موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

اتخاذ المنبر للنبيّ :

أظنّ أنّ ذلك التجليل القرآني الخاص للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان السبب في أن : قال له بعض أهله أو أصحابه : يا رسول الله ، إنّ الناس قد كثروا ، وانّهم يحبّون النظر إليك إذا خطبت ـ وكان في خطبه يستند إلى جذع من أساطين المسجد ـ فلو أذنت أن نعمل لك منبرا له مراقي ترقاها فيراك الناس إذا خطبت؟ فأذن في ذلك (١).

وروى عن جابر الأنصاري : أنّ القائل امرأة من الأنصار تدعى عائشة كان لها غلام رومي نجّار يدعى باقوم .. فلما أذن وصنع وله ثلاث مراق جيء به إلى المسجد يوم الجمعة من أوائل السنة الثامنة (٢). ومرّ النبيّ بالجذع وتجاوزه إلى المنبر فصعده ، فلما استوى عليه حنّ ذلك الجذع! فلما رأى رسول الله ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع واحتضنه ومسح عليه بيده وقال له : اسكن ، فما تجاوزك رسول الله

__________________

(١) بحار الأنوار ١٧ : ٣٢٦ عن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٤٧ عن المنتقى للكازروني.

١٤١

تهاونا بك ولا استخفافا بحرمتك ، ولك جلالك وفضلك إذ كنت مستند رسول الله ، ولكن ليتمّ لعباد الله مصلحتهم. فهدأ حنينه ، وعاد رسول الله إلى منبره (١).

إسلام خالد وعمرو بن العاص :

مرّ في أخبار عمرة القضاء صدر الخبر عن بداية إسلام خالد بن الوليد المخزومي ، وكذلك صدر الخبر عن بداية إسلام عمرو بن العاص السهمي ، وحيث كان قدومهم المدينة في أوّل شهر صفر سنة ثمان ، لذلك أجّلت ذيول أخبارهم إلى حينها :

روى الواقدي عن خالد قال : لما أجمعت الخروج إلى رسول الله قلت في نفسي : من اصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أميّة فقلت له : يا أبا وهب ، أما ترى ما نحن فيه؟ إنّما نحن أكلة رأس (قلة) وقد ظهر محمد على العرب والعجم (كذا) فلو قدمنا على محمد فاتّبعناه فانّ شرف محمد لنا شرف (!). فقال : لو لم يبق من قريش غيري ما اتّبعته أبدا! وكان رجلا موتورا قد قتل أبوه وأخوه ببدر. وافترقنا.

فلقيت عكرمة بن أبي جهل ، فقلت له مثل ما قلت لصفوان. فقال لي مثل ما قال صفوان ، فقلت له : فاطو ما ذكرت لك. وخرجت إلى منزلي. فأمرت أن تخرج لي راحلتي ، فاخرجت إليّ ، فخرجت بها ..

إلى أن لقيت عثمان بن طلحة (من بني الدار حملة لواء المشركين من قريش

__________________

(١) بحار الأنوار ١٧ : ٣٢٦ عن التفسير وفيه ٢١ : ٤٧ عن المنتقى فلما غيّر بناء المسجد أخذ ذلك الجذع أبيّ بن كعب إلى داره فاكلته الأرضة فعاد رفاتا وذكر المنبر الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٩ في أوّل السنة التاسعة.

١٤٢

مكة ببدر ، وسدنة الكعبة) فذكرت له ما صار الأمر إليه وقلت له نحوا مما قلت لصاحبيه. فقال : لقد غدوت اليوم إليّ وأنا اريد أن اغدوا إليه ، وهذه راحلتي مناخة بفخ (١) فتواعدنا أن نخرج سحرا فنلتقي في يأجج.

فخرجنا سحرا ، والتقينا في يأجج ولم يطلع الفجر ، وغدونا صباحا حتى انتهينا إلى الهدّة فوجدنا فيها عمرو بن العاص ، فقال لنا : مرحبا بالقوم! فقلنا : وبك! فقال : أين مسيركم؟ فقلنا : وأنت ما أخرجك؟ قال : فما الذي أخرجكم؟ قلنا : الدخول في الإسلام واتّباع محمد! قال : وذلك هو الذي أقدمني! (٢).

بينما روى عن عمرو بن العاص خبره لما كان بالحبشة حتى قال : ركبت معهم حتى انتهوا إلى الشعيبة (على شاطئ البحر) وكانت معي نفقة فابتعت بعيرا وخرجت من الشعيبة اريد المدينة ، حتى مررت بمرّ الظّهران ، فمضيت حتى بلغت الهدّة ، فإذا أنا برجلين قد سبقاني إليها بغير كثير ، أحدهما قائم ممسك بالراحلتين والآخر ينصب خيمة فهو داخل فيها ، فنظرت وإذا (القائم) خالد بن الوليد ، فقلت :

أبا سليمان؟ قال : نعم. قلت : أين تريد؟ قال : محمدا ، لقد دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمع (في شيء) والله لو أقمنا (على شركنا) لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضّبع في مغارتها! فقلت : وأنا ـ والله ـ قد أردت محمدا وأردت الإسلام!

وخرج الآخر (من الخيمة) فإذا هو عثمان بن طلحة فرحّب بي ، فترافقنا حتى نزلنا ببئر أبي عنبة فلقينا رجلا فما أنساه كان يصيح : يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله ، ثم نظر إلينا فسمعته يقول : قد أعطت مكة المقادة بعد هذين (يعنيني وخالدا) ثم ولّى سريعا إلى المدينة فكان أن بشّر بقدومنا رسول الله.

__________________

(١) من الوديان القريبة من مكة ، وفيها قتل الحسين بن علي الحسني قتيل فخّ في ثورته على أوائل العباسيّين ، وفيها قبره.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٧ ، ٧٤٨.

١٤٣

ثم نزلنا (ظهر) الحرّة (ظهرا) فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالحضر فانطلقنا جميعا (١) قال خالد : فلقيني أخي فقال : أسرع فان رسول الله قد اخبر بك فسرّ بقدومك ، وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه ، فما زال يتبسّم إليّ حتى وقفت عليه فسلّمت عليه بالنبوة ، فردّ عليّ السلام بوجه طلق ، فقلت : إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله. فقال : الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلّا إلى الخير. فقلت : يا رسول الله ، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا عن الحق ، فادع الله أن يغفرها لي. فقال رسول الله : الإسلام يجبّ ما قبله. فقلت : يا رسول الله ، مع ذلك .. فقال : اللهم اغفر لخالد كلّ ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك (٢).

قال عمرو بن العاص : فتقدم خالد بن الوليد فبايع. ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع. ثم تقدّمت فلما جلست بين يديه ما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه! فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال : إنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، والهجرة تجبّ ما قبلها (٣) وكان قدومنا في صفر سنة ثمان (٤) لهلال صفر (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٩.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٥. وروى ابن اسحاق خبر إسلام خالد وعمرو بسنده عن عمرو باختصار في السيرة ٣ : ٢٨٩ ـ ٢٩١. ولقوله في أول الخبر : لما انصرفنا عن الخندق ، ذكره بعد الخندق ، بينما نصّ في آخر الخبر : وذلك قبيل الفتح! وذكر عن ابن الزّبعرى هجوا لخالد وعثمان بن طلحة ، ووصفه أنه كان سادن الكعبة وصاحب مفتاحها.

١٤٤

سريّة إلى الكديد :

روى الواقدي قال : في صفر سنة ثمان .. بعث رسول الله غالب بن عبد الله الليثي الكلبي في سريّة (بضعة عشر رجلا) وأمره أن يشن الغارة على بني الملوّح بالكديد.

قال الراوي الجهني : فخرجنا فمررنا بقديد .. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس ، فكمنّا ناحية الوادي ، وبعثني أصحابي ربيئة لهم ، فصعدت تلا مشرفا على الوادي يطلعني عليهم .. ورجعت ماشية القوم من ابلهم وأغنامهم فحلبوها ، فلما اطمأنّوا وهدؤوا .. (وكان في وجه السحر!) واستقنا النعم والشاء (وشعارنا : أمت أمت) ، فقتلنا المقاتلة ، وسبينا الذريّة ، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدوها قبل المدينة. وبنو الملوّح كانوا من بني ليث .. فلما شنّنا الغارة عليهم خرج صريخ منهم إلى قومهم ، فجاءنا ما لا قبل لنا بهم متوجّهين إلينا ، ونحن عند المشلّل (ثنيّة مشرفة على قديد) وايم الله ما رأينا مطرا ولا سحابا ، ولكن الله جاء من حيث شاء بماء ملأ جانبي الوادي بيننا وبينهم بما لا يستطيع أحد منهم أن يجوزه ، فصعدنا المشلّل ففتناهم وهم ينظرون إلينا (١).

سريّة إلى أرض بني عامر :

وروى الواقدي قال : بعث رسول الله شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا في شهر ربيع الأول سنة ثمان إلى جمع من هوازن (وكانوا من الأحزاب) وأمره أن يغير عليهم في السّير من ناحية ركبة من أراضي بني عامر. فخرج ليلا ، يسير الليل ويكمن النهار ، حتى طلع عليهم في الصباح ، فأمر أصحابه أن يغيروا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٥٨.

١٤٥

عليهم وأن لا يوغلوا في الطلب. فأصابوا نعما وشاء كثيرا فاستاقوه كلّه إلى المدينة .. واصابوا نسوة فاستاقوهن. واستمرت غيبتهم عن المدينة حتى رجعوا إليها بعد خمس عشرة ليلة. واقتسموا الغنيمة فكانت لكل رجل خمسة عشر بعيرا ، وكل بعير يعادل عشرة من الغنم (١).

واقتسموا النسوة ، وكانت فيهن جارية وضيئة أخذها شجاع بن وهب بثمن فتزوّجها. ثم قدم وفدهم مسلمين ، وكلّموا رسول الله في السبيّ ، فكلّم النبي في ذلك شجاع بن وهب وأصحابه فردّوهن إلى أصحابهن .. وخيّرها شجاع بن وهب فاختارت المقام عنده (٢).

سريّة إلى ذات أطلاح :

وروى الواقدي : أن رسول الله بعث كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا إلى ذات أطلاح من أرض الشام .. وكان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم. فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، فجاؤوهم على الخيول .. وكانوا جمعا كثيرا ، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا ، وقاتلوهم أشد قتال حتى قتلوا ، وتحامل جريح منهم في الليل فأفلت حتى أتى المدينة فأخبر رسول الله الخبر ، فشقّ ذلك على رسول الله وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥١ ـ ٧٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٣ ، ٧٥٤ وتمامه : ولم يكن له منها ولد ، وقتل عنها يوم اليمامة في ١١ من الهجرة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٣.

١٤٦

غزوة مؤتة (١) :

سبب الحرب :

روى الواقدي قال : بعث رسول الله إلى ملك بصرى (٢) بكتاب ، مع الحارث ابن عمير الأزدي اللهبي ، فلما وصل في طريقه إلى مؤتة ، وكان عليها شرحبيل بن عمرو الغسّاني (٣) ، ظنّ بالحارث أنه من رسل رسول الله فاعترضه وقال له : لعلك من رسل محمد؟ قال الحارث : نعم ، أنا رسول رسول الله. فأمر به أن يؤخذ فيقتل ، فاخذ وقتل ، ولم يقتل غيره من الرسل.

وبلغ خبره إلى رسول الله فاشتدّ عليه ذلك .. وندب الناس ، فأخبرهم الخبر ، وكأنّه طلب إليهم أن يخرجوا إلى معسكرهم ، فخرجوا وعسكروا بالجرف ، من دون أن يعيّن أميرا عليهم.

تعيين الامراء :

فلما صلى الظهر جلس ، وجلس أصحابه حوله (٤).

ففي رواية أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله استعمل عليهم جعفر بن أبي طالب ، فان قتل فزيد بن حارثة الكلبي ، فان قتل

__________________

(١) مؤتة : من قرى الشام بالبلقاء دون دمشق.

(٢) بصرى : هي مركز حوران من أعمال دمشق الشام ، وقد وردها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتين وصالح أهلها المسلمين سنة ثلاث عشرة ، فهي أول مدن الشام فتحت صلحا.

(٣) وغسّان من الأزد أيضا ٢ : ٧٦٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٥ ، ٧٥٦ ولم يذكر غيره سببا للحرب ، ولم يذكر الرسالة والرسول والغسّاني غيره ، وذكروه في الرجال : الاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٣٠٥ والإصابة برقم ١٤٥٩ واسد الغابة ١ : ٣٤٢.

١٤٧

فعبد الله بن رواحة (١) فان اصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم .. وعقد لهم رسول الله لواء أبيض. وهم ثلاثة آلاف.

خطاب الرسول فيهم :

فلما أجمعوا المسير .. مشى الناس إليهم يودّعونهم ويدعون لهم .. وخطبهم رسول الله فقال لهم :

«اوصيكم بتقوى الله ، وبمن معكم من المسلمين خيرا .. اغزوا بسم الله وفي سبيل الله ، فقاتلوا من كفر بالله ، ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين (كذا) فادعهم إلى احدى ثلاث ، فأيّتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، واكفف عنهم.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢١٢ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ وقال اليعقوبي ٢ : ٦٥ : قيل : كان المتقدم جعفرا ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة. وقال المعتزلي ١٥ : ٦٢ : اتفق المحدثون على أنّ زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول ، وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا : كان الأمير الأول جعفر بن أبي طالب فان قتل فزيد بن حارثة فان قتل فعبد الله بن رواحة ، ورووا في ذلك روايات. قال : وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن اسحاق في كتاب مغازي الواقدي (كذا!) ما يشهد لقولهم فمن ذلك ما رواه عن حسّان بن ثابت وهو :

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعوا

جميعا وأسياف المنية تخطر

ومنها قول كعب بن مالك الأنصاري :

ساروا أمام المسلمين كأنّهم

طود ، يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولواؤه

قدّام أولهم ، ونعم الأوّل

وهما في سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦ ـ ٢٧. وفي الدرجات الرفيعة : ١٥٤ أنّ عقيل بن أبي طالب كان قد أقبل مسلما مهاجرا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الحديبية ، فشهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر عليه‌السلام. وانظر قاموس الرجال ٢ : ٦٠٤.

١٤٨

ادعهم إلى الدخول في الإسلام ، فان فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم ؛ ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، فان فعلوا فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. وان دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم ، فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين : يجري عليهم حكم الله ، ولا يكون لهم في الفيء ولا الغنيمة شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فان فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.

وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله ، فلا تستنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فانك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟

وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسوله ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله ، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أبيك وذمّة أصحابك ، فانكم إن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمّة الله ورسوله».

وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنيّة الوداع (١) فوقف ووقفوا حوله فخطبهم ثانية فقال لهم :

خطبة الوداع :

«اغزوا بسم الله ، فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا معتزلين للناس في الصوامع فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين في رءوسهم للشيطان مفاحص فاقلعوها بالسيوف .. ولا تقتلن امرأة ولا صغيرا مرضعا ولا كبيرا فانيا ، ولا تغرقنّ نخلا ، ولا تقطعنّ شجرا ، ولا تهدموا بيتا».

__________________

(١) يلاحظ أن ثنية الوداع على جهة الشام لا مكة ، كما مرّ سابقا.

١٤٩

وصايا خاصة وهي عامة :

ولما ودّع رسول الله عبد الله بن رواحة قال له : يا رسول الله مرني بشيء احفظه عنك. فقال له : إنّك قادم غدا بلدا السجود به قليل ، فأكثر السجود. وسكت. فقال عبد الله : زدني يا رسول الله. فقال : اذكر الله فانه عون لك على ما تطلب فانطلق ابن رواحة ذاهبا ثم رجع إليه فقال : يا رسول الله ، إنّ الله وتر يحبّ الوتر! أي ثلّث الوصايا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن رواحة ، ما عجزت فلا تعجزنّ إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة. فقال ابن رواحة : لا أسألك عن شيء بعدها. ومضى ذاهبا.

مسيرهم إلى الشام :

وفصل المسلمون من المدينة ومضوا ذاهبين حتى نزلوا وادي القرى ، فسمع العدوّ بمسيرهم ، فقام صاحب مؤتة شرحبيل بن عمرو الغسّاني الأزدي قاتل الحارث بن عمير الأزدي اللهبي ، قام فيهم بتجميع الجموع وقدم أمامه الطلائع وبعث أخاه سدوس معهم. فقتل سدوس. فبعث أخاه الآخر وبر بن عمرو ، وخاف هو فتحصن وتقدم المسلمون حتى نزلوا معان (في الأردن) من أرض الشام (١). ففي كتاب أبان بن عثمان : بلغهم كثرة عدد الكفار من العرب والعجم من لخم وجذام وبليّ وقضاعة ، وقد انحازوا إلى أرض يقال لها المشارف (٢)

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٦ ـ ٧٦٠.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٣ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ عنه ، وفيهما : وإلى المشارف تنسب السيوف المشرفية ، صنعت لسليمان عليه‌السلام. وفي سائر التواريخ : بلغهم أنّ هرقل قد نزل مآب في مائة ألف! وهرقل قيصر ملك زهاء ثلاثين سنة ، مما قبل الهجرة ببضع سنين حتى أواخر عهد الخلفاء الثلاثة ، كما يبدو من تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ٩١ ، ٩٢ وغزوة مؤتة في الثامنة للهجرة فهي في منتصف ملكه تقريبا ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤ : أن هرقل مات سنة عشرين للهجرة. وقال المسعودي : ملك ١٥ سنة من قبل الهجرة بسبع سنين.

١٥٠

وعليهم رجل من بليّ يقال له مالك بن زافلة.

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدوّنا ، فإمّا أن يمدّنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجّع الناس عبد الله بن رواحة فقال : والله إن التي تكرهون للذي خرجتم تطلبون (الشهادة) وما نقاتل الناس بعدد ، ولا قوة ، ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فانما هي إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة! فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة (١).

فمضى الناس حتى إذا دنوا في أواخر البلقاء من قرية من قراها يقال لها مشارف ، وإذا بجيش هرقل من الروم والعرب معهم. فانحاز المسلمون إلى قرية اخرى من قرى البلقاء يقال لها مؤتة. ثم دنا العدو منهم حتى التقوا عندها.

حرب مؤتة :

وتعبّأ المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلا يقال له : قطبة بن قتادة العذري ، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار هو عباية بن مالك الأنصاري (٢).

__________________

ـ مروج الذهب ١ : ٣٦٢ ، ٣٦١ و ٢ : ٢٧٨ فغزوة موتة كانت في أواخر عهده. وقال : إنّه هرقل الأوّل ، ثم ابنه موريق ثم قيصر (كذا) ثم هرقل بن قيصر على عهد عمر : ٣٦٣ ونسبه في آخر كتبه : التنبيه والاشراف : ١٣٣ فقال : هرقل بن فوقا بن مرقس وكان من قواد القيصر فوقاس وأثار الناس عليه فقتلوه وملّكوه ، متزامنا للهجرة ، فملك ٢٥ سنة وأكثر إلى سنتين من خلافة عثمان. وقال في غزوة مؤتة : فلقيهم جموع الروم في مائة ألف ، أنفذهم هرقل للقائهم ، وهو يومئذ مقيم بانطاكية ، وعلى متنصرة العرب من غسّان وقضاعة وغيرهم : شرحبيل بن عمرو ، وعلى الروم : ثياذوكس البطريرك. التنبيه والاشراف : ٢٣٠.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٩.

١٥١

فروى الواقدي عن أبي هريرة قال : لما رأينا المشركين في مؤتة رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع ، والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصري. فقال لي ثابت بن أقرم : يا أبا هريرة ، مالك؟ كأنّك ترى جموعا كثيرة؟! قلت : نعم. فقال : لو كنت تشهدنا في بدر ، انا لم ننصر بالكثرة! (١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : لما التقوا يوم مؤتة كان جعفر بن أبي طالب على فرس ، فنزل عن فرسه فعرقبها (٢) بالسيف ، فكان أوّل من عرقب في الإسلام (٣).

قال ابن اسحاق : فقاتل وهو يقول :

يا حبّذا الجنة واقترابها

طيّبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

 عليّ إذ لاقيتها ضرابها

وقال ابن هشام : إنّ جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٠ ، ٧٦١.

(٢) عرقبها : قطع عرقوبها ، والعرقوب في رجل الدابة كالركبة في يدها وقيل : هو الوتر الذي بين مفصل الساق والقدم.

(٣) المحاسن للبرقي ٣ : ٤٧٧ وفروع الكافي ٥ : ٤٩ ، الحديث ٩. والتهذيب ٦ : ١٧٠ ، الحديث ٦. وجواز ذلك في الحرب لكي لا يأخذ الفرس العدو فيفيد منه في حرب الإسلام.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٠. فروى الطبرسي في إعلام الورى عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الفضيل بن يسار عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : اصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه. اعلام الورى ١ : ٢١٣.

وروى الواقدي : أنّ رجلا من الروم قطعه نصفين فوجد في نصفه بضع وثلاثون

١٥٢

قال الواقدي : وأخذ اللواء زيد بن حارثة ، فقاتل معه جمع من الناس والمسلمون على صفوفهم ، حتى قتل زيد بن حارثة ، وما قتل إلّا طعنا بالرمح (١).

وروى ابن اسحاق عن من حضر الغزوة قال : وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، وكأنه تردّد بعض التردّد ثم قال يستنزل نفسه :

أقسمت يا نفس لتنزلنّه

لتنزلنّ أو لتكرهنّه

إن أجلب الناس وشدّوا الرّنه

ما لي أراك تكرهين الجنّه

قد طال ما قد كنت مطمئنّه

هل أنت إلا نطفة في شنّه (٢)

وقال أيضا :

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنّيت فقد اعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت

ثم سمع صراخ الحرب في ناحية من العسكر ، فنزل عن فرسه ، ثم تقدم نحوهم ، فقاتل حتى قتل (٣).

فروى الواقدي قال : لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون في كل وجه أسوأ هزيمة؟ وبادر رجل من الأنصار يقال له : ثابت بن اقرم إلى اللواء فأخذه وجعل يصيح بالأنصار : إليّ أيها الناس! فجعل قليل منهم يثوبون إليه ويجتمعون ، فنظر

__________________

ـ جراحة. وفي اخرى : وجد فيه أكثر من ستين جرحا. وفي اخرى : وجد فيما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربة بسيف أو طعنة برمح. ومنها طعنة قد نفذت فيه. مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١.

(٢) الشنّة : القربة القديمة البالية ، ويقصد بالنطفة الماء ، يشبّه نفسه بماء في قربة بالية يوشك أن تنخرق فيراق ماؤها.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١.

١٥٣

ثابت فيهم إلى خالد بن الوليد فناداه : يا أبا سليمان! خذ اللواء. فقال له : أنت رجل قد شهدت بدرا ولك سنّ فلا آخذه وأنت أحق به! فقال ثابت : خذه أيها الرجل فو الله ما أخذته إلّا لك! فأخذه خالد.

فجعل المشركون يحملون عليه .. وحمل بأصحابه ففضّ جمعا منهم ، ثم دهمه منهم بشر كثير ، فانكشفوا راجعين .. فكانت الهزيمة ، واتبعهم المشركون. وجعل قظبة بن عامر يصيح : يا قوم ، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا. فما يثوب إليه أحد (١).

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة :

وروى أبان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال :

بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ، إذ خفض له كل رفيع ، ورفع له كل خفيض حتى نظر إلى جعفر عليه‌السلام يقاتل الكفار فقتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتل جعفر وأخذ المغص في بطنه (٢).

وروى الراوندي في «الخرائج والجرائح» عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال :

لما كان اليوم الذي وقعت فيه حربهم (مؤتة) صلى النبيّ بنا الغداة ثم صعد المنبر فقال : قد التقى اخوانكم مع المشركين للمحاربة. ثم أقبل يحدثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال : أخذها (الراية) جعفر بن أبي طالب وتقدم بها للحرب. ثم قال : قد قطعت يده (اليمنى) وقد أخذ الراية بيده الاخرى (اليسرى) ثم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٣.

(٢) روضة الكافي : ٣٠٨.

١٥٤

قال : وقطعت يده الاخرى (اليسرى) وقد احتضن الراية في صدره. ثم قال : قتل جعفر وسقطت الراية.

ثم قال : ثم أخذها عبد الله بن رواحة .. ثم قال : قتل عبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد بن الوليد ، وانصرف المسلمون .. وقد قتل من المشركين كذا ، وقتل من المسلمين فلان وفلان فذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم.

ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر ، فدعا عبد الله بن جعفر فاقعده في حجره (١).

تسلية المصابين :

روى البرقي في «المحاسن» بسنده عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال : لما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل جعفر بن أبي طالب ، دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر ، فقال : أين بنيّ؟ فدعت بهم ، وهم ثلاثة : عبد الله وعون ومحمد ، فمسح رسول الله رءوسهم ، فقالت : إنّك تمسح رءوسهم كأنهم أيتام؟ فعجب رسول الله من عقلها

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٦ برقم ٣٥٦ وذكر مختصره برقم ١٩٨ وأشار إليه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٢٢ ورواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١ ، ٧٦٢ وعليه فلا يصحّ ما رواه الاصفهاني في مقاتل الطالبيّين عن عبد الرحمن بن سمرة قال : بعثني خالد بن الوليد بشيرا (كذا) إلى رسول الله يوم موتة ، فلما دخلت المسجد قال لي : على رسلك يا عبد الرحمن. ثم أخبر أصحابه بخبرهم فبكوا. مقاتل الطالبيين : ٧ ، ٨ ط النجف الأشرف و ١٣ ط بيروت. وفي شرح المواهب ٢ : ٢٧٦ قيل : إنّ الذي قدم بخبر مؤتة أبو عامر الأشعري أو يعلى بن أميّة.

١٥٥

فقال : يا أسماء ، ألم تعلمي أن جعفرا رضوان الله عليه استشهد؟ فبكت. فقال لها رسول الله : لا تبكي ، فان جبرئيل عليه‌السلام أخبرني : أنّ له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر. فقالت : يا رسول الله ، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله. فعجب رسول الله من عقلها (١).

وروى فيه عن الصادق عليه‌السلام مثله ثم قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر وأعلم الناس بذلك ثم نزل (٢).

__________________

(١) المحاسن ٢ : ١٩٤ برقم ١٩٩.

(٢) المحاسن ٢ : ١٩٣ برقم ١٩٨.

وروى الطبرسي في إعلام الورى عن عبد الله بن جعفر قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقى إلى المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى ، والحزن يعرف عليه ، فقال :

«إنّ المرء كثير حزنه بأخيه وابن عمه ، ألا إنّ جعفر قد استشهد وجعل له جناحان يطير بهما في الجنة».

ثم نزل ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام فصنع لأهلي ، وأرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده ـ والله ـ غداء طيبا مباركا ، وأقمنا ثلاثة أيام في بيته ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه ، ثم رجعنا إلى بيتنا. ورواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٦ ، ٧٦٧.

ثم روى الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة ، اذهبي فابكي على ابن عمك ، فانّك إن لم تدعي بثكل فما قلت فقد صدقت. اعلام الورى ١ : ٢١٤.

وعليه فلا يصح ما رواه ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣ والواقدي في المغازي ٢ : ٧٦٧ عن عائشة : أنّ النبيّ أمر رجلا أن يسكت النساء عن البكاء على جعفر فان أبين أن يحثو في أفواههنّ التراب! بينما هما رويا بمسندهما عن أسماء أنها صرخت حتى اجتمع إليها النساء ، ولم يرو أنه منعها أو منعهن! بل رويا أنه خرج إلى فاطمة فأمر أن يصنعوا لهم طعاما. ٤ : ٢٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٦٦. وفيه : على مثل جعفر فلتبك الباكية!

١٥٦

وروى فيه عنه عليه‌السلام أيضا قال : لما قتل جعفر بن أبي طالب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام أن تأتي أسماء بنت عميس هي ونساؤها ، وتقيم عندها ثلاثا ، وتصنع لها طعاما ثلاثة أيام. فجرت بذلك السنة أن يصنع لأهل المصيبة طعام ثلاثة أيام (١).

وروى الصدوق : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليها جدّا ويقول : كانا يحدّثاني ويؤانساني فذهبا جميعا (٢).

ثم جاءت الأخبار بأنهم قد قتلوا في ذلك اليوم على تلك الهيئة (٣).

رجوعهم إلى المدينة :

روى الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزما ، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقّوهم إلى الجرف (من نواحي المدينة) فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون : يا فرّار! أفررتم في سبيل الله؟! (٤).

__________________

(١) المحاسن ٢ : ١٩٣ برقم ١٩٧ و ١٩٦ وفي فروع الكافي ٣ : ٢١٧ ، الحديث ١ وكتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ١٨٢ ، ١٨٣ ، الحديث ٥٤٩ والحديث ٥٤٦ وفيه : فقد شغلوا. والحديث ٥٤٨ وفيه : كان من عمل الجاهلية الاكل عند أهل المصيبة ، والسنة : البعث إليهم بالطعام. وأمالي الطوسي : ٦٥٩ برقم ١٣٦٠.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ١٧٧ ، الحديث ٥٢٧.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ١٢١ ، الحديث ١٩٨. ولعله كان على لسان عبد الرحمن بن سمرة كما في مقاتل الطالبيين : ٧. أو أبي عامر الأشعري أو يعلي بن أميّة كما في شرح المواهب ٢ : ٢٧٦ كما مرّ.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٤ ، ٧٦٥.

١٥٧

وروى ابن اسحاق عن عروة قال : لما دنو من المدينة تلقاهم المسلمون ورسول الله مقبل معهم على دابة .. وجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون : يا فرّار! فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله : ليسوا بالفرّار ، ولكنهم الكرّار إن شاء الله (١).

وروى الواقدي قال : لقي أهل المدينة أصحاب مؤتة بالشرّ ، حتى إن الرجل يأتي إلى بيته وأهله فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له ويقولون : ألا تقدّمت مع أصحابك؟! فأمّا من كان كبيرا من أصحاب رسول الله فانه جلس في بيته استحياء ، حتى جعل النبيّ يرسل إليهم رجلا رجلا ، ويقول لهم : انتم الكرّار في سبيل الله.

وكان من جيش مؤتة سلمة بن هشام المخزومي ابن أمّ سلمة زوج النبيّ ، فدخل داره ولم يخرج منها ، ودخلت امرأته على أمّ سلمة فقالت لها أمّ سلمة : ما لي لا أرى سلمة بن هشام أيشتكي شيئا؟ فقالت امرأته : لا والله ولكنه لا يستطيع الخروج ، فانه إذا خرج صاحوا به وبأصحابه : يا فرّار! أفررتم في سبيل الله؟! فلذلك قعد في البيت. فذكرت أمّ سلمة ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : بل هم الكرّار في سبيل الله ، فليخرج! فخرج (٢).

شهداء مؤتة :

وقتل بمؤتة ما عدا الثلاثة : جعفر (٣) وزيد وعبد الله بن رواحة الخزرجي : من

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢١٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤ ، ٢٥ بدون الذيل.

(٣) نقل الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٨ عن علي بن عبد الله بن جعفر : أن جعفر

١٥٨

قريش : مسعود بن الأسود العدوي ووهب بن سعد بن أبي سرح أخو عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ومن بني النجار من الخزرج : سراقة بن عمرو ، وجابر بن عمرو واخوه أبو كلاب أو كليب ، وعمرو بن سعد واخوه عامر. والحارث بن النعمان بن أساف (١) أو يساف (٢).

__________________

ـ قتل وهو ابن أربع وثلاثين سنة. ثم قال : وهذا عندي شبيه بالوهم .. وعلى أي الروايات قيس أمره علم أنه كان عند مقتله قد تجاوز هذا المقدار من السنين ، فانه قتل في سنة ثمان من الهجرة ، وبين ذلك الوقت وبين مبعث رسول الله احدى وعشرون سنة ، وهو أسنّ من أخيه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بعشر سنين ..

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٩. هذا ، وفي احدى روايتي الكليني في اصول الكافي ٢ : ٥٤ عن أبي بصير ، وهي التي عن القاسم بن بريد عنه عن الصادق عليه‌السلام قال : استقبل رسول الله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقا! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال : يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد وضع للحساب ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة ، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عبد نوّر الله قلبه! أبصرت فاثبت! فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك. فقال : اللهم ارزق حارثة الشهادة. فلم يلبث إلّا أياما حتى .. استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر ، وكان هو العاشر.

هذا ، والمقتول في مؤتة كما مرّ هو حارث بن النعمان بن أساف أو يساف ، وليس حارثة بن مالك بن النعمان ، ولا يوجد في السيرة والتاريخ أحد بهذا الاسم ، بل : حارث بن مالك أبو واقد الليثي وليس هو به ، وحارث بن مالك بن البرصاء أسلم في السابعة وليس هو به قطعا أيضا.

وقد ورد في آخر الرواية الاخرى للخبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا ، في معاني

١٥٩

أمّا تاريخ الغزوة : فقد كانت في جمادى الاولى من سنة ثمان (١).

سريّة وادي الرمل اليابس (٢) :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس ، فتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على أن لا يتخلف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحدا ولا يفرّ رجل عن صاحبه حتى يموتوا

__________________

ـ الأخبار للشيخ الصدوق : ١٨٧ فقال له : يا رسول الله ما أنا أخوف من شيء على نفسي أخوف مني عليها من بصري! فدعا رسول الله فذهب بصره!

وذكره الطوسي في رجاله فقال فيه : شهد بدرا واحدا وما بعدهما من المشاهد .. وشهد مع أمير المؤمنين القتال ، وتوفي (بعده) في زمن معاوية : رجال الطوسي : ١٧ ط النجف الأشرف وكذلك ذكره العسقلاني في الإصابة برقمي ١٤٧٨ و ١٥٣٢ وأخرج حديثه هذا عن عدة من جوامعهم الحديثية بألفاظ مختلفة ثم قال : انه حديث معضل لا يعوّل عليه إذ لم يثبت موصولا.

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٥ وإعلام الورى ١ : ٢١٢ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(٢) هذا ما نراه في تفسير القمي ٢ : ٤٣٤ ويبدو عنه في تفسير فرات الكوفي : ٥٩٩ ، الحديث ٧٦١ وعنهما في بحار الأنوار ٢١ : ٦٧ ـ ٧٤ ، وباسم وادي الرمل لدى المفيد في الإرشاد ١ : ١١٣ وقال : ويقال : انها كانت تسمى بغزوة السلسلة. وفي ١٦٢ بتقديم اسم : غزاة السلسلة .. قوم من العرب بوادي الرمل. وعن القوم وموضعهم قال : بني سليم ، وهم قريب من الحرّة. وذكر الخبر الراوندي باسم ذات السلاسل ، وعن الموضع فيه : ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل. الخرائج والجرائح ١ : ١٦٧ و ٢٥٧. وفي ابن هشام ٤ : ٢٧٢ عن ابن اسحاق : ذات السلاسل من أرض بني عذرة .. إلى جهة الشام .. على ماء بأرض جذام يقال له السلسل ، وبذلك سمّيت الغزوة : ذات السلاسل. وفي الطبقات الكبرى ٢ : ٩٤ : ذات السلاسل : وراء وادي القرس بينها وبين المدينة عشرة أيام. وليس لوادي الرمل اليابس ذكر في التواريخ والسير.

١٦٠