موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

فقال بعضهم لأبي ذر : قد ترى ما برسول الله ، وقد نعلم منزلتك منه ، فنحن نحبّ أن تعلم لنا أمره ، فسأل أبو ذرّ النبيّ عن ذلك ، فقال : ما نعيت إليّ نفسي ، وما وجدت في أمّتي إلّا خيرا ، وما بي مرض ، ولكن من شدة وجدي لعليّ بن أبي طالب وابطاء الوحي عليّ في أمره. فاستأذنه أبو ذر ليخرج من المدينة في حاجته فأذن له.

فخرج أبو ذر من المدينة يستقبل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلما كان ببعض الطريق إذا هو براكب ناقة مقبلا فإذا هو علي عليه‌السلام ، فاستقبله والتزمه وقبّله وقال : بأبي أنت وامّي ، اقصد في مسيرك حتى اكون أنا الذي أبشّر رسول الله ، فان رسول الله من أمرك في غم شديد. فأنعم له علي عليه‌السلام. فانطلق أبو ذر مسرعا حتى أتى النبيّ فقال له : البشرى. قال : وما بشراك يا أبا ذر؟ قال : قدم علي بن أبي طالب. فقال له : لك بذلك الجنة ، ثم ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وركب معه الناس.

فلما رآه علي عليه‌السلام أناخ ناقته ، ونزل رسول الله ، فتلقّاه والتزمه وعانقه ووضع خدّه على منكب علي ، وبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرحا بقدومه وبكى معه علي عليه‌السلام ثمّ قال له رسول الله : ما صنعت بأبي أنت وأمي ، فان الوحي ابطئ عليّ في أمرك؟ فأخبره بما صنع ، فقال رسول الله : كان الله عزوجل أعلم بك منّي حين أمرني بارسالك (١).

وروى الحلبيّ عن ابن الصوفيّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال الله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ* وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(٢) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٣٨ ـ ٤١.

(٢) الشعراء : ١٠ ـ ١٤.

٥٤١

فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)(١) وهذا عليّ قد أنفذته ليسترجع براءة ويقرأها على أهل مكة ، وقد قتل منهم خلقا عظيما ، فما خاف ولا توقّف ، ولا تأخذه في الله لومة لائم (٢).

وفود الحضرمي من البحرين وعزله :

روى ابن سعد في «الطبقات» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد كتب الى العلاء بن الحضرمي أن يقدم إليه بعشرين رجلا من عبد القيس من البحرين.

فاستخلف العلاء المنذر بن ساوى العبدي وقدم على النبي بعشرين رجلا منهم يرأسهم عبد الله بن عوف الأشج ، ولكنّ هذا الوفد شكا إلى النبيّ من العلاء ، فعزله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولّى مكانه (على البحرين وهجر) أبان بن سعيد بن العاص ، وقال له : استوص بعبد القيس خيرا ، وأكرم سراتهم (٣).

فسأله أبان أن يحالف عبد القيس فأذن له بذلك. وقال له : يا رسول الله ، اعهد إليّ عهدا في صدقاتهم وجزيتهم وما يتجرون به.

فكتب له صدقات الإبل والبقر والغنم على فرضها وسنّتها كتابا منشورا مختوما. وكتب معه إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام ، وقال له : فإن أبوا فأعرض عليهم الجزية ، من كل حالم مجوسي أو يهودي أو نصراني دينارا وأن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم (٤).

ولعلّ هذا ونحوه هو الذي حمل أهل نجران النصارى على وفودهم إلى المدينة.

__________________

(١) القصص : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٤ ق ٢ : ٧٧ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٣ : ٢٠٢.

(٤) تهذيب تاريخ ابن عساكر لابن بدران ٢ : ١٢٠ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٢ : ٣٨٩.

٥٤٢

مباهلة أساقفة نجران (١) :

لاختلاف المواقيت والزمان ما بين السنة الشمسية والقمرية كان العرب في الجاهلية ينسئون الشهور القمرية العربية ، فكانوا بذلك يقاربون غيرهم من الامم في مدة زمان سنتهم الشمسية ، كانوا ينسئون في كل ثلاث سنين شهرا يسقطونه من السنة وينقلون اسمه الى الشهر الذي يليه ويسمّونه باسم الشهر المحذوف ، ويجعلون اليوم الثامن والتاسع والعاشر من ذلك الشهر أيام التروية وعرفة والنحر ، فيكون ذلك موجبا دائرا في كل شهور السنة ، لم يزالوا على ذلك حتى السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر حجة حجّها المشركون ، فكان الحج في تلك السنة اليوم العاشر من ذي القعدة ، وكانت قد نزلت آيات (أربعون) من سورة براءة فبعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمره بقراءتها على الناس بمنى وفيها : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(٢).

__________________

(١) الأساقفة جمع الاسقف ، وهو معرّب من اليونانية : ايسكوپ ، كما في الوثائق السياسية : ٥٨٢ ، أو هي : ايسكوپس ، ومعناها الرقيب الناظر ، كما في دائرة المعارف للبستاني ، أو هو بمعنى العالم المتخاشع في مشيته ، وهو فوق القسّيس ودون المطران ، كما في أقرب الموارد ، والقاموس ، ولسان العرب ، والنهاية.

ونجران اليوم تقع في خريطة المملكة السعودية في حدودها قرب بلاد همدان من اليمن. وفي السيرة النبوية لزيني دحلان : نجران بلدة كبيرة واسعة تشتمل على ثلاث وسبعين قرية ، وهي بين عدن وحضرموت قرب صنعاء. فيها بنو الحارث بن كعب ، وبنو عبد المدان من بني الحارث بنوا بها بيعة على بناء الكعبة وسمّوها كعبة نجران ، وكان أساقفتها معتمّين كما في نجر من تاج العروس ومعجم البلدان ٥ : ٢٦٨ ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٨ و ٤٩١ في الهامش.

(٢) التنبيه والإشراف : ١٨٦ والآية ٣٧ من السورة.

٥٤٣

ونقل الطوسي عن الجبّائي قال : كان يوم النحر عشرين من ذي القعدة في تلك السنة وكان سبب ذلك : النسيء الذي كان في الجاهلية (١).

وعلى أي حال ، فإن عليّا عليه‌السلام قد قام بما بعثه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكة لموسم العام التاسع للهجرة ورجع الى المدينة لأوائل شهر ذي الحجة الحرام من ذلك العام.

وفي «مسار الشيعة الكرام» قال : في اليوم الرابع والعشرين منه باهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة صلى الله عليهم ، مع نصارى نجران ، وجاء ذكر المباهلة به وبزوجته وبولديه في محكم التبيان (٢) وبه قال الشيخ الطوسي (٣) ورواه السيّد ابن طاوس في «الاقبال» في مرفوعة الى علي بن محمد القمي أن يوم المباهلة يوم أربع وعشرين من ذي الحجة (٤).

وأخصر خبر في ذلك : ما رواه العياشي في تفسيره : أنّه سئل علي عليه‌السلام عن بعض فضائله فقال (فيما قال) : أتى راهبان من رهبان النصارى (٥) من أهل نجران ، فتكلّما في أمر عيسى ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ...) إلى آخر الآية ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ بيدي والحسن والحسين وفاطمة ، ثم خرج ودعاهم الى المباهلة ، ورفع كفّه الى السماء وفرّج بين أصابعه. فلمّا رآه الراهبان قال أحدهما لصاحبه : والله لئن كان نبيّا لنهلكنّ ، وإن كان غير نبيّ كفانا قومه ، فكفّا (٦).

__________________

(١) التبيان ٥ : ١٩٦ ، وعنه في مجمع البيان ٥ : ٦.

(٢) مسارّ الشيعة الكرام : ٥٨ ، ٥٩ من المجموعة النفيسة.

(٣) مصباح المتهجد : ٧٠٤.

(٤) الاقبال ٢ : ٣٥٤.

(٥) لفظ الخبر : أتاه حبران من أحبار النصارى.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٧٥ ، ١٧٦.

٥٤٤

وبشيء من التفصيل : روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان سيدهم الأيهم (١) والعاقب والسيّد (ودخلوا مسجده) وحضرت صلاتهم (وكانوا يحملون ناقوسهم) فضربوه واصطفوا لصلاتهم. فقال أصحاب رسول الله له : هذا في مسجدك؟ فقال : دعوهم.

فلما فرغوا دنوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا له : الى ما تدعو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث. فقالوا : فمن أبوه؟ فنزل عليه الوحي قال : قل لهم : ما تقولون في آدم عليه‌السلام؟ أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب وينكح؟ فسألهم النبيّ ذلك ، فقالوا نعم ، فقال : فمن أبوه؟ فبهتوا وبقوا ساكتين.

فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٢).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فباهلوني ، فإن كنت صادقا انزلت اللعنة عليكم ، وإن كنت كاذبا نزلت عليّ ، فقالوا له : أنصفت! فتواعدوا للمباهلة ، ورجعوا إلى منزلهم.

فقال رؤساؤهم : إن باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس بنبيّ ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله ، فإنه لا يقدم على أهل بيته إلّا وهو صادق.

فلما أصبحوا (صباح اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة) جاءوا الى

__________________

(١) في المصدر : الأهتم ، وأثبتنا ما في سائر الأخبار.

(٢) آل عمران : ٥٩ ـ ٦٣.

٥٤٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا معه أمير المؤمنين علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، فسأل النصارى : من هؤلاء؟ فقيل لهم : هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب ، وهذه ابنته فاطمة ، وهذان ابناه الحسن والحسين. ففرقوا وقالوا لرسول الله : نعطيك الرضا فأعفنا من المباهلة. فصالحهم رسول الله على الجزية (١).

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الأحمر البجلي الكوفي عن الحسن البصري قال : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذا بيد الحسن والحسين ، وبين يديه علي عليه‌السلام وتتبعه فاطمة عليها‌السلام. وغدا العاقب والسيّد بابنين لهما ، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه؟ قالوا : هذا ابن عمّه زوج ابنته ، وهذان ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم الى قلبه.

وتقدّم رسول الله فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا ـ والله ـ كما جثا الأنبياء للمباهلة. فلم يقدم للمباهلة ، فقال له السيّد : يا أبا حارثة ادن للمباهلة ، فقال : انّي لأرى رجلا جريئا للمباهلة فأخاف أن يكون صادقا ، فلا يحول علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم. فقالوا لرسول الله : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٠٤ ، والكوفي في تفسيره : ٨٧ ، روى خبرا عن علي عليه‌السلام في صفحة تقريبا ولكنّه ذكر فيه ابن صوريا وابن الأشرف اليهوديين ، والمشهور أن ابن الأشرف قتل قبل هذا بكثير فهذا مما يبعد صحته. وقبله نقل خبرين عن الباقر عليه‌السلام في مصاديق الآية فقط ، وروى خبرا عن أبي رافع وخبرين عن الشعبي وعن شهر بن حوشب فيه : أنّه كان معهم العاقب وأخوه قيس وعبد المسيح بن أبقى وابنا الحارث ومعهم أربعون راهبا.

وروى المفيد في الفصول المختارة : ٣٨ خبرا في مناقشة المأمون للرضا عليه‌السلام في دلالة الآية على أكبر فضيلة لعلي عليه‌السلام.

٥٤٦

فصالحهم النبي على ألفي حلة قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا ، وكتب لهم بذلك كتابا (١).

وروى في تفسيره كما في «التبيان» عن الحسن أيضا وقتادة عن ابن عباس : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما دعاهم الى المباهلة استنظروه الى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الاسقف : انظروا غدا الى محمد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وان غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء!

فلما كان الغد جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذا بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين يمشيان بين يديهما ، وفاطمة تمشي خلفهما.

وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم ، فلما رأى النبيّ قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من علي ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم الى قلبه.

وتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجثا على ركبتيه ، فقال الاسقف أبو حارثة : جثا ـ والله ـ كما جثا الأنبياء للمباهلة. ولم يقدم للمباهلة ، فقال له السيّد : يا أبا حارثة ادن للمباهلة ، فقال : إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة فأخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا فلا يحول علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم!

وقال الاسقف لرسول الله : يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ، ولكن نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به. فصالحهم رسول الله على :

١ ـ ألفي حلة قيمة كل حلة أربعون درهما فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك.

٢ ـ وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين فرسا ، إن كان كيل باليمن ، ورسول الله ضامن حتّى يؤدّيها. وكتب لهم بذلك كتابا (٢).

__________________

(١) اعلام الورى ١ : ٢٥٦ ولم أجده في تفسيره.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٧٦٢ ، وأشار إليه في التبيان ٢ : ٤٨٢.

٥٤٧

نزول آل عمران :

وروى عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي : أن سورة آل عمران الى نيف وثمانين آية منها ، نزلت في وفد نجران (١) ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر رجلا ثلاثة نفر يؤول إليه أمرهم : العاقب عبد المسيح أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه ، والسيّد الأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة إمامهم وجدهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد درس كتبهم وشرّف فيهم ، فكان ملوك الروم قد شرّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.

قدموا على رسول الله المدينة في مسجده بعد صلاة العصر ، عليهم ثياب الحبرات جبب واردية في جمال رجال بني الحارث ، وحانت صلاتهم ومعهم ناقوسهم فأخرجوه يضربون به واصطفّوا ليصلوا في مسجد رسول الله ، فقالت الصحابة : يا رسول الله ، هذا في مسجدك؟! فقال رسول الله : دعوهم. فصلوا الى المشرق أي الشام وفلسطين والقدس.

ثم تكلم السيد والعاقب مع رسول الله ، فقال لهما رسول الله : أسلما ، فقالا : قد أسلمنا قبلك! فقال : كذبتما ، يمنعكما من الاسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير! فقالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه؟ فقال لهم النبيّ : ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء ويحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى. قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا!

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٥ ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول : ٨٤ عن المفسرين.

٥٤٨

قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا : بلى. قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟ قالوا : لا!

قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذّي كما يغذّى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى!

قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟! فسكتوا ، فأنزل الله فيهم سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها (١).

وقال المفيد في «الارشاد» : قال الاسقف : يا محمد ، ما تقول في السيّد المسيح؟ قال النبي : هو عبد لله اصطفاه وانتجبه. فقال الاسقف : يا محمد ، أتعرف له أبا ولده؟ فقال النبيّ : لم يكن من نكاح فيكون له والد. فقال الاسقف : فكيف قلت : إنّه عبد مخلوق وأنت لم تر عبدا مخلوقا إلّا عن نكاح؟!

فأنزل الله سورة آل عمران الى قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَن ا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٢) فتلاها عليهم ودعاهم الى المباهلة وقال : إن الله عزّ اسمه أخبرني : أنّه ينزل العذاب عقيب المباهلة على المبطل وبذلك يبيّن الحق من الباطل.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٦٩٥ ، ٦٩٦ ، وأشار إليه في التبيان ٢ : ٣٨٨ عن الربيع وابن اسحاق فقط ، وابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٢ عن كرز بن علقمة أخي أبي حارثة ، وعن محمد بن جعفر بن الزبير ، ولم يذكر إقدام الرسول للمباهلة بأهل بيته عليهم‌السلام.

(٢) آل عمران : ٥٩ ـ ٦١.

٥٤٩

فتشاوروا واجتمع رأيهم على استنظاره الى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الاسقف : انظروا محمدا في غد فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء!

فلما كان من الغد جاء النبي آخذا بيد علي ، والحسن والحسين يمشيان بين يديه وفاطمة تمشي خلفه. وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم ، فلما رأى الاسقف النبي ومن معه سأل عنهم ، فنظر الاسقف الى السيد والعاقب وعبد المسيح وقال لهم : انظروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقا بحقّه ، والله ما جاء بهم وهو يتخوّف الحجة عليهم ، فاحذروا مباهلته ، والله لو لا مكان قيصر لأسلمت له! ولكن صالحوه على ما يتّفق بينكم وبينه وارجعوا الى بلادكم وارتئوا لأنفسكم! فتبعوه.

فقال الاسقف : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكنّنا نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به.

فصالحهم النبي على ألفي حلة قيمة كل حلّة أربعون درهما جيادا فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا بما صالحهم عليه.

معاهدة نصارى نجران :

وكان الكتاب : «(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها : في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق لا يؤخذ منه شيء منهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي (١) ثمن كلّ حلّة أربعون درهما ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، يؤدّون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب. وعليهم أربعون دينارا مثواة رسولي مما فوق ذلك. وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن :

__________________

(١) الأواقي : جمع الاوقية ، والاوقية وزن يعادل وزن أربعين درهما.

٥٥٠

عارية مضمونة ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون جملا عارية مضمونة ، لهم بذلك جوار الله وذمة رسول الله محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة» وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا.

هذا هو نصّ المفيد في «الارشاد» (١) بلا إسناد ولا ذكر كاتب ولا إشهاد ، وسبقه بذلك اليعقوبي قال : «... فذمّتي منه بريئة ، ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وكتب عليّ بن أبي طالب» (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٦٧ ـ ١٦٩ وهو المصدر الوحيد لنصّ المعاهدة من أصحابنا.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٣ ، وقال محمد بن سعد في الطبقات ١ : ٢٦٦ وفي ط ١ ق ٢ : ٢١ كتب المغيرة (ابن شعبة الثقفي) بلا اشهاد ، وتبعه ابن القيم الجوزية في زاد المعاد ٣ : ٤١. وفي الخراج لأبي يوسف : ٧٢ وفي ط : ٧٨ : كتبه عبد الله بن أبي بكر. وفي الأموال لأبي عبيد : ٢٧٢ نقل الكتاب عن أبي المليح وقال : شهد بذلك عثمان بن عفان ، ومعيقب ، وكتب. ثم نقله عن عروة بن الزبير : ٢٧٥ ، ولم يذكر الكاتب وزاد في الاشهاد : أبا سفيان ، والأقرع بن حابس الحنظلي التميمي ، ومالك بن عوف النصري ، وغيلان بن عمرو. بينما جاء في المصنّف لابن أبي شيبة ١٤ : ٥٥٠ و ٥٥١ والأموال لأبي عبيد ٢٤٣ و ٢٧٣ والأموال لابن زنجويه ١ : ٢٧٦ و ٤٨١ عن سالم بن أبي الجعد وفي الخراج لأبي يوسف : ٨٠ : أن الكتاب كان في أديم أحمر ، وكان علي عليه‌السلام كتب الكتاب بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أهل نجران ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠ : ١٢٠ عن سالم ، وعن عبد خير قالا : لما ولي علي عليه‌السلام جاءه أهل نجران وأدخل بعضهم يده في كمّه وأخرج كتابا (الأديم الأحمر) فوضعه في يد علي عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين ، هذا خطك بيمينك وإملاء رسول الله عليك. قال عبد خير : وكنت قريبا من علي عليه‌السلام فرأيته قد جرت الدموع على خدّه ثم رفع رأسه وقال لهم : يا أهل نجران ، إنّ هذا لآخر كتاب كتبته بين يدي رسول الله. وانظر مكاتيب الرسول ٣ : ١٤٨ ـ ١٨٢ و ٢ : ٤٨٩ ـ ٥٠٧.

٥٥١

المباهلة بالنساء وأبناء الخلفاء :

وأغرب السيوطي في تفسير الآية بما أخرجه عن ابن عساكر (م ٥٧١ ه‍) عن الصادق عن أبيه الباقر عليهما‌السلام قال : فجاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي بكر وولده! وبعمر وولده! وبعثمان وولده! وبعلي وولده! (١) ولحق به الحلبي (م ١٠٤٤ ه‍) في سيرته فروى : أنّهم تشاوروا مع بني قريظة (؟!) فلم يحضروا للمباهلة رأسا ، فقال عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كنت لاعنتهم فبيد من كنت تأخذ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنت آخذ بيد عليّ والحسن والحسين وفاطمة وحفصة وعائشة! ثم زاد : وهذا يدلّ عليه قوله تعالى : «ونساءنا ونساءكم» قال : وفي لفظ (؟!) : أنّهم واعدوه على الغد فلما أصبح جاء ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ثم مال الى اختيار ما نقله أولا ورجّحه على هذه الرواية المتواترة الثابتة القطعية (٢) هذا وقد انقرض بنو قريظة قبل هذا بكثير فكيف شاوروهم؟!

وابن عساكر الدمشقي متوفى في (٥٧١ ه‍) ومن شعره في علم الحديث :

ولا تأخذه من صحف فترمى

من التصحيف بالداء العضال (٣)

ولعلّه أخذ ما رواه عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام من الصحف فاصيب بداء التحريف.

فقد روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا عليه‌السلام» عن أبيه الكاظم عليه‌السلام : أن هارون الرشيد سأله : كيف قلتم إنّكم ذريّة النبي وهو لم يعقّب ذكرا وأنتم ولد البنت؟! فقلت ... الى أن قال : أزيدك يا أمير المؤمنين! قال : هات. فتلى عليه آية

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٨ و ٣٩.

(٢) إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ٣ : ٢٤٠ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٠٦.

(٣) هدية الأحباب : ٨٤ بالفارسية.

٥٥٢

المباهلة ثم قال : ولم يدّع أحد أن النبي عند المباهلة مع النصارى أدخل تحت الكساء إلّا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين ، فكان تأويل قوله : «أبناءنا» : الحسن والحسين ، و «نساءنا» : فاطمة ، و «أنفسنا» : علي بن أبي طالب عليهم‌السلام (١).

وقال المرتضى في «الشافي» : لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه في المباهلة (٢).

وقال الطوسي في «التبيان» : «وأنفسنا» أراد به نفسه ونفس علي عليهما‌السلام ، لم يحضر غيرهما بلا خلاف (٣) وفي «مجمع البيان» : لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين علي وزوجته وولديه في المباهلة (٤) والطبرسي من القرن السادس ، فيعلم أن دعوى دخول غيرهم كانت متأخّرة.

ولعلّ ابن عمر القرشي تنبّه لذلك فلم يدّع زيادة أحد فيمن قدّمهم للمباهلة بهم ، بل عاد فحذف عليا عليه‌السلام رأسا (٥).

ولعلّه أعجب من ذلك كله ما أثاره السيّد رشيد رضا عن شيخه قال : إنّ الروايات متّفقة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ، ويحملون كلمة «نساءنا» على فاطمة ، وكلمة «أنفسنا» على عليّ فقط ، ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنّة (٦).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ٨٥.

(٢) كما في تلخيص الشافي ٣ : ٧.

(٣) التبيان ٢ : ٤٨٥.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٧٦٤.

(٥) البداية والنهاية لإسماعيل بن عمر القرشي ٥ : ٥٤.

(٦) تفسير المنار ٣ : ٣٢٢.

٥٥٣

وعلّق عليه المحقّق الطباطبائي فقال : وهذا الكلام ـ وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتّهمنا في نسبته الى مثله! واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية ـ إنّما أوردناه (على وهنه وسقوطه) ليعلم أن النزعة العصبية الى أين تورد صاحبها من سقوط الفهم ورداءة النظر ، فيهدم كلّ ما بنى عليه ويبني كلّ ما هدمه ولا يبالي (١).

متى نزلت آل عمران؟

نحن ـ محرّر هذا الكتاب ـ بدأنا به وقد قرّرنا أن يكون تاريخا للإسلام والقرآن الكريم نزولا وأسبابا ، وفي ترتيب النزول :

روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن «الايضاح» لأحمد الزاهد بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن علي عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره عن أوّل ما نزل عليه بمكة : فاتحة الكتاب ثم «اقرأ» الى أن قال : وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران.

وباسناده عن الحسن البصري وعكرمة (عن ابن عباس) وما نزل بالمدينة : سورة المطفّفين ثم البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران.

وروى الطبرسي فيه عن الحاكم الحسكاني باسناده عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أيضا قال : وانزلت بالمدينة : البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران (٢).

__________________

(١) الميزان ٣ : ٢٣٥ و ٢٣٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٠٦ ، ٥٠٧.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦١٣ و ٦١٢ والخبران الأخيران رواهما الزركشي في البرهان ١ : ١٩٣ ، ١٩٤ والسيوطي في الاتقان ١ : ١٠ و ١١ و ٢٥ وعن دلائل النبوة للبيهقي عن مجاهد عن ابن عباس أيضا واعتمدها الشيخ معرفة في التمهيد ١ : ١٠٣ و ١٠٦.

٥٥٤

وقد ذكرنا المطففين والبقرة ، ونزول الأنفال في تقسيم الغنائم ، والأنفال عقيب القتال في حرب بدر في أواخر الثانية للهجرة ، وظاهر هذا وتلك الأخبار نزول آل عمران بعد الأنفال في الثالثة من الهجرة مثلا.

بينما مرّ عن «التبيان» و «مجمع البيان» عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي : أنّ سورة آل عمران الى نيف وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران (١).

ومرّ أيضا أنّ مباهلة وفد نجران كانت في الرابع أو الخامس والعشرين من ذي الحجة ، وفي سنة المباهلة وإن كان العلّامة الأحمدي يقول : لا خلاف في المؤرخين أن وفودهم كان العام العاشر للهجرة (٢) إلّا أنّه مرّ في نصّ المعاهدة أنّه : «لا يؤخذ منهم شيء غير ألفي حلة ... يؤدّون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب» وسيأتي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبعث عليا عليه‌السلام إليهم الى اليمن ، ثم يخرج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله لحجة الوداع في أواخر السنة العاشرة للهجرة ، فيلتحق به علي عليه‌السلام ومعه الحلل النجرانية فإذا كان هذا في السنة العاشرة وجب أن يكون عهد الصلح قد وقع في ذي الحجة للعام التاسع للهجرة (٣). ومعنى هذا أن يكون النيف والثمانون آية من آل عمران قد نزلت في أواخر العام التاسع وليس في غضون السنة الثالثة. اللهم إلّا أن يعدّ هذا الخبر عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي بنزول النيف والثمانين آية من آل عمران في وفد نجران ، استثناء من الأخبار السابقة بنزولها ثالثة أو رابعة السور المدنية.

__________________

(١) التبيان ٢ : ٣٨٨ ومجمع البيان ٢ : ٦٩٥ والواحدي في أسباب النزول : ٨٤ عن المفسرين ، وابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٥.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٦.

(٣) وانظر وقارن : سيد المرسلين ٢ : ٦١٣.

٥٥٥

وليس معنى معاهدة نجران أنّها فتحت للإسلام سلما إلّا بالنسبة الى النصارى بها ، فإن أهل نجران كانوا صنفين : نصارى وأميّين ، فصالح النصارى (كما مرّ) وأما الاميّون منهم فبعث عليهم خالد بن الوليد (١) نقل ذلك العلّامة الأحمدي وقال : إن الذي تحصّل بعد الإمعان والتدقيق : أن النبي صالح نصاراهم من بني الحارث بن كعب ، ثم بعث خالدا على غيرهم (٢).

__________________

(١) زاد المعاد لابن القيّم الجوزية ٣ : ٤٥.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٣ هامش ٢ ، وانظر : ٤٩٩.

٥٥٦

أهم حوادث

السنة العاشرة للهجرة

٥٥٧
٥٥٨

وفاة ابراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وآله :

قال المسعودي : في شهر ربيع الأول توفي إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما عاش سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام (١).

روى الحلبي في «المناقب» عن تفسير النقاش باسناده عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم ، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي ، وهو تارة يقبّل هذا وتارة يقبّل هذا ، إذ هبط جبرئيل بوحي من ربّ العالمين.

فلما سرّى عنه قال : أتاني جبرئيل من ربي فقال : يا محمد ، إن ربّك يقرأ عليك السلام ويقول : لست أجمعهما ، فافد أحدهما بصاحبه.

ثم نظر إلى إبراهيم فبكى ونظر إلى الحسين فبكى وقال : إنّ إبراهيم أمه أمة ومتى مات لم يحزن عليه غيري ، وأمّ الحسين فاطمة وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي! ومتى مات حزنت ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا عليه ، وأنا أؤثر حزني على حزنهما ، يا جبرئيل ، يقبض إبراهيم فديته للحسين.

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٣٨.

٥٥٩

فقبض بعد ثلاث. فكان النبي إذا رأى الحسين مقبلا قبّله وضمّه الى صدره ورشف ثناياه وقال : فديت من فديته بابني إبراهيم (١).

وروى البرقي في «المحاسن» بسنده عن الكاظم عليه‌السلام قال : لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جرت في موته ثلاث سنين :

أما واحدة : أن الشمس انكسفت فقال الناس : إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله! فصعد رسول الله المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا (٢).

قال : ثم نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف.

فلما سلّم (٣) قال : يا علي ، قم فجهّز ابني. فقام علي فغسّل إبراهيم وحنّطه وكفّنه ، ومضى رسول الله حتى انتهى به الى قبره. فقال الناس : إن رسول الله نسي أن يصلي على ابنه لما دخله من الجزع عليه!

فانتصب قائما ثم قال : إن جبرئيل أتاني وأخبرني بما قلتم : زعمتم أني نسيت أن اصلّي على ابني لما دخلني من الجزع! ألا وإنّه ليس كما ظننتم ، ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات ، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة ، وأمرني أن لا اصلي إلّا على من صلّى.

ثم قال : يا علي انزل والحد ابني ، فنزل علي فألحد إبراهيم في لحده. فقال الناس : إنّه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده إذ لم يفعل رسول الله بابنه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيها الناس ، إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم ،

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٨٨ ، ٨٩ ، ط. بيروت.

(٢) المحاسن ٢ : ٢٩ ـ ٣١ وفي فروع الكافي ٣ : ٢٠٨.

(٣) وهو تاريخ تشريع صلاة الآيات وفوريتها.

٥٦٠