موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

ولعلّه سمع بوعيد النبيّ وتهديده لهم فتأثّر به ، فخرج إليه ليسلم. قال الواقدي : يقال : إنّه لحق به بين مكة والمدينة فأسلم ، والأثبت أنه قدم المدينة فأسلم ، (فلعلّه كان في شهر ذي الحجة أواخر السنة الثامنة للهجرة).

وكان الرجل يرى نفسه مهيبا عندهم يقول : لو وجدوني نائما ما أيقظوني! ومحبوبا جدّا يقول : يا رسول الله لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! وكان سبّاقا إلى كل شيء ، فأراد أن يسبقهم إلى الإسلام ، ودعوتهم إليه ، فقال للنبيّ : يا رسول الله ، ائذن لي أن أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، فو الله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب : فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم ، وما قدم وافد قطّ على قومه بمثل ما قدمت به! وقد سبقت في مواطن كثيرة يا رسول الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم إذا قاتلوك! قال : يا رسول الله ، لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! فلم يأذن له.

ثم استأذنه ثانية ، فأعاد عليه كلامه الأول. فقال : يا رسول الله ، لو وجدوني نائما ما أيقظوني! فلم يأذن له.

ثم استأذنه ثالثة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن شئت فاخرج. فطار إلى الطائف مسرعا في خمسة أيام ، فقدمها عشاء.

وكانوا إذا قدموا من السفر بدءوا بآلهتهم اللات وحلقوا رأسهم عندها ، فلم يفعل.

فجاؤوه وحيّوه بتحيتهم : أنعم مساء! فلم يرد عليهم بمثلهم ولم يقل : عليكم السلام ، ولكنّه قال : عليكم تحية أهل الجنة! ثم قال لهم : يا قوم ، أتتّهمونني؟ ألستم تعلمون أني أوسطكم (أشرفكم) نسبا! وأكثركم مالا! وأعزّكم نفرا! فما حملني على الإسلام إلّا أني رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب! فاقبلوا نصحي ولا تستعصوني! فو الله ما قدم وافد على قوم بأفضل مما قدمت به عليكم! فقالوا : إنّك حيث لم تقرب الربّة اللات ولم تحلق رأسك عندها قد وقع في أنفسنا أنّك قد صبوت (ملت إلى الإسلام) فنالوا منه وآذوه ، فحلم عليهم.

٣٤١

وطلع الفجر ، فصعد على غرفة له فأذّن بالصلاة! فرماه أوس بن عوف من بني مالك ، أو وهب بن جابر من الأحلاف ، فأصاب أكحله (عرق يده) فلم ينقطع دمه ، ورأى قومه أعدوا أسلحتهم لينتقموا له فيأخذوا بثاره فقال لهم : لا تقتتلوا فيّ ، فانّي قد تصدّقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك بينكم ، فهي كرامة الله أكرمني الله بها : الشهادة ساقها الله إليّ ، وأشهد أنّ محمدا رسول الله فإنّه أخبرني بهذا عنكم : أنكم تقتلونني! وادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا معه قبل أن يرتحل عنكم. ثم مات رحمه‌الله.

فقال لهم ابنه أبو مويلح ابن عروة : لا اجامعكم على شيء أبدا وقد قتلتم عروة! وتابعه ابن عمّه قارب بن الأسود بن مسعود (وهو قائد الأحلاف من ثقيف في يوم حنين) وعملا بوصيّة عروة فدفنوه مع الشهداء. ثم لحقا بالمدينة فأسلما لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما علم النبيّ بمقتل عروة قال : مثل عروة مثل أصحاب ياسين (في سورة يس) دعا قومه إلى الله فقتلوه! ثم نزلا على المغيرة بن شعبة الثقفي (١).

ووفاة ابنته زينب :

وهي زوجة ابن خالتها أبي العاص بن الربيع الاموي ، ولها منه عليّ وأمامة (٢) وكانت حاملا وهاجرت فطعن محملها هبار بن الأسود فطرحت ، وأسلم زوجها أبو العاص فعادت إليه ، ولم تحمل منه لعلّتها بعد إسقاطها ، وخرج زوجها معه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة ثم حنين ، وكان مع علي عليه‌السلام في سريّته إلى خثعم في ضواحي الطائف

__________________

(١) حتى أسلم أهلهم في الطائف فرجعوا معهم. مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٠ ـ ٩٦٢.

(٢) فأما علي فمات في ولاية عمر ، وأما أمامة فهي التي أوصت فاطمة عليا عليهما‌السلام أن يتزوّجها بعدها ، فتزوّجها بعدها بخمسين يوما ، وماتت سنة خمسين. بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ ، ١٨٤ عن الباب الثامن من المنتقى للكازروني.

٣٤٢

كما مرّ ، فما مرّ على عودته معه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة إلّا أياما حتى توفيت زوجته زينب ، فصلّت فاطمة على اُختها زينب (١).

وما ذا نزل من القرآن؟ :

مرّ في مقدّمات أخبار فتح مكة نزول سورة النصر تبشّر بالنصر في فتح مكة ، وفي الوقت نفسه تنذره بدنوّ أجله وتنعى إليه نفسه ، وكأنّه لا ينبغي أن يكون له في هذه الدنيا الفرح إلّا مخالطا بالحزن والترح ، بل كأنها بشارة اخرى باقتراب انتهاء أتعابه وراحته!

سورة النور :

والسورة التالية في النزول سورة النور (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ثم بيّنت حدّ الزنا في قوله سبحانه : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ...).

ونجد بشأنها في تفسير القمي : هي ناسخة لقوله سبحانه : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(٢).

ويبدو أنّه يعني بالنسخ هنا ما جاء في «الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : وسورة النور انزلت بعد سورة النساء ، وفيها : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ)

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٨٥ ح ١٨٨٠ ، والتهذيب ٣ : ٣٣٣ ح ١٠٤٣. وفي اعلام الورى ١ : ٢٧٦ : أنها توفيت في السابعة ولعلّه هو الراجح ، وأن فاطمة ولدت ابنتها زينب بعد وفاة اُختها زينب ، فسمّت ابنتها اُختها ، وفاءً لها وتخليداً لذكرها.

(٢) النساء : ١٥ والخبر في تفسير القمي ٢ : ٩٥.

٣٤٣

إلى قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) قال : فالسبيل هو الذي قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما)(١).

وبخلاف ما يتوقّع لا نجد فيما بأيدينا أيّ خبر عن سبب نزول السورة أو الآية أو شأنهما ، اللهم إلّا ما نجده بشأن الآية التالية : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

فقد قال القمي في تفسيره : نزلت هذه الآية في نساء في مكة كنّ مستعلنات بالزنا : سارة ، وحنتمة ، والرّباب ، فحرّم الله نكاحهنّ (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في أصحاب الرايات ، فأمّا غيرهن فانه يجوز أن يتزوّجها .. ويمنعها من الفجور (٤).

وقال : وروي ذلك عن عبد الله بن عباس وابن عمر : أنّ رجلا من المسلمين استأذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوج امرأة من أصحاب الرّايات للسفاح ، فأنزل الله الآية .. وبه قال مجاهد والشعبي والزهري ، وأنّ التي استؤذن لها : أمّ مهزول (٥).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» ما ذكره الطوسي وزاد عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قال : هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشهورين بالزنا ، فنهى الله عن اولئك الرجال والنساء على تلك المنزلة (٦).

__________________

(١) عن الكافي في الميزان ١٥ : ٨٣.

(٢) النور : ٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٩٥ ، ٩٦.

(٤) التبيان ٧ : ٤٠٨. وعليه يحمل قوله سبحانه في الآية : ٢٦ من السورة نفسها أي بعد ٢٣ آية : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) كما في مجمع البيان ٧ : ٢١٣.

(٥) التبيان ٧ : ٤٠٧.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١٩٧ ، ١٩٨ والخبران عنهما هو ما رواه الكليني عن محمد بن سالم

٣٤٤

وخبر القمي صريح في نساء مكة ، وكذلك ظاهر ما بعده ، مما يقتضي نزول الآية بعد فتح مكة ، ولم يذكر. ولا يتنافى ذلك مع مدنية السورة على المصطلح المعروف. وعدم ذكر سبب خاص لنزول السورة أو هذه الآيات منها ، ومناسبة أجواء مكة الجاهلية وأصحاب الرايات فيها ، وتأكيده صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة النساء بعد فتح مكة على اجتناب الزنا ، وورود نزول سورة النور بعد النصر وقبل الحجرات في أوّل التاسعة .. كل ذلك مما يقرّب احتمال نزول السورة بعد الفتح ، وإن كان لم يذكر.

وفي «أسباب النزول» للواحدي النيشابوري خبر عن عكرمة (عن ابن عباس ظ) فيه تفصيل عن بغايا مكة قال : نزلت الآية : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) في نساء بغايا مكة (١) وكنّ كثيرات ، تسع منهن صواحب رايات ، لهنّ رايات كرايات البيطار يعرفونها : أم مهدون (ـ أم مهزول) جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأمّ غليظ جارية صفوان بن اميّة المخزومي ، وقرينة (ـ فرتنه) جارية هشام بن ربيعة المخزومي ، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وحيّة القبطية جارية العاص بن وائل السهمي ، وجلالة جارية سهيل بن عمرو العامري ، وشريفة جارية زمعة بن الأسود ، ومرية جارية ابن مالك بن السبّاق (٢).

أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومارية ، في غيبته وبعد عودته :

في يوم الجمعة الثاني من شهر رمضان بعد صلاة العصر خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة (٣)

__________________

ـ عن الباقر ، وعن زرارة عن الصادق عليهما‌السلام ، كما في الميزان ١٥ : ٨٣ ، ٨٤.

(١) في الخبر : والمدينة ، ثم لم يذكر إلّا بغايا مكة ، والنزول لا بدّ أنه كان في أحدهما وهي مكة.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٦١.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٥.

٣٤٥

لفتح مكة ، ولم يعد إليها إلّا بعد ثلاثة أشهر : لثلاث بقين من ذي القعدة يوم الجمعة أيضا (١) وإنّما أخرج معه من أزواجه زينب وأمّ سلمة (٢) وخلّف سائر نسائه ومنهنّ مارية القبطية أمّ ابراهيم في مشربتها في العالية (٣) ، ومعها مولاها أو ابن عمّها مأبور أو جريج القبطي الذي بعثه معها أبوها أو مقوقس الاسكندرية ، خادما ، خصيا بل مجبوب الذكر (٤) وذلك ليؤمن منه عليها.

وأما سبب إفرادها في مشربتها في العالية فقد ورد على لسان ضرّتها عائشة :

فقد روى ابن سعد بسنده عنها قالت : انّها (مارية) كانت جعدة جميلة ، فاعجب بها رسول الله .. فما غرت على امرأة إلّا دون ما غرت عليها .. وفرغنا لها (لإثارتها وايذائها وإزعاجها!) فجزعت ، فحوّلها رسول الله إلى العالية

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٠ و ٩٧٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٦.

(٣) قال عبد الرحمن خويلد في كتابه المساجد والأماكن الأثرية المجهولة : كان موقع مشربة أم إبراهيم يسمّى قديما بالدشت ويصغّر بالدشيت ، وكان بستانا فيه بئر لليهودي مخيريق بن النضير الذي قاتل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم احد وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء ، وقتل. وفي وسطها ربوة مرتفعة وكان عليها غرفة من الحجر. ولما ولّي عمر بن عبد العزيز ابن مروان المدينة بنى عليها مسجدا غرفة من الحجر كذلك وأزالها الوهابيون أخيرا (قبل ست سنين تقريبا) وكان للمشربة باب خشبي قديم اخضر اللون فأبدلوه بباب حديدي ، وجعلت مقبرة لدفن موتى المحلّ ، ويصعب الدخول إليها إلّا لذلك! وهي على امتداد شارع العوالي بعد مستشفى الزهراء باتجاه مستشفى المدينة الوطني بسبعمائة متر تقريبا مقابل انتاج الميمني للطوب الأحمر. كما عنه في مجلة ميقات الحج ٧ : ٢٧٣ ، ٢٧٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣١٨ وأمالي المرتضى ١ : ٧٧. وصحيح مسلم ٨ : ١١٩ ط مشكول. والطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ و ١٥٥. ومستدرك الحاكم ٤ : ٣٩ ، ٤٠.

٣٤٦

يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه (١) وإنما كان ذلك منذ ظهور حملها :

فقد روى أيضا بسنده عن أنس بن مالك عن عائشة قالت : فلما استبان حملها فزعت من ذلك! (٢) ومعها سائر نسائه :

فقد روى أيضا بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : وثقلت (مارية) على نساء النبيّ وغرن عليها ، و (لكن) لا مثل عائشة (٣).

فكان من جرّاء هذا وذاك : ما رواه ابن سعد أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال : كان القبطيّ يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب ، فقال الناس : علج يدخل على علجة! (٤).

بل روى الحاكم في مستدركه بسنده عن عائشة نفسها قالت : كان معها ابن عمّها ، فقال أهل (الإفك) والزور : من حاجته (محمد) إلى الولد ادّعى ولد غيره (٥) حملا!

واستبانة حملها وإن كان ـ طبيعيا ـ في أوائل شهرها الخامس شهر رجب من الثامنة ، أي قبل بدء سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة في أوائل شهر رمضان ، بشهرين (٦) ، ولكن تصاعد آثاره وتفاقمها كأنّه كان في فترة غيبته عنها وعنهنّ وعن المدينة ـ وفيها

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى ١ (القسم الأول) : ٨٨.

(٣) الطبقات الكبرى ١ (القسم الأول) : ٨٢.

(٤) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ والعلج : العجمي وهو غير العربي ولو كان قبطيا مثلا.

(٥) مستدرك الحاكم ٤ : ٣٩.

(٦) ذلك أن ولادتها لإبراهيم كانت ـ كما يأتي ـ في أوائل شهر ذي الحجة.

٣٤٧

النفاق والضغينة ـ بسفرته التي طالت ثلاثة أشهر ، وهي فترة كافية لأيّ إرجاف وإشاعة مغرضة. فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ عاد من سفرته تلك إلى مدينته ، عاد إليها وهي كأنّها تغلي كالمرجل بهذه الإشاعة القبيحة! ولا نعرف وصف حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بلغت إلى مسامعه؟! ولا نعلم مدى وقعها في نفسه الشريفة؟!

حديث الإفك :

مرّ علينا آنفا الخبر عن ابن سعد بسنده عن أنس بن مالك : أن الناس قالوا في القبطي الذي كان يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب : علج يدخل على علجة (١).

وكذلك خبر الحاكم في مستدركه عن عائشة قالت : كان معها ابن عمّها فقال أهل (الإفك) والزور : من حاجته (محمد) إلى الولد ادّعى ولد غيره! (٢).

ولا ريب أن هذا (الإفك) والزور من رمي المحصنة المؤمنة مارية القبطيّة من مصاديق قوله سبحانه في الآية الرابعة من سورة النور النازلة في هذه الفترة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ..) إلّا أننا لا نرى أيّ خبر عن شأن نزولها وتطبيقها بشأن مارية.

حكم اللعان :

ولعلّ من حكم الله في تلك الفترة ما جاء في الآيات التاليات من السادسة إلى العاشرة من السورة في حكم من يرمي زوجته ولا شاهد له ، وفي سبب نزولها :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ والعلج : العجمي.

(٢) مستدرك الحاكم ٤ : ٣٩.

٣٤٨

روى القمي في تفسيره : أنه لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة تبوك (في التاسعة ، كذا) جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني الأنصاري فقال : يا رسول الله ، إنّ امرأتي زنى بها شريك بن السمحاء وهي منه حامل! فأعرض عنه رسول الله ، فأعاد عليه القول ، فأعرض عنه ، حتى فعل ذلك أربع مرات. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخل منزله ، فنزلت عليه آيات اللعان.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلى بالناس العصر ، ثم طلب عويمر فقال له : ايتني بأهلك! فقد أنزل الله فيكما قرآنا! فذهب إليها وقال لها : إنّ رسول الله يدعوك!

وكانت شريفة في قومها ، فجاءت وجاء معها جماعة منهم ، فلما دخلوا عليه المسجد قال رسول الله لعويمر : تقدّما إلى المنبر والتعنا. قال عويمر : كيف أصنع؟

قال : تقدّم وقل : أشهد بالله أنّي لمن الصادقين فيما رميتها به. فتقدّم وقالها ، فقال له رسول الله : أعدها ، حتى فعل ذلك أربع مرّات ، ثم قال له في الخامسة : (وقل :) عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، فقال ذلك ، فقال له رسول الله : إنّ اللعنة لموجبة إن كنت كاذبا! ثم قال له : تنحّ. فتنحّى.

ثم قال لزوجته : تشهدين كما شهد ، وإلّا أقمت عليك حدّ الله! فنظرت في وجوه قومها فقالت : لا اسوّد هذه الوجوه في هذه العشية! ثم تقدّمت إلى المنبر وقالت : أشهد بالله أنّ عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني به! فقال لها رسول الله : أعيديها ، فأعادتها أربع مرّات ، ثم قال لها رسول الله في الخامسة : فالعني نفسك إن كان من الصادقين فيما رماك به! فقالت ذلك ، فقال لها : ويلك! إنّها موجبة إن كنت كاذبة!

ثم قال رسول الله لزوجها : اذهبى ، فلا تحلّ لك أبدا! فقال : يا رسول الله ، فمالي الذي أعطيتها؟! فقال : إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه ، وإن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. ثم قال : إن جاءت بالولد جعد قطط أخفش العينين

٣٤٩

(ضعيفهما) أحمش الساقين (دقيقهما ، وهي أوصاف شريك الأعرابي الذي رماها به زوجها) فهو للأمر السيّئ! وإن جاءت به أصهب (الشعر ـ أشقره) أشهل (العين ـ سواد بزرقة وهي أوصاف عويمر) فهو لأبيه (١).

وروى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس : أنّ الآية نزلت في هلال بن اميّة وزوجته. وهو ما رواه الطبرسي في «مجمع البيان» عن عكرمة عن ابن عباس قال (لما نزلت الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)) قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه حتى آتي بأربعة شهداء؟! فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب! فإن قلت ما رأيت إنّ في ظهري لثمانين جلدة!

فقال النبي للأنصار : يا معشر الأنصار ، ما تسمعون إلى ما قال سيّدكم؟! فقالوا : لا تلمه فانه رجل غيور ما تزوّج امرأة قط إلّا بكرا! ولا طلّق امرأة له فاجترى منّا رجل أن يتزوّجها! فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، بأبي أنت وامّي ، والله انّي لأعرف أنها من الله ، وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، لما أخبرتك.

فقال : فانّ الله يأبى إلّا ذلك. فقال : صدق الله ورسوله.

وعن الحسن أنّه قال : أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله ، تقتلونه؟! وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين؟! أفلا يضربه بالسيف؟! فقال رسول الله : كفى بالسيف شاه ـ أراد أن يقول شاهدا ـ ثم أمسك وقال : لو لا أن يتابع فيه السكران والغيران.

وعن الضحاك عن ابن عباس قال : وقال عاصم بن عدي : يا رسول الله ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٩٨ ، ٩٩ والاستدلال بالأوصاف قضية في واقعة ولا حجية فيها فلا يقاس عليها.

٣٥٠

إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين ، وإن التمس أربعة شهداء كان الرجل قد قضى حاجته ثم مضى! قال : كذلك انزلت الآية يا عاصم!

فخرج إلى منزله ، فاستقبله هلال بن اميّة يسترجع! فقال له عاصم : ما وراءك؟ قال : شرّ ، وجدت شريك بن سمحا على بطن امرأتي خولة! فرجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره هلال بالذي كان (١).

فقال : انّي جئت أهلي عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته باذني! فكره ذلك رسول الله حتى رأى ذلك هلال فقال : إنّي لأرى الكراهة في وجهك ، والله يعلم أنّي لصادق ، وأنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجا من ذلك. وهمّ رسول الله بضربه ولكن أخذته حالة الوحي فأنزل الله تعالى قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لهلال : يا هلال ، أبشر ، فإنّ الله تعالى قد جعل ذلك فرجا! فقال : قد كنت أرجو ذاك من الله تعالى. فقال : أرسلوا إليها (٢).

فقال لها : ما يقول زوجك؟ فقالت : يا رسول الله ، إنّ ابن سمحا كان يأتينا فينزل بنا فيتعلم الشيء من القرآن ، فربما تركه زوجي عندي وخرج ، فلا أدري أدركته الغيرة؟ أم بخل عليّ بالطعام! (٣).

فلاعن بينهما ، فلما انقضى اللعان فرّق بينهما وقضى : أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها. ثم قال : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢٠١.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٠٢.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٠١.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢٠٢.

٣٥١

وهذه الأخبار كما رأينا ليس فيها ما كان في خبر القمي : بعد غزوة تبوك ، بل فيها أن ذلك كان بعد نزول آيتي القذف ، وظاهرها الاتصال أو قريب منه. وكما مرّ فلعلّه كان من حكم الله ما جرى لهذين الزوجين ليكون عبرة للآخرين في تلك الفترة.

آيات الإفك :

ثم تبدأ آيات الإفك من أوّل الآية الحادية عشرة إلى آخر الآية السادسة والعشرين ، وقال الطباطبائي : روت الشيعة أن المقذوفة في قصة الإفك هي مارية القبطية أمّ ابراهيم التي أهداها المقوقس ملك الاسكندرية إلى النبيّ (١).

ومن قبل قال القمي في تفسيره : وروت الخاصة : أنّها نزلت في مارية القبطية وما رميت به (٢).

ولعلّ هذه الآيات هي بشارة جبرئيل عليه‌السلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الله قد برّأ مارية ، وأن الذي في بطنها هو غلام منه وأشبه الخلق به.

فيما رواه المتقي الهندي في «كنز العمال» عن معجم الطبراني أنّه قال لعمر بن الخطّاب : ألا اخبرك يا عمر؟! إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني : أنّ الله ـ عزوجل ـ قد برّأ مارية وقريبها ، مما وقع في نفسي ، وبشّرني : أنّ في بطنها غلاما منّي ، وأنّه أشبه الخلق بي! وأمرني أن اسمّيه ابراهيم (٣).

__________________

(١) الميزان ١٥ : ٨٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٩٩.

(٣) كنز العمال ٦ : ١١٨ في دلائل الصدق ٣ القسم الثاني : ٢٦.

٣٥٢

مولد ابراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وذات ليلة في ذي الحجة أواخر السنة الثامنة للهجرة ، أخذ مارية القبطية داء الطلق ، فأسعفتها مولاته سلمى زوجة مولاه أبي رافع القبطي ..

ففي تلك الليلة كان أن هبط عليه جبرئيل عليه‌السلام فسلّم عليه بما أوحى إليه بميلاد وليده وتسميته إذ قال له : السلام عليك يا أبا ابراهيم! فبشّره بذلك بمولده ، فبشّر هو صلى‌الله‌عليه‌وآله من حضره فقال : ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي : ابراهيم عليه‌السلام.

وخرجت سلمى إلى زوجها أبي رافع فأخبرته : بأنها (مارية) قد ولدت غلاما. وجاء أبو رافع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فبشّره بأنّها قد ولدت غلاما ، فسمّاه : ابراهيم ، ووهب لأبي رافع عبدا!

وفي اليوم السابع عقّ عنه ، وحلق رأسه فتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين ، وأمر بشعره فدفن. ودفعه رسول الله للرضاع إلى أمّ بردة بنت المنذر زوجة البراء بن أوس الأنصاري الخزرجي ، فكان يذهب إليها فيزور ابنه ويقيل هناك.

ثم دفعه للحضانة إلى أمّ سيف امرأة أبي سيف من موالي المدينة (١).

فلو حزن صلى‌الله‌عليه‌وآله لفقد ابنته المظلومة العليلة زينب ، فقد سرّه الله بمولد ولده إبراهيم ، وإن كان مزيجا بألم الإفك من أهل الإفك والزور كما قال هو : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (٢) وكأنه لذلك سلّاه الله ومن معه بقوله سبحانه :

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ عن المنتقى للكازروني ، ونقل أكثره اليعقوبي ٢ : ٨٧ والطبري ٣ : ٩٥ عن الواقدي في غير المغازي.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٢٥٢ ، ح ١ و ٢ و ٤ و ٢٩.

٣٥٣

(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(١). «وخاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع ، فيعظهم ويذكّرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة ، حتى يحتاطوا لدينهم ويتفطّنوا لما يهمّهم ... فانّ المجتمع الصالح من سعادته أن يتميّز فيه أهل الزيغ والفساد ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، وينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم» (٢).

آيات الاستيذان :

ومن الآية ٢٧ حتى ٢٩ ثلاث آيات في الاستيذان لدخول البيوت ، ولا نجد في أخبار أسباب النزول سببا خاصا لنزولها.

ومرّ علينا ما رواه ابن سعد بسنده عن أنس بن مالك قال : كان القبطيّ يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب ، فقال الناس : علج يدخل على علجة (٣).

فيرجح في النظر أن تكون آيات الاستيذان لدخول البيوت مرتبطة بما قبلها بهذه المناسبة اتّقاء لموارد الشبهات ودرءا وتحديدا لها.

آيتا إيجاب الحجاب :

والآيتان ٣٠ و ٣١ آيتا ايجاب الحجاب : على الرجال أن يحفظوا فروجهم ولا ينظروا إلى سوى محارمهم ، وعلى المؤمنات أن لا ينظروا إلى سوى محارمهم وما يجوز لهم ، وأن يضربن على رءوسهن وجيوبهنّ بخمرهنّ ليخفين زينتهن إلّا ما ظهر منها.

__________________

(١) النور : ١١.

(٢) الميزان ١٥ : ٩٠.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤.

٣٥٤

وفي شأن نزول الآيتين روى الكليني في «الكافي» عن الباقر عليه‌السلام قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة ـ وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ ـ فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق بني (فلان ، سمّاه الإمام ونسيه الراوي : سعد الإسكاف) وجعل ينظر خلفها ، فاعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتينّ رسول الله ولاخبرنّه. فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ)(١).

ولو أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح فليس من ممتنع الجمع أن نجمع في سبب نزول آيتي الحجاب بين ما جاء في هذا الخبر عن الباقر عليه‌السلام وبين أن يكون ذلك أيضا بمناسبة قضيّة مارية القبطيّة.

ولعلّه يصلح شاهدا لهذا الجمع : ما جاء في تعداد المحارم في الآية : (... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ...) وقد روى الطوسي عن الشعبي وعكرمة في قوله : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) قالا : هو العنّين الذي لا حاجة له في النساء لعجزه (٢) وروى الطبرسي عن الشافعي : أنه المجبوب أو الخصيّ الذي لا رغبة له فيهن (٣) وقد رووا أنّ خادم مارية الذي كان يدخل إليها كان خصيبا أو مجبوبا أو ممسوحا أو له هدبة أي لحمة صغيرة ، أو لم يكن له ما للرجال ، على اختلاف ألفاظ الأخبار فيه.

__________________

(١) عن الكافي في الميزان ١٥ : ١١٦.

(٢) التبيان ٧ : ٤٣٠.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢١٨.

٣٥٥

والمفروض أنّ هاتين الآيتين هما آيتا إيجاب الحجاب كما مرّ ، فقبلهما لم يكن واجبا وبحاجة إلى تطبيق هذه الاستثناءات ، والمفروض أن الخادم كان يدخل إلى مارية من قبل إيجاب الحجاب ، ولكن الآية استثنته حتى لما بعد نزولها. ولم يرو عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه منعه بعدها.

مكاتبة العبيد ، وتحصين الإماء :

ولعفّة الرجال والنساء انتقلت الآيتان التاليتان : ٣٢ و ٣٣ إلى الترغيب في النكاح ، ونكاح العبيد ومكاتبتهم ، والإماء وتحصينهنّ.

وفي مكاتبة العبيد روى الواحدي : أنّ غلاما لحويطب بن عبد العزّى (في مكة!) سأل مولاه أن يكاتبه ليتحرّر ، فأبى عليه (وكانا قد أسلما بعد فتح مكة) فأنزل الله هذه الآية ، فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا ، فأدّاها ، وقتل في الحرب يوم حنين (١) وهذا يعني نزول السورة إلى هنا بعد فتح مكة وقبل حرب حنين؟! فكيف الإفك؟ واللعان في المدينة؟!

وفي قوله سبحانه : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) جاء في تفسير القمي : كانت العرب وقريش يشترون الإماء ويجعلون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون لهن : اذهبن وازنين واكتسبن! فنهاهم الله ـ عزوجل ـ عن ذلك (٢) وهذا لا يقتضي نزولها في مكة قبل الهجرة وانما بعد فتحها. وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إعفاء لهنّ عمّا سبق من حدّ الجلد للزّنا.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٧٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠٢.

٣٥٦

وروى الطوسي عن جابر الأنصاري قال : نزلت في عبد الله بن ابي بن سلول حين أكره أمته مسيكة على الزنا (١).

وقال الطبرسي : إنّ عبد الله بن ابيّ كانت له ست جوار يكرههنّ على الكسب بالزنا ، فلما نزل تحريم الزنا (كذا) أتين رسول الله فشكون إليه ذلك ، فنزلت الآية (٢) والقول لمقاتل قال : نزلت في ست جوار لعبد الله بن ابيّ كان يكرههن على الزنا ويأخذ اجورهن وهنّ : معاذة ومسيكة واميمة وعمرة وقتيلة وأروى ، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار ، وجاءت الاخرى بدونه ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، فقالتا : لا والله لا نفعل ، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا! وأتتا رسول الله وشكتا إليه ، فأنزل الله الآية (٣) وظاهر قولهما : قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا : أنّ ذلك كان في أوائل الهجرة وليس اليوم في أواخر السنة الثامنة.

ونقل الطباطبائي هذا فقال : ويضعّفه : أنّ الزنا لم يحرّم في المدينة .. وتقدم في سورة الأنعام : أن حرمة الفواحش ـ ومنها الزنا ـ كانت من الأحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة (٤).

وبعيد جدّا أن يدوم هذا الوضع لابن ابيّ بعد الهجرة بكثير ، كما يبعد جدا أن تكون الآية من الأوائل ثم حشرت هنا ضمن الآية ٣٢ ، فالأولى ما مرّ عن تفسير القمي.

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٣٤.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٢١.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٢٧١.

(٤) الميزان ١٥ : ١١٨.

٣٥٧

تزكية بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

في الآية ٣٦ إلى آخر الآية ٣٨ أرى عودا على تزكية بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) كما روى القمي في تفسيره بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : هي بيوت الأنبياء (١) وعن ابن عمر : الشجرة المباركة (في الآية السابقة) : ابراهيم عليه‌السلام ، والزجاجة التي كأنّها كوكب درّي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن كعب الأحبار : المشكاة محمد والمصباح قلبه ، وشبّه صدر النبيّ بالكوكب الدريّ (٢).

وزاد الطبرسي مرفوعا : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قرأ هذه الآية سئل : أيّ بيوت هذه؟ فقال : بيوت الأنبياء ، فقام أبو بكر وأشار إلى بيت علي وفاطمة وقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ قال : نعم ، من أفاضلها (٣).

وهذا المعنى لقوله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بعد تقوّل المنافقين هنا ، يعيد إلى الذهن نزول قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) من سورة الأحزاب ، بعد زواجه بزينب بنت جحش وتقوّل المنافقين في ذلك ، ففي كلا الموردين يتقوّل المنافقون بما يفيد وهن ذلك البيت الرفيع ، ويردّ الوحي الوارد على ذلك بتعظيم شأن ذلك البيت وتطهيره عمّا يقول المنافقون ، فأعداء هذا البيت يكونون السبب في بيان رفعة شأنه.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٤ وتمامه : ومنها بيت علي عليه‌السلام.

(٢) التبيان ٧ : ٤٣٧ و ٤٣٨.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٢٧ وفي الميزان ١٥ : ١٤٣ عن الدر المنثور.

٣٥٨

وارتابوا في حكمه! :

ومن الآية ٤٧ حتى آخر الآية ٥٢ خمس آيات ، لها شأن مشابه لما في آيات الإفك من الريب فيما يرتبط به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين و (فلان) وذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة ، فقال أمير المؤمنين : نرضى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال عبد الرحمن بن عوف لفلان : لا تحاكمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّه يحكم له عليك! ولكن حاكمه إلى ابن أبي شيبة اليهودي! فقال فلان لأمير المؤمنين : لا أرضى إلّا بابن شيبة اليهودي! (وسمعه اليهودي) فقال له : تأتمنون محمدا على وحي السماء وتتّهمونه في الأحكام! فأنزل الله على رسوله : (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ...) ثم ذكر أمير المؤمنين فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(١).

وحكى الطوسي في «التبيان» عن البلخي : أن عثمان بن عفّان اشترى من علي عليه‌السلام أرضا (ولعلها من سهمه بخيبر) فخرجت فيها أحجار ، فأراد عثمان ردّها

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٧.

٣٥٩

بالعيب ، فلم يأخذها علي عليه‌السلام وقال له : بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص : لا تحاكمه إليه ، إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له! فنزلت (١).

وكأنّ القمي اتّقى التصريح باسم عثمان فيما حكاه البلخيّ ، والكلمة بابن أبي العاص أشبه منها بابن عوف.

وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وكأنّ الله تعالى أراد أن يسلّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سوء سلوك أهل الإفك والنفاق معه ، فقال في الآية ٥٥ : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

وروى العياشيّ : أنّ علي بن الحسين عليه‌السلام قرأ الآية فقال : والله هم شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا هو مهديّ هذه الامّة ، وهو الذي قال (فيه) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

رواه الطبرسيّ ثم قال : وعن أبي جعفر وأبي عبد الله مثل ذلك .. بل عليه (قيام المهدي) إجماع العترة الطاهرة. وإجماعهم حجة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (٢).

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٥٠ وعنه في مجمع البيان ٧ : ٢٣٦.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٣٩ ، ٢٤٠.

٣٦٠