موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

أيها الناس! إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١) وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! إنّ الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا يجوز لوارث (كذا) وصية في أكثر من الثلث.

والولد للفراش وللعاهر الحجر ، ومن ادّعى الى غير أبيه وتولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله» (٢).

فلما كان آخر الخطبة وسكت رسول الله من كلامه وفرغ من ذلك أذّن بلال ، فلما فرغ بلال من أذانه أناخ راحلته ، وأقام بلال (٣) فصلّى الظهر ، ثم أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئا.

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخرات ، وجعل جبل المشاة (كذا) بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل

__________________

عن عبد الله بن عمر : ٣٨٠ ، والثاني عن المنتقى : ٤٠٢ ، وهو خبر صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر الأنصاري ، وليس فيها سوى كتاب الله فحسب وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٣. ورواها ابن اسحاق مرسلا في السيرة ٤ : ٢٥٠ وفيها : كتاب الله وسنّة نبيّه! وانظر رسالة حديث الثقلين للشيخ قوام الدين الوشنوي القمي المنشور من قبل دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة. ط. ١٣٧٤ ه‍ ، وط. ١٤١٦ ه‍ ، نشر مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران.

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) تحف العقول : ٢٩ ، ٣٠ ، ونحوه في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١١ ، بما فيه من حديث الثقلين.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٠٢.

٦٠١

واقفا (١) جعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون الى جانبها ، فنحاها ، ففعلوا مثل ذلك فقال : ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ولكن هذا كله ، وأومأ بيده الى الموقف فتفرّق الناس (٢).

وقال : إنّ أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير» ووقف رسول الله على راحلته وهو مادّ يديه يدعو ويمسح براحتيه على وجهه ، حتى غربت الشمس.

وكان أهل الجاهلية يفيضون من عرفة وقد بقي من الشمس على رءوس الجبال كهيئة العمائم على رءوس الرجال ، فظن قريش أن رسول الله يفعل كذلك ، ولكنّه أخّر ذلك حتى غربت الشمس (٣).

ثم لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا ، فأردف اسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق زمام القصواء حتى أنّ رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول للناس وهو يشير بيده : أيها الناس! السكينة السكينة (٤) أو : أيها الناس ، على رسلكم وعليكم بالسكينة وليكف قويّكم عن ضعيفكم. وكانت قريش توقد نارا على جبل قزح ، فكانوا قد أوقدوها ، فسار النبي من يسار الطريق بين المأزمين وهو شعب الإذخر يؤم تلك النار حتى نزل قريبا منها (٥) وفي المأزمين

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٥ عن المنتقى ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عن جابر.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٤.

(٤) المصدر الأسبق.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٥.

٦٠٢

نزل فبال هناك ، لأنّه أول موضع عبد فيه الصنم في العرب بالحجاز ، ومنه اخذ الحجر الذي نحت منه هبل (١).

وفي المشعر الحرام :

فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أفاض وأمر الناس بالدعة ، حتى انتهى الى المزدلفة وهو المشعر الحرام ، فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ... وعجّل ضعفاء بني هاشم بليل وأمرهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس (٢).

وعجل النساء من المزدلفة الى منى ليلا ، وأمر من كان منهنّ عليها هدي أن ترمي ولا تبرح حتى تذبح ، ومن لم يكن منهن عليها هدي أن ترمي فتمضي الى مكة. وأرسل معهنّ اسامة بن زيد (٣).

وروى الواقدي : لما كان السحر أذن من استأذنه من أهل الضعف من النساء والذرية ، وروى عن عائشة : أنّ سودة بنت زمعة زوج النبي كانت امرأة ثقيلة بطيئة ، فاستأذنته في التقدّم من المزدلفة قبل زحمة الناس ، فأذن لها. وتقدّمت معها أم عمران ، وبعث معهنّ رسول الله ابن عباس فرموا مع الفجر أو قبله ، وجعل النبي يحمل حصى العقبة من المزدلفة (٤).

ثم اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى طلع الفجر ، فحين تبيّن له الصبح صلّاها

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٨ ، عن علل الشرائع : ١٥٤.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٤ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٩٥ و ٢٩٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٦ ، ١١٠٧.

٦٠٣

بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (أي جبل قزح (١)) فاستقبل القبلة فكبّر وهلل ووحّد ودعا ، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا فأفاض والشمس لم تطلع (٢).

وأردف خلفه الفضل بن العباس ، وكان أبيض وسيما حسن الشعر فاستقبل رسول الله أعرابي معه اخته من أجمل النساء ، وواقف الأعرابيّ النبيّ يسأله ، وجعل الفضل ينظر إلى أخت الأعرابي ، فمدّ رسول الله يده على وجه الفضل يستره من النظر ، فنظر الفضل من الجانب الآخر حتى فرغ الأعرابي من حاجته. فالتفت رسول الله إلى الفضل وأخذ بمنكبه ثم قال له : أما علمت أنها الأيام المعدودات والمعلومات ، لا يكفّ رجل فيهنّ بصره ولا يكفّ لسانه ويده إلّا كتب الله مثل حج قابل (٣).

وانتهى الى منى :

وانتهى النبي الى بطن وادي محسّر فحرّك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات ، يكبّر مع كلّ حصاة منها (٤) على ناقة صهباء ، من دون أن يفعل بين يديه ما يفعل

__________________

(١) المصدر السابق ، عن أبي جعفر.

(٢) كما في بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الباقر عن جابر ، ولعل المقصود بداية الافاضة وليس تجاوزه حدود المشعر إلى منى.

(٣) بحار الأنوار ٩٩ : ٣٥١ عن فقه الرضا ونحوه في ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم عن الباقر عن جابر.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ ، عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر.

٦٠٤

بين يدي الامراء من ضرب الناس وطردهم ولا تنح وأبعد ولا إليك إليك ، وكان يلبّي حتى رمى الجمرة (١).

ثم انصرف الى المنحر ، فكان ناجية بن جندب يقدم إليه بدنه واحدة واحدة قد شدّ ذراعها وتمشي على ثلاث قوائم ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليّا عليه‌السلام فنحر ما بقي (أربعة وثلاثين بدنة) ثم أمر أن يؤخذ من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها (٢) ولم يعطيا الجزّارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وإنّما تصدّقا بها (٣).

والذي حلق رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجته معمّر بن عبد الله العدوي ، ولما كان يحلقه قالت له قريش : أي معمّر! اذن رسول الله في يدك وفي يدك الموسى! فقال معمّر : والله إني لأعدّه من الله فضلا عليّ عظيما (٤).

فلما حلق رسول الله رأسه أخذ من شاربه وعارضيه ، وقلّم أظفاره ، ثم أمر بها وبشعره أن يدفنا. وقيل : إنّه فرّق شعره في الناس. وقيل : إنّ خالد بن الوليد حين حلق النبي رأسه قال له : يا رسول الله ناصيتك لا تؤثر بها عليّ أحدا فداك أبي وأمي! فدفعها إليه فأخذ ناصيته ووضعها على عينه! فكان يجعلها في مقدم قلنسوته.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٧ ، ١١٠٨.

(٢) المصدر الأسبق الأول في العنوان ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ عن ابن عباس.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤. ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ ، عن علي عليه‌السلام.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٥. أو كان عبد الله بن زيد كما في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة : أنّه حلق رأسه في ثوبه (إحرامه) فأعطاه إياه ، فقال ابنه محمد : وإن شعره عندنا مخضوب بالحنّاء والكتم. تاريخ المدينة المنوّرة ٢ : ٦١٧.

٦٠٥

وحلق قوم مع رسول الله وأبى آخرون فقصّروا ، فقال رسول الله : اللهم ارحم المحلقين فقيل : والمقصّرين ، تكرّر ذلك ثلاث مرات حتى قال في الرابعة : والمقصرين.

ثم لبس رسول الله قميصه وتطيّب ، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي ينادي في الناس : أيها الناس ، إنّ رسول الله قال : إنّها أيام أكل وشرب وذكر الله. فانتهى المسلمون عن صيامهم (١).

وأتاه طوائف من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ذبحنا قبل أن نرمي ، وحلقنا قبل أن نذبح ، ولم يبق شيء مما ينبغي أن يقدّموه إلّا أخّروه ولا شيء مما ينبغي أن يؤخّروه إلّا قدّموه ، فكان رسول الله يقول لهم : لا حرج ، لا حرج! (٢).

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأفاض الى البيت فصلّى الظهر بمكة ، ثم أتى على زمزم فرأى بني عبد المطلب يسقون الناس فقال لهم : انزعوا لي يا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت ، فناولوه دلوا فشرب منه (٣) ورجع الى منى وأقام بها حتى كان اليوم الثالث آخر أيام التشريق فأخذ يرمي الجمار (٤) حين الزوال قبل صلاتها ، يقف عند الأول أكثر من الثانية ولا يقف عند الثالثة ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ ، ١١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٨٠ عن فروع الكافي ١ : ٣٠٣ عن الجواد عليه‌السلام. ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١١٠٩ عن جابر الأنصاري قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر؟ فقال : انحر ولا حرج! قال : يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي؟ فقال : ارم ولا حرج. قالوا : فما سئل يومئذ عن شيء قدّم أو أخّر إلّا قال : افعلوه ولا حرج.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ وفي مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

٦٠٦

ويرميهما من أعلاهما. وأمر أصحابه يوم العيد أن يفيضوا بالنهار معه ، وأفاض نساءه مساء يوم النحر ليلا ، وكن يرمين بالليل أيضا وكذلك رخّص للرعاة أن يرموا بالليل ويخرجوا فيبيتوا بغير منى (١).

خطبته بمنى :

روى الواقدي بطريقين عن عمرو بن اليثربي وعن عبد الله بن العباس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب بمنى بعد الزوال من اليوم الحادي عشر ، بعد العيد ، على ناقته القصواء (٢).

وقال القمي في تفسيره : كان من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى : أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال :

«أيها الناس : اسمعوا قولي واعقلوه عنّي ، فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا ـ ثم قال ـ : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟! فقال الناس : هذا اليوم. قال : فأي شهر؟! قال الناس : هذا. قال : وأي بلد أعظم حرمة؟! قالوا : بلدنا هذا. فقال : فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا الى يوم تلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلّغت أيها الناس؟! قالوا : نعم. قال اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلّا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠ ، ١١١١.

٦٠٧

ثم قال : ألا وكلّ ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأوّل ربا موضوع هو ربا العباس بن عبد المطّلب. ألا وإنّ كل دم في الجاهلية فهو موضوع ، وأوّل دم موضوع هو دم ربيعة. ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وإنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنّه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطمع فقد عبد.

ألا أيها الناس ، إنّ المسلم أخو المسلم حقا ، لا يحلّ لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلّا ما أعطاه بطيبة نفس منه.

وانّي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله ، ألا هل بلّغت أيها الناس؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد.

ثم قال : أيها الناس ، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي ، وافهموه تنعشوا : ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا.

ثم قال : ألا وإنّي قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير : أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك! ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد.

ثم قال : الا وإنّه سيرد عليّ الحوض منكم رجال فيدفعون عنّي فأقول : ربّ أصحابي فيقال : يا محمد ، إنّهم أحدثوا بعدك وغيّروا سنّتك! فأقول : سحقا سحقا!» (١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧١ ، ١٧٢ ، وبهامشه عن صحيح البخاري ٢ : ١٤٥ ـ ١٤٩ و ٣ : ٧٩ و ٤ : ٨٧ باب الحوض : إنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي أصحابي! فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم.

٦٠٨

ورواها الصدوق في «الخصال» بسنده عن عبد الله بن عمر : أنّه ركب راحلته العضباء (كذا) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، كل دم في الجاهلية فهو هدر ، وأول دم هدر هو دم الحارث بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث (من بني سعد) فقتلته هذيل. وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا ربا العباس بن عبد المطّلب.

أيها الناس ، إنّ الزمان استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض و (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...)(١) : رجب مضر (٢) ـ الذي بين جمادى وشعبان ـ وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، (... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ...)(٣) و (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ...)(٤) كانوا يحرّمون المحرّم عاما ويستحلون صفرا ، ويحرّمون صفرا ويستحلون المحرّم عاما آخر.

أيها الناس ، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم آخر الأبد ، ورضي منكم بمحقّرات الأعمال.

أيها الناس ، من كانت عنده وديعة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

__________________

وفي لفظ صحيح مسلم ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٢ أقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي. وقال النووي في ذيل هذه الأحاديث : قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة والايمان بها فرض والتصديق بها من الايمان ، فهي متواترة النقل رواه خلائق من الصحابة.

(١) التوبة : ٣٦.

(٢) وإنّما أضافه إلى مضر لأنّ ربيعة كانت تحرم رمضان وتسمّيه رجبا!

(٣) التوبة : ٣٦.

(٤) التوبة : ٣٧.

٦٠٩

أيها الناس ، إنّ النساء عندكم عوان (١) لا يملكن لأنفسهنّ نفعا ولا ضرّا ، أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فلكم عليهنّ حقّ ولهن عليكم حق ، ومن حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم ولا يعصينكم في معروف ، فإذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، ولا تضربوهن.

أيها الناس ، إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله عزوجل ، فاعتصموا به (٢).

ورواها الواقدي بسنده عن ابن عباس وعمرو بن اليثربي وقال : فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت غنم ابن عمّي أجزر منها شاة؟! فعرفني وقال : إن لقيتها وأنت تحمل شفرة وزنادا في خبت الجميش (واد لبني ضمرة منزل الراوي عمرو بن يثربي) فلا تهجها ، ثم انصرف الى منزله.

وعن ابن عباس قال : ونهى رسول الله أن يبيت أحد بسوى منى في ليالي منى (٣).

خطبته في مسجد الخيف :

قال القمي في تفسيره : فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله :

__________________

(١) عوان هنا : جمع عانية من العناء بمعنى التعب والمشقة.

(٢) الخصال ٢ : ٤٨٦. ورواها ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ، ولكنّه قال : إنها كانت في عرفات ، والذي كان يصرخ بها للناس ربيعة بن أمية بن خلف. ويلاحظ عليهما (السيرة والخصال) أنّهما إنمّا ذكرا أحد الثقلين وأهملا الثاني ، وراجع التعليقة السابقة على مثلها في خطبة عرفات.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٢ ـ ١١١٣.

٦١٠

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعيت إليّ نفسي. ثم نادى : الصلاة جامعة في مسجد الخيف.

فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم : اخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، والمؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم.

أيها الناس ، إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ولن تزلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كاصبعتي هاتين» وجمع بين سبابتيه «ولا أقول كهاتين» وجمع بين سبابته والوسطى «فتفضل هذه على هذه» (٢).

ثم أقام هو صلى‌الله‌عليه‌وآله في منى حتى رمى الجمار ، ونفر الى الأبطح فأقام بها (٣). ولما نسكوا مناسكهم ، لم يكن ينقطع الدم عن أسماء بنت عميس من نفاسها بمحمد بن أبي بكر ، وقد أتى لها ثمانية عشر يوما ، فأمرها رسول الله أن تطوف بالبيت وتصلّي ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧٣ و ٢ : ٤٤٦ ، ٤٤٧ بلا إسناد ، وجاء في صدر خبر الخصال باسناده عن ابن عمر. بينما هي السورة الثانية بعد المائة نزولا قبل النور والحج وعشرة أخرى ، وليست بعد البراءة ، وقد مرّ المختار عن مجمع البيان وغيره أنها نزلت بالمدينة ، وفيها بشارة من الله لنبيّه بالنصر والفتح قبل وقوعه.

(٢) المصدر السابق بلا إسناد ، وأسندها النعماني في الغيبة : ٢٧ ، ٢٨ بأربعة طرق عن الأئمة الثلاثة : السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، والكليني في الكافي ١ : ٤٠٣ عن الصادق عليه‌السلام ، وكذلك الصدوق في الخصال ١ : ١٤٩ والمفيد في أماليه ٢ : ١٨٦ ، ١٨٧ بطريق آخر.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

٦١١

ففعلت ذلك (١) ، وكذلك حجت عائشة بعد حيضها من دون أن تعتمر ، ولكنّها لم تكتف بذلك بل قالت له : يا رسول الله ، أترجع نساؤك بحجة وعمرة معا ، وأرجع بحجة؟!

فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر الى التنعيم ، فأهلّت بعمرة ، فطافت بالبيت وصلّت ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثم سعت بين الصفا والمروة (وقصّرت) وأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فارتحل من يومه ، وخرج من ذي طوى من أسفل مكة (٢).

فكان إذا علا مرتفعا من الأرض رفع صوته بالتكبير ثلاثا ثم قال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، آئبون تائبون ، ساجدون عابدون ، لربّنا حامدون ، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، اللهم إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال ، اللهمّ بلّغنا بلاغا صالحا ، نبلغ (به) الى خير مغفرة ورضوان» (٣).

متى وكيف نزلت سورة المائدة؟

«لم يختلف أهل النقل أنّها آخر سورة مفصّلة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أواخر حياته» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٨٩.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤. وفي البداية والنهاية ٥ : ٢٠٧ : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بات في المحصّب ، وعند السحر أمرهم بالرحيل فدخل مكة وطاف طواف الوداع ، ثم اتّجه الى المدينة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٤. ثم لم يذكر أي خبر عن رجوعه الى المدينة ، فلا الغدير ، ولا حتى الخطبة في منزل جحفة قرب الغدير في الثقلين ، والذي ذكره خطأ في عمرة الحديبية ٢ : ٥٧٩.

(٤) الميزان ٥ : ١٥٧.

٦١٢

وروى العياشي في تفسيره عن علي عليه‌السلام قال : كان من آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة المائدة ، لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي حتى وقفت وتدلّى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول الله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي (١) ، ثم رفع ذلك عن رسول الله فقرأ علينا سورة المائدة (٢).

وروى فيه عن الباقر عن علي عليهما‌السلام قال : نزلت المائدة قبل أن يقبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أشهر (٣).

وهذا الخبر من جانب يقتضي أن يكون وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، ومن جانب آخر يقتضي نزول سورة المائدة أو أوائلها في الثاني عشر من شهر ذي الحجّة الحرام بمنى ، فهل كان كذلك؟

وإذا كان كذلك فمن الطبيعي المتوقّع أن تكون السورة أو أكثرها أو كثير من آياتها حول الحج والعمرة ، وآياتها مائة وعشرون ، لا يناسب مناسك الحج والعمرة منها سوى ثماني آيات : آيتان في أوّلها ثم من الرابعة والتسعين الى المائة فقط!

__________________

(١) لم نجده في أعلام الرجال والتاريخ إلّا هنا فقط!

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٨٨ ح ٢.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٨٨ ح ١ ، وفيه : بشهرين أو ثلاثة ، ولكن الترديد من الإمام المعصوم بعيد جدا ، والأقرب أنّه من الراوي : زرارة بن أعين ، ولا يستقيم الشهران ، والثلاثة تقتضي من جانب أن يكون نزول السورة أو أوائلها في منى في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، ومن جانب آخر أن يكون يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما عليه عامة المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل ، هذا إذا كان التحديد دقيقا وليس تقريبيا ، وسيأتي البحث عنه.

وروى الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٢٣١ عن العياشي ـ وليس في تفسيره ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت المائدة كملا ومعها سبعون ألف ملك!

٦١٣

ولهذا نظر الطباطبائي الى زمان نزول السورة من زاوية اخرى هي أنّها : نزلت على رسول الله في أواخر أيام حياته ، وقال : فالمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده ، والتثبّت فيها ، فما يفيده التدبّر في عامة آياتها ، وفي الأحكام والقصص والمواعظ بها : أن الغرض الجامع في السورة هو الدعوة الى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت ، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها ، وأنّ عادته تعالى جرت بالرحمة والتخفيف والتسهيل لمن اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن ، وبالتشديد على من بغى واعتدى وطغى بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة ، وتعدّى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين ، فهي لهذا تشتمل على نبأ ابني آدم في قربانهما المتقي والطاغي ، والاشارة الى كثير من مظالم بني اسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم ، وسؤالهم المسيح المائدة ثم عدم الوفاء بمقتضاها ، وعلى كثير من الآيات التي يمتن الله بها على عباده من تحليل الطاهر وتشريع ما يطهّر بلا عسر ولا حرج ، ومن إكمال الدين واتمام النعمة (١).

الآيات الثلاثة الأول :

مرّ أن الآية الاولى والثانية تناسب مناسك الحج فهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٥٧ بتصرف.

٦١٤

وإذ وعد الله الحق في الآية الفاتحة أن يتلو عليهم ما يستثنيه من حلّ بهيمة الانعام ، وفى بهذا في الآية الثالثة إذ قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) ... (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمحرّمات الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية ذكرت هنا مكرّرا للمرة الرابعة : الاولى في الآية (١٤) من الأنعام الخامسة والخمسين نزولا ، والآية (١١٥) من النحل السبعين نزولا والآية (١٧٣) من البقرة السابعة والثمانين نزولا ، وتماثلها حتى في ذيلها : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالآية لا تشتمل من المحرّمات على جديد ، إلّا قوله هنا : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ... (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ...) فهي وإن ذكرت لأول مرة هنا في هذه الآية لكنّها هي جميعا مصاديق الميتة.

فأين إكمال الدين ويأس الكفّار منه؟

وإذا تأمّلنا صدر الآية (ذلِكُمْ فِسْقٌ ...) ثم ذيلها : (فَمَنِ اضْطُرَّ) غير باغ ...

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وجدناها كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه على شيء مما جاء في وسط الآية : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وينتج من ذلك أنّ هذا كلام معترض موضوع في وسط تلك الآية ، غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها وبيانها ، سواء قلنا إنّ الآية نازلة في وسط الآية

٦١٥

فتخلّلت بينها من أول ما أنزلت ، أو قلنا إنّها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا ، أو قلنا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أمر كتّاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين واختلافهما نزولا ، كما روى ذلك السيوطي في «الدر المنثور» عن الشعبي قال : نزل على النبي هذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) وهو بعرفة ، وكان إذا أعجبته آيات جعلهنّ في صدر السورة (١).

وقد عرفنا أن يوم عرفة كان يوم السبت بحسب الحساب السابق ، ليس يوم الخميس ولا الجمعة كما عليه الجمهور رواية عن عمر بن الخطاب جوابا لليهودي (٢).

خبر نزول آية الولاية في مكة :

نقل ابن طاوس عن كتاب «النشر والطيّ» عن حذيفة بن اليمان قال : كنّا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ وافى علي عليه‌السلام من اليمن الى مكة ، ثم توجّه علي عليه‌السلام يوما يصلّي الى الكعبة ، فلما ركع أتاه سائل فتصدّق عليه بحلقة خاتمه ، فكبّر رسول الله وقرأ علينا

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٦٣ ـ ١٦٨ بتصرّف وتلخيص ، والخبر عن الدر المنثور ٢ : ٢٥٨ ، ٢٥٩. وانظر كلاما للطباطبائي فيما يأتي.

(٢) انظر البحث في ذلك في كتاب آيات الغدير : ٢٦٤ ـ ٢٦٨ وعليه يحمل ما نقل في تفسير الكوفي عن الباقر عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة بعرفات بقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) كما في تفسير فرات الكوفي : ٤٩٧ ح ٦٥٢ ، وكذلك ما رواه العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : نزل رسول الله يوم الجمعة في عرفات فأتاه جبرئيل بقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) كما في تفسير العياشي ١ : ٢٩٣.

٦١٦

ما أنزل الله تعالى في ذلك من قوله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١) ثم قال : قوموا نطلب هذه الصفة التي وصف الله. فلما دخل رسول الله المسجد استقبله سائل ، فسأله النبي : من أين جئت؟ قال : من عند هذا المصلّي تصدّق عليّ بهذه الحلقة وهو راكع ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضى نحو علي عليه‌السلام فقال له : يا علي ما أحدثت اليوم من خير؟ فأخبره خبره ، فكبّر للمرّة الثالثة (٢).

وقال الحلبي : روي أنّه لما نزل (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أمر النبي أن ينادي بولاية علي عليه‌السلام فضاق بذلك ذرعا (٣).

وعن العیاشی عن زيد بن أرقم قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا قوما أنا فيهم فقال لنا : إنّ الروح الأمين جبرئيل عليه‌السلام نزل عليه بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فاستشارنا في ذلك ليقوم به في الموسم ، فلم ندر ما نقول له ، فلما رجعنا ونزلنا الجحفة وضربنا أخبيتنا ، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا رسول الله ينادي :

أيها الناس ، أنا رسول الله فأجيبوا داعي الله ، فأتيناه مسرعين وذلك في شدة الحرّ ، ثم قال : يا أيها الناس ، إنه نزل عليّ عشيّة عرفة أمر ضقت به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، حتى جاءني في هذا الموضع وعيد من ربّي إن لم أفعل ، وذلك قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...)(٤).

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الاقبال ٢ : ٢٤٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣ ، ولعلّ منه ما رواه العياشي في تفسيره عن عمّار بن ياسر أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها علينا ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ١ : ٣٢٧.

(٤) عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥١ ، ١٥٢ ، وعن العياشي ولم نجده فيه.

٦١٧

وروى الطبرسي في «الاحتجاج» بسنده عن الطوسي عن الباقر عليه‌السلام قال : لما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالموقف أتاه جبرئيل عن الله تعالى فقال له : يا محمد ، إنّ الله عزوجل يقرئك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدّتك ، وأنا مستقدمك على ما لا بدّ منه ولا محيص عنه ، فاعهد عهدك وقدّم وصيّتك ، واعمد الى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسلاح والتابوت (كذا؟) وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلّمه الى وصيّك وخليفتك من بعدك ، حجتي البالغة على خلقي : علي بن أبي طالب ، فأقمه للناس علما ، وجدّد عهده وميثاقه وبيعته ، وذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم ، وعهدي الذي عهدت إليهم : من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة : علي بن أبي طالب ، فإنّي لم أقبض نبيّا من الأنبياء إلّا من بعد إكمال ديني وحجّتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي ، وذلك كمال توحيدي وديني وتمام نعمتى على خلقي باتّباع وليّي وطاعته وذلك أني لا أترك أرضي بغير وليّ ولا قيم ، ليكون حجة لي على خلقي ، فأقم ـ يا محمد ـ عليا علما ، وخذ عليهم البيعة ، وجدّد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه ، فإني قابضك إليّ ومستقدمك عليّ.

قال الباقر عليه‌السلام : فخشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه ، وأهل النفاق والشقاق أن يتفرّقوا ويرجعوا الى الجاهلية ، لما عرف من عداوات وما تنطوي عليه أنفسهم من العداوة والبغضاء لعلي عليه‌السلام. فسأل جبرئيل أن يسأل ربّه له العصمة من الناس ، وأخّر ذلك وانتظر أن يأتيه جبريل عن الله جلّ اسمه بالعصمة من الناس ، الى أن بلغ مسجد الخيف.

فأتاه جبرئيل عليه‌السلام في مسجد الخيف فأمره أن يعهد عهده ويقيم عليا علما للناس يهتدون به من دون أن يأتيه بالعصمة من الله جلّ جلاله بالذي أراد.

٦١٨

حتى بلغ موضع كراع الغميم فأتاه جبرئيل بالذي أتاه فيه من قبل الله ولم يأته بالعصمة ، فرحل ، فلما بلغ غدير خم أتاه جبرئيل عليه‌السلام على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والعصمة من الناس : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...)(١).

وروى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت ولاية علي عليه‌السلام قد نزلت بمنى ، وامتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القيام بها ، لمكان الناس ، ورجع من مكة وقد شيّعه خمسة آلاف من أهل مكة (٢) ، فلما انتهى الى الجحفة نزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) أي مما كرهت بمنى.

وبمعناه ما رواه قبله عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلان أمر علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلم يأخذ بيده فرقا من الناس ومكث ثلاثا حتى أتى الجحفة ، فلما نزل المهيعة من الجحفة يوم الغدير نادى : الصلاة جامعة (٣).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٩ ، ٧٠ وعليه يحمل ما في كشف اليقين عن كتاب ابن أبي الثلج البغدادي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله أنزل على نبيّه بكراع الغميم : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) في علي ، أي بدون ذكر العصمة. بحار الأنوار ٣٧ : ١٣٧. وبه يصحّح ما رواه القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه الباقر عليه‌السلام : أنّه نزل في كراع الغميم : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...).

(٢) هذا بعد أن قال : تبعه من أهل المدينة خمسة آلاف ، فكان له عشرة آلاف شاهد. وأشار إليه الحلبي في المناقب ٣ : ٣٥ وسيأتي البحث في عدد الجمع.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٣٢ ح ١٥٤ و ١٥٣.

٦١٩

وفي «جامع الأخبار» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع ، جاءه جبرئيل في الطريق وقرأ عليه هذه الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) فقال رسول الله : يا جبرئيل إنّ الناس حديثو عهد بالإسلام ، فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا. فعرج جبرئيل.

ونزل عليه‌السلام في اليوم الثاني ورسول الله نازل بالغدير (كذا) فقال له : يا محمد (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...) فقال له : يا جبرئيل ، أخشى من أصحابي أن يخالفوني! فعرج جبرئيل.

ونزل عليه في اليوم الثالث ورسول الله بالغدير وقال له : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس : والله ما أبرح هذا المكان حتى أبلّغ رسالة ربّي (١).

وهنا كلام آخر للعلّامة الطباطبائي قال فيه : غير أن هاهنا أمرا يجب التنبّه له ، وهو أن التدبّر في الآيتين الكريمتين الثالثة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) والسابعة والستين : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) والأحاديث فيهما من طرق الفريقين ، وأخبار الغدير المتواترة ، ودراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله والبحث العميق فيها ، يفيد القطع بأن : أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام ، وكان النبي يتّقي الناس في إظهاره يخاف أن لا يتلقوه بالقبول ، أو يسيئوا القصد إليه فيختلّ أمر الدعوة ، فكان لا يزال يؤخّر تبليغه الناس من يوم الى غد حتى نزلت الآية (٦٧) فأنجزه.

__________________

(١) جامع الأخبار : ١٠ ـ ١٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٥ ، ١٦٦ ح ٤٤.

٦٢٠