موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

اليوم أقول) ما حيّ من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم ، وما اللات والعزّى وما الربّة؟! حجر مثل هذا الحجر لا يدري من عبده ومن لم يعبده! ويحكم أتسمع اللات أو تبصر؟! أو تنفع أو تضر؟!

ثم هدمها ، وهدمها من معه ، فجعل السادن يقول : سترون اذا انتهى الى أساسها فانها تغضب غضبا يخسف بهم!

فتولّى المغيرة حفر الأساس ، وكانت خزانتها فيه ، فحفر نصف قامة حتى بلغ الخزانة فأخذوا ما فيها من كسوة وحلية من ذهب وفضة (١) وحضر أبو سفيان ذلك فسلّم المغيرة الأموال إليه وقال له : انّ رسول الله قد أمرك أن تقضي عن عروة والاسود دينهما ، فقضى عنهما (٢).

سنة الوفود :

جاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله نصر ربّه بفتح بلده الحرام مكة له في السنة الثامنة ، فأقبل الناس المتربّصون والمترصّدون والمتردّدون يدخلون في دينه أفواجا في السنة التاسعة ولذلك سمّيت «سنة الوفود».

قال اليعقوبي : وقدمت عليه وفود العرب ولكل قبيل زعيم يتقدمهم ثم عدّ ٢٨ قبيلا (٣) وكأنه عدّ الوفود بلا تقيّد بالعام التاسع بل أعم منه ، فقد عدّ منهم مزينة بزعامة خزاعي بن عبد نهم (نهم صنمهم وهو حاجبه) ومعه عشرة رهط من قومه (٤) وقيل : بل أربعمائة رجل منهم ، وكان وفودهم في شهر رجب سنة خمس

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٧٨.

(٤) اسد الغابة ٢ : ١١٣ والاصابة برقم ٢٢٥٤.

٥٠١

للهجرة (١) وقد مرّ خبر حضورهم بألف رجل في فتح مكة ثم غزوة حنين ثم تبوك.

وذكر اليعقوبي بني سليم والزعيم وقّاص بن قمامة ، وبني شيبان وأصاب اسم زعيمهم ـ بياض في النسخة ـ ، وبنو سليم ذكروا في من حضر فتح مكة ، وكتب لهم كتابا (٢) وبنو شيبان ذكروا في من كتب لهم كتابا بعد حنين أيضا (٣).

وثمانية من قبائلهم كان وفودهم في العاشرة ، كما سيأتي.

وانما يبقى زهاء نصف العدد (٢٨) للسنة التاسعة ، ذكر تاريخ وفود بعضهم تعيينا او تقريبا فذكرناهم كذلك ، ويناسب ان نذكر هنا ما تبقّى منهم :

فمنهم : بنو أسد بن خزيمة بزعامة ضرار بن الأزور ، قال كحالة : يبدأ تاريخهم في الاسلام بقدوم وفدهم الى النبي السنة التاسعة ، في عشرة رهط ، تقدم ناطقهم فقال : يا رسول الله ، إنا نشهد أن الله وحده لا شريك له ، وانك عبده ورسوله ، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثا! وكانوا عند قيام الاسلام بالحجاز في حوالي جبلي أجأ وسلمى مشتركين مع بعض أحياء مضر وطئ ، وكانوا يعبدون عطارد (٤).

ومنهم : بنو أسلم بزعامة بريدة الأسلمي. وفي مكاتيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاب لهم فيه الزكاة ، مما يدل على انه كان في التاسعة ، جاء فيه : «لأسلم من خزاعة ، لمن آمن منهم واقام الصلاة وآتى الزكاة ، وناصح في دين الله ان لهم النصر على من دهمهم بظلم ، وعليهم نصر النبي اذا دعاهم ، ولأهل باديتهم ما لأهل حاضرتهم ، وانهم مهاجرون حيث كانوا. وكتب العلاء بن الحضرمي وشهد» (٥).

__________________

(١) اسد الغابة ١ : ٢٠٥ بترجمة بلال المزني.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٤٦ ـ ٤٥٤.

(٣) انظر مكاتيب الرسول ١ : ١٦٦ ، ١٦٧.

(٤) معجم القبائل : ٢١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٧.

(٥) الطبقات الكبرى ١ : ٢٧٠ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٣.

٥٠٢

ومنهم : بنو باهلة بزعامة المطرّف بن كاهن الباهلي (١) ولم نجد لهم ذكرا.

ومنهم : بنو بكر بزعامة عدي بن شراحيل (٢) كذلك.

ومنهم : بنو بجيلة ، بزعامة قيس بن غربة (٢) كذلك أيضا.

ومرّ خبر وفد ملوك حمير اليمن باسلامهم.

ومنهم : وفد حضرموت اليمن ومنهم بنو مهرة ، وسيأتي خبرهم في العاشرة.

ومرّ خبر وفد خثعم بزعامة عميس بن عمرو بعد غزوهم في شهر صفر من هذه السنة التاسعة ، وكتب لهم كتابا باسم الحارث بن عبد شمس أباح فيه لهم ديارهم وآمنهم على دمائهم وأموالهم (٤) ومنهم من كان في جرش اليمن ، وغزوهم في العاشرة فوفدوا بعدها ، وسيأتي خبرهم إن شاء الله تعالى.

وفد بني عامر :

مرّ في أخبار السنة الرابعة : ارساله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصحابه عشرين أو أربعين أو سبعين رجلا بكتاب مع حرام بن ملحان الى بني عامر في نجد ، وأن عامر بن الطفيل قتل حراما حامل الكتاب ، ثم حاصروهم فقتلوهم! وكان يقول : والله لقد آليت أن لا انتهي حتى تتبع العرب عقبي! فأنا أتبع هذا الفتى من قريش!

واليوم وبعد خمس سنين وقد أسلم الناس ، قال له قومه : يا عامر ، ألا تسلم ، فان الناس قد أسلموا! ثم احتملوا وفدا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! فلما قدموا عليه قال له عامر بن الطفيل : يا محمّد ، خالني (أي : اخل بي وحدي) قال : لا والله ، حتى تؤمن بالله

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٧٩ ، ٨٠.

(٢) و (٣) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

(٤) مكاتيب الرسول ١ : ٤١.

٥٠٣

وحده! فكرّر القول : يا محمّد ، خالني وأخذ ينظر الى أربد بن قيس (أخي لبيد بن ربيعة لامّه) كأنه ينتظر منه شيئا أمره به ، وأربد لا يفعل شيئا. ورسول الله يقول : لا ، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له! فقام عامر وولى وقال : أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجالا! فقال النبي : اللهم اكفني عامر بن الطفيل (١) اللهم أبدلني بهما فارسي العرب (٢).

ولما خرجوا من عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عامر لأربد : والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا! فأين ما كنت أمرتك به؟! قال أربد : لا أبا لك! لا تعجل عليّ ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره الّا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف؟!

وقال له قومه : يا عامر ، أسلم فقد أسلم الناس! فقال : والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي! أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟!

فخرجوا راجعين الى بلادهم كما كانوا مشركين ، وفي الطريق ظهرت في عنقه غدّة كغدّة الطاعون بالبعران فلجأ الى خباء امرأة من بني سلول وهو يحتقرها ويقول : يا بني عامر! أغدّة كغدة الابل وموتا في بيت سلولية؟! حتى مات ودفنوه ، وانما بقي من رؤسائهم أربد ، فلما وصلوا الى أهلهم أتوهم وقالوا لأربد : ما وراءك يا أربد؟! فقال أربد : دعانا الى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله! وخرج بعد ذلك بيوم أو يومين على جمل له فأصابته صاعقة فأحرقتهما (٣).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٣ ، ٢١٤.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٥١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٥.

٥٠٤

وفد طيء وفرسانهم :

وحيث دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم ابدلني بهما فارسي العرب» أبدله الله عن وفد بني عامر بوفد بني طيء ، وعن فارسي بني عامر بفارسي طيء : عدي بن حاتم (١) وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل ، فلما أسلم غيّر النبي اسمه الى زيد الخير وأقطعه أرض فيد وكتب له بذلك كتابا (٢) وعدّ ابن سعد مع الطائيّين : بني معن وبني معاوية بن جرول الطائيين أيضا ، وروى لهم كتابين منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما الزكاة ، فهما في التاسعة ، اما لبني معن فهو : «ان لهم ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم وغدوة الغنم من ورائها مبيّتة (٣) ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وفارقوا المشركين وأشهدوا على اسلامهم وآمنوا السبل. وكتب العلاء وشهد».

و: «لبني معاوية بن جرول الطائيين ، لمن أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله ، وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبيّ ، وفارق المشركين ، وأشهد على إسلامه : انه آمن بأمان الله ورسوله ، وان لهم ما أسلموا عليه والغنم مبيّتة. وكتب الزبير بن العوام» (٤).

وفد بني عكل وبني زهير :

منهم : وفد بني عكل وهم بنو عوف بن وائل من قريتيهم : اشيقر والشقراء حوالي جبلي اجأ وسلمى بجوار طيء ، بزعامة خزيمة بن عاصم (٥) وعكل اسم

__________________

(١) مرّ خبر وفود عديّ سابقا.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٤.

(٣) أي مع مسافة ما تمشي الغنم من الغداة الى الليل ثم تبيّت هناك.

(٤) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٩ ومكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٠.

(٥) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

٥٠٥

حاضنتهم. وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسلام قومه ، فمسح النبي على وجهه فما زال نضرا ، واستعمله ساعيا جابيا للزكاة فيهم بكتاب كتبه له فيه : «بسم اللهِ الرحمن الرحيم ، من محمّد رسول الله لخزيمة بن عاصم : اني بعثتك ساعيا على قومك ، فلا يظلموا ولا يضاموا» (١).

ومن بني عكل : بنو زهير ، ووافدهم النمر بن التولب بن زهير بن اقيش ، وفد عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدحه بشعر أوّله :

إنّا أتيناك وقد طال السفر

تطعمنا اللحم إذا عزّ الشجر (٢)

وروى ابن سعد عن ابن الشخير قال : كنا في سوق الابل بالربذة اذ جاء أعرابي ومعه قطعة اديم فقال : أو فيكم من يقرأ؟ فقلت : نعم ، فقدّم لي الأديم لأقرأه له ، فأخذت فإذا فيه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمّد النبي لبني زهير بن اقيش حي من عكل (٣) سلام على من اتبع الهدى ، اني احمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، اما بعد : إن شهدتم أن لا إله إلّا الله (وانّ محمّدا رسول الله) وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وفارقتم المشركين ، وأعطيتم من المغانم الخمس وسهم النبيّ والصفيّ ، فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله» (٤).

ورواه ابن الأثير وروى أيضا : ان الحارث بن زهير بن اقيش العكلي وفد إليه واستكتبه لقومه فكتب له مثل هذا الكتاب (٥).

__________________

(١) اسد الغابة ١ : ١١٦ والاصابة ١ برقم : ٢٢٦٠ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٣٧ ، ٢٣٨.

(٢) اسد الغابة ٥ : ٣٩ والاصابة ٣ برقم : ٨٨٠٤.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ٢٧٩.

(٤) كنز العمّال ٢ : ٢٧١ عن مصادر كثيرة ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٣٧ ، ٣٣٩.

(٥) اسد الغابة ١ : ٣٢٨ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٦٢.

٥٠٦

وفد بني عليم :

ومنهم : بنو عليم من كنانة كلب بدومة الجندل بزعامة قطن بن حارثة وأخيه أنس (١) أو اسد (٢) وكانوا يعبدون ودّا ثم دخلوا النصرانية ثم الاسلام. فقدم قطن وأنشأ يقول شعرا :

رأيتك يا خير البرية كلها

نبتّ نضارا في الارومة من كعب

أغرّ كأن البدر سنة وجهه

اذا ما بدا للناس في حلل العصب

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه

ودنت اليتامى في السقاية والجدب

وتكلّم بكلام فصيح غريب الألفاظ وسأل النبي الدعاء لقومه بالاستسقاء ، فدعا لهم النبي وقال لهم خيرا ، واستكتبه فأمر ثابت بن قيس أن يكتب لهم كتابا جاء فيه : «... كتاب من محمّد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها ، ومن صاده الاسلام من غيرها ، مع قطن بن حارثة العليمي : باقامة الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة لحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها ، عليهم في [الناقة] الهمولة (المهملة) الراعية البساط (ترعى في بساط الأرض) الظؤار (المرضعة) في كل خمسين ، ناقة غير ذات عوار ، والحمولة المائرة (التي تحمل الميرة) لاغية (لا زكاة فيها). وفي الشوي (الشياه) الورّي (التي لها ليّة وراءها فهي سمينة) : مسنّة (لها سنتان فأكثر) حامل أو حائل. وفي ما سقى الجدول من العين المعين : العشر من ثمرها مما أخرجت أرضها. وفي العذي (ما يستعذب الماء بعروقه من النخل) : شطره (نصفه ـ نصف تمره) بقيمة الأمين ، فلا تزاد عليهم وظيفة ، ولا يفرّق [بين المال لا خراجه من الزكاة] يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله ، بمحضر من شهود المسلمين : سعد بن عبادة

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

(٢) اسد الغابة ١ : ٦٩ و ٤ : ٢٠٧.

٥٠٧

وعبد الله بن أنيس ودحية بن خليفة الكلبي ، وكتب ثابت بن قيس بن شماس» (١).

وبنو عليم بطن من بني جناب من كنانة كلب ، وجاءه بنو جناب فكتب لهم :

«هذا كتاب من محمّد النبيّ رسول الله لبني جناب وأحلافهم ومن ظاهرهم : على إقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، والتمسك بالايمان ، والوفاء بالعهد وعليهم في [الناقة] الهاملة الراعية : في كل خمس : شاة غير ذات عوار ، والحمولة المائرة (التي تحمل الميرة) لاغية (لا زكاة فيها) والسقيّ الروّاء (النخل الذي يسقى ارواء باليد) والعذّي من الأرض (النخل الذي يستعذب بعروقه) بقيمة الأمين ، وظيفة لا يزاد عليهم. شهد سعد بن عبادة ، وعبد الله بن أنيس ودحية بن خليفة الكلبي» (٢).

وفد بني نهد من اليمن :

ومنهم بنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب (٣) وقيل : طهفة بن رهم أو زهير ، ذكره ابن الأثير كذلك في موارد عديدة من «النهاية» ولكنه ضبطه في «اسد الغابة» عن أبي نعيم وابن مندة : طهية ، وقال : وفد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنة تسع مع بني نهد بن زيد من اليمن ، وهم قبيلة كانوا يتكلمون بألفاظ وحشية غريبة لا يعرفها اكثر العرب ... فقام وقال :

أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس (خشب صلب يصنع منه أكوار البعير) ترعى بنا العيس (النوق البيض بشقرة يسيرة) نستحلب الصبير (السحاب الأبيض

__________________

(١) مكاتيب الرسول ٢ : ٤١٧ ـ ٤٢٢ بتصرّف يسير ، وفي ٢ : ٣٩٢ كتاب آخر لطوائف كلب من أهل دومة الجندل مع حارثة بن قطن ، ولعلّ قطنا قد مات فعاد ابنه واستكتب من النبيّ لنفسه.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٥ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٢٢.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

٥٠٨

الرقيق) ونستخلب الخبير (نقطع بالمخلب النبات) ونستخيل الرهّام (نتخيل المطر الرقيق) ونستجيل الجهام (نتخيل جولان السحاب) من أرض غائلة النّطاء (بعدها يخيّل الغول) غليظة الوطاء (خشنة الموطئ) قد نشف المدهن (حفرة الماء في الجبل) ويبس الجعثن (أصل النبات) وسقط الاملوج (النبات الوالج جديدا) ومات العسلوج (الغصن الطري) وهلك الهدي (ما يهدى مما يرعى) ومات الودي (النخل في الوادي).

برئنا إليك ـ يا رسول الله ـ من الوثن والعنن (ما يعترض من شك) وما يحدث الزمن. لنا دعوة السلام وشرائع الاسلام ، ما طمى البحر (ماج) وقام ثعار (جبل).

لنا نعم همل (مهملة) اغفال ما تبلّ (مغفول عنها ما تروى) ووقير كثير الرسل (قطيع كثيرا ما ترسل وترعى) قليل الرسل (اللبن) أصابتها سنية (قحط) حمراء مؤزلة (مميتة مزيلة) فليس لها علل ولا نهل (شرب أولي ولا ثاني).

فدعا لهم بمثل مقالهم : «اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها (اللبن المحض والممخض للزبد والممزوج بالماء) وابعث راعيها بالدثر ، ويانع الثمر ، وافجر له الثمد (كثّر الماء القليل) وبارك له في المال والولد. ثم قال : من أقام الصلاة كان مسلما ، ومن آتى الزكاة كان محسنا ، ومن شهد أن لا إله إلّا الله كان مخلصا. لكم يا بني نهد ودائع الشرك (عهوده ومواثيقه) لا تلطّط في الزكاة (تتمنّع) ولا تلحد في الحياة ، ولا تتثاقل في الصلاة».

ثم كتب لهم كتابا جاء فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمّد رسول الله الى بني نهد بن زيد : السلام على من آمن بالله ورسوله. لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة (متروك لكم في وظيفة الزكاة الناقة أو البقرة أو الشاة المسنّة الهرمة) ولكم العارض (المريض) والفريش (الوالدة حديثا) وذو العنان الركوب (المركوب

٥٠٩

الجيد) والفلو (الذي فلّ من فطامه حديثا) الضّبيس (الصعب المراس). لا يمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم (لا يحصد شجركم) ولا يحبس درّكم ، ما لم تضمروا الاماق (النفاق) وتأكلوا الربّاق (تنقضوا الميثاق) فمن أقرّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة ، ومن أبى فعليه الرّبوة» : الزيادة (١).

ويبدو انهم من أوائل قبائل اليمن لحوقا بالاسلام ، ولعلّه لعلمهم بما أفاض الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الماء في طريق البلقاء استجابة لدعائه بالاستسقاء من ربّ السماء مكرّرا ، فاندفعوا لينالوا من ذلك شيئا ، فدعا لهم ، ولم يعفهم من فريضة الزكاة ولكنه خفّفها عنهم.

أما سائر أهل اليمن وحضرموت ومهرة وزبيد ومراد ونجران وهمدان فيبدو انهم امتد بهم الأمر الى العام العاشر للهجرة ، كما سيأتي ان شاء الله ، وان كان أبناء الفرس في صنعاء وعدن قد سبقوهم بنحو عامين من الزمن. كما مرّ خبرهم.

مرض ابن أبي ووفاته :

مرّ في خبر كعب بن مالك عنه وعن صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أميّة : انهم مكثوا على مضايقتهم تلك متوقّعين قبول توبتهم خمسين ليلة (٢) تبدأ من وصول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مدينته والتي انما قال الواقدي عنه انه كان في شهر رمضان كما مرّ. ويظهر لي ـ من مقارنة تاريخ بعض الحوادث التالية ـ ان ذلك كان في أواخر شهر رمضان ولعلّه في الخامس والعشرين منه ، وعليه فلا تنتهي الخمسون ليلة الّا في منتصف ذي القعدة تقريبا.

__________________

(١) اسد الغابة ٣ : ٦٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٣٧ ـ ٤٤٤.

(٢) التبيان ٥ : ١٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨٠. ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥١ ، ١٠٥٢ ، ١٠٥٣.

٥١٠

وقالوا : مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوّال ، ومرض عشرين ليلة ، وحضره الموت في ذي القعدة (أي متزامنا مع نزول سورة التوبة بتوبة الثلاثة).

وعاده النبي قبل موته ، فقال له ابن ابي : يا رسول الله ، هو الموت ، فإن متّ فاحضر غسلي ، واعطني قميصك اكفّن فيه! وكان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله قميصان فأعطاه الاعلى ، فقال ابي : بل الذي يلي جلدك! فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه. فقال ابيّ : وصلّ عليّ واستغفر لي! (١).

وكأنه بهذا أراد أن يبعد عن نفسه صفة النفاق في سورة المنافقون : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)(٢). ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله منهيا عن الاستغفار لهم يومئذ ، وانما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(٣).

وذهب القمي في تفسيره الى ان عبد الله بن عبد الله بن أبي لما رأى أباه يجود بنفسه جاء الى رسول الله ـ وكان مؤمنا ـ فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، انك ان لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا. فقام إليه رسول الله حتى دخل عليه وعنده المنافقون ، فقال ابنه : يا رسول الله ، استغفر له ، فاستغفر له ... فلما مات أبوه جاء ابنه الى رسول الله فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ان رأيت أن تحضر جنازته! فقام إليه رسول الله وحضره (وصلّى عليه) وقام على قبره (٤) بل روى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : انه لما توفي عبد الله بن أبي أرسل النبي الى ابنه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٧.

(٢) المنافقون : ٤ والميزان ١٩ : ٣٥٥.

(٣) المنافقون : ٥. والميزان ١٩ : ٣٥٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٠٢.

٥١١

عبد الله قال : اذا فرغت من أبيك فأعلمني (١). أو قال : اذا اردتم أن تخرجوه فأعلموني. فلما حضر أمره أرسلوا الى النبي فأقبل نحوهم ، حتى أخذ بيد ابنه فمضى خلف الجنازة ... ثم قال : ان ابنه رجل من المؤمنين وكان يحق علينا اداء حقّه (١).

فروى الطوسي في «التبيان» عن قتادة عن ابن عباس عن جابر وابن عمر ان رسول الله ألبس قميصه لابن أبي بن سلول وصلى عليه قبل أن ينهى عن الصلاة على المنافقين (٣) بنزول سورة التوبة.

وعنه في «مجمع البيان» وزاد عن الزجاج قال : قيل لرسول الله : لم وجّهت إليه بقميصك يكفّن فيه وهو كافر؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان قميصي لن تغني عنه من الله شيئا ، وانّي أؤمّل من الله أن يدخل بهذا السبب في الاسلام خلق كثير!

فروي : ان نحوا من ألف من منافقي الخزرج لما رأوا زعيمهم ابن أبي يطلب الاستشفاء أو الاستشفاع بثوب رسول الله آمنوا أو أسلموا (٤).

ومن غير المعقول القول بنزول سورة التوبة قبل هذا بآياتها ١٢٩ وفي أوائل ثلثها الأخير الآية ٨٤ : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) وكيف يستقيم ويصحّ أن يخالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صريح نصّ الآية استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة لهم؟! (٥) وإن كان ذلك تأليفا لقلوبهم إلى الإسلام.

__________________

(١) و (٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠١.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٨ و ٢٧١ ومثله في مجمع البيان ٥ : ٨٤.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٨٧.

(٥) الميزان ١٩ : ٣٦٧ وانظر مقال السيد مرتضى مرتضى في مجلة الهادي ع ٣ من السنة ٦ ومقال السيد جعفر مرتضى : التكبير على الميت في كتابه دراسات وبحوث ١ : ٢٤٢ ، ط ١.

٥١٢

نزول سورة التوبة وأغراضها :

معظمها يرجع الى قتال الكفار ، ثم الاحتجاج على المنافقين. فأوّلها آيات تؤذن بالبراءة من عهود المشركين وقتالهم ، وأهل الكتاب ، ثم آيات في الاستنهاض للقتال وحال المتخلّفين ، وولاية الكفار ، والزكاة ، وغير ذلك (١).

والآيات تنبئ عن أن المنافقين كانوا جماعة ذوي عدد في قوله سبحانه (... إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) : ٦٦ وانه كان لهم بعض الاتصال والتوافق مع جماعة آخرين منهم في قوله سبحانه : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) : ٦٧ وانهم كانوا على ظاهر الاسلام والايمان حتى اليوم وانما نافقوا يومئذ ، اي تفوّهوا بكلمة الكفر فيما بينهم واسرّوا بها في قوله سبحانه : (... قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) : ٦٦ وانهم تواطئوا على أمر دبّروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهمّوا بأمر عظيم ، فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثر كيدهم في قوله سبحانه : (... وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ...) : ٧٤ وانه ظهر مما همّوا به بعض ما يستدلّ عليه من الآثار والقرائن ، فسئلوا عن ذلك ، فاعتذروا بما هو مثله قبحا وشناعة في قوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ...) : والآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم ، تدل على ان هذه الواقعة أياما كانت فقد وقعت بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى غزوة تبوك ولما يرجع الى المدينة.

فيتخلّص من الآيات ان جماعة ممن خرج مع النبي تواطئوا على أن يمكروا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرّوا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد اسلامهم ، ثم همّوا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه ، فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم ،

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٤٦.

٥١٣

فلما سئلوا عن ذلك قالوا : (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) فعاتبهم الله بلسان رسوله بأنه استهزاء بالله وآياته ورسوله ، وهدّدهم بالعذاب ان لم يتوبوا وأمر نبيّه أن يجاهدهم.

فالآيات ـ كما ترى ـ أوضح انطباقا على حديث العقبة من سائر أخبار أسباب النزول (١).

كذا جاء في «الميزان» للطباطبائي ، وقد مرّ خبر العقبة ، وكان من آخر أخبار منازل منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك الى المدينة ، وعليه فالسورة بما فيها الآيات المشيرة الى مؤامرة العقبة انما أعقبتها ولم تتقدّمها فمتى كان ذلك؟

وهنا قال الطباطبائي : ولمّا يرجع الى المدينة ، واستند لذلك الى آيتين من السورة : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) : ٨٣ و: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) : ٩٥ وكرّر ذلك في الآية الاولى قال : فيها دلالة على ان هذه الآية وما في سياقها المتصل من الآيات السابقة واللاحقة نزلت ورسول الله في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة (٢) وقال : ان سياق الآيات ـ ومنها قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) : ٨٤ صريح في انّها نزلت والنبي في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة ، وذلك في سنة ثمان (كذا) وقد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة (٣) وعليه فنزول السورة أو هذه الآيات منها هو السابق وموت ابن أبي هو اللاحق ، وعمدة مستنده دلالة تلك الآيات السابقة الثلاث : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) : ٨٣ و: (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) : ٩٤ و: (إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) : ٩٥.

__________________

(١) الميزان ٩ : ٣٢٥ ، ٣٢٦.

(٢) الميزان ٩ : ٣٦٠.

(٣) الميزان ٩ : ٣٦٧.

٥١٤

وبعد هذه الآيات الثلاث ثلاث آيات اخرى ظاهرة في حكاية حوادث جرت بعد تبوك : الاولى : قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...) : ١٠٢ فردها إلى الأعراب غير المنافقين (١)(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...) : ١٠٦ وأشار في تفسيرها الى أخبار أسباب النزول بانها نزلت بشأن الثلاثة الذين خلّفوا ثم تابوا (٢) و: (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) ...* (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) : ١١٧ و ١١٨ وقال : انّ السياق فيهما يدل على انّهما مسوقتان لغرض واحد متصلتان كلاما واحدا ... وذلك يستدعي نزولهما معا (٣) ثم لم يبين النسبة والسياق بين هذه الآيات الثلاث الظاهرة في النزول بعد هذه الحوادث ، وبين تلك الآيات الثلاث التي قال بنزولها بعد العقبة وقبل الوصول الى المدينة ، وواضح ان لازم الأمرين القول بالفصل بين النزولين ، ولعله بما نقله عن «مجمع البيان» : بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون الى الله ويتوبون إليه ، فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم الآية (٤) ثم لم يعلّق عليه بشيء.

واختار الطباطبائي اتصال الآيات التي جزم بنزولها بعد العقبة وقبل المدينة الى آخر الآية ١٠٦ ، وفصل عنها ما بعدها من آيات الأعراب : ٩٧ الى الآية : ١٠٦ : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) والتي احتمل نزولها بشأن الثلاثة المتخلّفين كما في أخبار أسباب النزول. ثم تليها آيات مسجد الضرار من ١٠٧ حتى ١١٠ ، ثم الآيات من ١١١ حتى ١٢٣ بما فيها الآيتان المرتبطتان في التوبة على الثلاثة

__________________

(١) الميزان ٩ : ٣٧٦.

(٢) الميزان ٩ : ٣٨١.

(٣) الميزان ٩ : ٣٩٩.

(٤) الميزان ٩ : ٤٠٨ عن مجمع البيان ٥ : ١٠٥ عن التبيان ٥ : ١٩٧ عن مجاهد وقتادة.

٥١٥

المتخلّفين ١١٧ و ١١٨ ، وعليه فالفصل المحتمل بين ارجائهم وقبول توبتهم اما قبل آيات مسجد الضرار أو بعدها.

وقال : لا تكاد تجتمع الروايات المنقولة على كلمة بشأن ما اختصّ علي عليه‌السلام بتأديته من آيات البراءة من عهود المشركين : فمنها ما يدلّ على ان الآيات كانت تسعا ، واخرى عشرا ، واخرى ست عشرة ، واخرى ثلاثين ، واخرى ثلاثا وثلاثين ، واخرى سبعا وثلاثين ، واخرى أربعين (١) ثم لم يقل متى نزلت هذه؟ فهل نزلت كما بعدها بعد العقبة وقبل المدينة؟ أي قبل آخر شهر رمضان كما مرّ ، وتركت حتى منتصف ذي القعدة بعد موت ابن ابي؟ بينما ظاهر أخبارها عدم الفصل المعتد به بين نزولها وارسالها مع أبي بكر اولا ثم مع علي عليه‌السلام ثانيا ، لموسم الحج كما سيأتي.

ولهذا رجّحنا نحن خبر الثعلبي في تفسيره بنزول السورة مرة واحدة (٢) يومئذ.

اما الآية : ٩٤ : (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) فقد قال الطوسي في تفسيرها : أخبر الله تعالى ان هؤلاء القوم ... اذا عاد النبي والمؤمنون كانوا يجيئون إليهم يعتذرون عن تأخرهم (٣) فهو يقول : كانوا يجيئون. فكأنه اخبار عن الماضي وليس المضارع.

في الآية : ٨٣ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) ردّد الرجوع بين : تصيير الشيء الى المكان الذي كان فيه ، وبين التصيير الى الحالة التي كان عليها (٤)

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٧٥ وفي التبيان ٥ : ٢٢٤ : عن أبي الضحى قال : ان أول ما نزل من سورة براءة قوله سبحانه : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) : ٤١ فالأربعون الاولى نزلت فيما بعد للبراءة. وفيه عن مجاهد قال : ان اول ما نزل منها : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) : ٢٥ فما قبلها نزلت بعدها للبراءة ولم يروهما الطبرسي في مجمع البيان.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٤.

(٣) التبيان ٥ : ٢٨١.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧٠.

٥١٦

والآية إنمّا هي اعداد له صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما اذا تكرّر الاستعداد للخروج الى غزوة اخرى ، وتغيّر رأي هؤلاء المنافقين المتخلفين فجاؤوا يستأذنونه لا للقعود عنه بل للخروج معه ، فعليه أن يقول لهم : لانكم رضيتم بالقعود في المرّة السابقة لغزوة تبوك ، فكذلك كونوا في كل غزوة من القاعدين ولا تخرجوا ولا تقاتلوا. وعليه فالمعنى : فان أعاد الله لك حالتك هذه التي حصلت مع هؤلاء المنافقين المتخلّفين في هذه المرة لهذه الغزوة ، مرة اخرى لغزوة اخرى مع طائفة من هؤلاء فقل ... وليس بمعنى رجوعه من تبوك الى المدينة ، وإلّا فرجوعه الى المدينة وأهلها كلهم وليس الى طائفة منهم ، فما معنى هذا؟ وبدون أن نأخذ الرجوع بمعنى عودة الحالة وانما بمعنى العودة الى المدينة فما معنى يستأذنونه للخروج؟ للخروج لما ذا؟ بدون افتراض رجوع الحالة مرة اخرى.

* * *

مرّ عن الطباطبائي أن الروايات المنقولة لا تكاد تجتمع على كلمة فيما اختص علي عليه‌السلام بتأديته من آيات البراءة عن عهود المشركين : فمنها ما يدل على ان الآيات كانت تسعا ، واخرى عشرا ، واخرى ست عشرة ... قال هذا فيما اختار هو الفصل الأول من آيات السورة لتفسيرها ست عشرة آية ، وقال في توجيه فصلها عمّا يليها : ان اتصالها بما بعدها ليس واضحا بل هو لا يخلو من تكلف (١).

وعلى أي حال ، فحيث ان بعث النبي للوصي عليه‌السلام بآيات البراءة كان من آخر ما حدث من شئون السورة بعد سائر الحوادث ، في أيام موسم الحج ، فنحن نؤجل نقل ذلك الى هناك. وكثير من أخبار أسباب نزول كثير من آي السورة من حوادث الغزوة نقلناه ضمن تسلسل الحوادث ، وانما ننقل هنا ما تبقى منها من غير حوادث الغزوة ولعلها حدثت بعدها وقبل نزول السورة.

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٩٩.

٥١٧

العباس يفاخر عليا عليه‌السلام :

لم أجد فيما بأيدينا شانا خاصا للآيتين ١٧ و ١٨ : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) وكأنهما تمهيد لخلع يد المشركين عن المسجد الحرام ، وكذلك تناسبان ما يليهما : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : ١٩ حتى آخر الآية ٢٢.

مرّ في أخبار فتح مكة : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل الى عثمان بن أبي شيبة من بني عبد الدار فأخذ منه مفاتيح الكعبة ثم ردّها إليه وهنا نجده كأنه ضمن من استنفرهم النبي من أهل مكة فجاؤوه ومنهم عمه العباس.

فروى العياشي في تفسيره عن الصادق عن علي عليهما‌السلام قال : كنت أنا والعباس وعثمان بن أبي شيبة في [ذكر] المسجد الحرام ، فقال عثمان بن أبي شيبة : ان رسول الله أعطاني الخزانة ـ يعني مفاتيح الكعبة ـ وقال العباس : ان رسول الله أعطاني السقاية ـ وهي زمزم ـ ولم يعطك شيئا يا علي! (١).

ورواه القمي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام قال : وقال علي عليه‌السلام : أنا أفضل فاني آمنت قبلكم ثم هاجرت وجاهدت. فرضوا برسول الله حكما ، فأنزل الله الآية (٢).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٤ وفي خبر آخر في تفسير العياشي قال : فكان علي وحمزة وجعفر الذين آمنوا وجاهدوا. ومن هنا كأنما أخطأ الرواة فذكروا حمزة في المفاخرة ، وهو شهيد في احد في الثالثة للهجرة ، وجعفر أيضا شهيد في مؤتة قبل هذا.

وانظر التبيان ٥ : ١٩٠ ومجمع البيان ٥ : ٢٣ وجامع البيان ١٠ : ٩٤ وشرح الأخبار للقاضي المصري ١ : ٣٢٤. وأسباب النزول للواحدي : ١٩٩.

٥١٨

وعادت الآية ٢٨ فأضافت الى منع المشركين عن عمران المسجد الحرام أن منعتهم من اقترابه ، ودفعت توهم المسلمين انقطاع المتاجر بمنع المشركين فقالت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١).

وفي الآيتين ٣٦ و ٣٧ قرّر الاشهر الحرم الأربع ، وحرّم النسيء فيها ، ومن الآية ٣٨ يبدأ الحديث عن غزوة تبوك.

وفي الآية ٤٨ : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) اشارة الى يوم احد حين رجع عبد الله بن ابي بأصحابه وخذل رسول الله ، وكان هو وجماعة من المنافقين يبغون للاسلام الغوائل قبل هذا (٢).

وفي الآية التالية ٤٩ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ...) اشارة الى ما مرّ من ترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي وهب الجدّ بن قيس من بني سلمة في الخروج الى تبوك وجوابه (٣).

وفي الآية ٥٨ اشارة الى ما بدأه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بدايات السنة التاسعة من بعث جباة الصدقات أي الزكوات ونقد بعض المنافقين لكيفية توزيعه لها : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) ذكر الطوسي : بلتعة بن حاطب ، كان يقول : انما يعطي محمّد من يشاء (٤) ودفعا أو رفعا أو تقليلا لمثله عيّنت الآية التالية مصارف الصدقات : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٠١ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٣٣.

(٢) التبيان ٥ : ٢٣٢ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٥٥.

(٣) التبيان ٥ : ٢٣٢ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٥٧.

(٤) التبيان ٥ : ٢٤٢.

٥١٩

وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : ٦٠ فالآية من آيات الاحكام من حيث مصارف الصدقات وليس التأسيس ، حيث قد سبق ذلك بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ المحرّم.

وفي الآية التالية : ٦١ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ...) اشارة الى ما مرّ من خبر نبتل بن الحارث وغيره من منافقي الأنصار (١).

وفي الآية ٦٤ : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ...) اشارة الى ما مرّ من خبر مخشن بن حمير الأشجعي وجماعته في طريقهم الى تبوك (٢).

وفي الآية ٧٤ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) ... (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) اشارة الى ما مرّ من خبر أصحاب العقبة عن الباقر عليه‌السلام وكتاب الواقدي والزجاج ومجاهد (٣).

ومن الحوادث في غير تبوك ما في الآية التالية ٧٥ : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهما من بني عمرو بن عوف من الأوس : ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ـ كما في ابن اسحاق ـ قال ثعلبة : والله لئن آتاني الله مالا لأتصدّقنّ ولأكوننّ من الصالحين ، فأصاب اثني عشر ألف درهم دية فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين ، كما في الواقدي ، وعنهما في «التبيان» (٤).

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٤٨ عن ابن اسحاق وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٦٨.

(٢) التبيان ٥ : ٢٥٠ و ٢٥٣ عن ابن اسحاق والطبري وعنه في مجمع البيان ٥ : ٧٢ وقبله نقول عديدة منها أصحاب العقبة.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٠ ، ٢٦١ وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٧٨ و ٧٩.

(٤) التبيان ٥ : ٢٦٢ عن السيرة ٤ : ١٩٦ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٦٨ ومثله وعن غيرهما في مجمع البيان ٥ : ٨١ ، ٨٢.

٥٢٠