موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

بما في نفوسهم من الطعن والظغن ، منهم أبو سفيان ، فانه قال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! (١) فسمعه أبو مقيت الأسلمي فناداه : أما والله لو لا أنّي سمعت رسول الله ينهى عن قتلك (للأمان) لقتلتك! (٢). وصاح به ابنه معاوية : يا ابن حرب! لا قاتلت عن دينك! ولا صبرت مع ابن عمك! ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك!

فلما سمع من ابنه معاوية هذا اللوم تلاوم وتقاوم وتلاءم مع جمع من أهل مكة (٣) فتراجعوا لمقاومة الأعراب من هوازن وثقيف. واتّفقوا على أنه كان لأبي سفيان مصاهرة في ثقيف فاختلفوا في ابنته هل هي آمنة أم ميمونة ، وهل أمّ داود فهل هو داود بن عروة بن مسعود الثقفي أو هو ابن أبي مرّة بن عروة (٤). وقد غاب عروة بن مسعود عن حنين لأنه كان قد ذهب مع غيلان بن سلمة إلى جرش اليمن ليتعلّما صنعة الدبّابات والمنجنيق (٥) استعدادا لحرب المسلمين.

فلعله لهذا وذاك وتأليفا لهم ، لمّا فضّ الله جمع المشركين بحنين وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا سفيان بن حرب إلى الطائف فلقيته ثقيف

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١١.

(٣) الإرشاد ١ : ١٤٤.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ١٢٦.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢١ والدبّابة القديمة : مصفّحة مربعة مستطيلة من خشب عليه صفائح الجلود أو الحديد ، يدخل فيها رجال ثلاثة أو أربعة فيدبّون بها إلى الأسوار لينقبوها. والمنجنيق : معرّب منگنه ، يرمى بها الحجارة الثقيلة. وقال الواقدي : كانا بجرش يتعلّمان عمل الدبّابات والمنجنيق ، يريدان أن ينصباه على حصن الطائف وكانوا قد أصلحوا حصنهم ـ وله بابان ـ وصنعوا الصنائع للقتال وتهيّئوا وادخلوه ما يصلحهم لو حوصروا فيه إلى سنة ٣ : ٩٢٤.

٣٠١

فضربوه على وجهه ، فانهزم ورجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : بعثتني مع قوم من هذيل والأعراب لا يرقع بهم الدّلاء ، فما أغنوا عنّي شيئا! فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأراد المسير إلى الطائف فبعث الطفيل بن عمرو الدّوسي مع جمع من قومه إلى قومه ، وأمره أن يهدم صنمهم : ذا الكفّين ، ويستمدّ من قومه ، ويذهب بهم إلى الطائف. وطلب الطفيل إليه أن يوصيه فقال له :

«استحي من الله كما يستحي الرجل ذو؟؟ الهيئة من أهله ، وإذا أسأت فأحسن (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(٢) وأفش السلام ، وابذل الطعام».

فخرج الطفيل إلى قومه وأوقد نارا فأدخلها في جوف صنمهم ذي الكفّين وهو يقول له : يا ذا؟؟ الكفّين لست من عبّادكا. ميلادنا أقدم من ميلادكا. أنا حشوت النار في فؤادكا. ثم استمدّ من قومه فاستجاب له أربعمائة منهم (٣). وقدّم النبيّ من حنين خالد بن الوليد على مقدّمته كذلك إلى الطائف (٤).

مسيرة صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف :

قال الواقدي : وأخذ رسول الله من الأدلّاء من يدلّه على الطريق إلى

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٥١ ، ١٥٢.

(٢) هود : ١١٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٣ و ٢ : ٨٧٠ ، وفي : ٩٢٧ : يقال : قدم معه من قومه بدبّابة ومنجنيق لحرب الطائف!

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٣ ولعلّه ليريهم كيف أن أبطال قريش قد خضعوا له ، فيفتّ ذلك في عضد أهل الطائف.

٣٠٢

الطائف ، فسار من أوطاس على نخلة اليمانية ، ثم على قرن (١) ثم على المليح ، ثم على بحرة الرّغاء من وادي ليّة ، وبها بنى مسجدا بيده وأصحابه ينقلون إليه الحجارة ، فصلى فيه الظهر. وأتاه رجال من هذيل برجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل ، فاختصموا عنده ، فدفعه رسول الله إليهم فقدّموه فضربوا عنقه (٢).

وصلى رسول الله العصر ، ورأى قصرا فسأل عنه فقالوا : هو قصر مالك بن عوف. فقال : أين هو؟ قالوا : هو الآن في حصن ثقيف. فقال : من في قصره؟ قالوا : ما فيه أحد. فقال : حرّقوه! فحرّق من حين العصر إلى أن غابت الشمس.

وكان هناك قبر مشرف لسعيد بن العاص الاموي ، وابناه : أبان وعمرو مع رسول الله ، فلما نظر أبو بكر إلى قبره قال : لعن الله صاحب هذا القبر فانه كان يحادّ الله ورسوله! وسمعه ابناه عمرو وأبان فقالا لعن الله أبا قحافة فانه كان لا يمنع الضيم ولا يقري الضيف فقال رسول الله : إن سبّ الأموات يؤذي الأحياء ، فإن شئتم المشركين فعمّوا. ثمّ مضى رسول الله من ليّة على طريق الضّيقة ، فقال رسول الله : بل هي اليسرى! ثم خرج على وادي النخب عند حائط رجل من ثقيف ، أبى أن يخرج إلى رسول الله ، فأرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إما أن تخرج وإما أن نحرق عليك حائطك! فأبى أن يخرج ، فأمر رسول الله بإحراق حائطه وما فيه (٣).

__________________

(١) قرية في طريق الطائف بينها وبين مكة خمسون ميلا (٨٠ كم تقريبا) معجم البلدان ٧ : ٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٤ وعند ابن اسحاق في السيرة مثله ٤ : ١٢٥ وقالا : فكان أول دم اقيد به في الإسلام. هذا وقد ذكر الواقدي مثله في قصاص جثّامة قبله في حنين ، بل وقبله جرى من موارد القصاص أكثر من واحد ، وانما يحمل مثل هذا على مبلغ علم الراوي إلّا الاستقصاء ، كما مرّ قبل قليل.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٥ وعند ابن اسحاق في السيرة مثله ٤ : ١٢٥ إلّا أنه قال : فأمر بإخرابه ، لا إحراقه. وليس فيها خبر لعن أبي بكر لسعيد ولعن ابنيه له بالمثل.

٣٠٣

بدء حصار الطائف :

قال : ومضى رسول الله حتى نزل قريبا من حصن الطائف ، فلما حلّ جاءه الحباب بن المنذر فقال له : يا رسول الله ، إنّا قد دنونا من الحصن ، فان كان عن أمر سلّمنا ، وإن كان عن الرأي فالتأخر عن حصنهم؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فروى عن عمرو بن أميّة الضّمري قال : لما نزلنا جاءنا من نبلهم شيء كأنه جراد كثير حتى اصيب عدد من المسلمين بجراحات. فحينئذ دعا رسول الله الحباب بن المنذر فقال له : انظر لنا مكانا مرتفعا مستأخرا عن القوم. فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف (اليوم) فارتضاه ، فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره. فأمر رسول الله أصحابه أن يتحوّلوا إليه. ونزل رسول الله على الأكمة ، ومعه امرأتان من نسائه أمّ سلمة وزينب. وثار المسلمون إلى الحصن ، وخرج أمامهم يزيد بن زمعة بن الأسود وسألهم الأمان ليكلمهم ، فأعطوه الأمان ، فلما دنا من حصنهم رموه بالنبل فقتلوه!

فيقال : كمن لهم يعقوب بن زمعة أخو المقتول ، وخرج من باب الحصن هذيل بن أبي الصلت ، فأسره يعقوب وأتى به النبيّ فقال له : هذا قاتل أخي يا رسول الله ، فأمكنه النبيّ منه فضرب عنقه بأخيه.

مشورة سلمان بالمنجنيق :

قال : وشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه ، فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فإنّا كنّا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون ، وتنصب علينا ، فنصيب من عدوّنا ، ويصيب منّا ، وإن لم يكن المنجنيق طالت الإقامة. فأمره رسول الله أن يصنعه ، فعمل بيده منجنيقا ونصبه باتجاه حصن الطائف (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٤ ـ ٩٢٧ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢٣٤. ولم يسلم بعضهم

٣٠٤

ومرّ الخبر عن بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الطفيل بن عمرو الدّوسي إلى قبيلته الدّوس ، وأنه أمره أن يستمدّ منهم ويوافيه بالطائف ، فأسرع معه أربعمائة رجل من قومه ، وقدم معه بمنجنيق ودبّابتين ، فوافوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطائف بعد مقامه بأربعة أيام فاليوم حاول المسلمون أن يفيدوا من الدبّابتين وعليهما جلود البقر ، فدخلوا تحتهما ثم زحفوا بهما إلى جدار الحصن ليحفروه وينقبوه. فأحموا لهم سكك الحديد وأرسلوها عليهم فاحترقت الدّبابتان وخرج المسلمون من تحتهما ، فرمتهم ثقيف بنبالهم فقتل منهم رجال واصيب آخرون. فقيل لذلك اليوم : يوم الشدخة ، لما قتل واصيب فيه من المسلمين.

قال : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقطع كل رجل من أعنابهم خمس حبلات (١).

مما يؤكل ثمره ، وقال : من قطع حبلة فله حبلة في الجنة. فجعل المسلمون يقطعونها قطعا ذريعا. فنادى سفيان بن عبد الله الثقفي : يا محمد ، لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا ، وإما أن تدعها لله وللرّحم كما زعمت! فقال رسول الله : فإنّي أدعها لله وللرّحم (٢).

وكان رجل منهم يقوم على الحصن فيقول للمسلمين : روحوا رعاء الشاء! رحوا عبيد محمد! روحوا جلابيب محمد! أترونا نتباءس على أحبل من كرومنا أصبتموها؟! فقال رسول الله : اللهم روّح مروّحا إلى النار! فأهوى إليه سعد بن أبي وقّاص بسهم في نحره ، فهوى من الحصن ميّتا ، فسرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك (٣).

__________________

ـ لسلمان بهذه المشورة المثمرة فقال : بل جاء بالمنجنيق ودبابتين الطفيل بن عمرو الدّوسي من أرض الدوس! ولم يعهد منهم ذلك ، ولعلّه لذلك قال آخر : بل جاء بهما خالد بن سعيد بن العاص من الجرش في اليمن. م. ن. (١) الحبلة : شجر العنب أو المثمر منه.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٨ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢٣٤ وفي شرح المواهب اللدنية ٣ : ٣٧ : أن الرحم هنا لأن إحدى امهات آمنة بنت وهب هند بنت يربوع الثقفي.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٩ ، ٩٣٠.

٣٠٥

حمية جاهلية :

ومرّ الخبر عن مصاهرة عروة بن مسعود الثقفي لأبي سفيان بن حرب على ابنته آمنة ، أو مصاهرة أبي مرّة بن عروة له على ابنته ميمونة (١) ، ولكنّ عروة بن مسعود كان قد خرج إلى الجرش في أوائل اليمن من ناحية الحجاز ليتعلّم منهم صنعة الدبّابة والمنجنيق (٢) فافتقد أبو سفيان صهره عروة ليكلّمه في ابنته آمنة مخافة أن تسبى ، فلجأ إلى المغيرة بن شعبة الثقفي واتّفق معه على أن يتقدّما إلى الحصن فيكلّما ثقيفا في نساء عندهم من قريش وبني كنانة منهن آمنة أو ميمونة ، والفراسيّة بنت سويد بن عمرو ، واميمة بنت اميّة الفقيمية.

فتقدّما فناديا : أمّنونا حتى نكلّمكم. فأمّنوهما. فطلبا منهم أن يدعوا لهم هذه النساء ، فدعوهنّ لهما ، فلما عرض أبو سفيان على ابنته ميمونة أو آمنة الأمان من السبي مع نساء الطائف ـ مع صواحبها ـ أبت عليه ، وأبين عليهما (٣). ولم تأخذ العزّة بالإسلام أبا سفيان أن يدعو ابنته إلى الإسلام ، وانما النصّ : خاف عليها السباء ، فدعاها إلى الأمان لا الإيمان ، ولم يخف عليها الكفر والشرك فيدعوها إلى الإسلام ، دعته الحميّة إلى ذلك ، ولكنّها لم تكن حميّة الإسلام بل لعلها حميّة جاهلية.

وحميّة جاهلية :

وصدّق ابليس ظنّه على رجل من مزينة كان مع رماة المسلمين ، وزيّن له

__________________

(١) ابن اسحاق وابن هشام في السيرة ٤ : ١٢٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٦ وفقئت عينه [أبي سفيان] في حصار الطائف فصار أعور ، كما في سفينة البحار ٤ : ١٩٦.

٣٠٦

الدنيا في عينه فقال لصاحبه : إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء بني قارب بن الأسود ـ ومنهن الفراسيّة بنت سويد بن عمرو امرأة قارب ، والتي تشفّع لها المغيرة بن شعبة فلم تجبه ـ فانهنّ أجمل إن أمسكت ، وأكثر فداء إن فاديت! وسمعه المغيرة بن شعبة فغار لها لأنها من نساء ثقيف! وكان أبو محجن الثقفي من رماتهم على رأس الحصن يرمي بنصال طوال عريضة يقال لها المعابل لا يسقط منه سهم دون غرضه ، فأراد المغيرة أن يثير المزني على أبي محجن ، فيرميه أبو محجن فيقتله ، غيرة من المغيرة على نساء ثقيف. فنادى المزني : يا أخا مزينة! قال : لبّيك! قال : ارم ذلك الرجل ـ يعني أبا محجن ـ فرماه المزني فلم يصبه ، وفوّق له أبو محجن بمعبلة فرمى المزني في نحره فقتله.

فقال عبد الله بن عمرو المزني للمغيرة : قاتلك الله يا مغيرة! أنت عرّضته لهذا فأنت ـ والله ـ منافق ، والله لو لا الإسلام ما تركتك حتى أغتالك! إن معنا الداهية وما نشعر! وأخذ المغيرة يطلب من هذا أن يكتم ذلك عليه ، والمزني يقول : لا والله أبدا! (١).

__________________

(١) فلما ولّاه عمر الكوفة بلغه ذلك فقال : والله ما كان المغيرة بأهل أن يولّى وهذا فعله! وكأن المشكلة في فعله فقط وليس كاشفا عن نفاقه! مغازي الواقدي ٣ : ٩٣٠ وهذا مما يسوء بعض الناس ذكره ، فلم يذكره ابن هشام.

والمزني الذي أقسم أن لا يكتم هذا على المغيرة فأفشاه حتى بلغ عمر على عهده ، هل أفشى ذلك لدى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟ لا يدرى ، ولكن إن بلغه ذلك فلعلّه لم يقتصّ للمقتول لمباشرة الكافر لقتله وعدم مباشرة المغيرة. ولعلّ أولياء المقتول لم يطالبوا بشيء لأنه كان قد هاجر إلى امرأة يصيبها ومنّى الرجال بها ، مما يحملهم على الحياء من ذلك فالسكوت والكتمان. ومع كلّ هذا زعموا عدالتهم جميعا!

٣٠٧

ومن النفاق المفضوح :

ولم يكشف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفاق الثقفيّ والمزنيّ فيفضحهما ، ولكن اختلف الحال مع عيينة بن حصن الفزاري. وكأنّ عيينة لما رأى أن رءوسا مثله كالثقفي وأبي سفيان يطلبون من ثقيف الأمان فيكلّمونهم ، أراد أن يجعل له يدا عندهم ، فتقدّم إلى رسول الله وقال : يا رسول الله ، ايذن لي أن أذهب إلى حصن الطائف فاكلّمهم فأذن له. فدنا من الحصن وقال لهم : أدنو منكم وأنا آمن؟ فعرفه أبو محجن المذكور فقال : نعم ادن فادخل. فدنا ودخل عليهم الحصن فقال لهم : فداؤكم أبي وامّي! والله لقد سرّني ما رأيت منكم ، والله لو أنّ في العرب أحدا غيركم! والله ما لاقى محمد مثلكم قطّ ، ولقد ملّ المقام ، فاثبتوا في حصنكم ، فانّ حصنكم حصين وسلاحكم كثير ، وماءكم واتن : لا تخافون قطعه!

قال الراوي من جانب ثقيف : إنه لما خرج قال جمع منهم لأبي محجن : إنّا كرهنا دخوله إذ خشينا أنه إن رأى فينا أو في حصننا خللا أن يخبر محمدا! فقال لهم أبو محجن : بل ليس منا أحد أشدّ على محمد منه ، وإن كان معه! فلما رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما قلت لهم؟ قال : خذّلتهم ما استطعت وقلت لهم : إنّ محمدا (كذا) قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم : قينقاع والنضير وقريظة وخيبر : أهل ا لحلقة والعدّة والآطام (الحصون) والله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا! فادخلوا في الإسلام! أو خذوا لأنفسكم أمانا! وخذّلتهم ما استطعت!

فلما فرغ من حديثه ، قال له رسول الله : كذبت! قلت كذا وكذا فأخبره بالذي قال لهم (١). فقال له أبو بكر : ويحك يا عيينة! إنما أنت توضع في الباطل أبدا ، كم لنا منك من يوم بني النضير وقريظة وخيبر ، تجلب علينا وتقاتلنا بسيفك ، ثم

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١١٨ ، الحديث ١٩٥ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٣٢.

٣٠٨

أسلمت ـ كما زعمت ـ فتحرّض عدوّنا علينا! فقال له عيينة : يا أبا بكر ، لا أعود أبدا ، أستغفر الله وأتوب إليه. فقال عمر لرسول الله : يا رسول الله ، دعني اقدّمه فأضرب عنقه! فقال رسول الله : لا ، يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي (١).

وإغراء بالنساء :

أمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، المنسوب إليه بنو زهرة ، منهم امّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست من بني مخزوم ولا اختا لفاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومع ذلك وصفها الواقدي بأنها خالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : كان لها موليان يسمّيان : هيت وماتع ، وأنهما انتهيا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يراهما من غير اولي الإربة (الحاجة في النساء) وأنهما لا يفطنان لشيء مما يفطن إليه الرجال من أمر النساء ، فكان ماتع لذلك يدخل في بيوته على نسائه ، وكأنّه كان من قبل في الطائف فكان يعرف امرأة جميلة منهم تدعى بادية بنت غيلان.

فسمعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حصار الطائف يقول لعبد الله بن أبي اميّة أو خالد بن الوليد المخزوميّين : إن افتتح رسول الله الطائف غدا فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان ؛ فانّها إذا جلست تثنّت وإذا تكلّمت تغنّت ، وإذا اضطجعت تمنّت ، مع ثغر كالاقحوان ، وبين .. مثل الإناء المكفوء! فلما سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا قال : ألا أرى هذا الخبيث يفطن للجمال! لا يدخلن على أحد من نسائكم! ثم غرّبه وصاحبه إلى حمى الإبل (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٢ ، ٩٣٣ ويلاحظ حسب هذا الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق (أصحابي) حتى على مثل هذا المنافق أيضا! ومع ذلك زعموا عدالتهم جميعا! فهل أن استغفاره لسانا ملأ ضميره إيمانا من حينه؟! ليث شعري!

(٢) فشكيا الحاجة ، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما ، إلى أن

٣٠٩

تحرير العبيد :

ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيما عبد خرج من الحصن إلينا فهو حرّ. فخرج بضعة عشر عبدا منهم : ابراهيم بن جابر عبد خرشة الثقفي. والأزرق بن عقبة عبد كلدة الثقفي. والمضطجع عبد عثمان بن معتّب ، وغيّر النبيّ اسم المضطجع إلى المنبعث. ونافع عبد غيلان بن سلمة. ونفيع بن مسروح عبد الحارث بن كلدة ، وهذا نزل من الحصن بحبل في بكرة ، فكنّي أبا بكرة (١). ووردان عبد عبد الله بن ربيعة الثقفي. ويوحنّس النبّال عبد يسار بن مالك. ويسار عبد عثمان بن عبد الله. ومرزوق عبد عثمان (لم يعرف عثمان بن عبد الله أو عثمان بن معتّب أو غيرهما) وشقّ ذلك على أهل الطائف مشقّة شديدة.

ودفع النبيّ كلّ واحد منهم إلى رجل من المسلمين يحمله ويتكفّل مؤونته : ابراهيم بن جابر إلى اسيد بن الحضير ، والأزرق إلى خالد بن سعيد بن العاص. ونفيعا أبا بكرة إلى أخيه عمرو بن سعيد. ووردان إلى أخيهم أبان بن سعيد. ويسار بن مالك إلى سعد بن عبادة ، ويحنّس النبّال إلى عثمان بن عفّان.

وأمرهم أن يقرءوهم القرآن ، ويعلّموهم السنن (٢).

__________________

ـ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخلا مع الناس ، فلما ولّي أبو بكر أخرجهما إلى موضعهما ، فلما مات أبو بكر دخلا مع الناس ، فلما ولّي عمر أخرجهما إلى موضعهما ، فلما قتل عمر دخلا مع الناس. مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٣ ، ٩٣٤.

(١) البكرة : خشبة مستديرة في وسطها محور تدور عليه ، وفي وسط طرفها حفرة مستديرة لاستدارة الحبل عليها ، بها يستقى الماء بالدلو من البئر. لسان العرب ٥ : ١٤٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣١ ، ٩٣٢. وفي السيرة لابن اسحاق ٤ : ١٢٧ ، ١٢٨ واختصر الخبر ابن هشام فلم يذكر أسماء العبيد مصرّحا بذلك. وقريب منه في إعلام الورى ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٣١٠

علي عليه‌السلام إلى خثعم :

روى المفيد في «الإرشاد» قال : أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند محاصرة الطائف عليّا عليه‌السلام في خيل ، فيهم صهره أبو العاص ابن الربيع ، إلى خثعم حول الطائف ، وأمره أن يكسر كل صنم يجده. فخرج ، حتى لقيه جمع كثير من خيل خثعم ، وبعد صلاة الفجر وهم في غبش الصبح برز له رجل من القوم يقال له شهاب ، وقال : هل من مبارز؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمن معه من المسلمين : من له؟ فلم يقم له أحد منهم! فتصدّى له أمير المؤمنين عليه‌السلام بنفسه ، وحينئذ وثب عديله أبو العاص بن الربيع وقال له : بل تكفاه أيها الأمير! فقال عليه‌السلام : لا ، ولكن أنت على الناس إن قتلت. ثم برز للرجل وهو يقول :

إنّ على كل رئيس حقّا :

أن يروي الصّعدة أو تدقّا

ثم ضرب الرجل فقتله.

ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى الطائف. وخرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتّب في خيل من ثقيف ببطن وجّ ، فلقيه أمير المؤمنين فقتله ، ولحق القوم الرعب فانهزموا.

وعاد علي عليه‌السلام إلى رسول الله وهو بعد محاصر للطائف ، فلما رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كبّر للفتح ، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلا. فواجهه عمر بن الخطاب بالعتاب : أتخلو به وتناجيه دوننا؟! فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر ، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه! فأعرض عمر وهو يقول : هذا كما قلت لنا قبل الحديبية : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) فصددنا عنه ولم ندخله! فناداه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم أقل لكم إنكم تدخلونه في ذلك العام (١).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٥٢ ، ١٥٣ وبهامشه للخبر مصادر عديدة.

٣١١

تريدون عرض الدنيا :

نرى في أسماء العبيد نافعا عبدا لغيلان بن سلمة الثقفي ، والفتاة التي أغرى بها ماتع خالد بن الوليد هي بادية بنت غيلان بن سلمة هذا ، ويبدو أنها كما كانت معروفة بجمالها كذلك كانت معروفة بما كان عليها من حليّها :

فقد روى ابن اسحاق قال : إنّ امرأة عثمان (بن مظعون) : خولة أو خويلة بنت حكيم السلميّة أتت رسول الله فقالت له : يا رسول الله ، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حليّ بادية بنت غيلان ، أو الفارعة بنت عقيل. فقال لها رسول الله : وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟ فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب. فدخل عمر على رسول الله فقال له : يا رسول الله ، ما حديث حدّثتنيه خويلة ، زعمت أنك قلته؟ قال : قد قلته. قال : أوما اذن لك فيهم؟ قال : لا. قال : أفلا اؤذن فيهم بالرحيل؟ قال : بلى فأذّن عمر بالرحيل (١).

اختلاف المسلمين :

قال الواقدي : فجعل المسلمون يمشي بعضهم إلى بعض يقولون لهم : أننصرف ولم نفتح الطائف؟! بل لا نبرح حتى يفتح الله علينا ، والله انهم لأذلّ وأقلّ من لاقينا ، قد لقينا جمع مكة وجمع هوازن ففرّق الله تلك الجموع! وانما هؤلاء ثعلب في جحر لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا!

وكلّموا عمر بن الخطّاب في ذلك فقال : لقد دخلني في الحديبية من الشك (كذا) ما لا يعلمه إلّا الله ، وراجعت رسول الله يومئذ بكلام ليت أنّي لم أفعل وأنّ أهلي ومالي ذهبا ، ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع ، فلم يكن فتح خيرا للناس

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٧.

٣١٢

من صلح الحديبية بلا سيف ، دخل منه في أهل الإسلام مثل من كان دخل من يوم بعث رسول الله إلى يوم كتب الكتاب .. فاتّهموا الرأي. والخيرة في ما صنع رسول الله ، ولن اراجعه في شيء أبدا! والأمر أمر الله وهو يوحي إلى نبيّه ما يشاء! (١). قال : فجعل الناس يضجّون من ذلك .. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاغدوا على القتال! فغدوا على القتال ، فأصابتهم جراحات .. فقال رسول الله : فانا قافلون إن شاء الله! فأذعنوا لذلك (٢).

وقتل في حصار الطائف رجل من بني ليث ، وأربعة من الأنصار ، وخمسة من قريش ، ورمي عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة المخزومي بسهم فمات منه بعدئذ ، ورمي عبد الله بن أبي بكر التيمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله (٣).

وفي مدة الحصار قال الطبرسي : فحاصرهم بضعة عشر يوما (٤) والواقدي : قال قائل : خمسة عشر يوما ، وقائل : ثمانية عشر يوما ، وقائل : تسعة عشر يوما ، وكل ذلك وهو يصلي ركعتين ركعتين بين قبّتيه المضروبتين لزوجتيه (٥). وذكر ابن هشام : سبع عشرة ليلة ، وابن اسحاق : بضعا وعشرين ليلة (٦).

وعند ارتحالهم :

قال الطبرسي : وكأنّما كان رسول الله ينتظر عليّا عليه‌السلام فلما قدم علي ارتحل ..

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٦. فليته التزم بما قال في أمر الإمامة والخلافة!

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٣٨.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٣٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٧.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ١٢٥.

٣١٣

فنادى سعد بن عبيد بن علاج الثقفي : ألا إن الحيّ مقيم! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أقمت ولا ظعنت! فسقط فانكسر فخذه! (١). ومع ذلك قال عيينة بن حصن : أجل والله مجدة كرام! فسمعه عمرو بن العاص فقال له : قاتلك الله! تمدح قوما مشركين بالامتناع من رسول الله وقد جئت تنصره! فقال عيينة : إنّي والله ما جئت معكم اقاتل ثقيفا ، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فاصيب جارية من ثقيف! فانّهم قوم مباركون! واخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقالته ، فتبسم وقال : هذا الحمق المطاع!

وحين أرادوا أن يرتحلوا قال رسول الله لأصحابه قولوا : لا إله إلّا الله وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده! فلما استقلّوا وارتحلوا قال لهم : قولوا : آئبون عائدون ، لربّنا حامدون إن شاء الله. فقيل له : يا رسول الله ادع الله على ثقيف ، فقال : اللهم اهد ثقيفا وائت بهم (٢).

وروى الطوسي في أماليه بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : حاصر رسول الله أهل وجّ أيّاما فسأله القوم ان ينتزح عنهم ليقدم عليه وفدهم فيشترطون لأنفسهم ويشترط هو لنفسه ، فسار صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) وليس ذلك بعيدا عن أسرار الغزوات.

إلى الجعرّانة :

قالوا : انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حصار الطائف فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل (ميقات أهل نجد).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٧.

(٣) أمالي الطوسي : ٥٠٤ ، ٥٠٥ ، الحديث ١١٠٦ وسيأتي تمامه بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣١٤

فروى الواقدي عن أبي زرعة الجهني قال : كان زمام ناقة النبيّ القصواء مطويّا بيدي ، وأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يركب راحلته من قرن المنازل فوطئت له على يديها ليركب (على رجلي) فركب وناولته الزمام ودرت من خلفه ، وأشار إلى خلف الناقة بالسوط فأصابني ، فالتفت إلي فقال : أصابك السوط؟ قلت : نعم بأبي وامّي!

وروى عن أبي رهم الغفاري قال : كنت أسير إلى جنب رسول الله على ناقتي ، وفي رجليّ نعلان غليظتان ، إذ زحمت ناقتي ناقته صلى‌الله‌عليه‌وآله فوقع طرف نعلي على ساقه فأوجعه ، فقرع رجلي بسوطه وقال : أوجعتني أخّر رجلك!

وروى عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت احادث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسيره وهو يحادثني ، وكانت ناقتي قوية جلدة شهمة فجعلت تلصق بناقته ، واريد أن انحيّها فلا تطاوعني حتى لصقت بناقته وأصابت رجله ، فرفع رجله من غرز الركاب كأنها جمّارة النخل بياضا وقال : أخ! أوجعتني ، ورفع المحجن (العصا المعقوفة) بيده فدفع به رجلي ، وسكت لا يتكلم.

قال أبو رهم الغفاري : فلما أصبحنا بالجعرّانة خرجت أرعى الرواحل وأنا أخشى أن ينزل في القرآن لعظيم ما صنعت ، فلما روّحت الركاب قالوا لي : طلبك رسول الله! فذهبت إليه وأنا أترقّب فإذا به قال لي : إنّك أوجعتني برجلك ، فقرعتك بالسوط ، فخذ هذه الغنم عوضا من ضربتي!

وقال ابن أبي حدرد الأسلمي : فلما نزلنا الجعرّانة وأنا أخاف أن ينزل فيّ عذاب ، قلت لأصحابي : أنا أرعى لكم ، ولم يكن ذلك يوم رعيتي ، فلما روّحت الركاب قالوا لي : جاء رسول الله يبغيك ، ثم جاء رجل من قريش يبتغيني ، فخرجت خائفا حتى واجهت رسول الله ، فجعل يبتسم في وجهي وقال : أوجعتك بمحجني البارحة! فخذ هذه القطعة من الغنم. فوجدتها ثمانين شاة.

وقال أبو زرعة : فلما نزل الجعرّانة إذا ربضة من غنم الغنائم في ناحية ،

٣١٥

فسأل عنها صاحب الغنائم فأخبره عنها بشيء ، فصاح رسول الله : أين أبو زرعة؟ قلت : ها أنا ذا ، قال : خذ هذه الغنم بما أصابك من السوط أمس. فوجدتها مائة وعشرين رأسا.

وفي طريقه بعد قرن المنازل مرّ على نخلة ، وفيها اعترض طريقه رجل مسلم من أسلم مع غنم .. فأخذ يعدو في عرض ناقة رسول الله وقال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا في معطن الإبل (مباركها) أفأصلي فيه؟ قال : لا. قال : فتدركني الصلاة وأنا في مراح الغنم ، أفأصلّي فيه؟ قال : نعم. قال : يا رسول الله ، وتكون فينا الحائض! قال : تتيمّم. قال : وربّما تباعد منّا الماء ومع الرجل زوجته فيدنو منها! قال : نعم ، ويتيمّم.

ثم قال له رسول الله : وتقدم علينا الجعرّانة فنعطيك غنما إن شاء الله! فلحق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة فأعطاه مائة شاة (١).

وكان يحيط به صلى‌الله‌عليه‌وآله في انحداره إلى الجعرّانة مقنب من خيل الأنصار (الثلاثون إلى الأربعين) والناس يمشون أمامه وخلفه أفواجا يتبع بعضهم بعضا. فروى الواقدي عن سراقة بن جعشم قال : أنكرني هؤلاء الأنصار فجعلوا يقرعوني بالرماح ويقولون : ما أنت؟ إليك إليك! فناديت : أنا سراقة بن جعشم. فقال لهم رسول الله : أدنوه. فأدنوني منه فلما انتهيت إليه سلّمت عليه ، وقدّمت إليه ما جمعت له من الصدقة (الزكاة) (٢) ثم قلت : يا رسول الله ، أرأيت الضالّة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلي ، فهل لي من أجر إن أنا سقيتها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم ، في كل ذات كبد حرىّ أجر (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٩ ـ ٩٤٢.

(٢) كذا ، وسيأتي أن جمع الصدقة كان بعد رجوعه من فتح مكة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤١ وقال : انتهى رسول الله إلى الجعرّانة ليلة الخميس لخمس

٣١٦

غنائمهم ، والمؤلّفة قلوبهم :

قال الواقدي : وكان السبي ستة آلاف .. ولما قدم رسول الله الجعرّانة أمر بسر بن سفيان الخزاعي أن يذهب إلى مكة فيشتري للسبي من ثياب المعقّد (من برود هجر في اليمن) فيكسوهم ، فلا يخرج منهم أحد إلّا كاسيا ، فاشترى بسر كسوة لهم فكساهم كلّهم.

قال : وكان رسول الله قد غنم أربعة آلاف أوقيّة من فضة ، وجمعت الغنائم بين يديه ، فجاء أبو سفيان بن حرب والفضة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، أصبحت أكثر قريش مالا! أعطني من هذا المال يا رسول الله! فتبسّم رسول الله وقال لبلال : يا بلال ، زن لأبي سفيان أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل! فقال أبو سفيان : ولا بني يزيد! فقال رسول الله : زنوا ليزيد أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل. فقال أبو سفيان : ولا بني معاوية! يا رسول الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : زن له ـ يا بلال ـ أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل. فقال أبو سفيان : إنّك كريم فداك أبي وامّي! ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت ، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت! جزاك الله خيرا! (١).

__________________

ـ ليال خلون من ذي القعدة ٣ : ٩٥٨ وقال الطبرسي في مجمع البيان ٥ : ٣٠ : ولما دخل ذو القعدة انصرف من الطائف وأتى الجعرّانة. فلعله لدخول الشهر الحرام أوقف الحرب ، ولم يذكر.

وفيه : ٩٤٢ قالوا : وجعلت الأعراب في طريقه يسألونه وكثّروا عليه حتى اضطرّوه إلى شجرة سمرة فخطفت الأعراب رداءه وهو يقول لهم : أعطوني ردائي! أعطوني ردائي! ولكن فيه : «لو كان عدد هذه العضاه (نبات الصحراء) نعما لقسمته بينكم» وهذا يناسب تقسيم الغنائم بين المقاتلين لا الأعراب ، وسنأتي على الخبر مرة اخرى فيما يأتي.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٤.

٣١٧

وأشار إلى هذا ابن اسحاق بعد ان قال : وأعطى رسول الله المؤلّفة قلوبهم ـ وكانوا من أشراف الناس ـ يتألّفهم ويتألّف بهم قومهم (١).

وروى الكليني في «الكافي» بسنده عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين تألّف رءوسا من رءوس العرب من قريش وسائر مضر ، منهم أبو سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وأشباههم من الناس [وهم] المؤلّفة قلوبهم [و] هم قوم وحّدوا الله ـ عزوجل ـ وخلعوا عبادة ما يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم مع ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر الله ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتألّفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقرّوا به (٢).

وروى الواقدي عن الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيّب ، عن حكيم بن حزام بن الأسدي قال : سألت رسول الله مائة من إبل حنين فأعطانيها ، فسألته مائة اخرى فأعطانيها ، فسألته مائة ثالثة فأعطانيها ثم قال لي : يا حكيم بن حزام ، إنّ هذا المال حلوة خضرة ، فمن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان الذي يأكل ولا يشبع ، ومن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ؛ واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول! فقال حكيم بن حزام : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا آخذ من أحد شيئا بعدك (٣).

وطاف صلى‌الله‌عليه‌وآله يتصفّح الغنائم وتبعه صفوان بن اميّة الجمحي ، إذ مرّ بشعب مملوء مما أفاء الله عليه من إبل وأغنام ، فجعل صفوان ينظر إليها معجبا بها ،

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٥ ، وحكى عنه الطبرسي في إعلام الورى ١ : ٢٣٦.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٤١١ وتفسير العياشي ٢ : ٩١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٥.

٣١٨

فقال له رسول الله : يا أبا وهب ، هل أعجبك هذا الشعب؟ قال : نعم. قال : هو لك بما فيه! فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلّا نبيّ ، وأشهد أنّك رسول الله! (١).

وأعطى صاحبه عمير بن وهب الجمحي خمسين من الإبل (٢).

وأعطى سهيل بن عمرو العامري (سفير قريش) مائة من الإبل ، ومعه من بني عامر حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل ، وهشام بن عمرو خمسين من الإبل.

وأعطى الحارث بن هشام المخزومي مائة من الإبل ، ومعه من بني مخزوم سعيد بن يربوع خمسين من الإبل.

وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة أخا النضر من بني عبد الدار مائة من الإبل.

وفي حلفاء بني زهرة أعطى اسيد بن حارثة مائة من الإبل ، والعلاء الثقفي مائة ـ عند ابن اسحاق ـ وخمسين في الواقدي ، واختلفوا في مخرمة بن نوفل الزهري.

ومن بني سهم أعطى عديّ بن قيس أو قيس بن عديّ السهمي مائة أو خمسين (٣).

وأعطى حكيم بن حزام الأسدي مائة بعير ، وجبير بن مطعم العدوي مائة بعير (٤). وزاد في الإرشاد : عكرمة بن أبي جهل ، وزهير بن أبي أميّة ، وأخاه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٦ وفي الواقدي : عثمان بن وهب ، مصحّفا.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٦ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٤٦.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٨ أن القائل سعد بن أبي وقاص.

٣١٩

عبد الله ابن أبي أميّة ، وهشام بن (الوليد بن) المغيرة من بني مخزوم بل هي رواية ابن هشام عن الزهري عن ابن عباس ، وفيها من بني مخزوم أيضا : الحارث بن هشام بن المغيرة واخوه خالد ، وسفيان بن عبد الأسد ، والسائب بن عائذ.

وزاد في بني أميّة : طليق بن سفيان ، وخالد بن اسيد.

ومن بني عبد الدار : شيبة بن عثمان ، وعكرمة بن عامر ، وأبا السنابل بن بعكك.

ومن بني عديّ : أبا جهم بن حذيفة ، ومطيع بن الأسود.

ومن بني جمح : أخا صفوان : احيحة بن أميّة بن خلف.

ومن سائر القبائل : نوفل بن معاوية الدّيلي ، وعلقمة بن علاثة العامري الكلابي ، وحرملة بن هوذة العامري وأخوه خالد. وعيينة بن حصن الفزاري ، والأقرع بن حابس التميمي المجاشعي.

فقال قائل لرسول الله : يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة ، وتركت جعيل بن سراقة الغفاري الضّمري؟! فقال رسول الله : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض (ما يطلع عليها) كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكنّي تألّفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه (١). ولم يعط العباس بن مرداس السلميّ سوى أربعة من الأباعر فأنشأ يقول :

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع (٢)

فما كان حصن ولا حابس

يفوقان شيخيّ في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٨ أن القائل سعد بن أبي وقاص.

(٢) نهب : ما ينهب. العبيد : اسم فرسه. قاس سهمه بسهمي الأقرع وعيينة.

٣٢٠