موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

وعرباض بن سارية (١) فنفروا من بلادهم وحشّدوا : تسعمائة أو ألفا ، وهم على الخيول جميعا ، مع كل رجل رمحه وسلاحه ، ومعهم الرسولان إليهم ، ولواءان وخمس رايات سود مطوية غير معقودة. وتقدم عيينة بن الحصن فنادى النبيّ من خلفه : أنا عيينة! هذه بنو سليم قد حضرت بما ترى من العدة والعدد والسلاح ، وإنهم لأحلاس الخيل (٢) ورجال الحرب ، ورماة الحدق (٣).

وقال قائلهم : يا رسول الله ، إنك تقصينا وتستغشّنا ونحن أخوالك (٤) فقدّمنا يا رسول الله ، حتى تنظر كيف بلاؤنا ، فانا صبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، فرسان على متون الخيل ، فاعقد لنا (لواء) وضع رايتنا حيث رأيت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية ، فما فعل فتى كان حسن الوجه جيّد اللسان كان قد قدم مع وفدكم عليّ؟ قالوا : مات (٥).

فسلّم رايتهم إلى رسوله إليهم [الحجاج بن علاط السّلمي (٦)] وعقد لواءين لهم فلواء يحمله عباس بن مرداس ، ولواء يحمله خفاف بن ندبة (٧) ثم جعلهم مقدمته مع خالد بن الوليد حتى بلغوا مرّ الظهران (٨). فلما رأى عيينة ذلك عضّ على أنامله! فقال له أبو بكر : علام تندم؟ قال : على قومي أن لا يكونوا نفروا مع محمد فأين

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩.

(٢) الأحلاس جمع الحلس ، وهو جلّ الفرس والبعير.

(٣) أي يرمون حدق العيون.

(٤) ذلك أن أم هاشم بن عبد مناف هي عاتكة بنت مرّة بن هلال السّلمي من بني سليم.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٢ ، ٨١٣.

(٦) المواهب اللدنيّة ٢ : ٣٦٤ عن الواقدي.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٣ وانظر : ٨١٩.

٢٠١

يريد محمد يا أبا بكر! قال : حيث يشاء الله! (١) ومن هنا يعلم مدى الكتمان الشديد.

وكان رسول الله قد أرسل إلى بني كعب بن عمرو من خزاعة : بسر بن سفيان وبديل بن ورقاء ، فلقيه بنو كعب أيضا بقديد (٢) وكانوا خمسمائة ، فعقد لهم ثلاثة ألوية : لواء مع بسر بن سفيان ، ولواء مع ابن شريح ، ولواء مع عمرو بن سالم (٣).

وفي بني مزينة ثلاثة ألوية : لواء مع بلال بن الحارث ، ولواء مع عبد الله بن عمرو ، ولواء مع النعمان بن مقرّن.

وفي جهينة ـ وهم ثمانمائة ـ أربعة ألوية : لواء مع أبي زرعة ، ولواء مع ابن مكيث ، ولواء مع سويد بن صخر ، ولواء مع عبد الله بن بدر.

وفي بني أسلم ـ وهم أربعمائة ـ لواءان : أحدهما لبريدة بن الحصيب ، والآخر لناجية بن الأعجم.

وكانت رايات الأوس : راية بني عبد الأشهل مع أبي نائلة ، وراية بني ظفر مع قتادة بن النعمان ، وراية بني حارثة مع أبي بردة بن نيار ، وراية بني معاوية مع جبر بن عتيك ، وراية بني خطمة مع أبي لبابة بن عبد المنذر ، وراية بني اميّة مع نبيض ، وراية بني ساعدة مع أبي اسيد الساعدي.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ و ٨٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠١. وأما بديل بن ورقاء فقد تخلّف في مكة ثم قدم مع أبي سفيان ، كما يأتي ، ولم يعرف لما ذا تخلف؟ وأنا لا أستبعد أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تقدّم إلى بديل أن يستدرج قريشا وأبا سفيان للخروج به ليلا ليرى نيران المسلمين ، فيستدرج إلى فتح مكة سلما بغير حرب ، باستسلام أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة.

٢٠٢

ورايات الخزرج : راية الحارث بن الخزرج مع عبد الله بن زيد ، وراية بني سلمة مع قطبة بن عامر بن حديدة ، وراية بني مالك بن النجّار مع عمارة بن حزم ، وراية بني مازن مع سليط بن قيس ، وراية بني دينار مع ...

وللمهاجرين ثلاث رايات : راية مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وراية مع الزبير ، وراية مع سعد بن أبي وقّاص (١).

إفطار الصيام ، والعصاة :

روى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الباقر عليه‌السلام قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة الفتح فصام وصام الناس حتى نزل كراع الغميم (٢) فأفطر وأفطر الناس ، وصام قوم فسمّوا العصاة ، لأنهم صاموا (٣).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم فيما بين الظهر والعصر دعا بقدح من ماء فشربه وأفطر فافطر الناس معه ، وتمّ اناس على صومهم ، فسمّاهم العصاة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ وسيأتي أن لواء الفتح كان مع سعد بن عبادة فنقله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي عليه‌السلام.

(٢) كراع الغميم على مرحلتين من مكة من جهة المدينة. القاموس المحيط ٣ : ٧٨.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٩.

(٤) فروع الكافي ٤ : ١٢٧ ، الحديث ٥ وكتاب الفقيه ٢ : ٩١ ، الحديث ٤٠٧. وتمام الخبر : وانما يؤخذ بآخر أمر رسول الله. مما يشعر بأن الأمر بالافطار كان هو الأمر الأخير بعد ترخيص الصيام والافطار في الأسفار.

٢٠٣

ورواه الواقدي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما كنّا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول الله إناء من ماء في يده حتى رآه المسلمون ثم أفطر. وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن قوما صاموا ، فقال : اولئك العصاة! (١).

وقال ابن اسحاق : خرج فصام وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ـ بين عسفان وأمجّ ـ أفطر (٢).

وهنا في منزل القديد نقل المعتزليّ عن كتاب الجمل لأبي مخنف روى بسنده قال : قالت أمّ سلمة لعائشة عند خروجها إلى البصرة : أتذكرين يوم أقبل رسول الله ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال ، فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت لك : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلّا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني ـ يا ابن أبي طالب ـ ويومي؟! فأقبل عليّ رسول الله وهو محمرّ الوجه غضبا فقال لي : ارجعي وراءك! والله لا يبغضه أحد من الناس إلّا وهو خارج من الإيمان! فرجعت نادمة ساخطة. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٢ هذا وقد روى من قبل في غزوة بدر : أن النبيّ أفطر لما خرج من المدينة إلى بيوت السقيا المتصلة بالمدينة ١ : ٢٢ مما يدل على أنّ هذا الإفطار المتأخّر إلى مرحلتين عن مكة إنّما كان لإفطار من التحق به أخيرا من بني سليم وبني كعب بن عمرو من خزاعة والعصاة.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

٢٠٤

وهل علمت قريش بالخبر؟

المنزل التالي مرّ الظّهران ، وسيأتي عن ابن اسحاق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل مرّ الظّهران وقد عمّيت الأخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل (١).

ثم هو يروي أن حماس بن قيس بن خالد من بني بكر (من كنانة) كان قبل دخول رسول الله يعدّ سلاحا ويصلحه ، حتى سألته امرأته : لما ذا تعدّ ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه! واني لأرجو أن اخدمك بعضهم ، وارتجز يقول :

إن يقبلوا اليوم فما لي علّة

هذا سلاح كامل وإلّة

 وذو غرارين سريع السّلة (٢)

فهذا يقتضي أن يكونوا قد أتاهم خبر عنه وعلموا بخروجه ومسيره إليهم ، وأنه سيقبل عليهم اليوم أو غدا.

وأظنّ أن هذا هو السرّ في ما يأتي من خروج العباس بن عبد المطّلب بأهله ، وابن أخيه وأبي سفيان المغيرة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وابن اخت العباس وابن عمّة أبي سفيان : عبد الله بن ابي أميّة المخزومي اخو أمّ سلمة المخزومية من ابيها. وأنّ هذا هو سرّ خروج أبي سفيان صخر بن حرب مع حكيم بن حزام ليلة وصول عسكر المسلمين إلى مرّ الظّهران في ظهر مكة ، وإلّا فما سبب خروجه حينئذ؟! وستأتي هذه الأخبار.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٢.

(٢) ابن اسحاق في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٩ ، ٥٠ وانظر مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣. وإلّة : الحربة عليها السنان.

٢٠٥

وفي مرّ الظّهران ظهر مكة :

قال الطبرسي : ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ الظّهران وقد غمّت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عنه (١).

وقال الواقدي : واجتمع المسلمون بمرّ الظّهران ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسير رسول الله إليهم. وبلغ رسول الله إلى مرّ الظّهران عشاء ، فأمر أصحابه أن يوقدوا النيران. فأوقدوا عشرة آلاف نار! وأجمعت قريش أن تبعث أبا سفيان بن حرب يتحسّب الأخبار وقالوا له : إن لقيت محمدا ، فان رأيت في أصحابه رقّة فآذنه بحرب ، وإلّا فخذ لنا منه جوارا! فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام ، ولقيا بديل بن ورقاء فاستتبعاه فخرج معهما. فلمّا بلغوا الأراك من مرّ الظّهران رأوا الأبنية (الخيام) والعسكر والنيران ، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الابل فأفزعهم ذلك فزعا شديدا (٢). فقالا لبديل : هؤلاء بنو كعب (من خزاعة) حاشتها (جمعتها وساقتها) الحرب! فقال بديل : هؤلاء أكثر من بني كعب! فقال بعضهم : فهل هي هوازن جاءت إلى أرضنا للنجعة (طلب الماء والكلاء)؟ وقالوا : والله ما نعرف هذا ، إنّ هذا العسكر مثل يوم الحجّاج (٣).

أبو سفيان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى الواقدي بسنده عن ابن عباس عن أبيه قال : لما نزل رسول الله بمرّ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦.

(٢) وعليه فبعث قريش لأبي سفيان لتحسّب الأخبار لم يكن لرؤيتهم النيران ولا لانه بلغهم ـ كما قال ـ حرف واحد من مسير رسول الله ، اذن فلما ذا أجمعوا أن يرسلوه؟! اللهم إلّا ما رجّحناه آنفا.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٤.

٢٠٦

الظّهران قلت (في نفسي) : واصباح قريش! والله لئن دخلها رسول الله عنوة إنّه لهلاك قريش آخر الدهر! فأخذت بغلة رسول الله الشهباء فركبتها ألتمس انسانا ابعثه إلى قريش فيلقون رسول الله قبل أن يدخلها عليهم عنوة. فبينا أنا في الأراك (من مرّ الظّهران) أبتغي انسانا ، إذ سمعت كلاما يقول : والله ما رأيت كالليلة من النيران! وإذا بأبي سفيان. فناديته : أبا حنظلة! فعرف صوتي فقال : يا لبّيك أبا الفضل مالك فداك أبي وامّي! فقلت له : ويلك ، هذا رسول الله في عشرة آلاف! فقال : بأبي وامّي! فما تأمرني؟ هل من حيلة؟ قلت : نعم ، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ، فإنه والله إن ظفر بك دون رسول الله لتقتلنّ! فقال ابو سفيان : وأنا أرى ذلك.

فرجع عنه بديل وحكيم. وجاء هو فركب خلفي ، فتوجّهت به. فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا؟ (فقلت : العبّاس) فاذا رأوني قالوا : عمّ رسول الله على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطّاب ، فلما رآني قام فقال : من هذا؟ فقلت : العبّاس ، فنظر فرأى أبا سفيان خلفي فقال : ابو سفيان عدوّ الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهد ولا عقد. ثم أخذ يشتدّ إلى رسول الله. وأنا ركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعا على باب خيمة النبيّ ، فدخلت عليه ، ودخل عمر على إثري فقال عمر : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان عدوّ الله ، قد أمكن الله منه بلا عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه. فقلت : يا رسول الله ، إني قد أجرته! ثم قلت لعمر : مهلا يا عمر! فانه لو كان رجل من بني عديّ بن كعب ما قلت هذا (لانه من عشيرتك) ولكنه أحد بني عبد مناف! فقال رسول الله : اذهب به ، فقد أجرته لك ، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. فذهبت به (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦ ، ٨١٧ مسندا ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٤ ـ ٤٥ ونحوهما في إعلام الورى ١ : ٢١٩ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ ، ٨٤٧.

٢٠٧

وفي نقل آخر للواقدي : أن العباس أقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال : أسلما ، فاني جار لكما حتى تنتهوا إلى رسول الله ، فاني أخشى أن تقطعوا دونه! فوافقوا ، فخرج بهم العباس حتى أتى رسول الله فدخل عليه فقال : يا رسول الله ، أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم ، يدخلون عليك؟ قال : أدخلهم. فدخلوا عليه .. فقال لهم : تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟! فشهدوا : أن لا إله إلّا الله ، وشهد بديل وحكيم بالرسالة ، ولم يشهد أبو سفيان! فقال النبيّ : وأنّي رسول الله! فقال أبو سفيان : يا محمد! والله إنّ في النفس من هذا لشيئا يسيرا بعد! فأرجئها! فقال رسول الله للعباس : قد أجرناهم ، فاذهب بهم إلى منزلك. فذهب بهم.

وأصبح الصباح :

قال العباس : فلما طلع الفجر أذّن العسكر كلّه! ومن أذانهم فزع أبو سفيان فقال لي : ما هذا؟ فقلت : الصلاة. فقال : كم يصلون في اليوم والليلة؟ قلت : يصلون خمس صلوات. فقال : والله كثير! ثم خرجا ووقفا حيث يرون رسول الله وهو يتوضأ ، ورآهم يبتدرون وضوء النبيّ (١) وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلا منهم إلّا مسح بها وجهه! (٢). فقال لي : يا أبا الفضل ، ما رأيت ملكا هكذا قط ، لا ملك كسرى ، ولا ملك بني الأصفر (٣) فلما صلّى (٤) قال : أدخلني عليه يا أبا الفضل (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٥ ، ٨١٦ والوضوء بفتح الواو : ماء الوضوء.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦ وبنو الأصفر : الروم.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢١ وفيه أن أبا سفيان أسلم ليلا وعلّمه العباس الوضوء والصلاة فصلى معهم.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.

٢٠٨

حوار أبي سفيان ورسول الإيمان :

قال العباس : فلما أصبحت غدوت به ، فلما رآه رسول الله قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟! قال : بأبي أنت ، ما أحلمك وأكرمك! وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عنّي شيئا بعد (١) يا محمد! استنصرت إلهي واستنصرت إلهك. فلا والله ما لقيتك من مرة إلّا ظفرت عليّ! فلو كان الهي محقّا وإلهك مبطلا غلبتك! (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا سفيان : ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟! فقال ابو سفيان : بأبي أنت وامّي ، ما أحلمك وأكرمك! وأعظم عفوك! أما هذه فو الله إنّ في النفس منها لشيئا بعد! فقلت له : ويحك ، اشهد أن لا إله إلّا الله واشهد أنّ محمدا عبده ورسوله! (٣). فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (٤) ثم قال : يا محمد! جئت بأوباش الناس! من يعرف ومن لا يعرف ، إلى أصلك وعشيرتك؟! فقال رسول الله : أنت أظلم وأفجر! غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب (من خزاعة) بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه! فقال أبو سفيان : يا رسول الله ، وحيّكم؟! لو كنت جعلت حدّتك ومكيدتك بهوازن فهم أبعد رحما وأشدّ لك عداوة! فقال رسول الله : إنّي لأرجو من ربّي أن يجمع ذلك لي كله بفتح مكة وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن! وأن يغنّمني الله أموالهم وذراريهم ، فإني

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.

(٣) في إعلام الورى ١ : ٢٢١ يضرب عنقك أو تشهد. وفي السيرة : قبل أن تضرب عنقك ٤ : ٤٦ ولكن ليس فيه اجارته من قبل العباس.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٨.

٢٠٩

راغب إلى الله تعالى في ذلك (١). فقال لي أبو سفيان : فما نصنع باللات والعزّى؟! فقال عمر : اسلح عليهما (٢). فقال له أبو سفيان : افّ لك! ما أفحشك يا عمر! ما يدخلك في كلامي وكلام ابن عمي!

ثم قال أبو سفيان : يا رسول الله ، إني احبّ أن تأذن لي إلى قومك فانذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله! فأذن له رسول الله. فقال أبو سفيان للعباس : كيف أقول لهم؟ بيّن لي من ذلك أمرا يطمئنّون إليه. فقال له رسول الله : تقول لهم : من قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا رسول الله ، وكفّ يده ، فهو آمن! ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن! فقلت : يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر ، فلو خصصته بمعروف! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! قال أبو سفيان : داري؟! قال : دارك. ثم قال : ومن أغلق بابه فهو آمن!

فقام أبو سفيان ومضى لوجهه. فقلت للنبيّ : يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرّقا. فقال لي رسول الله : فادركه واحبسه في مضيق الوادي حتى تمرّ به جنود الله. فلحقته فناديته : يا أبا حنظلة! فوقف وقال : أغدرا يا بني هاشم؟! فقلت له : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ، ولكن اصبح حتى تنظر إلى جنود الله (٣).

وعليه فان العباس استصحب أبا سفيان تلك الليلة معه إلى خيمته.

وهنا روى الصدوق مرسلا في «كمال الدين» : أن أبا سفيان قال في نفسه :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.

(٢) سلح : أي سلخ أوساخه وقذاراته.

(٣) كمال الدين : ٣١٢ ط النجف الأشرف.

٢١٠

من فعل مثل ما فعلت؟! جئت فدفعت يدي في يده! ألا كنت أجمع عليه الجموع من الأحابيش وكنانة فكنت القاه بهم فلعلّي كنت أدفعه! فناداه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خيمته قال : يا أبا سفيان : إذا كان الله يخزيك (١).

استعراض عسكر المسلمين :

قال الواقدي : وعبّأ رسول الله أصحابه ، وكان قد قدّم بني سليم في ألف رجل بقيادة خالد بن الوليد ، ورايته يحملها الحجاج بن علاط السلميّ ، ولواءين : أحدهما للعباس بن مرداس ، والآخر يحمله خفاف بن ندبة.

فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبّر ثلاثا فكبّروا معه ، فقال أبو سفيان : من هذا؟ قال : خالد بن الوليد. قال : الغلام! قال : نعم.

ثم مرّ الزبير بن العوّام براية سوداء ومعه مهاجرون وأعراب ، فلما حاذاهما كبّر فكبّروا ، فقال : من هذا؟ قال : الزبير بن العوّام. قال : ابن اختك (صفيّة) قال : نعم.

ثم مرّ أبو ذرّ الغفاري ـ أو ايماء بن رحضة ـ بثلاثمائة من بني غفار ، فلما حاذوهما كبّروا ، فقال : يا أبا الفضل من هؤلاء؟ قال : بنو غفار ، قال : ما لي ولهم؟!

ثم مرّ بريدة بن الحصيب الأسلمي بمائتين من بني أسلم ، وناجية بن الأعجم بمائتين آخرين منهم ، بلواءين معهما ، ولما حاذوهما كبّروا ، فقال : من هؤلاء! قال : أسلم. قال : يا أبا الفضل ما لي ولأسلم؟! قال العباس : هم قوم دخلوا الإسلام.

ثم مرّ بسر بن سفيان الكعبي الخزاعي بخمسمائة منهم ، وكبّروا ، فقال صخر : من هؤلاء؟ قال : بنو كعب بن عمرو (من خزاعة) قال : نعم ، هؤلاء حلفاء محمد! (وليس النبيّ).

__________________

(١) كمال الدين : ٣١٢ ط النجف الأشرف.

٢١١

ثم مرّت مزينة في ألف رجل ، ومائتي فرس ، وثلاثة ألوية مع بلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو والنعمان بن مقرّن ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : مزينة. قال : يا أبا الفضل ما لي ولمزينة؟ جاءتني تقعقع من شواهقها (١).

ثم مرّت جهينة في ثمانمائة ، كل مائتين بلواء مع : رافع بن مكيث ، وسويد بن صخر ، وعبد الله بن بدر ، ومعبد بن خالد ، وكبّروا ثلاثا.

ثم مرّ أبو واقد الليثي بمائتين من بني ليث وبني بكر ، وبني ضمرة من كنانة ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : بنو بكر (من كنانة) قال : نعم ، والله هم الذين غزانا محمد (!) بسببهم ، أهل شؤم والله ، أما والله ما شوررت فيه ولا علمته ، ولقد كنت له كارها حيث بلغني ، ولكنّه أمر حمّ (أي صار أجله). فقال له العباس : قد خار الله لك في غزو محمد ، فقد دخلتم في الإسلام كافّة!

وقيل : بل كان لواء بني ليث مع الصعب بن جثّامة الليثي في مائتين وخمسين من بني ليث فحسب ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : بنو ليث.

وفي الأخير مرّت ثلاثمائة من أشجع بلواءين مع نعيم بن مسعود الأشجعي ومعقل بن سنان الأشجعي ، وكبّروا ، فقال : من؟ فقال العباس : هم من أشجع! فقال أبو سفيان : هؤلاء كانوا أشدّ العرب على محمد (وهكذا)! فقال العباس : أدخل الله في قلوبهم الإسلام ، وهذا من فضل الله ـ عزوجل ـ فسكت (٢).

المهاجرون والأنصار :

وكان الأنصار أربعة آلاف ولهم خمسمائة من الخيل ، وكان المهاجرون سبعمائة

__________________

(١) كانت منازل مزينة في الجبال الشواهق ، والقعقعة : أصوات الأسلحة.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩ ، ٨٢٠.

٢١٢

ولهم ثلاثمائة فرس (١) وقد مرّ في الخمسمائة مع الزبير بن العوّام جمع من المهاجرين (٢) مائة أو مائتان ، وبقي خمسمائة منهم بعد الخمسة آلاف من الأنصار. مع كل بطن من الأنصار راية ولواء ، فيهم ألف دارع بالحديد لا يرى منهم إلّا الحدق (٣) ولذلك قيل لهم الكتيبة الخضراء أي السوداء (٤).

الكتيبة الخضراء ، والراية :

روى الواقدي قال : لما طلعت كتيبة رسول الله الخضراء ، طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل ، وجعل الناس يمرّون ، كل ذلك وأبو سفيان يقول للعباس : ما مرّ محمد؟! (كذا) فيقول العباس : لا.

وكان رسول الله قد أعطى رايته سعد بن عبادة الخزرجي فكان هو أمام الكتيبة ، فلما مرّ سعد براية النبيّ نادى ونادى معه من كان معه : يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحلّ الحرمة! اليوم أذلّ الله قريشا!

وأقبل رسول الله يسير على ناقته القصواء (٥) معتما بغير ذوابة بنصف برد يماني أحمر (٦) أو أسود (٧) بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن (٨) واسيد بن حضير

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١ وسيرة ابن هشام ٤ : ٤٧.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٦ ، ٤٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣ و ٨٢٤.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.

٢١٣

الأنصاري ، وأبي بكر. وكان على عمر بن الخطّاب الحديد ، وله زجل بصوت عال (فلم يعرفه أبو سفيان) فقال للعباس : يا أبا الفضل ، ومن هذا المتكلّم؟ قال : هو عمر بن الخطاب. فقال أبو سفيان : والله لقد قوي أمر بني عديّ بعد قلّة وذلّة! فقال له العباس : يا أبا سفيان ، إنّ الله يرفع ما يشاء بما يشاء ، وإنّ عمر ممّن رفعه الإسلام (١). فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل ، ما رأيت مثل هذه الكتيبة قطّ ، ولا خبّرنيه مخبّر؟ سبحان الله ، ما لأحد بهذه طاقة ولا يدان! ثم قال : لقد أصبح ملك ابن اخيك الغداة عظيما!

فروى عن العباس قال : قلت له : ويحك يا أبا سفيان ، ليس بملك ولكنّها نبوة! فقال أبو سفيان : نعم (٢) إذن (٣).

وأقبل رسول الله حتى إذا حاذى أبا سفيان ، ناداه أبو سفيان : يا رسول الله ، أمرت بقتل قومك؟! إن سعدا ـ ومن معه ـ حين مرّ بنا قال : يا أبا سفيان ، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحلّ الحرمة! اليوم أذلّ الله قريشا! وإنّي انشدك الله في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس! (٤).

فقال العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ، إنّي لا آمن أن تكون لسعد صولة في قريش (٥) أو قالها عمر بن الخطاب (٦) أو عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ وتاريخ اليعقوبي ١ : ٥٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٥) الإرشاد ١ : ١٣٥ وفي ٦٠ : بعض القوم.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٩ قال ابن اسحاق : رجل من المهاجرين ، فقال ابن هشام : هو عمر بن الخطاب.

٢١٤

عوف (١) فقال رسول الله لعلي بن أبي طالب : أدركه ، فخذ الراية منه ، فكن أنت الذي تدخل بها (٢) مكة ، فأدركه علي عليه‌السلام فأخذها منه ، ولم يمتنع عليه سعد من دفعها إليه (٣).

وجاء حكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء (٤) وجبير بن مطعم العدوي (٥) إلى رسول الله فأسلموا وبايعوه ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأولين بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام (أو التسليم) وكانت دار أبي سفيان في أعلى مكة ودار حكيم ابن حزام في أسفل مكة ، فأضاف صلى‌الله‌عليه‌وآله : من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ، ومن أغلق بابه وكفّ يده فهو آمن (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١ و ٨٢٢.

(٢) الإرشاد ١ : ٦٠ ومثله في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٧ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ : يقال : إنّ رسول الله أمر عليا فأخذ اللواء فذهب به. بعد أن قال : أعطى رايته سعد بن عبادة. وليس اللواء.

(٣) الإرشاد ١ : ١٣٥ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ : فأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء وجعلها إلى ابنه قيس فأبى سعد أن يسلّم اللواء لابنه قيس إلّا بأمارة من النبيّ! فأرسل إليه رسول الله بعمامته علامة ، فعرفها ، فدفع اللواء لابنه قيس! وقيل : بل لم يعزله! وهكذا شحّوا على علي عليه‌السلام بذلك! وابن اسحاق نقل ذلك في دخول مكة ، وكذلك المفيد في الإرشاد.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٣ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٧.

(٥) إعلام الورى ١ : ٢٢٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٢١ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨. فروى العلّامة الحلّي في كشف الحق عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن مسند أبي هريرة في صحيح مسلم : أن الأنصار لما سمعوا بذلك قال بعضهم لبعض : أما الرجل (كذا) فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في تربته أو قريته! كما في دلائل الصدق ٣ القسم الثاني : ٢٦ ط بغداد.

٢١٥

أبو سفيان ينادي بالأمان :

روى الواقدي : أن العباس قال لأبي سفيان : فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم! فخرج أبو سفيان فتقدّم الناس كلهم حتى دخل من قبل جبل كداء (بأعلى مكة) وقدر رفع النداء (١) صارخا بأعلى صوته : يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به! فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! (٢) ومن أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة المخزومية ، فأخذت برأسه فقالت : ما وراءك؟ قال : هذا محمد في عشرة آلاف ، عليهم الحديد! وقد جعل لي : من دخل داري فهو آمن ، ومن طرح السلاح فهو آمن! فقالت : قبّحك الله رسول قوم! (٣) وأخذت بشاربه تقول : اقتلوا هذا الزقّ الدّسم السّمين ، قبّح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان : ويلكم ، لا تغرنّكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! فقالوا له : قاتلك الله! وما تغني عنّا دارك؟ فقال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن (٤) ويلكم رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والسلاح والكراع ، فلا لأحد بهذا طاقة (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ ، ٨٢٣.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣. وروى المعتزلي عن المفاخرات للزبير بن بكار عن الحسن بن علي عليه السلام في مجلس معاوية قال له : أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أربيك لما همّ أن يسلم تنهاه عن ذلك :

يا صخر لا تسلمنّ يوماً فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي وعمي وعمّ الاُم ثالثهم

وحنظل الخير قد أهدى لنا أرقا

لا تركننّ إلى أمر تكلّفنا

ـ والراقصات ـ به في مكة الخُرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد

حاد ابن حرب عن العزى اذاً فرقا

٢١٦

وحماس أحمق :

مرّ الخبر عن ابن اسحاق بإسناده قال : كان حماس بن قيس بن خالد الدّيلي من بني بكر (من كنانة) قبل دخول رسول الله يعد سلاحا ويصلحه. فقالت له امرأته : لما ذا تعدّ ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه! قالت : والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء!

ثم هو وصفوان بن اميّة ، وعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وسهيل بن عمرو جمعوا ناسا بموضع يقال له الخندمة ليقاتلوا ويقاوموا (١) وانضم إليهم ناس من قريش وناس من بني بكر من كنانة وهذيل ، وتلبّسوا السلاح ، وهم يقسمون بالله : لا يدخلها محمد عنوة أبدا (فكانت هند المخزومية تريد زوجها الاموي إلى جانب ابن عمها المخزومي)!.

النبي في ذي طوى :

قالوا : وانتهى المسلمون إلى ذي طوى ، فوقفوا وتلاحقوا ينظرون ما يفعل

__________________

كما في شرح النهج ٦ : ٢٨٩. وروى العلامة الحلّي : أن معاوية يوم الفتح كان باليمن وكتب إلى أبيه يعيّره بالاسلام ويقول : أصبوت إلى دين محمد وفضحتنا؟! وقد أهدر النبي صلّى الله عليه وآله دمه فهرب إلى اليمن حتى شفع له العباس فأسلم قبل موته بخمسة أشهر (أي في شوال من العاشرة) وكتب له رسائل. كشف الحق ونهج الصدق : ٣١٠ ، ط. قم ، ومختصر الخبر الاول في تذكرة السبط : ١٨٢.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩ ، ٥٠. وخندمة بل خنادم سلسلة جبال خشناء تبدأ من شعب عامر قرب المسجد الحرام فتتّجه شرقا حتى المفجر ثم جنوبا فيكون نهايتها جبل سدير مقابل الحجون ، والخنادم مشرفة على كل معلاة مكة في أعلى مكة إلى المسجد الحرام ، كما في مقال عبد الرحمن خويلد في مجلة الميقات ٤ : ٢٠٣ و ٢٠٤ وحيث إن دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من هناك فهم أرادوا مقابلته.

٢١٧

رسول الله (١) فروى ابن اسحاق : أنّ رسول الله انتهى في مسيره إلى ذي طوى فوقف على راحلته .. وفرّق جيشه ، فجعل الزّبير بن العوّام على الجناح الأيسر وأمره أن يدخل من ثنيّة كدى (بأسفل مكة) وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن ومعه من قبائل العرب : أسلم وسليم وجهينة ومزينة وغفار ، وأمره أن يدخل من الليط أسفل مكة أيضا (٢) وأن يغرز رايته دون البيوت (بيوت الشعر ـ عروش مكة) وقد أمر الزبير أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون ، وقال له : لا تبرح حتى آتيك. وبعث سعد بن عبادة على كتيبة من الأنصار في مقدّمته (٣) وأمره أن يدخل من ثنية كداء بأعلى مكة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧ و ٤٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥. وأطلق الأزرقي في أخبار مكة اسم الليط على جزء من وادي ذي طوى في الطرف الغربيّ لجبل الكعبة يسمى اليوم وادي التنضباوي نسبة إلى أشجار التنضب التي كانت تنبت في هذا الوادي ، كما في معجم معالم مكة التاريخية لعاتق بن غيث البلادي ، وعنه في مجلة الميقات ٣ : ١٥١.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩ كذا ، وقيل : المعروف أن جيوش الفتح أحاطت بمكة من ثلاث جهات : أذاخر حيث دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكداء حيث دخل الزبير وكتائب الأنصار ، ودخل خالد بن الوليد من كدى المعروف اليوم بريع الرّسام ، وكان سيره على طول الشارع المعروف اليوم بشارع خالد بن الوليد ، وفيه مسجد ينسب إليه ، وذلك غربيّ المسجد الحرام. أما الزبير فقد جرّ فيلقه من المعلاة بأعلى مكة (ريع الحجون اليوم) إلى ثنيّة المدنيّين في سفح جبل الخنادم إلى المسجد الحرام حيث اجتمعوا فيه.

٢١٨

المهدور دماؤهم :

قال ابن اسحاق : وعهد رسول الله إلى امرائه من المسلمين : أن لا يقتلوا بمكة إلّا من يقاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة (١).

وردت أسماؤهم في خبر رواه الحميري في «قرب الاسناد» عن الباقر عليه‌السلام : عبد الله بن سعد بن أبي سرح (المرتدّ ، اخو عثمان من الرضاعة). وعبد الله بن خطل (الأدرمي ، لقتله عبده المسلم وارتداده مشركا إلى مكة). ومقيس بن صبابة (اللّيثي ، لقتله عمدا مسلما قتل أخاه خطأ وارتد إلى مكة). وفرتنا وسارة ، وكانتا قينتين تزنيان وتغنيان بهجاء النبيّ وتحضّضان يوم احد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وزاد ابن اسحاق : الحويرث بن نقيذ ، وكان ممن يؤذيه بمكة (٣). وعكرمة بن أبي جهل المخزومي (٤).

وزاد الواقدي : هبّار بن الأسود (لإرعابه زينب بنت النبي وطرحها ولدها). وهند بنت عتبة بن ربيعة المخزومية زوج أبي سفيان (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥١.

(٢) قرب الاسناد : ٦١. وفي الإرشاد ١ : ١٣٦ : فقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إحدى القينتين ، وأفلتت الاخرى حتى استؤمن لها بعد ، وفي إمارة عمر بن الخطاب ضربها فرس بالأبطح فقتلها. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٠ قال .. قتلت أرنبة وأما فرتنا فاستؤمن لها فعاشت حتى عهد عثمان إذ كسر ضلع من أضلاعها فماتت منه ، فقضى عثمان فيها : ثمانية آلاف درهم : ديتها ستة آلاف ، وألفان تغليظا للجرم!

(٣) وفي الإرشاد ١ : ١٣٦ : قتله علي عليه‌السلام ، واعلام الورى ١ : ٢٢٤ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨.

(٤) وكذلك في خبر الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٠٦ ، ٥٠٧ عن السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ واليعقوبي ١ : ٥٩ ، ٦٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٨

٢١٩

وزاد الحلبي : صفوان بن أميّة المخزومي (١).

وتوجه الزبير بن العوّام بمن معه حيث وجّهه رسول الله ، وتوجّه خالد بن الوليد بمن معه حيث وجّهه رسول الله إلى الليط من أسفل مكة.

وتوجّه مولى رسول الله أبو رافع القبطي بأمره ـ كما سبق في عمرة القضاء ـ إلى الحجون بالأبطح ، فضرب له هناك قبة من أدم الجلود ـ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله ومنزل اخوته من الرجال والنساء بمكة ـ فقيل لرسول الله : ألا تنزل منزلك من الشعب؟ (شعب أبي طالب بالأبطح) فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلا؟! فقيل : فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك! فقال : لا أدخل البيوت (٢).

__________________

وكان ممن هاجر المدينة الى مكة بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة الى المدينة : أبو عامر الراهب الفاسق ، أبو حنظلة غسيل الملائكة يوم احد ، وهو من بني سالم بن عوف في قباء ، خرج الى المشركين ليحرّضهم على قتاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحضر معهم في احد ثم الخندق ، فلقّبه النبي بالفاسق. وكان في مكة عند فتحها ، وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله اكتفى بتقليبه بالفاسق دون أن يهدر دمه يوم الفتح ، وإن ـ كان هو أيضا من الهاجين له والمؤلّبين عليه ، ولعلّه كان ذلك اكراما لابنه غسيل الملائكة. الا أن أبا عامر رهب النبي فهرب منه الى الطائف ، ولعله ليحرّضهم ضدّه. التبيان ٥ : ٢٩٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٠.

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨. وسيأتي تفصيل كل ذلك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٩. ونقل خبر عقيل في مجمع البيان ٩ : ٢٢١ والدرجات الرفيعة : ١٥٤ وقال في مجمع البحرين : البطحاء : الارض المستوية وفيها البطحاء وهو دقاق الحصى ، والبطحاء مثل الأبطح وهو : مسيل وادي مكة وهو واسع فيه دقيق الحصى ، أوله من منقطع الشعب في وادي منى ، وآخره مقبرة المعلاة. وقال البلادي في معجم معالم مكة : كان أهل مكة يقولون : إن البطحاء بين مهبط ريع الحجون إلى المسجد الحرام ، فإذا تجاوزت ريع الحجون مشرقا فهو الأبطح إلى بئر الشيبي ويطلق عليها المعلاة ، لانها أعلى مكة.

٢٢٠