موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

سرح الاموي فقد استوهبه اخوه من الرضاعة عثمان بن عفّان كما يأتي ، وأسلم وحشي قاتل حمزة وهبّار بن الأسود مسقط حمل زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يقتلوا ، وإنمّا قتل اولئك الخمسة فحسب.

ومع ذلك فقد روى الواقدي أن هؤلاء لما قتلوا سمع النوح عليهم بمكة ، فجاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله يقول له : فداك أبي وامّي! البقيّة في قومك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقتل قريش صبرا بعد اليوم (١) يعني على الكفر.

وممّن عفى عنه :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ممّن أهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دمه يوم فتح مكة (٢).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما فتح رسول الله مكة أمر بقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي عثمان بن عفّان من الرضاعة ، فجاء به عثمان قد أخذ بيده ، ورسول الله في المسجد ، فقال : يا رسول الله اعف عنه. فسكت رسول الله ، ثم أعاد فسكت رسول الله ، ثم أعاد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو لك. فلما مرّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : ألم أقل : من رآه فليقتله؟! فقال رجل : كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله! فقال رسول الله : إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة. فكان من الطلقاء (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٢.

(٢) فروع الكافي ٨ : ٢٠٠ وتفسير العياشي ١ : ٣٦٩.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢١١.

٢٤١

وزاد ابن اسحاق : أنه فرّ إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فغيّبه حتى اطمأنّ أهل مكة فأتى به رسول الله يستأمن له ، فصمت طويلا ثم قال : نعم ، فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله من أصحابه : لقد صمت طويلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه (١).

وقال الواقدي : جاء ابن أبي سرح يوم الفتح إلى عثمان بن عفّان فقال : يا أخي إنّي والله اخترتك فاحتبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلّمه فيّ ، فانّ محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا ... والله لئن رآني ليضربنّ عنقي ، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان : بل انطلق واذهب معي فلا يقتلك إن شاء الله.

وفوجئ رسول الله بعثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه وعثمان يقول : يا رسول الله ، إن امّه كانت تحملني وتمشّيه ، وترضعني وتقطعه ، وتلطفني وتتركه ، فهبه لي وكلّما كان يعرض عنه رسول الله كان عثمان يستقبله في وجهه فيعيد عليه الكلام ثم اكبّ عثمان على رسول الله يقبّل رأسه ويقول : يا رسول الله فداك أبي وامّي تبايعه؟! فقال رسول الله : نعم ، ثم بايعه (أي قبل توبته إلى الإسلام).

فلما انصرفا التفت إلى أصحابه فقال لهم : ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الفاسق ـ أو الكلب ـ فيقتله؟! فقال عبّاد بن بشر : ألا أومأت إليّ يا رسول الله؟ فو الذي بعثك بالحق انّي لأتّبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إليّ فأضرب عنقه! فقال رسول الله : انّي لا أقتل بالإشارة. أو : إنّ النبيّ لا تكون له خائنة الأعين! (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٦.

٢٤٢

صفوان بن أميّة الجمحي :

لم يذكر صفوان بن أميّة الجمحي في من أمر رسول الله بقتله سوى الحلبي (١) وهو من المطعمين لجيش المشركين في مسيرهم إلى بدر ، وقتل أبوه أميّة بن خلف فيمن قتل منهم يومئذ ، ولذلك كفل عيال عمير بن وهب الجمحي على أن يذهب إلى المدينة بحجة السعي لفك ابنه الأسير وهب فيغتال رسول الله ، وأنبأه النبيّ بما أضمر عليه في ضميره فأسلم الرجل ، فحلف صفوان أن لا يكلمه أبدا.

ومع ذلك لم يذكر في من أمر رسول الله بقتله ، ولكنّه مع ذلك لم يأمن على نفسه ، فروى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير قال : خرج صفوان بن أميّة من مكة (٢) .. وقال الواقدي : مع غلامه يسار يريد الشعيبة (٣) ليركب منها إلى اليمن.

قال ابن اسحاق : فأتى عمير بن وهب إلى النبيّ وقال له : يا نبيّ الله ، إنّ صفوان بن أميّة سيد قومه ، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمّنه صلى الله عليك! قال : هو آمن. فخرج عمير في أثره حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر ..

قال الواقدي : ورآه صفوان فقال لغلامه يسار : ويحك انظر من ترى؟ قال : هذا عمير بن وهب. فقال صفوان : وما أصنع بعمير وقد ظاهر محمدا عليّ؟! والله ما جاء إلّا يريد قتلي. ولحقه عمير فقال له صفوان : يا عمير ، ما كفاك ما صنعت بي؟! حمّلتني دينك وعيالك ثم جئت تريد قتلي!

قال ابن اسحاق : فقال عمير : يا صفوان فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٦٠.

(٣) الشعيبة : ميناء الحجاز على البحر الأحمر قبل جدّة ، وقال ابن اسحاق قصد جدّة.

٢٤٣

أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به! قال صفوان : ويحك اعزب عنّي فلا تكلّمني! قال عمير : أي صفوان ، فداك أبي وامّي! أفضل الناس وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمّك ، عزّه عزّك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك! قال : إنّي أخافه على نفسي! قال : هو أحلم من ذاك وأكرم! إن رسول الله قد أمّنك!

قال الواقدي : فقال صفوان : لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها! فرجع عمير إلى رسول الله وقال : يا رسول الله ، أدركت صفوان هاربا يريد أن يقتل نفسه (بركوب البحر) فأخبرته بما أمّنته فقال : لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها. يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك.

فأعطاه رسول الله عمامته وكانت حبرة يمانية دخل فيها رسول الله يومئذ معتجرا بها (غير متحنّك) فخرج عمير بها إليه حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر. فقال له : يا أبا وهب ، جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبرّ الناس وأحلم الناس ، مجده مجدك وعزّه عزّك وملكه ملكك ، ابن امّك وأبيك ، فاذكّرك الله في نفسك! قال له : أخاف أن اقتل!

قال : قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام فان رضيت وإلّا سيّرك شهرين ، وهو أوفى الناس وأبرّهم ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا ، تعرفه؟ قال : نعم ، فأخرجه له ، فقال : نعم هو هو.

فرجع صفوان ومعه غلامه يسار مع عمير بن وهب حتى انتهوا إلى المسجد الحرام ورسول الله يصلي بالمسلمين العصر (قصرا : ركعتين) فلما سلّم ، صاح صفوان : يا محمد! إنّ عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فان رضيت أمرا (؟!) وإلّا سيّرتني شهرين؟! فقال رسول الله : انزل أبا وهب. قال : لا والله حتى تبيّن لي! قال : بل تسير أربعة أشهر! فنزل صفوان (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٣ ، ٨٥٤.

٢٤٤

بيعة النساء :

مرّ الخبر عن نزول الآيات الأوائل إلى التاسعة من سورة الممتحنة بشأن محاولة حاطب بن أبي بلتعة أن ينذر أهل مكة بمحاولة فتحها ، ونزول الآيتين التاليتين العاشرة والحادية عشرة بشأن النساء المسلمات المهاجرات قبل الفتح. والآية التالية الثانية عشرة بشأن بيعة النساء المسلمات لتوهنّ بعد الفتح : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ) ... (فَبايِعْهُنَ) بلا خلاف في ذلك ، ومن دون آية في بيعة الرجال ، وإنّما تصدّر خبر بيعة النساء ، أنها كانت بعد بيعة الرجال ، بلا تفصيل لذلك.

ومن المعهود أنّ البيعة للنصرة في الحروب ، ولا يتوقع ذلك من النساء ، ولذلك ذكر الشيخ الطوسي في «التبيان» : أنّ الوجه في بيعة النساء مع أنهنّ لسن من أهل النصرة في المحاربة هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح شأنهنّ في الدين للأنفس والأزواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام لئلّا ينفتق بهنّ فتق لما صيغ من الأحكام ، فبايعهنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حسما لذلك (١).

هذا ، وقد مرّ الخبر عن هدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لدم جمع منهم : هند بنت عتبة المخزومية زوج أبي سفيان (٢) وقال الحلبي عنها : إنّها دخلت دار أبي سفيان ، فتكلم ابو سفيان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة النساء وأعانته أمّ الفضل فقبل منهن البيعة (٣).

وعن عدد النساء ومحلّ بيعتهن ما روى الواقدي بسنده عن عبد الله بن الزبير قال : إنّ عشر نسوة من قريش أتين رسول الله بالأبطح فدخلن عليه ،

__________________

(١) التبيان ٩ : ٥٨٧ وعنه في مجمع البيان ٩ : ٤١٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ واليعقوبي ٢ : ٥٩ ، ٦٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٨.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨.

٢٤٥

وعنده ابنته فاطمة ، وزوجته (؟ : أمّ سلمة) ونساء من بني عبد المطلب. وسمّى خمسة منهن : هند بنت عتبة ، وهند بنت المنبّه بن الحجاج أمّ عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي امرأة عكرمة بن أبي جهل ، والبغوم بنت المعذّل الكنانية امرأة صفوان بن أميّة ، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومي (١).

بينما روى الطبرسي في «مجمع البيان» : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهنّ وهو على الصفا ، وكان عمر بن الخطاب أسفل منه ، فقال النبيّ : ابايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا. وكانت هند بنت عتبة متنكرة بين النساء ومتنقّبة خوفا أن يعرفها رسول الله ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقالت هند : إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال؟! (فسكت عنها رسول الله).

ثم قال : ولا تسرقن. وكان أبو سفيان واقفا يسمع. فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل ممسك ، وانّي أصبت من ماله هنات ، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟! فقال لها أبو سفيان : ما أثبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال! فعرفها رسول الله وضحك وقال : وانّك لهند بنت عتبة؟! فقالت : نعم ، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله ، عفا الله عنك! (فسكت عنها).

ثم قال : ولا تزنين. فقالت هند : أو تزني الحرّة؟! فتبسّم عمر بن الخطاب لما بينهما في الجاهلية!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تقتلن أولادكنّ. فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلتموهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٠ وعن الأبطح قال البلادي في معجم معالم مكة : إذا تجاوزت ريع الحجون مشرقا فهو الأبطح إلى المنحني عند بئر الشيبي ، أما البطحاء فهو من مهبط ريع الحجون إلى المسجد الحرام.

٢٤٦

كبارا (تعني ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم بدر) فتبسّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال : ولا تأتين ببهتان. فقالت هند : والله إنّ البهتان قبيح ، وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق!

وقال وهو يتلو الآية : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ..). فقالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (١). وقالت أمّ حكيم بنت الحارث امرأة عكرمة : يا رسول الله ، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تلطمن خدّا ولا تخمشن وجها ولا تنتفن شعرا ، ولا تشققن ثوبا ، ولا تسوّدن ثوبا ، ولا تدعين بويل (٢). فقالت : يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال : انّني لا أصافح النساء. ثم دعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال : أدخلن أيديكنّ في هذا الماء ، فهي البيعة (٣).

ثم قالت أمّ حكيم امرأة عكرمة : يا رسول الله ، إن عكرمة خاف أن تقتله فهرب منك إلى اليمن ، فأمّنه. فقال لها رسول الله : هو آمن. وكان لهم غلام روميّ ، فخرجت معه في طلب عكرمة حتى أدركته في ساحل من أرض تهامة يريد ركوب البحر ، فلما أدركته جعلت تقول له : يا ابن عمّ ، جئتك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ، فلا تهلك نفسك! فوقف لها حتى وصلت إليه فقالت له : إنّي قد استأمنت لك محمدا رسول الله. قال : أنت فعلت؟ قالت : نعم ، أنا كلّمته فأمّنك. فرجع معها ..

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤١٤.

(٢) وحكاه في التبيان ٩ : ٥٨٨ عن زيد بن أسلم. وفي مجمع البيان ٩ : ٤١٤ عن مقاتل والكلبي!

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ١٣٤ عن فروع الكافي ٢ : ٦٦ بثلاث طرق عن الصادق عليه‌السلام. وتفسير القمي ٢ : ٣٦٤ وفيه : انه قعد في المسجد يبايع الرجال إلى العصر ثم قعد لبيعة النساء.

٢٤٧

فلما دخل مكة وأقبل معها إلى رسول الله ـ أو قبل ذلك ـ قال النبيّ لأصحابه! يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا (١) فلا تسبّوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميّت. ودنا عكرمة من رسول الله وزوجته معه متنقبة ، ورسول الله جالس ، فوقفا بين يديه وقال عكرمة وهو يشير إليها : يا محمد ، إنّ هذه أخبرتني أنّك أمّنتني! فقال رسول الله : صدقت فأنت آمن. فقال عكرمة : فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال : أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة (٢) .. وعدّ خصالا من الإسلام. فقال عكرمة : والله ما دعوت إلّا إلى الحقّ وأمر حسن جميل ، قد كنت فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرّنا برّا .. فانّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فردّ عليه رسول الله امرأته بنكاحه السابق (٣) وذلك أنّ إسلام عكرمة كان في عدة امرأته لإسلامها قبله (٤).

تكريم ، وتحريم ، وفضيلة ، وعطاء :

قالوا : وقدمت اخت حليمة السعدية من بني سعد بن بكر على رسول

__________________

(١) في نصّ الواقدي زيادة : ومهاجرا. وأظنه زيادة إذ إن ذلك يتنافى وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا هجرة بعد الفتح.

(٢) كذا ، وسيأتي أن الزكاة إنما فرضت في التاسعة بعد رجوعه من فتح مكة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٢ وفي بقية الخبر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعكرمة : قل : انّي مسلم مهاجر. بينما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا هجرة بعد الفتح.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٥. وبقي ممّن أهدر رسول الله دمه وأسلم فيما بعد فأمن : وحشي قاتل حمزة ، وقد هرب إلى الطائف حتى قدم في وفد الطائف فأسلم فأمن. وهبّار ابن الأسود الذي كان قد أسقط زينب بنت النبيّ جنينها يوم هجرتها ، فأهدر النبيّ دمه ، ففرّ في فتح مكة حتى قدم المدينة بعد الجعرّانة فأسلم وأمن ، وسنأتي على خبرهما في موضعه من سياق التاريخ.

٢٤٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فتح مكة وهو بالأبطح ، فلما دخلت عليه وانتسبت له عرفها رسول الله ، وكان معها جراب فيه أقط (١) وزقّ فيه سمن فقدمتها له هدية إليه ، فدعاها رسول الله إلى الإسلام فأسلمت ، فأمر بقبول هديتها ، ثم جعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت من زمان ، فذرفت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم سألها عمّن بقي منهم فقالت : أخواك واختاك ، ولقد كان لهم موئل (ملجأ) فذهب فهم والله محتاجون إلى صلتك وبرّك. فأمر لها رسول الله بكسوة وجمل ومائتي درهم ، فانصرفت وهي تقول : والله نعم المكفول كنت صغيرا ونعم المرء كنت كبيرا عظيم البركة! (٢).

وروى الواقدي بسنده عن ابن عباس قال : قدم صديق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه من ثقيف بعد فتح مكة ومعه راوية خمر قدّمها هدية لرسول الله! فقال له رسول الله : أما علمت أنّ الله حرّمها؟! فسارّ الرجل غلامه فقال له رسول الله : بم أمرته؟ قال : ببيعها! فقال : إنّ الله الذي حرّم شربها حرّم بيعها. ففرّغوها في البطحاء.

وروى عن الزهري أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى بعد الفتح عن ثمن الخمر وثمن الأصنام وثمن الميتة وثمن الخنزير ، وحلوان الكهّان (٣) وأنه قال : لا يزيد الإسلام حلف الجاهلية إلّا شدة (ولكن) لا حلف في الإسلام (٤).

__________________

(١) الأقط : لبن مجفّف على شكل كريات مدوّرة يستعمل في الطبخ وغيره.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٤ وزاد عن الزهري : أنّه يومئذ حرّم متعة النساء! فكأنّها كانت كسوابقها مورد ابتلاء شائع في أهل مكة! والحلوان : الحلاوة.

(٤) مغازي الواقدي بسنده عن ربيعة بن عبّاد ٢ : ٨٦٧ ، ولعله يشير إلى مثل حلف الفضول ، كما مرّ الكلام فيه.

٢٤٩

وروى عن عطاء بن أبي رباح قال : جاء رجل إلى رسول الله بعد الفتح فقال : انّي كنت قد نذرت أن إذا فتح الله عليك مكة أن اصلي في بيت المقدس! فقال رسول الله : هاهنا أفضل. كرّر ذلك ثلاثا ثم قال : والذي نفسي بيده لصلاة هاهنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان (١).

وخبر وفد بكر بن وائل :

روى الصدوق في «كمال الدين» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم (بعد أن) افتتح مكة بفناء الكعبة إذ أقبل وفد إليه وسلّموا عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من القوم؟ قالوا : وفد بكر بن وائل. فسألهم عن خبر قسّ بن ساعدة الإياديّ ، فقالوا : مات. فقال رسول الله : الحمد لله ربّ الموت وربّ الحياة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كأنّي أنظر الى قسّ بن ساعدة الإيادي وهو بسوق عكاظ على جمل أحمر له وهو يخطب الناس ويقول : «أيها الناس اجتمعوا ، فإذا اجتمعتم فأنصتوا ، فإذا أنصتّم فاسمعوا ، فإذا سمعتم فعوا ، فإذا وعيتم فاحفظوا ، فإذا حفظتم فاصدقوا.

الا انه من عاش مات ، ومن مات فات ، ومن فات ليس بآت. إنّ في السماء خبرا وفي الأرض عبرا سقف مرفوع ومهاد موضوع ، ونجوم تمور ، وليل يدور وبحار (لا) تفور. يحلف قسّ ما هذا بلعب ، وأنّ من وراء هذا لعجبا! ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟!

يحلف قسّ يمينا غير كاذبة : أنّ لله دينا هو خير من الدين الذي أنتم عليه»!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٦ هذا ، وعن الصادق عليه‌السلام : أنها تعدل مائة ألف صلاة. الوافي ٨ : ١٠ ، ومن هنا أفاد الفقهاء شرط الرجحان الشرعيّ في المنذور.

٢٥٠

ثمّ قال رسول الله : رحم الله قسّا يحشر يوم القيامة أمّة وحده! ثمّ قال لهم : وهل فيكم أحد يحسن من شعره شيئا؟ فقال أحدهم : سمعته يقول :

في الأوّلين الذاهبين من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها تمضي الأكابر والأصاغر

لا يرجع الماضي ولا يبقى من الباقين غابر

 أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر

وروى فيه بسنده عن محمد بن السائب الكلبي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سألهم عن بعض حكم قسّ فحكى له أحدهم من شعره وخطبه قوله :

يا ناعي الموت ، والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزّهم خرق

دعهم فإنّ لهم يوما يصاح بهم

كما ينبّه من نوماته الصعق

منهم عراة ومنهم في ثيابهم

منها الجديد ومنها الرثّ والخلق

حتى يعودوا بحال غير حالتهم

خلق جديد وخلق بعدهم خلقوا

ثم قال : مطر ونبات ، وآباء وامهات ، وذاهب وآت ، وأموات بعد أموات ، وآيات إثر آيات : ضوء وظلام ، وليال وأيام ، وفقير وغني ، وسعيد وشقي ، ومحسن ومسي ، نبأ لأرباب الغفلة ، ليصلحنّ كلّ عامل عمله!

كلّا! بل هو الله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدا ، وإليه المعاد غدا!

أما بعد ـ يا معشر إياد ـ أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ والقبيح الذي لم ينقم؟! كلّا وربّ الكعبة ليعودنّ ما بدأ ، ولئن ذهب يوم ليعودنّ يوم (١).

__________________

(١) كمال الدين : ١٦٦ ـ ١٦٨ ، ط. طهران.

٢٥١

الأصنام في مكة وحواليها :

روى الواقدي عن سعيد بن عمرو الهذلي : أنّه كان يرى في مكة أبا تجراة يعمل الأصنام ويبيعها. وعن جبير بن مطعم قال : كنت أرى الأصنام يطاف بها في مكة ، ولم يكن رجل من قريش بمكة إلّا وفي بيته صنم ، إذا دخل بيته أو خرج تمسّح به تبرّكا ، وكان يشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم.

فلما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله : من كان يؤمن بالله فلا يتركنّ في بيته صنما إلّا كسره أو حرقه ، وثمنه حرام. فجعل المسلمون يكسرونها ، وإذ أسلم عكرمة كان إذا سمع بصنم في بيت من بيوت قريش مشى إليه حتى يكسره. وبثّ السرايا لذلك ، فبعث لهدم صنم مناة بالمشلّل : سعد بن زيد الأشهل ، فهدمه (١). وبعث لهدم صنم سواع ـ وهو لبني هذيل ـ عمرو بن العاص السهمي ، فروى عنه قال : انتهيت إليه وعنده سادنه فقال لي : ما تريد؟ قلت : هدم سواع! فقال : ما لك وله؟ قلت : أمرني رسول الله. قال : لا تقدر على هدمه! قلت : لم؟ قال : يمتنع! فقلت : أنت في الباطل حتى الآن؟! ويحك وهل يسمع أو يبصر؟! ثم دنوت إليه فكسرته ، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يكن فيه شيء (٢).

قال ابن اسحاق : وكانت العزّى في جبل بموضع نخلة في بيت يعظّمه قريش ومضر وكنانة كلها ، وحجابها وسادنها من بني شيبان من سليم (٣).

__________________

(١) مرّ الخبر عن الكلبي في الأصنام : ١٤ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن خرج من المدينة بأربع أو خمس ليالي ، بعث عليّا عليه‌السلام إلى مناة صنم هذيل وخزاعة فهدمها وأخذ سيفين : المخذم والرّسوب ، كانا أهداهما الحارث الغساني إليها ، فوهبهما النبيّ لعلي عليه‌السلام ، وبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا إلى القليس صنم طيء فهدمه ، وقيل هنا كانت هدايا الحارث الغساني.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٠ ، ٨٧١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٩.

٢٥٢

وقال الواقدي : هو أفلح بن نضر الشيباني من بني سليم ، وهو الذي عاده أبو لهب ـ وكان في فراش الموت ـ فرآه حزينا ، فقال له : ما لي أراك حزينا؟ قال : أخاف أن تضيع من بعدي العزّى! فقال أبو لهب : فلا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك! وقال خالد لرسول الله : أي رسول الله ، الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إنّي كنت أرى أبي (الوليد بن المغيرة) يذهب إلى العزّى بهديه مائة من الإبل والغنم فيذبحها للعزّى ، ويقيم عندها ثلاثا ، ثم ينصرف إلينا مسرورا! فأنا اليوم أنظر إلى ما مات عليه أبي وذلك الرأي الذي كان يعيش في فضله كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! فقال رسول الله : إنّ هذا الأمر إلى الله ، فمن يسّره للهدى تيسّر ، ومن يسّره للضلالة كان فيها.

وبعثه رسول الله لهدم العزّى ، فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه ، فلما انتهى جرّد سيفه ، فجعل السادن يصيح عليها :

أيا عزّ ، شدي شدة لا شوى لها

على خالد ، ألقي القناع وشمّري (١)

ايا عزّ ، إن لم تقتلي المرء خالدا

فبوئي بذنب عاجل أو تنصّري (٢)

قال خالد : وأخذني اقشعرار في ظهري! ثم أقبلت عليها بسيفي وأنا أقول :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إنّي وجدت الله قد أهانك (٣)

ثم جدّلها نصفين ، وهدمها .. وكان هدمها لخمس ليال بقين من رمضان (٤) ثم رجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هدمت؟ قال : نعم يا رسول الله ... قال : نعم ، تلك العزّى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا (٥).

__________________

(١) لا شوى لها : لا بقية لها ، واللفظ لابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٩.

(٢) تنصّري ، كوني نصرانية خارجة عن دينك ، أو بمعنى انتصري لنفسك على خالد!

(٣) عودا على ما قاله حين إسلامه أنه وجد الله قد خذلهم وأعزّ عبده وجنده ، كما مرّ.

(٤) بينما جاء في المنتقى : بعثه لخمس بقين من رمضان وانتهى إليها في الثلاثين فهدمها.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٣ ، ٨٧٤.

٢٥٣

وروى الواقدي عن سعيد الهذلي قال : قدم رسول الله مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رمضان ، فبث السرايا في كل وجه وأمرهم أن يغيروا على من لم يسلم (؟!). فخرج هشام بن العاص في مائتين إلى جهة يلملم (وهو جبل في واد على ثلاث ليال من مكة). وخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة إلى وادي عرنة (بعد عرفة) (١).

بينما روى الطبرسي في «إعلام الورى» قال : بعث عبد الله بن سهيل بن عمرو المخزومي (وقد لحق بالمسلمين والنبيّ ، بعد الفتح ، مع إسلام أبيه سهيل) إلى بني محارب بن فهر ، فأسلموا ، وجاء منهم نفر إلى رسول الله بإسلامهم. وبعث عمرو بن اميّة الضّمري إلى بني الديل الخزاعيين ، فدعاهم إلى الله ورسوله ، فأبوا أشدّ الاباء ، فأشار عليه الناس بغزوهم ، فقال : الآن يأتيكم سيدهم قد أسلم ، فيقول لهم أسلموا ، فيقولون نعم (فكان كما قال). وبعث غالب بن عبد الله إلى بني مدلج ، فقالوا : لسنا معكم ولا عليكم فأشار عليه الناس بغزوهم فقال : إنّ لهم سيّدا أديبا أريبا ، وربّ غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله (فكان كما قال) (٢).

ونصّ ابن اسحاق : بعث رسول الله السّرايا حول مكة تدعو إلى الله عزوجل ، ولم يأمرهم بقتال (٣).

خالد ، وبنو جذيمة :

قال ابن اسحاق : كان رجل من بني جذيمة بن عامر من بني كنانة تاجرا في

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٠ ، ٧١.

٢٥٤

الجاهلية إلى اليمن ، في سنة تاجر فيها إليها رجال من قريش منهم : عفّان بن أبي العاص بن اميّة ومعه ابنه عثمان ، وأبو عبد الرحمن عوف بن عبد عوف الزهري ، والفاكه بن المغيرة المخزومي ، ومات الرجل من بني جذيمة باليمن ، فأوصى بماله أن يحمله اولئك الرجال من قريش إلى ورثته بأرضهم الغميصاء قرب مكة ، فحملوه معهم. وعلم بذلك رجل من بني جذيمة يقال له : خالد بن هشام ، فوافق جمعا من قومه ليأخذوا المال من اولئك الرجال قبل أن يصلوا إلى أهل الميّت ، وأن يقاتلوهم إن أبوا عليهم ذلك. فلقوهم وطالبوهم المال فأبوا عليهم فقاتلوهم ، فقتل أبو عبد الرحمن عوف بن عبد عوف الزهري ، والفاكه بن المغيرة المخزومي ، وفرّ عفّان بن أبي العاص وابنه عثمان.

وهمّت قريش بغزو بني جذيمة ، وأرسل بنو جذيمة إلى قريش : ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منّا ، إنّما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم ولم نعلم ، ونحن نعقل لكم (أي نؤدي عقله : ديته) ما كان لكم قبلنا من دم أو مال. ورصد عبد الرحمن بن عوف لقاتل أبيه فقتله ، فقبلت قريش بذلك ، ووضعوا الحرب (١).

وبقي وتر الفاكه بن المغيرة المخزومي عمّ خالد بن الوليد لم يثأر ولم يقتصّ له من بني جذيمة ، وخلد هذا في خلد خالد وما انصاع لما صدع به رسول الله بعد فتح مكة من وضع ترات الجاهلية ودمائها بما فيها من دم الحارث بن عبد المطّلب من بني هاشم لم يقتصّ له ، ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما قال المفيد ـ أراد أن يستثمر تلك الترة التي كانت بين خالد بن الوليد وبينهم لصالح الإسلام ، قال : «ولو لا ذلك ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدا أهلا للإمارة على المسلمين .. ولذلك أيضا أنفذ معه عبد الرحمن بن عوف

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٤.

٢٥٥

أيضا للترة التي كانت بينه وبينهم» (١) «فأنفذ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، ولم ينفذه محاربا (بل) داعيا إلى الإسلام» (٢).

وهذا هو ما رواه ابن اسحاق في السيرة عن حكيم بن حكيم بن عبّاد بن حنيف الأنصاري (٣) عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، ورواه الواقدي أيضا عنه بواسطة عبد الرحمن بن عبد العزيز أكثر تفصيلا قال : لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، بعثه رسول الله إلى بني جذيمة داعيا لهم إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلا. فخرج في المسلمين من المهاجرين والأنصار وبني سليم : ثلاثمائة وخمسين رجلا.

فلما انتهى إليهم بأسفل مكة قيل لبني جذيمة : هذا خالد بن الوليد ومعه المسلمون. قالوا : ونحن قوم مسلمون قد صدّقنا بمحمد وبنينا المساجد وأذّنا فيها وصلّينا ، (ولكنهم تسلّحوا) فلما انتهى إليهم خالد قال لهم : الإسلام! قالوا : نحن مسلمون! قال : فما بال السلاح عليكم؟ قالوا : إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا أنتم هم ، فأخذنا السلاح لندفع عن أنفسنا .. قال : فضعوا السلاح! فأخذوا يضعون عنهم السلاح.

فقال لهم رجل منهم يقال له : جحدم : يا بني جذيمة ، إنّ محمدا ما يطلب من

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٣٩.

(٢) الإرشاد ١ : ٥٥.

(٣) الرجل من الأنصار ثم من بني حنيف الأنصاريين ، جدّه عبّاد أخو سهل وعثمان ابني حنيف الأنصاريين عاملي علي عليه‌السلام على البصرة قبل الجمل وبعدها ، لم يذكره النجاشي وذكره الطوسي في رجال الإمام السجاد عليه‌السلام : ٨٧ ، وذكره الأردبيلي في جامع الرواة ١ : ٢٦٨ راويا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أيضا ، وهو الصحيح.

٢٥٦

أحد أكثر من أن يقرّ بالإسلام ونحن مقرّون بالإسلام (و) خالد لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين. فقال له قومه : إنّ محمدا قد فتح مكة ، والناس قد أسلموا ، وإنّا مسلمون ، فما نخاف من خالد؟ فقال : أما والله ليأخذنكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة! وأبى أن يلقي سيفه حتى كلّموه جميعا فألقى سيفه (١).

فلما وضع القوم السلاح قال لهم خالد : استأسروا! وأمرهم فأخذ بعضهم يكتف بعضا ، فكلما كتف الرجل والرجلان دفع الواحد أو الاثنين إلى رجل من المسلمين.

واختلف المسلمون في أسرهم على قولين : فقائل يقول : نبلوهم ونخبرهم وننظر هل يسمعون ويطيعون! وقائل يقول : بل نذهب بهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولما جاء وقت الصلاة كانوا يفكّونهم فيصلون ثم يربطون! وباتوا هكذا في وثاق! فلما كان السحر نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير فليذافّه! أي يجهز عليه بالسيف! فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم (ولكنّ) المهاجرين والأنصار فكّوا اساراهم (٢).

قال الواقدي : وكان بنو سليم موتورين من بني جذيمة متغيّظين عليهم يريدون القصاص منهم ، لحروب كانت بينهم فكانت بنو جذيمة قد أصابوا

__________________

(١) ورد هذا في مغازي الواقدي ضمن الخبر عن الباقر عليه‌السلام ، بينما قطع ابن اسحاق الخبر ليروي خبر جحدم عن بعض أهل العلم من بني جذيمة ثم يرجع إلى سائر الخبر عن الباقر عليه‌السلام أيضا.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٥ ، ٨٧٦ ثم لا يرجع الواقدي إلى ما جاء في رواية ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧١ ، ٧٢ من تبرّي النبيّ من فعل خالد وبعثه عليّا عليه‌السلام بديات القتلى من بني جذيمة إلى أوليائهم الباقين منهم. ولا يوجد الخبر فيما بأيدينا من كتبنا.

٢٥٧

بني سليم في أرض برزة في الجاهلية قبل الإسلام ، فتشجّع هنا بنو سليم على بني جذيمة (١) وترا وقصاصا.

وروى عن زيد بن ثابت قال : لما نادى خالد بن الوليد أن يذفّفوا على أسراهم وثب بنو سليم على أسراهم فذافّوهم ، وأرسل الأنصار والمهاجرون أسراهم فغضب خالد عليهم ، فقال له أبو اسيد الساعدي : اتق الله يا خالد ، والله ما كنا نقتل قوما مسلمين! قال : وما يدريك؟ قال : هذه المساجد بساحتهم ونسمع إقرارهم بالإسلام (٢).

وروى عن أبي قتادة قال : لما نادى خالد في السحر : من كان معه أسير فليذافّه أرسلت أسيري وقلت لخالد : اتّق الله ، فانّك ميّت! وإن هؤلاء قوم مسلمون! فقال لي خالد : يا أبا قتادة ، إنّه لا علم لك بهؤلاء. قال أبو قتادة : وانما كان يكلّمني خالد على ما في نفسه من الترة عليهم! (٣).

وروى عن أبي بشير المازني قال : لما نادى خالد : من كان معه أسير فليذافّه! كان معي أسير منهم فأخرجت سيفي لأضرب عنقه! فقال لي الأسير : يا أخا الأنصار ، انظر إلى قومك! فنظرت فإذا الأنصار طرّا قد أرسلوا اساراهم ، فقلت له : فانطلق حيث شئت. فقال : بارك الله عليكم ، ولكن قتلنا من كان أقرب رحما منكم : بنو سليم! (٤).

وروى عن خالد بن الياس يقول : بلغنا أنه قتل منهم ثلاثون رجلا تقريبا (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٤.

٢٥٨

وروى ابن هشام أنّه انفلت رجل من القوم (بني جذيمة) فأتى رسول الله فأخبره الخبر ، فسأله رسول الله : هل أنكر عليه أحد؟ ولم يكن يعرف المسلمين ، فقال : نعم ، قد انكر عليه رجل أبيض ربعة (لا بالطويل ولا بالقصير) فنهره خالد فسكت عنه. وانكر عليه رجل آخر طويل فراجعه واشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب : أما الأوّل فابني عبد الله ، وأمّا الآخر فسالم مولى أبي حذيفة (١).

وفي تمام خبر حكيم بن حكيم عن الباقر عليه‌السلام قال : فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (٢).

وروى الواقدي قال : استقرض رسول الله من ثلاثة نفر من قريش بعد أن أسلموا : حويطب بن عبد العزّى أربعين ألف درهم. وصفوان بن يحيى المخزومي خمسين ألف درهم. وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أربعين ألف درهم. فكانت مائة وثلاثين ألف درهم ، فقسم منها بين أهل الضعف من أصحابه ، فكان يصيب الرجل منهم خمسون درهما أو أقل أو أكثر. وكان منه ما بعث به إلى بني جذيمة (٣).

علي عليه‌السلام يرأب الصّدع :

في تمام خبر ابن اسحاق عن حكيم عن الباقر عليه‌السلام قال : ثم دعا رسول

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٧٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٢. ولم يروه الواقدي في تمام خبر حكيم عن الباقر عليه‌السلام ورواه مرسلا ٣ : ٨٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٣ ، ٨٦٤ وتمام الخبر : فلما فتح الله عليه هوازن ردّها. وقال في ٢ : ٨٨٢ : يقال : إنّ المال الذي بعث به مع عليّ عليه‌السلام كان استقرضه النبيّ من ابن أبي ربيعة وصفوان بن اميّة وحويطب بن عبد العزّى. وقال اليعقوبي : بعث معه بمال ورد من اليمن! ٢ : ٦١.

٢٥٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب (رضوان الله عليه) فقال له : يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. (وبعث معه بمال).

فخرج علي عليه‌السلام ومعه المال الذي بعث به معه رسول الله ، فودى لهم الدماء وما اصيب لهم من الأموال ، حتى انه ليدي ميلغة الكلب (١) حتى لم يبق شيء من دم ولا مال إلّا وداه ، وبقيت معه من المال بقية ، فقال لهم : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا : لا ، قال : فانّي اعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.

ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر ، فقال له : أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول ثلاث مرات : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (٢).

وقال الواقدي : فلما رجع عليّ عليه‌السلام دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما صنعت يا علي؟ فقال : يا رسول الله ، قدمنا على قوم مسلمين قد بنوا المساجد بساحتهم ، فوديت لهم كلّ من قتل خالد حتى ميلغة الكلاب ، ثم بقي معي بقية من المال فقلت لهم : هذا من رسول الله مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فقال رسول الله : أصبت! ما أمرت خالدا بالقتل ، إنّما أمرته بالدعاء (٣).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عنه عليه‌السلام قال : فذهبت فوديتهم ثم ناشدتهم بالله : هل بقي شيء؟ فقالوا : إذ نشدتنا بالله فميلغة كلابنا وعقال بعيرنا. فأعطيتهم لهما ، وبقي معي ذهب كثير فأعطيتهم إياه وقلت : هذا لذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الميلغة : إناء خشبيّ لولوغ الكلاب عند الرعاة وأهل البوادي.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٢ ، ٧٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٢ ولم يروه من خبر حكيم عن الإمام الباقر عليه‌السلام مع أنّه روى أوله ، ورواه عنه ابن اسحاق في السيرة مختصرا ، كما مرّ.

٢٦٠