موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

هذا زجر لهما عن المعاصي وأمر لهما أن يكونا كآسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران في طاعتهما لله تعالى وامتثال أمره ونهيه (١).

وكأن النبي هنا زاد على هدى القرآن مثلين آخرين للمؤمنات فقال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد» هذا ما رواه الطوسي في «التبيان» (٢).

اما الطبرسي فروى عن أبي موسى (الاشعري) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء الا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد» (٣).

وفي ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد تخليدا لذكراها وكمالها ، وما فيه من الدلالة الكافية مثلا منها لأمّ المؤمنين المثالية في الاسلام ، لمن يفحص عن مثل ذلك بإزاء حفصة وصاحبتها عائشة وقد صغت قلوبهما كما قال الله سبحانه. وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكره لابنته فاطمة وأنها أكمل النساء الأحياء ، يذكّر بكفاءتها لصالح المؤمنين علي عليه‌السلام ، فمن أراد المثل الصالح للمؤمنين فعليه بعليّ عليه‌السلام ، ومن أراد المثل الكامل للمرأة المؤمنة فعليه بفاطمة عليها‌السلام ، ومن اعرض عنهما اعرض عن الصلاح والكمال.

سورة الصف :

روى الخبر المعتبر المعتمد عن ابن عباس في ترتيب نزول السور الحاكم الحسكاني ، وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» (٤) ورواه الزركشي في

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٥٢.

(٢) التبيان ١٠ : ٥٥.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٨٠ وهذا يصلح تاريخا لاعلان هذا البيان النبوي.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦١٢ ، ٦١٣.

٤٠١

«البرهان» (١) فالطبرسي قدم الجمعة بعد التحريم وأخّر الصف بعد الجمعة والتغابن ، بينما قدّم الزركشي الصف عليهما ، ولاحظت أن اغراض الآيات في الصف تناسب ما بعد التحريم اكثر مما بعد التغابن ، فقدّمتها.

فالسورة بعد البسملة وتسبيح الله ، تذكّر المؤمنين بالمعنى العام بأنهم أذعنوا للاسلام بعد شهادة التوحيد بالاقرار برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليفعلوا بما قالوا ، وتذكّرهم بانّ الذين أذعنوا برسالة موسى عليه‌السلام ثم زاغوا عنه فعلا وعملا أزاغ الله قلوبهم بفسقهم ، فليحذروا أن يشابهوهم ، وانّ هذا الرسول هو أحمد الذي بشّر به عيسى عليه‌السلام وهو الذي أرسل رسوله هذا بالهدى ودين الحق ، فهو متمّم لنوره هذا ومظهر لدينه على الدين كلّه ولو كره المشركون والكافرون ، فليحذروا أن يحاولوا اطفاء هذا النور بأفواههم وتفوّهاتهم ، وعليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيله ، وأن يكونوا أنصار الله ورسوله (٢).

فكأنّ المؤمنين بالمعنى العام لم يلتزموا فعلا بمقتضى ايمانهم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاقتضى هذا التذكير بمقتضى الايمان به وبمقام النبوّة والرسالة. وهذا يناسب الحوادث التي اشير إليها في آيات سورة التحريم السابقة.

سورة الجمعة :

والسورة التالية في النزول حسب الخبر المعتمد (٣) سورة الجمعة. وقد مرّ الخبر عن بداية صلاة الجمعة من الأنصار الأوائل في المدينة قبل الهجرة بإذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البرهان ١ : ١٩٣ ، ١٩٤.

(٢) وانظر الميزان ١٩ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠.

(٣) التمهيد ١ : ١٠٧.

٤٠٢

وكذلك عن أول صلاة جمعة صلّاها هو بعد هجرته إليها وخطبتيه لها (١) فالفاصل الزمني بين ذلك وبين نزول السورة اليوم أكثر من ثماني سنين ، وعليه فآية النداء لصلاة الجمعة فيها التاسعة منها ليست من آيات الاحكام بمعنى التشريع التأسيسي ، وإنمّا التأكيدي (٢) فهي من التشريعات بالسنة سابقة الكتاب.

والآيات السوابق في السورة ليست في صلاة الجمعة ، بل الثلاث الاول في بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن الخامسة حتى الثامنة في محاجّة اليهود ولا سيّما أحبارهم حملة التوراة ، مما يرجّح في الظن أن يكون نزولها الى ما قبل الانتهاء منهم في الحروب معهم : بني قريظة والنضير وقينقاع وأخيرها قلاع خيبر السبعة وفدك ووادي القرى وتيماء في أوائل السابعة ، فبين آخرها ونزول السورة في أوائل التاسعة سنتان ، فهل يناسب نزولها اليوم؟! وهل تناسب الآيات الثلاث الأواخر بشأن صلاة الجمعة؟

أجل ، حاول توجيه ارتباطها بما قبلها الآلوسي في «روح المعاني» ونقله الطباطبائي في «الميزان» وقال : وأنت خبير بانّه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق (٣) وقبل ذلك ذكر هو وجها لاتّصال الآية بما قبلها ، كذلك لم نجد من السياق دليلا عليه.

وفي الآية الأخيرة الحادية عشرة والخاتمة للسورة قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روى الطوسي عن الحسن ومجاهد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : بعد ما أصابت المدينة مجاعة ، قدم دحية بن خليفة الكلبي

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٣١ ، ٤٣٢.

(٢) انظر التعبير بالتأكيد في الميزان ١٩ : ٢٧٣.

(٣) الميزان ١٩ : ٢٦٦ و ٢٦٧.

٤٠٣

الأنصاري إليها بقافلته التجارية وفيها طعام ، وكانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة الجمعة ، واستقبلت القافلة بالطبول والمزامير ، فلما سمع المصلّون أصوات الطبول والمزامير تركوا النبي قائما خطيبا وتفرّقوا الى القافلة ، فنزلت الآيات (١).

امّا الطبرسي فقد روى عن الحسن قال : أصاب أهل المدينة غلاء سعر وجوع ، وقدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة زيت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الجمعة ، فتسابقوا إليه خشية السبقة حتى لم يبق معه صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى رهط منهم ، فنزلت الآية.

وفي روايته عن جابر ذكر عددهم فقال : كنا نصلي مع رسول الله الجمعة إذ أقبلت قافلة تجارية ، فانفضّ الناس إليها حتى ما بقي سوى اثني عشر رجلا أنا أحدهم ، فنزلت الآية.

ثم نقل تفصيلا عن مقاتل وقتادة قالا : كان دحية بن خليفة بن فروة الكلبي الخزرجي اذا قدم بتجارته من الشام قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره ، فينزل بمكان من سوق المدينة عند أحجار الزيت ثم يضرب طبلا ليعلم الناس بقدومه فيخرج إليه الناس حتى لا تبقى بالمدينة عاتق (جارية مدركة) إلّا أتته. فقدم ذات جمعة ورسول الله قائم على المنبر يخطب ، فخرج الناس إليه حتى لم يبق في المسجد إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة. وفعلوا ذلك ثلاث مرات كل ذلك يوافق يوم الجمعة لقوافل تقدم من الشام ... فأنزل الله هذه الآية (٢).

ونقل الطباطبائي هذا الخبر عن «عوالي اللآلي» عن مقاتل بن سليمان وقال : القصة مروية بطرق كثيرة من الشيعة وأهل السنة ، مختلفة في عدد من بقي منهم بين سبعة الى أربعين (٣).

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٣٣.

(٣) الميزان ١٩ : ٢٧٧ ولعل المكثرين حاولوا حفظ ماء وجه الصحابة فبلغوا بالثابتين

٤٠٤

وروى خبر جابر الأنصاري الواحدي وقال : رواه مسلم والبخاري في كتاب الجمعة (١).

ولعلّ هذه القوافل التجارية كانت تحمل معها من الشام شائعات الأخبار عن استحضار الروم وغسّان لغزو المسلمين كما مرّ في خبر عمر ، مما أثار غزوة تبوك.

سورة التغابن :

والسورة التالية في النزول حسب الخبر المعتمد (٢) سورة التغابن.

والآية الرابعة عشرة فيها قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : ذلك ان الرجل كان اذا أراد الهجرة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن تذهب عنا وتدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع اهله فيقيم فحذّرهم الله أبناءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أمّا والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبدا فلما جمع الله بينه وبينهم أمره الله أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال : (... وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣).

__________________

ـ منهم الى اربعين رجلا ومن الغريب في الخبر عن دحية : أن ذلك كان منه قبل أن يسلم! بينما كان دحية من المسلمين الأوائل من الخزرج ، أفهل كان كافرا الى ما بعد أوائل التاسعة للهجرة؟! ولم يعلّق عليه الطبرسي ولا الطباطبائي.

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٢ ورواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس.

٤٠٥

وقال الطبرسي : ذلك ان الرجل من هؤلاء اذا هاجر وقد سبقه الناس بالهجرة وفقهوا في الدين ، هم ان يعاقب زوجته وولده الذين ثبّطوه عن الهجرة فلا ينفق عليهم إذا لحقوا به بدار الهجرة ، فأمرهم الله سبحانه بالعفو والصفح (١).

والآية التالية الخامسة عشرة فيها قوله سبحانه : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال الطبرسي : هو الجنة ، يعني : فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر والذخر (٢).

وليست كل فتنة مضلّة لكل أحد ، فقد روى الرضي في «نهج البلاغة» عن علي عليه‌السلام كان يقول : لا يقولن أحدكم : اللهم اني أعوذ بك من الفتنة ؛ لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، فان الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فمن استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن (٣).

إذن فالولد فتنة وليست كل فتنة مضلة لكل أحد ، ومن هذا ما رواه الطبرسي هنا عن بريدة الأسلمي قال : كان رسول الله يخطب فجاء الحسنان عليهما‌السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله إليهما وأخذهما الى المنبر فوضعهما في حجره وقال : صدق الله عزوجل : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت الى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ، ثم أخذ في خطبته (٤) فالحديث بعد نزول السورة والآية في التاسعة للهجرة

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٣.

(٣) نهج البلاغة : الحكمة : ٩٣ وروى الطبرسي مثله عن ابن مسعود ، مجمع البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٣. ورواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٥ عن جامع الترمذي وفضائل ابن حنبل وفضائل السمعاني والواحدي في الوسيط والثعلبي في

٤٠٦

والحسنان عليهما‌السلام خماسيّان تقريبا.

والسورة التالية حسب الخبر المعتمد سورة الفتح (١) وقد مرّت الأخبار عن تفسير القمي (٢) و «التبيان» (٣) و «مجمع البيان» (٤) انها نزلت في منصرفه من صلح الحديبية ، وآياتها أيضا ظاهرة الانطباق على ذلك كما في «الميزان» (٥). وعليه فالراجح استثناء هذه السورة من ترتيب الخبر المعتمد ، تبعا لتلك الدلائل ، كما مرّ ابهام كهذا في ترتيب نزول سورة : المنافقون.

واختلفت نسخة الزركشي (٦) مرة اخرى لروايته الخبر عن ابن عباس عن نسخة الطبرسي عن الحسكاني (٧) بأن قدم الزركشي البراءة على المائدة فيما عكس الآخرون ومنهم الطبرسي ، هذا وقد روى في مفتتح تفسيره لسورة المائدة عن «تفسير العياشي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت المائدة كملا ، وروي عنه

__________________

ـ الكشف والخرگوشي في شرف النبي واللوامع والحارثي في قوت القلوب. ورواه السيوطي في الدر المنثور عن الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود وابن حنبل وابن أبي شيبة وابن مردويه والحاكم الحسكاني ، كما في الميزان ١٩ : ٣١٠ ولكنه رآه منافيا لعصمته وتأييده بروح القدس ، وبعض المرويات لفظها أفضح ، فقال : الوجه طرح هذه الروايات ، إلّا ان تؤوّل. وأنا لا أرى طرحها ولا تأويلها مع ما ذكر في معنى الفتنة.

(١) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٤.

(٣) التبيان ٩ : ٣١٣.

(٤) مجمع البيان ٩ : ١٦٦.

(٥) الميزان ١٨ : ٢٥١.

(٦) البرهان ١ : ١٩٤.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٦١٣.

٤٠٧

بسنده عن علي عليه‌السلام قال : كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة (١) ورواه الطوسي عن الشعبي وابن مبشر وابن عمر (٢) حتى قال الطباطبائي : لم يختلف أهل النقل في انها آخر سورة نزلت على رسول الله في أواخر أيام حياته (٣) وفي «تفسير القمي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت آية البراءة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما رجع من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة (٤).

وقد بقيت هنا حوادث قبل غزوة تبوك ، نعرضها فيما يلي.

تناول اطراف الطائف : خثعم واسلامهم :

مرّ انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لوى عنان مركبه عن محاصرة الطائف الى مكة ثم منها الى المدينة ، وأقام اهل الطائف على كفرهم ، وفي أثناء حصارهم غزا بعض ضواحيها. ونقول : انّه عاد الى ذلك في شهر صفر سنة تسع للهجرة ، فبعث قطبة بن عامر الى حي من خثعم بناحية تبالة من أطراف الطائف ، في عشرين رجلا يتعاقبون على عشرة إبل ، وأمرهم أن يغذّوا السير ليلا ويكمنوا نهارا ولا يعلنوا سلاحا. فخرجوا ليلا يغذّون السير على ناحية الفتق (من نواحي الطائف) حتى انتهوا الى بطن مسحاء (من نواحي الطائف الى السرف بين المدينة الى مكة) فلقوا رجلا سألوه عن الحيّ فأخذ يصيح بقومه فقتلوه ، وكمنوا النهار حتى صار الليل ، فخرج رجل منهم طليعة فوجد أحشام القوم فرجع إليهم فأخبرهم.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٣١.

(٢) التبيان ٣ : ٤١٣.

(٣) الميزان ٥ : ١٥٧.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٨١.

٤٠٨

فاقبلوا حتى انتهوا الى حيّهم وهم نيام ، فكبّروا وشنوا عليهم الغارة ، فخرج إليهم رجالهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجراح في الفريقين ، وأصبح الصباح ، وجاء عدد كثير منهم مددا لهم ولكن أتى سيل فحال بينهم فما استطاعوا أن يصلوا إليهم ، وحتى انتهوا منهم ، وأقبلوا بنسائهم وأنعامهم الى المدينة ، فأخرجوا خمس ما غنموا ، فكان سهم كل رجل منهم أربعة أغنام.

وكانت كعبتهم كعبة اليمامة لهم فيها صنم يسمّى ذا الخلصة ، وهي تسمية يمنيّة إذ هم يمنيّون من كهلان ، ويبدو أنهم بعد هذه الغزوة تقدّم منهم عميس بن عمرو بوفد الى المدينة فأسلموا ، واستكتبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر به فكتب لهم ، وكأنه يبدو من الكتاب أسباب غزوهم أنهم كانوا ذوي إغارة وقتل وحيث قد بدأ النبي بأخذ الزكاة شرح لهم في كتابهم زكاة زروعهم ، قال : «... هذا كتاب من محمّد رسول الله لخثعم من حاضر بيشة وباديتها (١) : انّ كل دم أصبتموه في الجاهلية فهو موضوع عنكم ، ومن أسلم منكم طوعا أو كرها في يده حرث ، من خبار أو عزاز (٢) تسقيه السماء أو يرويه اللثى (٣) فزكا عمارة (٤) في غير أزمة ولا حطمة (٥) فله نشره وأكله (٦)

__________________

(١) كانت خثعم يومئذ ما بين بيشة وتربة وظهر تبالة على طريق الحج من اليمن الى الطائف فمكة ، وبعد فتح مكة انتشروا في الآفاق ولم يبق منهم في مواطنهم إلّا قليل. وترى بيشة في خريطة السعودية من توابع مكة قرب وادي تبالة ، وفيها قرية تبالة ومنازل خثعم حواليها الى شيمران الى الأصفر.

(٢) خبار : الارض الليّنة ، والعزاز بالعكس.

(٣) اللثى : الندى.

(٤) أي عمر وطاب.

(٥) الأزمة : المشكلة ، والحطمة : السنة المجدبة.

(٦) نشره : حصاده ودوسه وتصفيته وتفريقه.

٤٠٩

وعليهم في كل سيح العشر ، وفي كل غرب (١) نصف العشر. شهد جرير بن عبد الله ومن حضر (٢).

وفد الأزد واسلامهم :

الى جانب هؤلاء الخثعميّين اليمنيّين ، كانت تسكن طائفة من أزد اليمن : أزد شنوءة ، إذ كانت منازلهم في بيشة وتربة والصّراة ، فكأن الغارة على الخثعميّين ووفودهم الى المدينة واسلامهم ، بعث هؤلاء الأزديين على مثل ذلك فوفدوا وقدّموا اصغرهم للكلام.

روى ابن عساكر بسنده عن عبد الرحمن بن عبيد الأزدي قال : قدمنا في مائة رجل من قومي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما دنونا منه وأنا أصغرهم فتقدمت وقلت : أنعم صباحا يا محمّد! فقال النبي : ليس هذا سلام المسلمين بعضهم على بعض ، إذا لقيت مسلما فقل : السلام عليكم ورحمة الله. فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

ثم قال لي : ما اسمك ومن أنت؟ قلت : أنا أبو معاوية (كذا) عبد العزّى! فقال : بل أنت أبو راشد عبد الرحمن ، وأجلسني ، فأسلمنا. وكتب لهم : «... من محمّد رسول الله الى من يقرأ كتابي هذا : من شهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمّدا رسول الله ، وأقام الصلاة فله امان الله وأمان رسوله ، وكتب هذا الكتاب العباس بن عبد المطلب» (٣).

__________________

(١) غرب : الدلو.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٦.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧٢ عن كنز العمال ٧ : ١٧ برقم ١٣٦ عن ابن عساكر ، وكذّب راويه النضر بن سلمة ، ومع ذلك ذكر ابن الأثير قدومه وتسميته في اسد الغابة

٤١٠

كتابه الى بني عذرة في اليمن :

في السيرة النبوية سميت السنة التاسعة بسنة الوفود ، وأرّخوا لبعضها انها كانت في العاشرة ، وقلّما ذكروا في التاسعة تاريخا معيّنا ، إلّا لوفود خثعم انها كانت في صفر من التاسعة ، ثم كذلك لهذا الوفد ، ولم يذكروا باعثهم على ذلك ، اللهم إلّا أن يكون اسلام أبناء الفرس في صنعاء اليمن وانتشار الاسلام بينهم هناك كافيا لذلك.

قالوا : وفد زمل بن عمرو العذري من بني عذرة اليمنيين ومعه احد عشر رجلا منهم ، في صفر سنة تسع ، الى المدينة فاسلموا وأقاموا حتى تفقّهوا واستكتب زمل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له على قومه فكتب له :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة ، واني بعثته الى قومه عامة ، فمن اسلم ففي حزب الله ، ومن أبى فله أمان شهرين! شهد علي بن أبي طالب ومحمّد بن مسلمة الأنصاري» (١).

ودعوة لبني حارثة :

واستهل صلى‌الله‌عليه‌وآله شهر ربيع الأول بكتاب الى بني حارثة بن عمرو يدعوهم فيه الى الاسلام ، بعث به إليهم مع عبد الله بن عوسجة البجلي العرني ، فأبوا ، وأخذوا كتابه وكان في أديم فغسلوه ورقّعوا به أسفل دلوهم! فلما سمع النبي بذلك قال : ما لهم؟! أذهب الله بعقولهم! فسفهوا وأصبحوا يستعجلون في كلامهم فيخلطون ويرعدون ويعيون (٢).

__________________

ـ ٣ : ٢٩١ و ٥ : ٢٩٩ والاصابة ٢ برقم ٥١٥٩. والعباس قدم لغزوة تبوك بعد هذا ، ولم يعهد منه كتاب ، وليس في الكتاب زكاة وقد شرّع ، والله أعلم.

(١) مكاتيب الرسول ١ : ٢٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٢ ، ٩٨٣ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٦ برقم ٦ ومثله في ٣٧

٤١١

سرية بني كلاب الى بني بكر :

وكان ممن أسلم وأبوه على شركه : الأصيد بن سلمة بن قرط فقد أسلم وأبوه سلمة على شركه وفي شهر ربيع الأول سنة تسع بعث رسول الله بسريّة الى (بني بكر) بالقرطاء ، عليهم الضحاك بن سفيان الكلابي ومعه الأصيد بن سلمة ، وأبوه سلمة في بني بكر ، فلقوهم في موضع يدعى : زجّ لاوه (بناحية ضريّة) فدعوهم الى الاسلام فأبوا ، فقاتلوهم فهزموهم.

ولحق الأصيد أباه سلمة على فرس له عند غدير زجّ ، فدعا أباه الى الأمان والاسلام ، فسبّه وسبّ دينه ، وكان سلمة قد دخل الغدير على فرسه ، فضرب الابن على عرقوبي فرس أبيه فوقع على عرقوبيه في الماء ، وأمسك الابن أباه حتى يقتله غيره ولا يقتل هو أباه ، فقتلوه (١).

لا طاعة في معصية :

روى ابن اسحاق خبر سرية علقمة المدلجيّ عن أبي سعيد الخدري الى موضع ذي قرد (٢) ورواها الواقدي ـ في شهر ربيع الآخر سنة تسع ـ الى ساحل الشعيبة من سواحل مكة على بحر الحبشة ، في ثلاثمائة رجل ، فيهم أبو سعيد الخدري وعبد الله بن حذافة السهمي ، ولم يلق كيدا فرجع ، فاستأذنه بعضهم للانصراف فأذن لهم وفيهم عبد الله بن حذافة السهمي فأمّره عليهم ، وكانت فيه دعابة. فكان من دعابته أنهم لما نزلوا في منزل ببعض الطريق وأوقدوا نارا ليصطلوا ويصنعوا عليه طعاما لهم ، قال لهم : أليس لى عليكم السمع والطاعة؟!

__________________

ـ برقم ١٧ عن الاصابة برقم ٤٨٧٠ واسد الغابة ٣ : ٢٣٩ ومعجم قبائل العرب : ٨٣١.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٨٩.

٤١٢

قالوا : بلى ، قال أفما أنا آمركم بشيء إلّا فعلتموه؟! قالوا : نعم ، قال : فاني اعزم عليكم بحقّي وطاعتي إلّا تواثبتم في هذه النار! فقام بعضهم يشدّ حجره على خصره يستعدّ للثوب على النار! فقال لهم : اجلسوا ، انما كنت اضحك معكم!.

فلما قدموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكروا ذلك فقال : «من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه»! (١).

سرية علي عليه‌السلام الى بني طيّ :

وفي ربيع الآخر سنة تسع أيضا كانت سرية علي عليه‌السلام الى بني طيء آل حاتم الطائي وابنه عديّ وكان لهم صنم يسمّى الفلس ، وهو في بيت وقد ألبسوه ثيابا وثلاثة دروع وجعلوا معه سيوفا ثلاثة تسمّى : الرسوب والمخذوم واليماني (٢).

روى الواقدي خبرها بسنده عن محمّد بن عمر بن علي عليه‌السلام قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام الى الفلس ليهدمه ويشن عليهم الغارات ، في مائة وخمسين من الأنصار ليس فيهم مهاجر واحد ، معهم خمسون من الابل وخمسون فرسا ، وناوله لواء أبيض وراية سوداء.

فدفع لواءه الى جبّار بن صخر السلمي ورايته الى سهل بن حنيف ، وخرج بدليل من بني أسد يقال له حريث (٣). وكان لزعيمهم عدي بن حاتم الطائي عين بالمدينة ، فلما علم بخبر السريّة أخبر عديّا فهرب إلى الشام (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٨٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٨٣ ، ٩٨٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٤ ، ٩٨٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٨.

٤١٣

وقال ابن اسحاق : بلغني عن عدي بن حاتم أنه كان يقول : كنت ركوسيّا من النصارى (١) فكنت في نفسي على دين! وكنت امرأ شريفا وملكا في قومي يعطونني المرباع (٢) فلما سمعت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كرهته فما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله منّي!.

وكان لي غلام عربي يرعى ابلي ، فقلت له : أعدد لي من ابلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ، ففعل.

وأتاني ذات غداة فقال : اذا غشتك خيل محمّد ما كنت صانعا فاصنعه الآن؟ فاني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمّد. فقلت له : فقرّب جمالي ، فقرّبها.

فاحتملت بأهلي وولدي ، وخلّفت اختي [سفانة] في الحيّ ، وسلكت طريق الشام لألحق بأهل ديني من النصارى (٣).

وسلك بهم دليلهم حريث على طريق فيد (الى جبال طيّء : أجا وسلمى) حتى انتهى بهم الى موضع بينه وبينهم مسيرة يوم ، فقال لهم : نقيم يومنا هذا في موضعنا هذا حتى نمسي ، وانّا إن سرناه بالنهار لقينا رعاءهم وأطرافهم فينذرون فيتفرقون ، بل نسري ليلتنا على متون الخيل حتى نصبّحهم في عماية الصبح فنجعلها عليهم غارة فقبلوا منه الرأي فعسكروا وسرحوا الابل.

وكأن عدي بن حاتم قبل أن ينهزم قد حذر بعضهم أو أنذره ، فعمد رجل منهم من بني نبهان الى عبد له أسود يسمى أسلم فأمره أن يعمد الى ذلك الموضع فإن رأى خيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله طار إليهم يخبرهم ليحذروا.

__________________

(١) كان يقال لقوم بين النصارى والصابئين : الركوسيين ، كما في هامش السيرة.

(٢) كان لقائد القوم قبل الاسلام ربع الغنائم ويقال له المرباع.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٥.

٤١٤

وبعث علي عليه‌السلام نفرا منهم أبو نائلة وأبو قتادة والحباب بن المنذر ليتقصّوا ما حولهم ، فأصابوا الغلام الأسود ، فقالوا له : ما أنت؟ قال : أطلب بغيتي! فكتفوه واتوا به عليا عليه‌السلام فقال له : ما أنت؟ قال : باغ! فشدوا عليه فقال : أنا غلام لرجل من طيّء من بني نبهان أمرني بهذا ، فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم ولكنني قلت في نفسي : لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بيّن من عددكم وعدد خيلكم وركابكم ، فكأني كنت مقيدا حتى أخذتني طلائعكم.

فقال له علي عليه‌السلام : اصدقنا ما وراءك؟ قال : أوائل الحيّ على مسيرة ليلة طويلة ، تصبحهم الخيل بالغارة غدوة. فقال علي عليه‌السلام لأصحابه : ما ترون؟ فقال له صاحب لوائه جبّار بن صخر : نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا هذه حتى نصبّح القوم وهم غافلون فنغير عليهم. ونخلّف حريثا الدليل مع العسكر ليلحقنا بهم ، إن شاء الله.

فركب فرسانهم الأفراس واردفوا معهم العبد الأسود أسلم مكتوفا ، فلما اوغلوا في الطريق ادّعى أنه قد أخطأ الطريق وتركه وراءه ، فقال علي عليه‌السلام : فارجع الى حيث اخطأت ، فرجع ميلا أو أكثر فقال : أنا على خطأ! فقال له علي عليه‌السلام : إنا منك على خدعة ، ما تريد إلّا أن تثنينا عن الحيّ ، لتصدقنا أو لنضربنّ عنقك ، وسلّ السيف على رأسه ، فلما رأى الشرّ قال : فان صدقتكم نفعني ذلك؟! قالوا : نعم. فقال : فأنا أحملكم على الطريق ، والحي قريب منكم.

فخرج معهم حتى انتهى بهم الى ادنى الحيّ ، فقال لهم : هذه الأصرام ، أي الجموع ، وهم على فرسخ (٥ كم) فقالوا : فأين آل حاتم؟ قال : هم متوسطو الأصرام.

فقال بعضهم لبعض : إن أفزعنا الحيّ تصايحوا وأفزع بعضهم بعضا فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل ، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر قريبا فنغير عليهم ، فان أنذر بعضهم بعضا لم يخف علينا أين يأخذون ، ونحن على متون الخيل ولا خيل لهم يهربون عليها.

٤١٥

فلما طلع الفجر أغاروا عليهم فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا واستاقوا الذريّة والنساء وجمعوا النعم والشاء ، ولم يخف عليهم احد تغيّب ، ومعهم اخت عدي.

ورأت جارية منهم عبدهم أسلم وهو موثق ، فقالت : هذا عمل رسولكم أسلم فهو جلبهم عليكم ودلّهم على عورتكم! فقال لها الأسود : اقصري يا ابنة الاكارم ، فما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي! ثم التفت الى علي عليه‌السلام وقال له : ما تنتظر لإطلاقي؟ قال عليه‌السلام : تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمّدا رسول الله ، فقال : أنا على دين قومي وهؤلاء الاسرى ، أصنع ما صنعوا ، قال عليه‌السلام : ألا تراهم موثّقين؟! فنجعلك معهم في رباطك؟ قال : نعم! أنا مع هؤلاء موثقا أحبّ إليّ من أن أكون مع غيرهم مطلقا! فأنا معهم حتى ترون فيهم ما ترون! فطرح معهم.

ولحق بهم العسكر المخلف مع الدليل حريث الاسدي ، فاجتمع جمعهم.

وجمعوا الأسرى فعرضوا عليهم الاسلام ، فمن أسلم ترك ، ومن أبى ضربت عنقه ، حتى أتوا على الأسود فعرضوا عليه الاسلام فاستسلم للموت وقال : والله إن الجزع من السيف للؤم! فقال له رجل ممن أسلم منهم : ألا كان هذا حيث اخذت! فلما قتل من قتل منّا وسبي من سبي ، وأسلم من أسلم تقول ما تقول! ويحك أسلم واتّبع دين محمّد! فقال أسلم : فاني أسلم وأتّبع دين محمّد ، فأسلم فسلم وترك.

وسار علي عليه‌السلام الى بيت صنمهم الفلس ، وعليه ثياب ألبسوه ودروع ثلاثة وثلاثة أسياف ، فهدمه وخرّب بيته.

وجعل علي عليه‌السلام على السبي أبا قتادة ، وعلى الأثاث والماشية عبد الله بن عتيك السلمي. ثم ساروا حتى نزلوا محلة من محال جبل سلمى تسمى ركك ، فعزل سيوف الفلس صفايا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع خمس الغنائم ، وعزل من السبي اخت عدي بن

٤١٦

حاتم ونساء معها من آل حاتم ، ثم اقتسموا الغنائم والسبي ، ثم قدموا بهم الى المدينة فانزلت اخت عدي دار رملة بنت الحارث (١).

حديث سفانة الطائية :

وروى ابن اسحاق عن عديّ عن اخته قالت : كان بباب المسجد حضيرة تحبس السبايا فيها ، فكنت فيها ، فمرّ بي رسول الله فقمت إليه فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك! قال : من وافدك؟ قلت : عديّ بن حاتم. قال : الفارّ من الله ورسوله؟! ثم تركني ومضى. فلما كان الغد مرّ بي فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس!

حتى اذا كان بعد الغد مرّ بي ، ولكني يئست منه فلم أقم ، وكان خلفه رجل أشار الي أن قومي فكلّميه. فقمت إليه فقلت ما قلت فقال : قد فعلت ، ثم قال : فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك الى بلادك فآذنيني. فسألت عن الرجل الذي أشار الي أن اكلّمه ، فقيل لي : هو علي بن أبي طالب.

وأقمت حتى قدم ركب من بليّ أو قضاعة. فذهبت الى رسول الله فقلت له : يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. فكساني رسول الله وأعطاني ناقة ونفقة ، فخرجت معهم الى الشام.

قال عديّ : فبينا أنا في أهلي واذا بظعينة تؤمّ صوبنا حتى وقفت علي فاذا هي ابنة حاتم اختي [سفانة] فأخذت تقول لي : الظالم القاطع! احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك! فقلت لها : اي اخية لا تقولي إلّا خيرا فو الله مالي من عذر! لقد صنعت ما قلت ثم سألتها عن رسول الله فقلت لها : ما ترين في أمر

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٥ ـ ٩٨٨.

٤١٧

هذا الرجل؟! قالت : والله أرى أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيّا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكا فلن تذلّ في عز اليمن وأنت أنت. فقبلت قولها.

اسلام عدي الطائي :

ثم خرجت حتى قدمت المدينة على رسول الله في مسجده فسلّمت عليه. ثم قال لي : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم. فانطلق بي الى بيته ... إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته لحاجتها ، وأخذت تكلّمه في حاجتها طويلا وهو واقف لها! فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك!

ولما دخل بي بيته [وأنا كافر] تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إليّ وقال لي : اجلس على هذه. فقلت : بل اجلس عليها أنت ، فقال : بل أنت فجلست عليها وجلس رسول الله بالأرض! فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك!.

ثم قال لي : ايه يا عديّ بن حاتم ، ألم تكن ركوسيّا؟! قلت : بلى. قال : أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت : بلى. قال : فانّ ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك! قلت : أجل والله. وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل!

ثم قال : يا عدي ، لعلك انما يمنعك من دخول هذا الدين : ما ترى من حاجتهم؟! فو الله ليوشكنّ أن يفيض المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه!

ولعلّك إنمّا يمنعك من الدخول فيه : ما ترى من قلّة عددهم وكثرة عدوّهم؟! فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف! ولعلّك انما يمنعك من الدخول فيه : أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم؟! وايم الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم!

قال عدي : فأسلمت (١).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧ واختصر خبره الطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢٥٢.

٤١٨

وفاة النجاشي وصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال الكازروني في سياق حوادث السنة التاسعة : وفي شهر رجب من هذه السنة توفي النجاشي أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون ، وكان قد أسلم فنعاه رسول الله الى المسلمين (١).

ويبدو أن ذلك كان في أوائل شهر رجب ، حيث سنستظهر أن خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك كان في أواخر شهر رجب ، وسيأتي أن الذي أثار الخروج الى تبوك اشاعة قوافل تجارة الميرة الشامية أن الروم يتجهّزون لغزو المدينة ، فلعلّ ذلك كان بعد انتشار أخبار وفاة حاميه النجاشي أصحمة ، حيث رأوا أن الوقت موات لا شاعة مثل تلك الشائعات ، وفي المقابل رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الوقت موات لإعداد القوة ليرهب بها أعداء الإسلام في مسير المدينة الى الشام.

ولعلّه يشهد لذلك ما رواه الحلبي عن قتادة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما مات النجاشي نعاه جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجمع الناس في البقيع وكشف له من المدينة الى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي (جنازته) فصلى عليه ... وما علم هرقل بموته إلّا من تجار رأوا المدينة. وقال : وجاءت الأخبار من كل جانب : أنّه مات في تلك الساعة من ذلك اليوم (٢).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن العسكري عليه‌السلام قال : لما أتى جبرئيل رسول الله ينعى النجاشي بكا عليه وقال : مات أخوكم أصحمة ، وهو اسم النجاشي ، ثم خرج الى الجبّابة (المقبرة) فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته بالحبشة فصلّى عليه وكبّر سبعا (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٨ عن المنتقى في أحوال المصطفى للكازروني.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٠٧.

(٣) الخصال ٢ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ مع اختلاف يسير.

٤١٩

ذكر ابن اسحاق في الرسل الذين أرسلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الامراء والملوك : المهاجرين أبي أميّة المخزومي أخا أم المؤمنين أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : بعثه الى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن (١) ثم ذكر وصول جوابه وجواب أخويه النعمان ونعيم عند رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك (٢) مما يعني أن ارسال الرسول والكتاب كان قبل رحيله الى تبوك.

ويلاحظ : أن الكتاب الذي يذكره ابن اسحاق ليس إلّا للحارث بن عبد كلال ، ولكنّه يذكر الجواب عنه وعن أخويه ويصفهم انهم ملوك ذي رعين ومعافر وهمدان. بينما الخبر المعتبر في اسلام همدان ليس هكذا ، بل سيأتي أنّه كان على يد علي عليه‌السلام ، ثم في هذا الخبر عن ابن اسحاق ذكر الزكاة والجزية وقتالهم المشركين لديهم مما لا ذكر له ولا أثر في سائر الأخبار ، مما يستبعد جدّا.

إسلام الزبيدي وارتداده وتوبته :

مرّ في شهر صفر للسنة التاسعة للهجرة وفود جمع من خثعم بناحية تبالة من أطراف الطائف ، وإسلامهم. وكان رجل من خثعم يدعى أبي بن عثعث الخثعمي قد قتل أبا عمرو معد يكرب الزبيدي.

وانتهى الى بني زبيد وبني مراد في بلاد اليمن أمر رسول الله ، فدخل عمرو بن معد يكرب على قيس بن مكشوح المرادي سيد مراد وقال له : يا قيس ، قد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له : محمد ، قد خرج بالحجاز يقول إنّه نبيّ ، وإنّك سيد قومك فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فان كان نبيّا كما يقول فانه لا يخفى عليك ، وإذا لقيناه اتّبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٥ واليعقوبي ٢ : ٧٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٥ ، واليعقوبي ٢ : ٨٠.

٤٢٠