موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

وعلى هذا ، فمن الجائز أن يكون الله قد أنزل معظم السورة وفيها أمر الولاية يوم عرفة (أو عشيّتها) وتلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن أخّر بيان الولاية الى الغدير ، فلا يبعد أن يكون ما اشتمل عليه بعض الأخبار من نزولها يوم الغدير إنمّا لتلاوته صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية بعد تبليغ أمر الولاية لبيان شأن نزولها ، فقيل : إنها نزلت يومئذ. وعليه فلا تنافي بين الفريقين من الأخبار (١).

الموضع والنداء والمنبر :

مرّ في «الاحتجاج» عن الباقر عليه‌السلام قال : لما بلغ غدير خم ـ قبل الجحفة بثلاثة أميال (٢) ـ أتاه جبرئيل ـ على خمس ساعات مضت من النهار ـ بالزجر والعصمة من الناس فقال : يا محمد ، إن الله يقرئك السلام ويقول لك : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) فأمره أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ليقيم عليّا علما للناس ويبلّغهم ما أنزل الله في علي عليه‌السلام ، وأخبره أنّ الله عزوجل قد عصمه من الناس.

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٩٦ ، ١٩٧ بتصرّف يسير.

(٢) جاء في معجم البلدان ٢ : ٣٨٩ خم ، واد بين مكة والمدينة عند الجحفة. وعيّن الفاصل في ٤ : ١٨٨ غدير خم ، بين مكة والمدينة بينه وبين الجحفة ميلان وقال في الجحفة ٢ : ١١١ : بينها وبين غدير خم ميلان ، وهي على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وبينها وبين المدينة ست مراحل. وشرح الشيخ الدكتور الفضلي ذلك فقال : أراد بالمرحلة المنزل ، وبالطريق السلطاني ، الا أنّه حذف الطارف لعدم ذكره أحيانا ، والمسافة ـ كما في خريطة وزارة المواصلات السعودية للطرق البرية في المملكة ـ من مكة الى ـ مطار رابغ البحر (١٨٠ كم) ومنه الى الجحفة (٩ كم) ـ (١٨٩ كم). مجلة الميقات ع ٦ : ٣٨٧ فالغدير في الشمال الغربي من مكة بينه وبينها (١٨٥ كم) تقريبا.

٦٢١

وكان أوائلهم قريبا من الجحفة ، فأمر رسول الله مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر منهم ، وأمره جبرئيل فتنحّى عن يمين الطريق الى جنب مسجد الغدير. وكان في الموضع سلمات (١) فأمر رسول الله أن يقمّ ما تحتهنّ ، وأن تنصب له أحجار كهيئة المنبر ليشرف على الناس ، فقام رسول الله فوق تلك الأحجار ، وكان علي عليه‌السلام منذ أول ما صعد رسول الله دون مقامه بدرجة ، ثم ضرب بيده الى عضده فبسط علي يده نحو وجه رسول الله فشال عليّا حتى صارت رجله مع ركبة رسول الله (٢).

ومرّ في خبر «البرهان» عن زيد بن أرقم قوله : إذ سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ينادي : أيها الناس ، أنا رسول الله أجيبوا داعي الله. فأتيناه مسرعين ، وكان في شدّة الحرّ ، فإذا هو واضع بعض ثوبه على رأسه وبعضه على قدمه من الحرّ ، وأمر بقمّ ما تحت الدوح ، فقمّ ما كان ثمة من الشوك والحجارة ، فلما فرغوا من القمّ أمر رسول الله أن يؤتى بأحلاس دوابّنا وأقتاب ابلنا وحقائبنا ، فوضعنا بعضها على بعض ثم ألقينا عليها ثوبا ، ثم صعد عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

ولئن خلا هذان الخبران عن التصريح بأن ذلك كان بعد صلاة الظهر ، فقد صرحت بذلك أحاديث كثيرة :

فقد نقل السيّد ابن طاوس عن كتاب «النشر والطي» من حديث حذيفة بن اليمان قال : انتهى إلينا رسول الله فنادى الصلاة جامعة! ثم دعا أبا ذر وعمارا

__________________

(١) السلم : شجر الغضا. مجمع البحرين.

(٢) الاحتجاج ١ : ٧٠ و ٧١ و ٧٦.

(٣) البرهان ٢ : ١٤٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥٢.

٦٢٢

والمقداد وسلمان فأمرهم أن يعمدوا الى أصل شجرتين فيقموا ما تحتهما ، فكسحوه ، وأمرهم أن يضعوا الحجارة بعضها على بعض كقامة رسول الله ، وأمر بثوب فطرح عليه ، ثم صعد النبي المنبر ينظر يمنة ويسرة وينتظر اجتماع الناس إليه حتى اجتمعوا ، ثم ضرب بيده الى عضد علي عليه‌السلام فرفعه على درجة دون مقامه ، متيامنا عن وجه رسول الله (١).

وزاد في «بشارة المصطفى» عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم : كنّا يوم غدير خم مع رسول الله ونحن نرفع أغصان الشجر عن رأسه (٢).

وزاد ابن حنبل عن زيد بن أرقم قال : فأمر بالصلاة فصلّاها فخطبنا ، وظلّل لرسول الله من الشمس بثوب على شجرة (٣).

ورواه ابن المغازلي في «المناقب» عنه قال : أمرنا بالدوحات فقمّ ما تحتهنّ من شوك ، ثم نادى : الصلاة جامعة ، فخرجنا الى رسول الله في يوم شديد الحرّ وإنّ منّا لمن يضع رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ! فصلّى بنا الظهر ثم انصرف إلينا بوجهه الكريم (٤).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ونقل نداء الصلاة وكنس ما بين شجرتين الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٥ عن البراء بن عازب والمجلسي عن المناقب لابن الجوزي عن البراء أيضا في بحار الأنوار ٣٧ : ١٤٩.

(٢) بشارة المصطفى : ١٦٦ كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٨ و ٢٢٣.

(٣) العمدة لابن بطريق الحلّي : ٩٢ عن مسند أحمد ٤ : ٢٨١.

(٤) عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٨٤. وفي هذا الفصل أكثر من عشرة أخبار في أنّ الخطبة كانت بعد صلاة الظهر في : ١١٩ و ١٢١ و ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٩ و ١٥٤ و ١٥٩ و ١٩١ و ١٩٨ و ٢٠٤ والارشاد ١ : ١٧٦ ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض فصلى بهم الظهر

٦٢٣

عدد الجمع :

أغرب ابن شهرآشوب في «المناقب» مرسلا عن الباقر عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم بين ألف وثلاثمائة رجل (١) بينما مرّ عن «الاحتجاج» عنه عليه‌السلام قال : بلغ من حجّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون ، فنكثوا واتّبعوا العجل والسامريّ (٢).

ولكنّ هذا الخبر جمع في العدد الأعراب وأهل الأطراف الى أهل المدينة ولم يميّزهم ، وجاء ذكرهم في خبرين عن الصادق عليه‌السلام :

__________________

وإنّما كانت صلاة الظهر ؛ لأنّه كان يوم الخميس كما في خبر سليم عن أبي سعيد الخدري ، كما في كتاب سليم ٢ : ٨٢٨ ، ورواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢ ، وابن بطريق في المستدرك ، وابن طاوس في الطرائف في مذاهب الطوائف : ٢١٩ وعنهما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٧٩.

وفي بعض الأخبار أنّ يوم الغدير كان في يوم النيروز أي اوّل يوم من دخول الشمس في برج الحمل ، ويؤيّد هذا ما نقله اليعقوبي في تاريخه عن الخوارزمي المنجّم : انّ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان والشمس في برج الجوزاء ، وهو الشهر الثالث من الربيع. وعليه فحرارة يوم الغدير لم تكن حرارة الصيف وإنّما حرارة الظهيرة في هجير الحجاز ، وهذا مما يقرب أن يصلي بهم الظهر عند الزوال وإلّا فانّه كان يبرد بالصلاة في أسفاره أي يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير تخفيفا للحرارة كما مرّ في غزوة تبوك.

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥. وأكثر الظن أنّه هو الخبر عن تفسير فرات الكوفي عن أبي ذر الغفاري : ٥١٦ ح ٦٧٤.

(٢) الاحتجاج ١ : ٦٩.

٦٢٤

قال في أحدهما : إنّ رسول الله خرج من المدينة حاجا وتبعه [منهم] خمسة آلاف ، ورجع من مكة وقد شيّعه خمسة آلاف من أهل مكة ، فكان لعلي عليه‌السلام عشرة آلاف شاهد (١).

وفي ثانيهما قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة في حجة الوداع شيّعه خمسة آلاف رجل من المدينة ، وشيّعه من مكة اثنا عشر ألف رجل من اليمن (٢).

كذا جاء في هذا الخبر ، ولم يذكر في أي خبر آخر ما يقارب هذا العدد في من حجّ من اليمن لا مع علي عليه‌السلام ولا بدونه ، ثم إنّ اليمن على يمين مكة وجنوبها بعكس المدينة على شمالها فمشايعتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الجحفة وغدير خم غريب بعيد ، ولم يذكر من النبي أمر بذلك (٣).

هنئوني وسلموا على علي وله :

ونقل الحلبي عن أبي سعيد الخدري قال : ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا قوم هنّئوني ، هنّئوني إنّ الله خصّني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة (٤).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٣٢ ح ١٥٣.

(٢) جامع الأخبار : ١٠ ـ ١٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٥ ح ٤٢.

(٣) ونقل المجلسي في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥٠ ، عن كتاب المناقب لابن الجوزي قال : كان معه من الصحابة ومن الأعراب وممن يسكن حول مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا. فلعلّ ما جاء في أخبارهم عليهم‌السلام من العشرة الى العشرين ألفا هم من أهل مكة والمدينة ممن عرفوا من الصحابة.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٥ ، ٤٦.

٦٢٥

وروى الحميري في «قرب الاسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أمر الناس أن يبايعوا عليّا عليه‌السلام ، فبايعه الناس (١).

وروى القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين (٢).

وروى الصدوق في «الأمالي» بسنده عن ابن عباس : أنّه أمر أصحابه فسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين رجلا فرجلا (٣).

وفي خبر «جامع الأخبار» : فجاء أصحابه الى أمير المؤمنين وهنؤوه بالولاية ، وأول من قال له كان عمر بن الخطاب قال له : يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (٤).

وفي خبر «الاحتجاج» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : قال معاشر الناس ، إنّكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة في وقت واحد ، وقد أمرني الله عزوجل أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت من إمرة المؤمنين لعلي ولمن جاء بعده من الأئمة مني ومنه ، على ما أعلمتكم أنّ ذريّتي من صلبه. فقولوا بأجمعكم : إنّا سامعون مطيعون راضون ، ومنقادون لما بلّغت عن ربّنا وربّك في أمر علي وأمر ولده من

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١١٩ ح ٧. وعن تفسير العياشي ٣٧ : ١٣٨.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٢٠.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١١١ ، وفي المناقب عن الثعلبي عن الكلبي ٣ : ٢٩.

(٤) جامع الأخبار : ١٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٦ ونقله المناقب من خبر أبي سعيد الخدري ، وعن شرف المصطفى عن البراء بن عازب ، وعن التمهيد للباقلاني ولكنّه تأوله ، وبمعناه عن السمعاني. وفي بحار الأنوار ٣٧ : ١٠٨ ، عن أمالي الصدوق عن أبي هريرة. والفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب ٣ : ٤٣٣. وفصّل نقله الأميني في الغدير ١ : ٢٧٢ ـ ٢٨٢ عن ستين مصدرا.

٦٢٦

صلبه من الأئمة ، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيا ونموت ونبعث ، لا نغيّر ولا نبدّل ولا نشكّ ولا نرتاب ، ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ، ونطيع الله ونطيعك وعليّا أمير المؤمنين وولده الأئمة الذين ذكرتهم من ذريّتك من صلبه بعد الحسن والحسين الذي قد عرّفتكم مكانهما منّي ومحلّهما عندي ومنزلتهما من ربّي ، فقد أدّيت ذلك إليكم ، فإنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وانهما الإمامان بعد أبيهما علي ، وأنا أبوهما قبله. فقولوا : أعطينا الله بذلك وإياك وعليّا والحسن والحسين والأئمة الذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا ... لا نبتغي بذلك بدلا ، ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا ، نحن نؤدّي ذلك عنك الداني والقاصي من أولادنا وأهالينا ، أشهدنا الله وكفى بالله شهيدا ، وأنت علينا به شهيد ، وكلّ من أطاع ممن ظهر أو استتر ، وملائكة الله وجنوده وعبيده ، والله أكبر من كل شهيد.

معاشر الناس ما تقولون؟ فإنّ الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس (... فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ...) ومن بايع فانّما يبايع الله (... يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ...).

معاشر الناس فاتّقوا الله وبايعوا عليّا أمير المؤمنين.

معاشر الناس ، قولوا الذي قلت لكم ، وسلّموا على علي بإمرة المؤمنين.

معاشر الناس ، السابقون الى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بإمرة المؤمنين أولئك هم الفائزون في جنّات النعيم.

معاشر الناس ، قولوا ما يرضي الله عنكم من القول.

قال الباقر عليه‌السلام : فنادته القوم : سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا. ثمّ تداكّوا على علي عليه‌السلام وصافقوه بأيديهم. فكان أوّل من صافق الأوّل والثاني والثالث ... ثم باقي المهاجرين والأنصار ، ثم باقي الناس عن آخرهم

٦٢٧

على طبقاتهم ومنازلهم ... وأوصلوا المصافقة والبيعة ثلاثة أيام (كذا) وكلّما بايع قوم يقول رسول الله : الحمد لله الذي فضّلنا على جميع العالمين (١).

ونقل المجلسي هذه الخطبة ثم قال : أقول : روى جميع هذه الخطبة الشيخ علي بن المطهر الحلي في (العدد القوية) باسناده الى زيد بن أرقم ، وروى أكثرها البياضي النباطي في «الصراط المستقيم» عن (كتاب الولاية) للطبريّ المؤرّخ عن زيد بن أرقم (٢).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٨٢ ـ ٨٤ ورواها قبله الشهيد الفتال النيشابوري مرسلا في روضة الواعظين : ١٠٩ ـ ١٢١ ، واستغرقت الخطبة في هذا الخبر ثلاث عشرة صفحة من الكتاب : ٦٨ ـ ٨٤ ، بينما جاء في تفسير فرات الكوفي بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن ابن عباس قال : قام رسول الله خطيبا فأوجز في خطبته : ٥٠٥ ح ٦٦٣ وهو الأولى والأقرب والأنسب.

(٢) بحار الأنوار ٣٧ : ٢١٨. والخطبة بطولها في (١٣) صفحة من كتاب الاحتجاج كما مرّ في الحاشية السابقة ، وقد نقل السيّد ابن طاوس ثلاث صفحات منها في الاقبال ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٧ عن كتاب النشر والطيّ الذي حمله مؤلفه الى الملك شاه مازندران رستم بن علي لما دخل الري ، رواه عن رجاله عن حذيفة بن اليمان ، وذكر فيه قبل هذا ٢ : ٢٣٩ : ولمحمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير كتاب صنّفه وسمّاه : «كتاب الردّ على الحرقوصية» (أتباع حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية رأس خوارج النهروان) روى فيه حديث يوم الغدير وما نصّ النبيّ على عليّ عليه‌السلام بالولاية والمقام الكبير ، روى ذلك من خمس وسبعين طريقا ، ولكنّه قال في الطرائف من مذاهب الطوائف : ٣٣ ، وقد روى الحديث في ذلك محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس وسبعين طريقا وأفرد له كتابا سمّاه «كتاب الولاية». وكذلك قال الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤. ونقل في «إحقاق الحق» ٢ : ٤٨٦ و ٤٨٧ : عن أبي المعالي الجويني كان يقول : شاهدت في يد صحّاف في بغداد مجلدا مكتوبا عليه : المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق من كنت مولاه فعليّ

٦٢٨

وقال المفيد في «الارشاد» : فصلى الظهر ... ثم أمر عليّا عليه‌السلام أن يجلس في خيمة بإزاء خيمته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجا فوجا فيهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين. ففعل الناس ذلك.

ثم أمر أزواجه ونساء المؤمنين أن يدخلن عليه فيسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن (١).

آية الاكمال ، وشعر حسّان :

إنّ أقدم كتاب فيما بأيدينا مما سبق الى رواية نزول آية الإكمال في هذا المجال هو كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري (م ق ٨٠ ه‍) عن أبي سعيد الخدري قال في حديثه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم غدير خم : فلم ينزل حتى نزلت الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فقال رسول الله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي وبولاية عليّ من بعدي (٢).

__________________

مولاه ، وتتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون! وذكر ابن كثير الشامي في ذكره لابن جرير الطبري : أنّه رأى مجلّدين ضخمين جمع فيهما أحاديث غدير خم ـ كما في بحار الأنوار ـ ٣٧ : ٢٣٥ ، ٢٣٦. وملك مازندران المذكور رستم بن علي ، لعله ابن علي بن شهريار بن قارن ، حكم ٥١١ ـ ٥٣٤ ه‍ ، وأهدى إليه الطبرسي : إعلام الورى ، كما في مقدمته : ٢٩ ط. النجف الأشرف.

(١) الارشاد ١ : ١٧٦. ولم أعثر على مصدر معتبر لخبر الطست وغمس ايديهن فيه.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٢٨ ، وفي الطرائف من مذاهب الطوائف لابن طاوس : ٣٥ ، مثله إلّا أن فيه : فلم يتفرّقوا حتى نزلت الآية. وكذلك في المستدرك لابن بطريق الحلي ، كما عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٧٩. ورواه الصدوق في الأمالي : ٢١٤ ، عن ابن عباس عن أبي ذر وسلمان وعمّار والمقداد قالوا : والله ما برحنا العرصة حتى نزلت الآية فكرّرها

٦٢٩

فقال حسّان بن ثابت : يا رسول الله ، ائذن لي لأقول في عليّ أبياتا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل ، على بركة الله. فقال حسّان : يا مشيخة قريش ، اسمعوا قولي بشهادة من رسول الله :

ألم تعلموا أنّ النبي محمدا

لدى دوح خمّ حين قام مناديا

وقد جاءه جبريل من عند ربّه

بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل الله ربّهم

وإن أنت لم تفعل وحاذرت باغيا

عليك ، فما بلّغتهم عن إلههم

رسالته ، إن كنت تخشى الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه

بيمنى يديه معلن الصوت عاليا

فقال لهم : من كنت مولاه منكم

وكان لقولي حافظا ليس ناسيا

فمولاه من بعدي عليّ ، وإنّني

به لكم دون البريّة راضيا

__________________

رسول الله ثلاثا ثم قال كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٣٧ ، ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٢٩٢ و ٢٩٣ ح ٢٠ و ٢٢ عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، وفيه ح ٢١ عن الصادق عليه‌السلام : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى رسول الله بها في عرفات يوم الجمعة! ورواه الكوفي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : ١١٩ ح ١٢٤ و ١٢٥ وعن الصادق عليه‌السلام : ١١٧ ح ١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ وعن ابن عباس : ١١٩ ح ١٢٦ و ١٢٧ وفيهما : بمكة في يوم عرفة يوم جمعة! وقد مرّ محاسبة أن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة وانما يوم الخميس ، فلو كان نزولها هناك كانت تلاوته لها يوم الغدير تفسيرا لها ، والسيوطي في الاتقان ١ : ١٩ ، وإن نقل عن الصحيح : عن عمر : أنّها نزلت عام حجة الوداع عشية عرفة يوم الجمعة ، لكنّه روى عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنّها نزلت يوم غدير خم ، وكذلك في الدر المنثور ٢ : ٢٥٩ ، كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٨٩ و ٢٤٨. وانظر البحث في الآية عن ستة عشر مصدرا في الغدير ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣٨ ، وفي كتاب آيات الغدير : ٢٦٤ ـ ٢٦٨.

٦٣٠

فيا ربّ من والى عليّا فواله

وكن للذي عادى عليّا معاديا

ويا ربّ فانصر ناصريه لنصرهم

إمام الهدى كالبدر يجلو الدياجيا

ويا ربّ فاخذل خاذليه وكن لهم

إذا وقفوا يوم الحساب مكافيا (١)

فروى الكليني في «روضة الكافي» عن الباقر عليه‌السلام قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسّان بن ثابت : لا يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا (٢) أو قال : يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (٣).

وسأل سائل :

مرّ في خبر «الاحتجاج» عن الباقر عليه‌السلام قال : وتداكّوا على رسول الله وعلى علي عليهما‌السلام وصافقوا بأيديهم ، وأوصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا (٤).

وجاء مثله عن الصادق عليه‌السلام في «جامع الأخبار» قال : فلما كان بعد ثلاثة ، وجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجلسه ، أتاه رجل من بني مخزوم يسمّى عمر بن عتيبة فقال : يا محمد (كذا) أسألك عن ثلاث مسائل. فقال : سلّ عمّا بدا لك. فقال : أخبرني عن شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، أمنك أم من ربّك؟

__________________

(١) سليم بن قيس ٢ : ٨٢٨ ، ٨٢٩ ، وزاد عليه الأميني في الغدير ٢ : ٣٤ ـ ٣٩ أكثر من عشرين مصدرا من الخاصة وأكثر من عشرة مصادر من غيرهم ، نعم لم يذكروها في ديوانه!

(٢) روضة الكافي : ٨٩ ح ٧٥. وعن الصادق عليه‌السلام في جامع الأخبار : ١١ ، كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٦.

(٣) الارشاد ١ : ١٧٧ وقال : انما اشترط في الدعاء له لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف ، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق. ونقله في الفصول المختارة : ٢٩١.

(٤) الاحتجاج ١ : ٨٤.

٦٣١

قال النبي : الوحي من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما آذنت إلّا من أمر ربّي.

قال الرجل : فأخبرني عن الصلاة والزكاة والحج والجهاد ، أمنك أم من ربّك؟ فقال النبي مثل ما قال.

فقال الرجل : فأخبرني عن هذا ـ وأشار الى علي عليه‌السلام ـ وقولك فيه : من كنت مولاه ... أمنك أم من ربّك؟ فقال النبي مثل ما قال.

فرفع المخزومي رأسه الى السماء وقال : اللهم إن كان محمد صادقا فيما يقول فأرسل عليّ شواظا من نار! وولّى ، فو الله ما سار بعيدا حتّى أظلّته سحابة سوداء ، فأرعدت وأبرقت وأصعقت فأصابته صاعقة فأحرقته النار. فهبط جبرئيل وهو يقول : اقرأ يا محمد : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(١).

وكفروا بعد إسلامهم :

روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خم ما قال وانصرفوا الى أخبيتهم ، مرّ المقداد (ابن الأسود الكندي) بجماعة منهم فسمعهم يقولون : والله إن كنّا أصحاب كسرى وقيصر لكنّا في الخزّ والوشي

__________________

(١) جامع الأخبار : ١١ كما عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٧ ، وروى نحوه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره : ٥٠٥ ح ٦٦٣ ، عن الصادق عليه‌السلام عن ابن عباس واسم الرجل الحارث بن النعمان الفهري ، ولكن فيه أن ذلك كان بمكة بعد الغدير! وروى قبله مثله عن ابن عباس بلا اشكال فيه واسم الرجل عمرو بن الحارث الفهري. وروى قبله مثله عن أبي هريرة! في أعرابي غير مسمّى. وفي ما قدّمناه يقول : اقرأ يا محمد ... وليس نزل : سأل سائل ... وقد مرّ أنّها مكّية. وانظر الغدير ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٧ ، عن ثلاثين مصدرا ، والمناقشة فيه وأجوبتها الى ٢٦٦ ، وانظر كتاب آيات الغدير : ٢٧٠ فما بعدها.

٦٣٢

والديباج والنساجات ، وإنّا معه (محمد) في الاخشنين : نأكل الخشن ونلبس الخشن ، حتى إذا دنا موته وفنيت أيامه وحضر أجله ولّاها عليّا من بعده ، أما والله ليعلمن!

فمضى المقداد حتى أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فجاؤوا حتى جثوا بين يديه وقالوا : يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق ، والذي أكرمك بالنبوّة ما قلنا ما بلغك ، لا والذي اصطفاك على البشر. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ، وهمّوا بك يا محمد ليلة العقبة (ما لم ينالوا) وما نقموا إلّا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.

وروى قبله عن جابر بن الأرقم عن أخيه زيد بن الأرقم قال : كان الى جانب خبائي خباء لثلاثة نفر من قريش ، وأنا معي حذيفة بن اليمان ، فسمعنا أحدهم يقول : والله إن محمدا لأحمق إن كان يرى أنّ الأمر يستقيم لعلي من بعده! وقال الآخر : ألم تعلم أنّه كاد أن يصرع عند امرأة ابن أبي كبشة؟! وقال الثالث : ادعوه مجنونا أو أحمق ، فو الله ما يكون ما يقول أبدا!

فرفع حذيفة جانب الخباء ومدّ رأسه إليهم وقال لهم : فعلتموها ورسول الله بين أظهركم ووحي الله ينزل عليكم! والله لاخبرنّه بمقالتكم! فقالوا له : يا أبا عبد الله وإنّك لهاهنا وقد سمعت ما قلنا؟ اكتم علينا فإنّ لكلّ جوار أمانة؟ فقال حذيفة : ما هذا من مجالس الأمانة ولا من جوارها ، وما نصحت لله ورسوله إن أنا طويت عنه هذا الحديث! فقالوا له : يا أبا عبد الله فاصنع ما شئت ، فو الله لنحلفنّ أنّا لم نقل ، وأنّك قد كذبت علينا ، أفتراه يصدّقك ويكذّبنا ونحن ثلاثة؟! فقال لهم : أما أنا فلا أبالي إذا أدّيت النصيحة لله ولرسوله ، وقولوا أنتم ما شئتم!

ثمّ مضى الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمقالة القوم ، فبعث رسول الله عليهم فأتوه فقال لهم : ما ذا قلتم؟ قالوا : والله ما قلنا شيئا ، فإن كنت قد بلّغت

٦٣٣

عنّا شيئا فمكذوب علينا! فهبط جبرئيل بقوله سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)(١).

وهمّوا بما لم ينالوا :

قال القمي في تفسيره : اجتمع أربعة عشر نفرا من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتآمروا على قتله ، وقعدوا له في عقبة هر شى بين الجحفة والأبواء (٢) سبعة عن يمينها وسبعة عن يسارها لينفّروا بناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما جنّ الليل تقدّم رسول الله العسكر في تلك الليلة ، فأقبل ينعس على ناقته فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل : إن فلانا وفلانا قد قعدوا لك! فلما دنا رسول الله منهم ناداهم بأسمائهم ، فلما سمعوا نداء رسول الله فرّوا ودخلوا في غمار الناس.

فلما نزل رسول الله من العقبة ، جاءوا الى رسول الله فحلفوا أنّهم لم يهمّوا بشيء من رسول الله. فأنزل الله (كذا) : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ...)(٣).

وروى السيّد ابن طاوس في «اليقين» بأسناده عن حذيفة بن اليمان : أن جمعا من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار أقبل بعضهم على بعض ... ودار

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٩٨ و ٩٩ ، ١٠٠ ، والآية من سورة التوبة : ٧٤ ، النازلة بعد حرب تبوك في أواخر السنة التاسعة وقبل حجة الوداع ، فهبوط جبرئيل بالآية إنما هو للتذكير بالآية لا إنزالها لأول مرة ، ولعلّ الصحيح أو الأصح ما مرّ في الخبر السابق.

(٢) انظر الخريطة (٤٠) في أطلس تاريخ الإسلام ، بالفارسية ، وفي القاموس : هر شى مثل سكرى.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٧٥ ومثله في الاقبال ٢ : ٢٤٩ عن كتاب النشر والطي ولعلّ الانزال بمعنى إنزال جبرئيل للتذكير بالآية السابقة نزولا قبل الحج ، ولعلّ الأصحّ بل الصحيح ما مرّ عن تفسير العياشي : فقال النبي ... أي تلا الآية في المناسبة.

٦٣٤

الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي فاتّفقوا على أن ينفروا بالنبي ناقته على عقبة هرشى ـ وقد صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك فصرف الله الشر عن نبيّه ـ وكانوا أربعة عشر رجلا.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الغدير باقي يومه وليلته حتى إذا دنوا من العقبة تقدّمه القوم فتواروا في ثنية العقبة ، وقد حملوا معهم دبابا وطرحوا فيها الحصى.

قال حذيفة : ودعاني رسول الله ودعا عمار بن ياسر وأمره أن يسوق ناقته وأنا أقودها ، حتى إذا صرنا في رأس العقبة وكانت ليلة مظلمة غار القوم من ورائنا ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة ، فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله ، فصاح بها النبي : أن اسكني وليس عليك بأس ... وتقدّم القوم الى الناقة ليدفعوها ، فأقبلت أنا وعمار نضرب وجوههم بأسيافنا ... فزالوا عنّا وأيسوا مما ظنّوا ودبّروا.

فقلت : يا رسول الله ، ألّا تبعث عليهم رهطا فيأتوا برءوسهم؟! فقال : إنّ الله أمرني أن أعرض عنهم ، وأكره أن يقول الناس إنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه الى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ، ثم أقبل عليهم فقتلهم! ولكن يا حذيفة دعهم فإن الله لهم بالمرصاد ، وسيمهلهم قليلا ثم يضطرّهم الى عذاب غليظ.

وكان عدد القوم أربعة عشر رجلا : تسعة من قريش منهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، وخمسة من سائر الناس : أبو موسى الأشعري وأبو هريرة الدوسي وأبو طلحة الأنصاري وأوس بن الحدثان البصري والمغيرة بن شعبة الثقفي ، ثم تعاقد معهم عليه سالم مولى أبي حذيفة عبد لامرأة من الأنصار شديد البغض والعداوة لعلي عليه‌السلام وقد عرف منه ذلك.

قال ابن اليماني : ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوضأ ثم انتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا ، فرأيتهم بين الناس ،

٦٣٥

صلوا خلف رسول الله. ثم ارتحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس من منزل العقبة ، فلما نزل المنزل الآخر ، وأراد المسير أتوه ، فقال لهم : فيم كنتم تتناجون في يومكم هذا؟ فقالوا : يا رسول الله ، ما التقينا غير وقتنا هذا! فنظر النبي إليهم مليا ثم قال لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١).

ساير آيات المائدة :

مرّ في الآية الثانية من المائدة أنّ الله حرّم الميتة ... فيبدو أن ممن حجّ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدي بن حاتم الطائي وزيد بن المهلهل الطائي ، وكان في قومها رجلان من آل درع وآل جويرية لهما ستة أكلب يصيدان بهما حمر الوحش وبقارها والظباء والضبّ ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت ، وقد حرّم الله الميتة! (وكان قد حرّمها قبل ذلك كما مرّ) فأتيا رسول الله وسألاه : ما ذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢).

وقد مرّ الخبر : أن عدي بن حاتم كان نصرانيّا فأسلم ، وطبيعي أن ذلك لم

__________________

(١) اليقين لابن طاوس مسندا ، والعلّامة الحلّي في كشف اليقين : ١٣٧ بطريق آخر ، والديلمي في ارشاد القلوب بلا إسناد ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٩٧ ـ ١٠٢ وليس فيه إلّا تلاوة هذه الآية من البقرة : ١٤٠ وليس آية التوبة فضلا عن القول بنزولها هنا ، وهذا هو الأولى.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٤٨ عن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة وأسباب النزول للواحدي : ١٥٦ ـ ١٥٧ عن سعيد بن جبير ، والدر المنثور عن الشعبي كما في الميزان ٥ : ٢١٠.

٦٣٦

يكن حصرا عليه دون قومه من طيء بل كان كثير منهم مثله نصارى ، وطبيعي أن لم يسلم كلهم معه بل بقي العديد منهم كذلك. فبعد ما شاهد عديّ بن حاتم وزيد بن المهلهل ذلك «التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم كان من الطبيعي أن لا تسكن نفوسهم من اضطراب لذلك» (١) وبالتأمّل في ذلك يظهر وجه متابعة الآية اللاحقة للسابقة : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

فبعد بيان حلّية مواكلتهم ومحصناتهم أي عفيفاتهم بقيودها ، حذّرهم أن لا يسترسلوا في ذلك بما يؤدي الى الكفر بالايمان فذلك يحبط العمل ويورث الخسران (٢).

وآية الوضوء :

كما أنّ المحرّمات من اللحوم في الآية الثالثة من السورة كانت تكريرا للمرة الثالثة تأكيدا ، كذلك حكم الطهارات الثلاث : الوضوء وغسل الجنابة والتيمّم وبدلهما في الآية السادسة هنا تأكيد للآية المشابهة السابقة في سورة النساء (: ٤٣) إلّا أنّها أجملت الاشارة الى الوضوء وهنا فصّلت أفعاله : (... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ...) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتخفّف أحيانا في مسح رجليه بمسح خفيّه ،

__________________

(١) الميزان ٥ : ٢٠٣.

(٢) وانظر الميزان ٥ : ٢٠٨.

٦٣٧

فحين نزلت هذه الآية في المائدة «ترك المسح على الخفّين» (١) ويكفي في مناسبة الآية كونهم على سفر وكثيرا ما لا يجدون ماء.

اثنا عشر نقيبا :

وفي الآية (١٢) يذكّر الله المسلمين بنقباء بني اسرائيل الاثني عشر إذ يقول : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ...) ونقل الطبرسي عن أبي مسلم المفسّر قال : بعثوا أنبياء ليعلّموا الأسباط الاثني عشر التوراة وليقيموا لهم الدين ويأمروهم بما فرض الله عليهم وأمرهم به. وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكونوا رسلا ويجوز أن يكونوا قادة. وقال قتادة البصري : شهداء على أقوامهم من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر (٢).

وكأن التذكير بهم تمهيد لاعلان ميثاق الولاية في يوم الغدير ، وهي مناسبة النزول. ثم تستمر الآيات خطابا وعتابا على أهل الكتابين اليهود والنصارى الى الآية العشرين.

يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا :

ومن (٢٠) الى (٢٥) في التذكير بأمر موسى لقومه أن يدخلوا الأرض المقدسة : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) ...* (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وكأن الآيات للتذكير بأن صحبة قوم موسى النبيّ اولي العزم له لم يورثهم عزما فقد بلاهم الله فلم يجد لهم عزما

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠٢ ح ٦٢ ، عن الصادق عن علي عليهما‌السلام.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٦٥ ، وانظر الميزان ٥ : ٢٤٠.

٦٣٨

حتى قال موسى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وقد سمع المسلمون من نبيّهم أنّ عليّا منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو اليوم يأمرهم أن يدخلوا في ولايته ، فمن الممكن للتاريخ أن يتكرّر ويقولوا كما قال قوم موسى له : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) وكأن هذا هو مناسبة التذكير بذلك هنا.

نبأ ابني آدم :

وفي الآية (٢٧) قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ...) الى آخر الآية (٣١) من دون إشارة الى باعث تقديمهما القربان المنتهي الى قتل قابيل لهابيل.

وهنا روى العياشي في تفسيره عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّ قابيل انما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على أختهما؟ فقال لي الصادق عليه‌السلام : يا سليمان ، تقول بهذا؟! أما تستحي أن تروي هذا على نبي الله آدم؟! فقلت : جعلت فداك ، ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال لي : يا سليمان ، إنّ الله تبارك وتعالى أوحى الى آدم أن يدفع الوصيّة واسم الله الأعظم الى هابيل. فبلغ ذلك قابيل وكان أكبر من هابيل فغضب وقال : أنا أكبر منه فأنا أولى بكرامة الوصية! فأمرهما بوحي الله إليه أن يقرّبا قربانا ، ففعلا ، فقبل الله قربان هابيل ، فحسده قابيل فقتله (١).

فكأنّ الآيات تريد التذكير بعاقبة الحسد على أمر الله بالوصية الإلهية من الأنبياء والمرسلين الى أوصيائهم من بعدهم ، وتلك هي مناسبة نزولها هنا في موقعة الغدير.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣١٢ ح ٨٣.

٦٣٩

حدّ المحارب والمفسد :

وفي الآيتين (٣٣ و ٣٤) جاء حدّ المحارب والمفسد وتوبتهما بلا ذكر خبر عن شأن نزولهما هنا في رجوعهم من حجة الوداع.

روى العياشي في تفسيره عن أبي صالح عن الصادق عليه‌السلام قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبّة ، فقال لهم رسول الله : أقيموا عندي فإذا قويتم بعثتكم في سريّة. فقالوا : أخرجنا من المدينة. فبعث بهم الى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها.

وكان في الإبل ثلاثة نفر يحرسونها ، فلما برئ بنو ضبّة واشتدّوا قتلوا الثلاثة وساقوا الإبل الى واد قريب من أرض اليمن. وبلغ ذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث عليهم عليّا عليه‌السلام فأخذهم فجاء بهم الى رسول الله ونزلت فيهم : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...) فاختار رسول الله أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (١).

وفي الخبر ذكر إبل الصدقة ، وقد مرّ أن أخذ الصدقات كان في التاسعة للهجرة ، والآيتان من المائدة النازلة بعد حجة الوداع ، فيقتضي أنّ ذلك كان بعد رجوعهم الى المدينة في أواخر العاشرة للهجرة ، وأنّ هذه الآيات نزلت بعد فترة فاصلة.

حدّ السارق والسارقة :

وفي الآية (٣٨) جاء حدّ السرقة ، وقد روى السيوطي في «الدر المنثور»

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣١٤ ح ٩٠ ، وقبله الكليني في فروع الكافي ٧ : ٢٤٥ ح ١ عن الأحمر البجلي ، والطوسي في التبيان ٣ : ٥٠٥ ، عن سعيد بن جبير والسدّي وقتادة عن أنس وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩١ ، وقد مرّ خبرهم في سرية بني ضبّة ٢ : ٥٩٦ ـ ٥٩٨.

٦٤٠