه أبو حبيبة بن الأزعر واخرج من دار خذام بن خالد ووديعة بن ثابت منافقون معروفون بالنفاق (١).

وتوافقوا على امامة مجمّع بن جارية بن عامر المعروف بحمار الدار ، فكان امامهم يومئذ (٢).

معسكران للمدينة؟!

قال الطبرسي : وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عسكره فوق ثنيّة الوداع (٣) بمن تبعه من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب من بني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطئ وتميم (٤) وقال الواقدي : واقبل عبد الله بن أبي بعسكره (!) فضربه على ثنيّة الوداع بحذاء ذباب ، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممّن اجتمع إليه ، فكان يقال : ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين (٥) وكان المسلمون ثلاثين ألفا (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٩ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٦ و ١٠٤٧.

(٣) الى جهة الشام في شمال المدينة لا جهة مكة وقباء في جنوبها.

(٤) اعلام الورى ١ : ٢٤٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٢ اما المتخلفون الثمانون فانما هم من بني غفار من الأعراب وليسوا من اهل المدينة.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦ و ١٠٠٢ و ١٠٤١ وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٦ خمسة وعشرون ألفا غير العبيد ..

٤٣٥

وكانت حركته الى تبوك في شهر رجب (١) فلما سار تخلف عنه ابن أبي فيمن تخلّف معه من المنافقين وقال : يغزو محمّد (كذا) بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد الى ما لا قبل له به! يحسب محمّد (كذا) أن قتال بني الأصفر اللعب! والله لكأني انظر الى أصحابه غدا مقرّنين في الحبال! ونافق معه من هو على مثل رأيه (٢) أما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما بلغه ذلك قال : حسبي الله! هو الذي أيّدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم (٣).

استخلاف عليّ على المدينة :

قال القمي : فلما اجتمع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخيول ، خلّف أمير المؤمنين على المدينة ورحل من ثنيّة الوداع فأرجف المنافقون بعليّ وقالوا : ما خلّفه إلّا تشاءما به. فبلغ ذلك عليا عليه‌السلام فأخذ سيفه وسلاحه ولحق برسول الله بالجرف (٤). فقال له رسول الله : يا علي ، ألم اخلّفك على المدينة؟ قال عليه‌السلام : نعم ، ولكنّ المنافقين زعموا أنك خلّفتني تشاءما بي!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذب المنافقون يا علي ، أما ترضى أن تكون اخي وأنا أخوك ، بمنزلة هارون من موسى ، إلّا انّه لا نبي بعدي ، وأنت خليفتي في امتي ، وأنت وزيري ، وأخي في الدنيا والآخرة. فرجع علي عليه‌السلام الى المدينة (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٧ ويظهر من المحاسبات الآتية أن ذلك كان في أواخره ولعله في ٢٥ منه وليس كما ذكر اليعقوبي في غرة رجب ٢ : ٦٧ ، ٦٨ وهو المنفرد بذلك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٤) الجرف : على ثلاثة أميال (٥ كم) من المدينة.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٩٢ ، ٢٩٣ ورواه ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣ بسنده عن

٤٣٦

وذلك انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علم خبث نيات الأعراب وكثير من اهل مكة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم ، فاشفق أن يطلبوا المدينة عند خروجه نحو بلاد الروم ، فاذا لم يكن فيها من يقوم مقامه لم يأمن من معرتهم وفسادهم في دار هجرته ، وعلم انّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة ومن فيها إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستخلفه عليها.

وتظافرت الرواية : بأن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام على المدينة علموا أنه لا يكون للعدو فيها مطمع ... وهم كانوا يؤثرون خروجه معه لما كانوا يرجونه عند بعد النبي عن المدينة من الاختلاط ووقوع الفساد. فساءهم ذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، فحسدوه لذلك ، وغبطوه بمقامه في أهله بالدعة والرفاهية ، وتكلّف من خرج منهم السفر والخطر ... فأرجفوا به عليه‌السلام وقالوا : لم يستخلفه رسول الله إكراما وإجلالا ومودّة ، وانما خلّفه استثقالا له. فلما بلغ أمير المؤمنين عليه‌السلام إرجاف المنافقين به ، أراد تكذيبهم واظهار فضيحتهم ، فلحق به صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبلغه مقال المنافقين ، وأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث المنزلة (١).

فقال علي عليه‌السلام : قد رضيت ، قد رضيت. ثم رجع الى المدينة (٢).

__________________

ـ ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد. ولم ينقله الواقدي.

(١) الارشاد ١ : ١٥٥ ، ١٥٦ بتصرف.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٤٤. وأكثر من ذكر حديث المنزلة هذا اكتفى به ولم يذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف مع علي عليه‌السلام أحدا سواه ، وكذلك فعل ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣ لكن ابن هشام فيها ٤ : ١٦٢ قدم ذكر استعماله عليها محمّد بن مسلمة الأنصاري وروى في خبر آخر : سباع بن عرفطة الغفاري. وأغرب الواقدي فلم يرو حديث المنزلة لعلي عليه‌السلام أصلا! واكتفى بذكر استخلاف الغفاري وقال : وقيل : محمّد بن مسلمة ٣ : ٩٩٥. وجاء في الديوان المنسوب الى علي عليه‌السلام أنه قال في ذلك شعرا : ـ

٤٣٧

عقد الألوية والرايات :

قال الواقدي : ولما رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثنيّة الوداع الى تبوك عقد الألوية والرايات : فدفع رايته العظمى الى الزبير ، ولواءه الأعظم الى أبي بكر ، وراية الأوس الى اسيد بن الحضير ، والخزرج الى أبي دجانة أو الحباب بن المنذر بن الجموح (١) وأمر رسول الله كل بطن من الأنصار أن يتخذوا لواء وراية ... وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذا (حفظا) للقرآن ، فكانت راية بني عمرو بن عوف مع أبي زيد قيس بن السكن الأوسي ، وراية بني سلمة مع معاذ بن جبل ... وكان رسول الله قد دفع راية بني مالك بن النجار الى عمارة بن حزم قبل أن يدركه زيد بن ثابت ، فلما أدركه زيد اعطاه الراية ، فقال عمارة : يا رسول الله لعلك وجدت (غضبت) عليّ؟! قال : لا والله ولكن كان أكثر أخذا للقرآن منك ، والقرآن يقدّم ، وقدّموا القرآن وإن كان عبدا أسود مجدعا (مقطوع الأنف) (٢).

__________________

الا باعد الله أهل النفاق

وأهل الأراجيف والباطل

يقولون لي : قد قلاك الرسول

فخلّاك في الخالف الخادل

وما ذاك إلّا لأن النب

ي جفاك ، وما كان بالفاعل

فسرت وسيفي على عاتقي

الى الحاكم الفاصل العادل

فلما رآني هفا قلبه

وقال مقال الأخ السائل :

ايم ابن عمّي؟! فأنبأته

بارجاف ذي الحسد الداغل

فقال : أخي أنت من دونهم

كهارون موسى ، ولم يأتل

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٢ و ١٠٠٣.

٤٣٨

خروجه وجمعه بين الظهرين قصرا :

وخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك صباح يوم الخميس (١) ومعه زوجته أمّ سلمة هند بنت أبي أميّة المخزومي (١) الى ذي خشب ، ودليله علقمة بن الفغواء الخزاعي ، وكان في حرّ شديد فأخّر صلاة الظهر حتى أبرد فصلّاها وعجل بالعصر فجمع بينهما (٣) قصرا (٤) وهكذا فعل في كل سفره الى تبوك حتى رجع منها. وبني مسجد على مصلاه تحت الدومة بذي خشب (٥).

ممّن تعوّق ثم لحق :

قال الواقدي : وتخلّف نفر من المسلمين من غير شكّ وريب ، وإنّما أبطأت بهم النيّة حتى تخلّفوا عنه صلى الله عليه [وآله] وسلم :

منهم مرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة الواقفي ، قال : والله ما تخلّفت شكا ولا ارتيابا ولكني قلت : أشتري بعيرا والحق بهم ، ولقيت مرارة بن الربيع فقال مثل

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩ وروى الترمذي وأبو داود في سننهما بإسنادهما عن معاذ بن جبل قال : كان النبي في غزوة تبوك اذا ارتحل قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر ، واذا زالت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وكذلك كان يفعل في المغرب والعشاء. وقال الترمذي : حديث حسن. وفي قصر الصلاة روى ابن حنبل وابن حبّان وابن خزيمة والبيهقي برجال موثقين عن عائشة أم المؤمنين قالت : كانت الصلاة الاولى بمكة ركعتين ، ثم زيدت بعد الهجرة ركعتين ، وكان رسول الله اذا سافر صلى الصلاة الاولى : ركعتين. التقويم القطري : ١٧٥.

٤٣٩

قولي ، فقلنا : نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بهم ولا يفوت ذلك ، نحن قوم مخفّون على صدر راحلتين ، فغدا نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونؤخّر الأيام ... وكنت لا أرى الا منافقا معلنا أو معذورا ، فأرجع مغتمّا بما أنا فيه ...

ومنهم كعب بن مالك (الأنصاري) شاعر النبي وهذا لم يتخلّف ليشتري بعيرا ، بل قال : تجهّز رسول الله وتجهّز معه المسلمون ، وجعلت أعدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض لنفسي حاجة ... فلم أزل كذلك حتى خرج رسول الله يوم الخميس ، ولم اقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم ، فغدوت لأتجهز فلم أفعل شيئا! ثم غدوت فلم أفعل شيئا! وقد اجتمعت لي راحلتان يومئذ فقلت : ارتحل فادركهم ، ولم أفعل! وكان يحزنني أني اذا خرجت وطفت في الناس لا أرى إلّا رجلا ممّن عذّره الله أو رجلا مغموصا (منقوصا عليه دينه) بالنفاق (١).

ومنهم أبو ذر الغفاري ، وكان يقول : كان بعيري نضوا (هزيلا) أعجف ، فقلت : اعلفه أياما ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه [وآله] فعلفته أيّاما (ثلاثة ـ القمي) ثم خرجت ، فلما كنت بذي المروة (ثالث المنازل) عجز بي ، فتلوّمت (تمهّلت) عليه يوما فلم أر به حركة ، فأخذت متاعي فحملته على ظهري ، ثم خرجت أتّبع رسول الله ماشيا في حرّ شديد فلا أرى أحدا ، حتى اذا كان نصف النهار وقد بلغ بي العطش ، فنظر ناظر في الطريق فرآني فقال : يا رسول الله ، ان هذا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦ ـ ٩٩٨ باختصار وفي السيرة ٤ : ١٧٦ بدون ذكر يوم الخميس. واشير إليهم في تفسير العياشي ٢ : ١١٥ ح ١٥١ عن الصادق عليه‌السلام وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٦ بلا اسناد. وفي التبيان ٥ : ٢٩٦ و ٣١٦ عن مجاهد وقتادة عن ابن عباس وجابر ومجمع البيان ٥ : ١٠٤ و ١٢٠ عنهما.

٤٤٠