موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

عن عبد الله بن عمر : أنّ امرأة سرقت ، فأمر رسول الله بقطع يدها اليمنى فقطعت ، فقالت : يا رسول الله هل لي من توبة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! فنزلت : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

وعليه فحدّ السرقة لم يكن إلّا في آخر العاشرة للهجرة في المدينة بعد رجوعهم من حجة الوداع ، اللهم إلّا أن يكون من قبل ذلك بسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فالآية هنا ليست من آيات الاحكام التشريعية وإنّما نزلت تأكيدا لذلك ، وتأييدا لجواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن توبتها.

وفي الآية (٤١) : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) قال القمي في تفسيره في سبب نزولها إنّها نزلت في شكوى بني قريظة من بني النضير في ديات قتلاهم وفيه ذكر عبد الله بن أبي (٢) وأشار إليه الطوسي في «التبيان» ناسبا له الى الإمام الباقر عليه‌السلام (٣) ثم روى عنه عليه‌السلام أيضا : أنّها نزلت في زنا امرأة منهم من أهل خيبر وتبديلهم حد الرجم الى الجلد وفيه ذكر عبد الله بن صوريا (٤) وسبق منه ذكر

__________________

(١) انظر الميزان ٥ : ٣٣٦ ، عن الدر المنثور. والواحدي في أسباب النزول : ١٥٩ نقل عن الكلبي أنّها نزلت في طعمة بن ابيرق. وقد مرّ خبره في السنة الرابعة بآيات من سورة النساء.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٦٨.

(٣) التبيان ٣ : ٥٢٣.

(٤) التبيان ٣ : ٥٢٥ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩٩.

٦٤١

مختصر خبره في سورة البقرة (١) وذلك أولى ، فإن نزول المائدة كان بعد أخبار قريظة والنضير وخيبر جميعا.

أهل الكتاب والمنافقون والمرتدّون :

وتستمر الآيات من الأربعين الى الخمسين في سياق واحد يلوح منه أنّها تذكّر بجمع من أهل الكتاب اليهود حكّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أحكام التوراة ، وهم يرجون أن يحكم لهم بما يستريحون إليه تخفيفا مما حكمت به التوراة ، وقال بعضهم لبعض : إن أتيتم ما يوافقنا فخذوه وإن لم تؤتوه وأتيتم حكم توراتكم الشديد فاحذروه! وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّهم الى حكم توراتهم ، فتولوا عنه. وأنّه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون لمثله يريدون أن يفتنوه فيحكم بينهم بالهوى ورعاية الأقوياء ، وهو حكم الجاهلية (٢).

ثم الآيات الأربع بعدها الى (٥٤) تنهى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، وتذكّر بمسارعة مرضى القلوب منهم في اللجوء الى اليهود خوفا من الدوائر ، هذا وهم يقسمون بالله أنّهم مع المؤمنين. وهنا الآية (٥٤) تتنبّأ بارتداد بعض الذين آمنوا عن دينهم وتقول : (... فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

قال الطبرسي : واختلف في من وصف بهذه الأوصاف منهم ، وروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) التبيان ٣ : ٣٦٣ ، وعنه في مجمع البيان ١ : ٣٢٥.

(٢) انظر الميزان ٥ : ٣٣٨ و ٣٣٩.

٦٤٢

سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه ، ثم قال : لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس (١).

وفي تفسير العياشي عن بعض أصحاب الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن هذه الآية فقال عليه‌السلام : هم الموالي (٢).

وأفاد المفيد في «الجمل» عن عمار بن ياسر أنّه قال يوم الجمل : والله ما نزل تأويل هذه الآية ... إلّا اليوم (٣) هذا ، ورفعه الطوسي الى علي عليه‌السلام وعمار وابن عباس وحذيفة والباقر والصادق عليهما‌السلام (٤) بلا رواية ، خلافا لرواية العياشي. وتفيد الآية أوصاف من يجب عليهم أن يتولونه وتجعل ذلك علامة عليه ، فهي أيضا ترتبط بموضوع الولاية ، وهي مناسبة النزول.

آيتا الولاية والتبليغ وما بينهما :

وهنا في الآية (٥٥) كأنّه آن الأوان ليشير القرآن الى ذلك الوليّ بتلك الأوصاف مضيفا صفة خاصّة تخصّه وتعيّنه فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

وقد مرّ إيراد ما أفاد إعطاء علي عليه‌السلام خاتمه زكاة أي صدقة مطلقة للسائل وهو راكع في صلاته في المسجد الحرام بمكة ونزول الآية ضمن آي السورة هناك قبل الغدير تمهيدا له.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٣٢١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٢٧ ح ١٣٦.

(٣) الجمل : ٣٦٦.

(٤) التبيان ٣ : ٥٥٥.

٦٤٣

والآيات العشر التالية من (٥٧) الى (٦٦) ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في علاقاتهم مع غيرهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، فتنهاهم عن اتّخاذ المستهزئين بالله وآياته من أهل الكتاب والكفّار أولياء ، وتعد أمورا من مساوئ صفاتهم ونقضهم مواثيقهم مع ربّهم وعهودهم ، وما يلحق بذلك مما يناسب غرض سورة المائدة من الترغيب في حفظ العقود والعهود ، والترهيب عن نقضها. ومن الاحتمال الراجح أن يكون لبعض أجزائها أسباب مستقلّة نزولا ، وقد رووا بالفعل لها أسبابا ، إلّا أنّها لا تلائم الموقع المكاني والزماني لنزول المائدة بعد حجة الوداع.

أما الآية (٦٧) فهي المعروفة بآية التبليغ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فقد سبق القول المفصّل عنها وأخبارها في حديث الغدير ، وبناء على ذلك لا يبقى ريب في أنّ الآية لا تشارك الآيات السابقة واللاحقة لها في سياقها ، ولا تتصل بها في سردها ، وإنّما هي آية مفردة عنها (١).

والآيات بعدها الى (٨٦) تعود جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة الى هنا ، فإنّها يجمعها أنّها كلام في أهل الكتاب خطابا وعتابا (٢).

لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم :

والآيات الثلاث من (٨٧) الى (٨٩) من آيات أحكام الأيمان اللاغية

__________________

(١) وانظر الميزان ٦ : ٢٧ و ٤٢ ـ ٤٨.

(٢) انظر الميزان ٦ : ٦٤.

٦٤٤

والمعقودة وكفّارتها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان بن مظعون ، فأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأما بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة ... فقالت لها عائشة : مالي أراك معطّلة؟! فقالت : ولمن أتزيّن؟! فو الله ما قاربني زوجي منذ كذا ، فإنّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا.

فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى : الصلاة جامعة!

فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «وما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟! ألا إنّي أنام الليل ، وأنكح ، وأفطر بالنهار ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي». فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك؟

فأنزل الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧٩ ، ١٨٠ ، وروى صدره الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦٤ مرسلا ، والطوسي في التبيان ٤ : ٨ إنّما أجمل نقله عن إبراهيم وأبي مالك وأبي قلابة وعكرمة وقتادة والسدّي والضحاك عن ابن عباس وزاد فيهم ابن مسعود وابن عمر ، وان ابن مظعون استأذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله للاختصاء والسياحة والترهّب وجبّ ذكره! عن السدي.

٦٤٥

وروى صدره الطبرسي في «مجمع البيان» ونقلهما الطباطبائي في «الميزان» واكتفى في التعليق عليه بقوله : في انطباق الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) على أيمانهم خفاء (١).

هذا ، ولا يخفى أن عثمان بن مظعون أوّل مهاجر مات بعد الهجرة سنة اثنين ، وهو أوّل من دفن بالبقيع وثنّته رقية ابنة رسول الله فدفنها إليه وقال لها : الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون (٢) أي كان ذلك قبل المائدة بثمان سنين! فكيف التوفيق؟!

وروى السيوطي في «الدر المنثور» عن الطبري وغيره : أن عبد الله بن رواحة كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل ضيف له على أهله ، فلما رجع إليهم وجدهم انتظروه ليطعموهم فقال لأهله : حبست ضيفي من أجلي؟! هو حرام علي! فقالت امرأته : هو علي حرام! فقال الضيف : هو علي حرام! فلما رأى ذلك وضع الطعام وقال كلوا باسم الله. ثم أخبر النبي بذلك ، فقال له : لقد أصبت ، فأنزل الله الآية.

نقله عنه الطباطبائي واحتمله سببا آخر لنزول الآية (٣) لا يرى تنافيا بين نزول المائدة في العاشرة وشهادة ابن رواحة في التاسعة في غزوة مؤتة.

والآيات الثلاثة بناء على هذين السببين في النزول كالمتخلّلة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح والمسيحيين (٤) بينما في رواية أخرى للطوسي في «التبيان» عن إبراهيم وأبي مالك وقتادة ومجاهد عن ابن عباس : أن ما اقتضى هنا ذكر

__________________

(١) الميزان ٦ : ١١٢.

(٢) قاموس الرجال ٧ : ١٧١ و ١٧٠ عن فروع الكافي ٣ : ٢٤١ ، وراجع هذا الكتاب ٢ : ٣٢١.

(٣) الميزان ٦ : ١١٥ عن الدر المنثور ، وذكر مختصر الخبر الطوسي في التبيان ٤ : ٦ ، وعنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦٧.

(٤) الميزان ٦ : ١٠٦.

٦٤٦

النهي عن تحريم الطيّبات هو حال الرهبان الذين كانوا يحرّمون على أنفسهم المطاعم الطيّبة والمشارب اللذيذة ، والنساء ، ويسيحون في الأرض ويحبسون أنفسهم في الصوامع ، وقد همّ قوم من الصحابة أن يماثلوهم ، فنهاهم الله عن ذلك (١).

وروى الواحدي في «أسباب النزول» بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أيضا قال : إنّ رجلا أتى النبيّ وقال : إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت الى النساء فحرّمت عليّ اللحم! فنزلت (٢).

وهذان مما لا يتنافى مع موقع نزول المائدة بعد حجة الوداع ، وإنّما يلائمانه وينسجمان معه.

تأكيد تحريم الخمر :

تقدّم تحريم اثم الخمر بالآية (٢١٩) من سورة البقرة في الجزء الثاني في حوادث السنة الثانية : ١٨٥ ، ثم تشديد تحريمها بعد احد بل بعد غزوة بني النضير في شهر ربيع الأول للسنة الرابعة ٢ : ٤٢٧ ، ولعلّها كانت بمناسبة نزول سورة النساء وفيها الآية (٤٣) : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) وكان فيه خبر سكب قرب الفضيخ من البسر والتمر ، ولكن القمي نقله في تفسيره للآيات (٩٠ ـ ٩٣) من سورة المائدة.

وقال الزمخشري في «ربيع الأبرار» انزل في الخمر ثلاث آيات : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...)(٣) ، فكان المسلمون بين شارب وتارك ، الى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر ،

__________________

(١) انظر التبيان ٤ : ٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٦٦. ورواه في الميزان ٦ : ١١٤ ، ١١٥ عن الدر المنثور.

(٣) البقرة : ٢١٩.

٦٤٧

فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ بلحي بعير فشجّ رأس عبد الرحمن بن عوف ، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر :

وكاين بالقليب قليب بدر

من الفتيان والشرب الكرام

وكاين بالقليب قليب بدر

من الشيزى المكلّل بالسنام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصلاء وهام؟!

أيعجز أن يرد الموت عنّي

وينشرني إذا بليت عظامي؟!

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تارك شهر الصيام!

فقل لله : يمنعني شرابي

وقل لله : يمنعني طعامي!

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج مغضبا يجرّ رداءه وكان في يده شيء فرفعها ليضربه فقال عمر : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! فأنزل الله الآيات الى قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟! فقال عمر : انتهينا انتهينا!

ورواه السيوطي في «الدر المنثور» بسنده عن سعيد بن جبير وفيه : قال عمر : يا ضيعة لك اليوم! قرنت بالميسر! أو قال : اقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟! بعدا لك وسحقا! وتركها الناس (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣١٥ و ٣١٧ ، ٣١٨ وهي رواية سعيد بن جبير عن علي عليه‌السلام كما في المستدرك على الصحيحين للحاكم الحسكاني ٢ : ٣٠٧ و ٤ : ١٤٢ وروى معناه القرطبي في تفسيره جامع أحكام القرآن ٥ : ٢٠٠ ، والآلوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني ٧ : ١٧ ، عن عطاء بن رياح الخراساني عن ابن عباس ، والأبشيهي في المستطرف ٢ : ٤٩٩ ، والزمخشري في ربيع الأبرار كما عنه في الغدير ٦ : ٢٥١.

٦٤٨

وثنّاه بخبر آخر أسنده الى سعد بن أبي وقاص قال : إنّ رجلا من الأنصار صنع طعاما ودعانا ، فأتاه ناس ـ وكان ذلك قبل أن يحرّم الخمر ـ فأكلوا وشربوا من الخمر حتى انتشوا! فتفاخروا ، فقالت الأنصار : الأنصار خير ، وقالت قريش : قريش خير ، فأهوى رجل بلحي جزور على أنفي ففزره ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت ذلك له ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(١).

يظهر من الخبر أن سعدا كأنّه أحسّ بسعادة الحظّ لحظر الخمر على أثر فرز أنفه بلحي جزور بيد رجل من الأنصار انتصارا لهم على المهاجرين من قريش ومنهم سعد ويقول : ذلك قبل أن تحرّم الخمر ... فنزلت الآية من سورة المائدة ، النازلة بعد حجة الوداع في العاشرة من الهجرة ، فهل كان كذلك؟

وقد أخرج الخطيب عن عائشة قالت : لما نزلت سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر ، فنهى رسول الله عن ذلك (٢) وتعني الآية (٢١٩) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ...).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣١٥ و ٣١٧ ، ٣١٨ ، واختصر خبره الطوسي في التبيان ٤ : ١٨ ، ورواه الطبرسي في مجمع البيان عن ابن عباس مختصرا ، وفي أسباب النزول للواحدي : ١٦٨ ، عن صحيح مسلم ، وفيه : المهاجرون بدل الأنصار.

(٢) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ : ٣٥٨ ، وعنه السيوطي في الدر المنثور ١ : ٢٥٢ ، وبه قال الحسن البصري كما عنه في مجمع البيان ٢ : ٥٥٨ ، والجصاص في أحكام القرآن ١ : ٣٨٠.

٦٤٩

وبمعناه خبر الكليني في «الكافي» عن علي بن يقطين عن الكاظم عليه‌السلام (١).

وروى الشوكاني في تفسيره عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : حرّمت الخمر بعد احد (٢).

وأخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة المنوّرة» بسنده عنه أيضا أن ذلك كان بعد غزوة بني النضير في السنة الرابعة (٣) وقال ابن هشام في شهر ربيع الأول (٤).

وعليه فخبر سعد غير سعيد الحظ بالقبول ، وأولى منه الخبر السابق. وإنّ في الآيات إشعارا أو دلالة على أنّ رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت هذه الآيات من المائدة ... وإن ما ابتلى به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنّما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة (٥) ولم تنزل آية المائدة إلّا تشديدا عليهم ، لتساهلهم في الانتهاء بهذا النهي الإلهي (٦).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : ليس أحد أرفق من الله تعالى ، فمن رفقه تبارك وتعالى أنّه ينقلهم من خصلة الى خصلة ، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا.

وعنه عليه‌السلام قال : ما بعث الله نبيّا قط إلّا وفي علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم يزل الخمر حراما ، وإنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة ، ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين (٧).

__________________

(١) فروع الكافي ٢ : ٢١٣.

(٢) تفسير الشوكاني ٢ : ٧١.

(٣) تاريخ المدينة المنوّرة ١ : ٦٩.

(٤) ابن هشام في السيرة ٣ : ٢٠٠.

(٥) الميزان ٦ : ١٣٣.

(٦) الميزان ٦ : ١٣٥.

(٧) الكافي ٦ : ٣٩٥ ح ١ و ٢ و ٣ والتهذيب ٩ : ١٠٢ ح ١٧٩ و ١٨٠ ، والغريب أنّ

٦٥٠

وفي الآية الأخيرة : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣).

وقال القمي في تفسيره للآية : فلما نزل تحريم الخمر والميسر والتشديد في أمرهما قال المهاجرون والأنصار للنبيّ : يا رسول الله ، قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر ، وقد سمّاه الله رجسا وجعله من عمل الشيطان وقلت فيه ما قلت ، أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟ فأنزل الله الآية (١).

والآيات بعدها من (٩٤) الى (٩٩) عادت الى بيان أحكام صيد البرّ والبحر حال الاحرام ، مما يناسب نزول السورة في حجة الوداع.

اما الآية المائة : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّ الله حرّم شرب الخمرة وقال النبي فيها : إنّ الله لعن عاصرها وبائعها وآكل ثمنها ، فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله اني اقتنيت من بيع الخمر مالا ، فهل ينفعني إن عملت فيه بطاعة الله؟ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله لا يقبل إلّا الطيّب فإن أنفقته في صدقة أو حجّ أو جهاد لم يعدل عند الله جناح بعوضة! وأنزل الله تصديقا له الآية : (قُلْ لا يَسْتَوِي)(٢).

__________________

ـ الطباطبائي أورد هذين الخبرين وقال : إنّ الشارع تدرّج في تحريم الخمر ولكن لا ... لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية! الميزان ٦ : ١١٧.

(١) تفسير القمي ١ : ١٨١ ، ١٨٢ ورواه الطوسي عن ابن عباس ٤ : ٢٠ وعنه في مجمع البيان ونحوه في أسباب النزول للواحدي : ١٧٠ عن البخاري عن البراء بن عازب.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٧١.

٦٥١

لا تسألوا عمّا يسوؤكم :

وفي الآية التالية الواحدة بعد المائة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ...) روى القمي في تفسيره للآية بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أن ابنا لصفيّة بنت عبد المطّلب مات ، فأقبلت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (مذهولة وكان قد بدا قرط لها) فقال لها (عمر) : غطّي قرطك فإن قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئا! فقالت له : وهل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء (١)؟ ثم دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بذلك وبكت.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فقال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ، لو قد قمت المقام المحمود لشفّعت في أحوجهم ، لا يسألني اليوم أحد : من أبواه؟ الا أخبرته!

فقام إليه رجل فقال : من أبي؟ فقال : أبوك غير الذي تدعى له هو فلان.

فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال له : أبوك الذي تدعى له.

ثم قال رسول الله : ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟!

فقام إليه (عمر) فقال له : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، اعف عنّي عفا الله عنك ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ...)(٢).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري والسدّي وقتادة وطاوس عن أبي هريرة وابن عباس وأنس : أنّ رجلا كان يطعن في نسبه يدعى عبد الله سأل رسول الله : يا رسول الله من أبي؟ فقال له : حذافة ، ونزلت الآية (٣).

__________________

(١) اللخناء : المنتنة ، أو التي لم تختن. مجمع البحرين ٦ : ٣٨٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٨٨.

(٣) التبيان ٤ : ٣٦.

٦٥٢

ولكن الطبرسي في «مجمع البيان» نقله عن الزهري عن قتادة عن أنس قال : كان رجل من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة (١) ، ويطعن في نسبه ، فقام الى رسول الله وقال له : يا نبي الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس.

فقام إليه رجل آخر وقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : في النار!

فقام عمر بن الخطاب وقبّل رجل رسول الله (كذا) وقال : يا رسول الله ، إنّا حديثو عهد بجاهلية وشرك ، فاعف عنّا عفا الله عنك ، فسكن غضبه.

أما عن ابن عباس فقد نقل أنّه قال : كان بعضهم يسأله من أبي؟ ويقول الآخر : أين أبي؟ ويسأله من ضلت ناقته عنها ، امتحانا أو استهزاء ، فأنزلت الآية.

وعن أبي أمامة الباهلي عن علي عليه‌السلام : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبته : إن الله كتب عليكم الحج. فقام إليه عكّاشة بن محصن أو سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، فأعادها مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله : ويحك وما يؤمّنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم! فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (٢).

والطباطبائي في «الميزان» نقل خبر عبد الله بن حذافة السهمي عن «الدر المنثور» ثم علق عليه يقول : الرواية على اختلاف متونها مروية بعدة طرق ، ولكنّها غير قابلة الانطباق على الآية (٣) إذ الآية تدل على أنّ المسئول عنها أشياء من

__________________

(١) وكان من المهاجرين الى الحبشة ، وهو رسول رسول الله الى الملك خسرو پرويز الساساني ، ولكنّه هو الذي حثّ خالدا على قتال بني جذيمة بعد فتح مكة.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٨٦.

(٣) الميزان ٦ : ١٥٥.

٦٥٣

الأحكام الشرعية كخصوصيّات متعلّقات الأحكام ، مما ينتج الاصرار في المداقة فيها التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال ، كما في قصّة بقرة بني إسرائيل (١).

وعليه فأوفق أخبار أسباب النزول انطباقا على الآية خبر علي عليه‌السلام عن خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحج وسؤال سراقة أو عكّاشة ، والغريب أن الطباطبائي لم يذكره.

الجزية من أهل الكتاب دون الأعراب :

وفي الآية (١٠٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) روى الواحدي عن الكلبي عن ابن عباس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد كتب الى المنذر بن ساوى على أهل هجر يدعوهم الى الاسلام ، وكان قد كتب إليه : أما العرب فلا تقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية.

فلما قرأ المنذر عليهم إنذار رسول الله أسلم العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية. فقال منافقو العرب : عجبا من محمد يزعم أنّ الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلّا من أهل الكتاب ، ونراه يقبل من مشركي أهل هجر ما لم يقبله من مشركي العرب! فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ ...) من أهل الكتاب (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أنتم (٢).

__________________

(١) الميزان ٦ : ١٥٣ ، إذ يرجع مفاد الآية الى قولنا : لا تسألوا عن أشياء عفا الله وسكت عنها ، وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم ، وإن تبد لكم تسؤكم. وانظر الميزان ٦ : ١٥٤.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٧٢.

٦٥٤

وشهادة أهل الكتاب في السفر :

وفي الآيتين التاليتين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ* فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) روى الواحدي في «أسباب النزول» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن زيد (التاجران النصرانيان) يختلفان الى مكة ، فصحبهما رجل (مسلم) من بني سهم (للتجارة الى الشام) فمرض بأرض ليس بها أحد من المسلمين فأوصى إليهما بتركته ، وكان فيها جام من فضة مخوص بالذهب ، فلما رجعا الى أهله في مكة ودفعا تركته إليهم كتما الجام ، ولما سألهما أولياء السهمي قالا : لم نره. فاتي بهما الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستحلفهما بالله ما كتما ولا اطّلعا ، وخلّى سبيلهما.

ثم وجد الجام عند قوم من أهل مكة ، فسألوهم عنه فقالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن زيد. فقام أولياء السهميّ وحلف رجلان منهم بالله أن هذا الجام جام صاحبنا وشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، وأخذوا الجام ، ونزلت الآيات (١)

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ١٧٢ ، ١٧٣ ، هذا وقد قال القمي في تفسيره للآيات : إنّها نزلت في ابن بندي (عدي ظ) وابن أبي مارية النصرانيّين وخرج معهما تميم الداري المسلم ... فلما مرّوا بالمدينة حضره الموت ... فقدم النصرانيّان المدينة على ورثة الميت ... تفسير القمي ١ : ١٨٩ ، وهو كما ترى مضطرب المتن جدا. ورواه الكليني في الكافي عنه قال : عن رجاله رفعه ... وحذف : فلما مرّوا بالمدينة. ولكنّه نقل : خرج ... وقدما ـ المدينة كما عنه في الميزان ٦ : ٢١٣ وهو مع ذلك لم يسلم من اضطراب المتن أيضا.

٦٥٥

تنفيذا وتصويبا لحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وظاهر الخبر أن كل ذلك كان بمكة في حجة الوداع.

والآيات التاليات بما فيها من قصة مائدة المسيح كلها مرتبطة بغرض السورة الذي افتتحت به وهو الدعوة الى الوفاء بالعهد ، والشكر للنعمة ، والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الإلهية (١).

والآيات بعدها أيضا تنطبق على الغرض النازل لأجله السورة وهو بيان الحق لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه ، وأن لا ينقضوا الميثاق ، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا فليس لهم هذا الحق من ربّهم أن يرتعوا حيث شاءوا (٢).

وحسن ختام كلامه سبحانه الآية (١٢٠) من السورة : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهذا آخر عهدنا بنزول وحي القرآن الكريم.

__________________

وقال الطوسي في التبيان ٤ : ٤٢ ذكر أبو جعفر عليه‌السلام : أنّ سبب نزول هذه الآية (كذا) ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال : كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين وكان متجرهما الى مكة ، فلما هاجر رسول الله الى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام فخرج معهما ... فهل كان ذلك بعيد الهجرة؟! بمال مولاه عمرو بن العاص العاصي يومئذ على الإسلام؟! بل في الخبر : رجعا بالمال الى الورثة. فمن هم ورثة المولى؟! ثم يقول ٤ : ٤٧ : فحلف عبد الله بن عمرو (بن العاص) والمطّلب بن أبي وداعة السهمي ... فكيف هذا؟! ومتى كان؟ ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٩٥ ، بتحرير وتحوير ومنه : أن ثلاثتهم خرجوا من المدينة ... بلا ذكر مكة. ولكنّه لم يتخلّص من ذكر ورثة المولى لعمرو بن العاص. ثم ذكره أحد الشاهدين ٣ : ٤٠٠ ، ولهذا الأمر العجاب من الاضطراب رجّحنا ما ذكرته عن الواحدي.

(١) الميزان ٦ : ٢١٩.

(٢) الميزان ٦ : ٢٤١.

٦٥٦

رجوع الرسول الى المدينة :

قال الواقدي : كان رسول الله إذا خرج الى الحج (كذا) سلك على (مسجد) الشجرة ، وإذا رجع من مكة دخل المدينة من المعرّس (١) ولما نزل المعرّس وأناخ بالأبطح ليلا نهى أصحابه أن يطرقوا نساءهم ليلا ، فطرق منهم رجلان فوجدا ما كرهاه ، وأما هو فكان فيه عامّة الليل. وقال لنسائه : هذه الحجة ، ثم ظهور الحصر (٢).

ولم يؤرّخ ليوم عودته الى مدينته ، إلّا أنّ ابن اسحاق قال : فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة (٣) وقد مرّ أن خروجه من المدينة للحج كان لأربع بقين من ذي القعدة ، ودخوله الى مكة كان لأربع من ذي الحجّة ، فتكون مدة سفرته للحج ثمانية أيام ، فكذلك العودة ، ويظهر مما مرّ أن خروجه من مكة كان في الرابع عشر من ذي الحجة ، ولأربعة أيام أي في الثامن عشر من ذي الحجة كان في موضع غدير خم قرب الجحفة على بعد (١٨٥ كم) من مكة ، ويكون قد قطع سائر المسافة في أربعة أو خمسة أيام ، فيكون وصوله المدينة للاسبوع الأخير من ذي الحجة ، وإن أقام بخم ـ كما مرّ في خبر ـ ثلاثة أيام ، فيكون وصوله للخامس والعشرين من ذي الحجة.

الإسلام وبنو حنيفة :

مرّ في أخبار كتب النبيّ الاولى كتابه الى أميري بني حنيفة في اليمامة :

__________________

(١) وعرّف الحموي المعرّس بذي الحليفة وهو موضع مسجد الشجرة ، فيكون الموضعان واحدا ، فالخبر فيه إبهام.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٥ وتمام الخبر : فاطاعته ابنة عمته زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة ، وأما سائر نسائه فكنّ يحججن (خلافا لنهيه).

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٣.

٦٥٧

هوذة بن علي وثمامة بن أثال الحنفيين ، وأنّهما لم يستجيبا له ، واشترط هوذة أن يجعل له بعض الأمر ليتّبعه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولا كرامة له ، باد وباد ملكه ، فلما رجع من فتح مكّة أخبره جبرئيل باستجابة دعائه بهلاكه. وقال في ثمامة : اللهم أمكني من ثمامة. فأمكنه الله منه بالأسر حتى أسلم ودعا من تبعه لذلك ، قبل فتح مكة في منتصف الثامنة للهجرة.

وكان من تأليفه صلى‌الله‌عليه‌وآله الامراء الى الإسلام أنّهم إن أسلموا سلموا وسلم لهم ما هم عليه من الإمرة ، وإذ لم يكن إسلام ثمامة كذلك لم يذكر في المصادر الاولى عاملا له على اليمامة (١).

ولعلّه لذلك لم يسلم بنو حنيفة على يديه بل وفدوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المدينة ، ومعهم مسيلمة بن جيب. وتخلّف الرجل في رحالهم ، فلما وفدوا عليه وأسلموا وأمر لهم بما كان يأمر به للوفود من العطاء ، قالوا له : وقد خلّفنا في رحالنا وركابنا صاحبا لنا يحفظها علينا. فقال لهم : أما إنّه ليس بشرّكم مكانا ، وأمر له بمثل ما أمر لهم من العطاء.

فلما رجعوا وأخبروه بذلك وجاءوه بما أعطاه ، كأنّه طمع فيما طمع من قبل هوذة بن علي أن يجعل له بعض الأمر أو نصفه ليتّبعه! فأتى رسول الله في جمع منهم يسترونه بالثياب ، ورسول الله جالس في أصحابه معه جريدة من سعف النخل في رأسه بعض الخوص ، فلما سأله ذلك قال له رسول الله : لو سألتني هذا القسيب (ـ الجريد) ما أعطيتكه!

ولكنّه مع ذلك لما رجع مع الوفد الى اليمامة قال لهم : ألم يقل لكم حين ذكرتموني له : أما إنّه ليس بشرّكم مكانا؟! ما ذاك إلّا لما كان يعلم أنّي قد أشركت معه في الأمر! ثم وضع عنهم الصلاة وأحلّ لهم الخمر والزنا ، وقال في

__________________

(١) اللهم إلّا ما في المنتقى للكازروني ، وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٤١٣.

٦٥٨

مضاهاة القرآن : «لقد أنعم الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، ما بين صفاق وحشى» فتابعوه (١).

فكتب الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد اشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون» وبعث بالكتاب مع رسولين. فحين قرئ كتابه على رسول الله قال لهما : فما تقولان أنتما؟ قالا : نقول كما قال! فقال لهما : أما والله لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما!

ثم كتب الى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى ، أما بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتّقين» وذلك في آخر سنة عشر (٢).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري : أنّ مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أنّي رسول الله؟ فقال : نعم. ثم دعا بالآخر فقال : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له : أتشهد أنّي رسول الله؟ فسكت ، فأعادها عليه مرّتين فقال الرجل : إنّي أصمّ ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له! وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه (٣).

أو قال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٧.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٢٣١ والكشاف ٢ : ٤٣٠ والقرطبي ١٠ : ١٨٠ والجلالين : ٣٧٦.

(٤) الطبري ٣ : ١٨٧.

٦٥٩

وعليه فهو آخر شهيد من الصحابة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل بيقينه وصدقه مؤثرا فضيلة الشهادة في سبيل الحق على الأخذ برخصة التقيّة ، كما كان ياسر وسميّة أبوا عمّار أول شهيدين على الصدق واليقين ، مؤثرين فضيلة الشهادة في سبيل الحق على الأخذ برخصة التقيّة.

ولم يبق مسيلمة للمسالمة مجالا ؛ لأنّه بهذا يكون قد بدأ بالقتال مع المسلمين. فبعث رسول الله فرات بن حيّان العجلي الى ثمامة بن أثال (١) في قتل مسيلمة (٢).

فأتته أمداد من بني تميم (٣) حتى خاف أن يغلبه ثمامة على الحجر (٤).

ثم عظمت الفتنة :

وكان قد رحل من بني حنيفة الرحّال بن عنفوة الحنفي الى المدينة مسلما مهاجرا متعلّما للقرآن متفقّها في الدين ، وقرّئ القرآن وفقّه في الدين ، فبعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم معلّما لأهل اليمامة وليشد من أمر المسلمين وليتغلّب على مسيلمة. ولكنّه سالم مسيلمة حتى شهد له أنّه سمع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّه قد أشرك معه. فصدّقوه واستجابوا له.

فكان الرحّال بن عنفوة لا يقول شيئا إلّا ويتابعه مسيلمة وينتهي الى أمره! (٥) وأصبح ثمامة متلددا مع المسلمين من بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة حتى لحق بالعلاء بن الحضرمي بالبحرين (٦).

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٧.

(٢) الاستيعاب ٣ : ٢٠٥ ، واسد الغابة ٤ : ١٧٩ ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٩.

(٣) الطبري ٣ : ٢٦٩ عن سيف.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧٢ عن سيف.

(٥) الطبري ٣ : ٢٨٢ ، ٢٨٣.

(٦) الطبري ٣ : ٣٠٤ و ٣٠٥.

٦٦٠