التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

الرّضا ، وأحسن منه. قلت : وما هو؟ قال : الزهد ، وأحسن منه. قلت : وما هو؟ قال : الإخلاص ، وأحسن منه. قلت : وما هو؟ قال : اليقين ، وأحسن منه. قلت : وما هو ، يا جبرئيل؟ قال : إنّ مدرجة (١) ذلك التّوكّل على الله عزوجل فقلت : وما التوكّل على الله عزوجل؟ فقال : العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله ، فهذا هو التوكّل.

قال : قلت : يا جبرئيل ، فما تفسير الصّبر ، قال : تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء ، وفي الفاقة كما تصبر في الغناء ، وفي البلاء كما تصبر في العافية ، ولا يشكو حاله عند المخلوق بما يصيبه من البلاء.

قلت : وما تفسير القناعة؟ قال : يقنع بما يصيبه من الدنيا ، يقنع بالقليل ويشكر اليسير.

قلت : فما تفسير الرّضا؟ فقال : الرّضا أن لا يسخط على سيّده ، أصاب من الدنيا أو لم يصب ، ولا يرضى لنفسه باليسير من العمل.

قلت : يا جبرئيل ، فما تفسير الزّهد؟ قال : الزاهد يحبّ من يحبّ خالقه ، ويبغض من يبغض خالقه ، ويتحرّج من حلال الدّنيا ولا يلتفت إلى حرامها ، فإنّ حلالها حساب وحرامها عقاب ، ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه ، ويتحرّج من الكلام كما يتحرّج من الميتة التي قد اشتد نتنها ، ويتحرّج عن حطام الدنيا وزينتها كما يجتنب النار أن يغشاها وأن يقصّر أمله وكأنّ بين عينيه أجله.

__________________

(١) المدرجة : الطريق ، وممرّ الأشياء على الطريق.

٣٤١

قلت : يا جبرئيل ، فما تفسير الإخلاص؟ قال : المخلص الذي لا يسأل الناس شيئا حتى يجد ، وإذا وجد رضي ، وإذا بقي عنده شيء أعطاه في الله ، فإنّ من لم يسأل المخلوق فقد أقرّ لله عزوجل بالعبودية ، وإذا وجد فرضي فهو عن الله راض ، والله تبارك وتعالى عنه راض ، وإذا أعطى لله عزوجل فهو على حدّ الثّقة بربّه عزوجل.

قلت : فما تفسير اليقين؟ قال : الموقن يعمل لله كأنّه يراه ، فإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه ، وأن يعلم يقينا أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وإنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وهذا كلّه أغصان التوكّل ، ومدرجة الزّهد» (١).

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٢٦٠ ، ح ١.

٣٤٢

تفسير

سورة يوسف

رقم السورة ـ ١٢ ـ

٣٤٣
٣٤٤

سورة يوسف

* س ١ : ما هو فضل سورة يوسف؟!

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من قرأ سورة يوسف عليه‌السلام في كلّ يوم أو في كلّ ليلة ، بعثه الله يوم القيامة وجماله على جمال يوسف عليه‌السلام ، ولا يصيبه يوم القيامة ما يصيب الناس من الفزع ، وكان جيرانه من عباد الله الصالحين». ثمّ قال : «إنّ يوسف كان من عباد الله الصالحين واومن في الدنيا أن يكون زانيا أو فحّاشا» (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علموا أرقّاءكم سورة يوسف ، فإنّه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه ، هوّن الله تعالى عليه سكرات الموت ، وأعطاه من القوّة أن لا يحسده مسلم» (٢).

ومن (خواصّ القرآن) في سورة يوسف : قال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها وجعلها في منزله ثلاثة أيّام وأخرجها منه إلى جدار من جدران البيت من خارج ودفنها لم يشعر إلّا ورسول السّلطان يدعوه إلى خدمته ، ويصرفه إلى حوائجه بإذن الله تعالى. وأحسن من هذا كلّه أن يكتبها ويشربها يسهّل الله له الرّزق ، ويجعل له الحظّ بإذن الله تعالى» (٣).

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ١٦٦ ، ح ١.

(٢) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣١٥.

(٣) خواص القرآن : ص ٣ «مخطوط».

٣٤٥

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) [يوسف : ١ ـ ٣]؟!

الجواب / قال عليّ بن إبراهيم : في قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي كي تعقلوا. قال : ثمّ خاطب الله نبيّه ، فقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(١).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ

٣٤٦

وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ

__________________

(١) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٣٩.

٣٤٧

قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)) [يوسف : ٤ ـ ٣٤]؟!

الجواب / قال أبو حمزة الثّمالي : صلّيت مع عليّ بن الحسين عليه‌السلام الفجر بالمدينة يوم جمعة ، فلمّا فرغ من صلاته وسبحته (١) ، نهض إلى منزله وأنا معه ، فدعا مولاة له تسمّى سكينة ، فقال لها : «لا يعبر على بابي سائل إلّا أطعتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة».

قلت له : ليس كلّ من يسأل مستحقّا؟ فقال : «يا ثابت ، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه ونردّه ، فينزل بنا ـ أهل البيت ـ ما نزل بيعقوب وآله ، أطعموهم أطعموهم.

إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدّق منه ، ويأكل هو وعياله منه ، وإنّ سائلا مؤمنا صوّاما محقّا ، له عند الله منزلة ، وكان مجتازا غريبا اعترّ (٢) على باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه : أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا ، وهم يسمعونه وقد جهلوا حقّه ، ولم يصدّقوا قوله ، فلمّا أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله عزوجل ، وبات

__________________

(١) السبحة : النافلة. «مجمع البحرين ـ سبح ـ ج ٢ ، ص ٣٧٠» ، وفي «ط» : وتسبيحه.

(٢) اعترّ : تعرّض للسؤال. «مفردات ألفاظ القرآن ـ عرّ ـ ص ٣٢٨».

٣٤٨

طاويا ، وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله تعالى وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا ، وأصبحوا وعندهم فضل من طعامهم».

قال : «فأوحى الله عزوجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة : لقد أذللت ـ يا يعقوب ـ عبدي ذلّة استجررت بها غضبي ، واستوجبت بها أدبي ، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك. يا يعقوب ، إنّ أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي ، وقرّبهم إليه ، وأطعمهم ، وكان لهم مأوى وملجأ. يا يعقوب ، أما رحمت ذميال عبدي ، المجتهد في عبادته ، القانع باليسير من ظاهر الدنيا ، عشاء أمس ، لما اعترّ ببابك عند أوان إفطاره ، وهتف بكم : أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع. فلم تطعموه شيئا ، فاسترجع واستعبر وشكا ما به إليّ ، وبات طاويا ، حامدا لي ، وأصبح لي صائما ، وأنت ـ يا يعقوب ـ وولدك شباع ، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

أو ما علمت ـ يا يعقوب ـ أنّ العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ وذلك حسن النظر مني لأوليائي ، واستدراج منّي لأعدائي ، أما وعزّتي لأنزلنّ بك بلواي ، ولأجعلنّك وولدك غرضا لمصابي ، ولأؤدّبنّك بعقوبتي ، فاستعدّوا لبلواي ، وارضوا بقضائي ، واصبروا للمصائب».

فقلت لعلي بن الحسين عليه‌السلام : جعلت فداك ، متى رأى يوسف الرّؤيا؟ فقال : «في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعا ، وبات فيها ذميال طاويا جائعا. فلمّا رأى يوسف الرّؤيا وأصبح يقصها على أبيه يعقوب ، فاغتمّ يعقوب لما سمع من يوسف وبقي مغتمّا ، فأوحى الله عزوجل إليه : أن استعدّ للبلاء. فقال يعقوب ليوسف : لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّي أخاف أن يكيدوا لك كيدا ، فلم يكتم يوسف رؤياه وقصّها على إخوته».

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «وكانت أوّل بلوى نزلت بيعقوب وآل

٣٤٩

يعقوب الحسد ليوسف لمّا سمعوا منه الرّؤيا ـ قال ـ فاشتدّت رقّة يعقوب على يوسف ، وخاف أن يكون ما أوحى الله عزوجل إليه من الاستعداد للبلاء هو في يوسف خاصّة ، فاشتدّت رقته عليه من بين ولده ، فلمّا رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف وتكرمته إياه وإيثاره إيّاه عليهم ، اشتدّ ذلك عليهم وبدأ البلاء فيهم فتآمروا فيما بينهم وقالوا : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أي تتوبون ، فعند ذلك قالوا : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ) الآية. فقال يعقوب : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) فانتزعه حذرا عليه من أن تكون البلوى من الله عزوجل على يعقوب في يوسف خاصّة لموقعه من قلبه وحبّه له».

قال : «فغلبت قدرة الله وقضاؤه ونافذ أمره في يعقوب ويوسف وإخوته ، فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه ، ولا عن يوسف ولده ، فدفعه إليهم وهو لذلك كاره متوقع للبلوى من الله في يوسف ، فلمّا خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم وضمّه إليه واعتنقه وبكى ودفعه إليهم ، فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم ، فلمّا أمعنوا (١) به ، أتوا به غيضة (٢) أشجار ، فقالوا : نذبحه ونلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة. فقال كبيرهم : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) ولكن (أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه ، وهم يظنون أنه يغرق فيه ، فلما صار في قعر الجب ناداهم : يا ولد

__________________

(١) أمعن : أبعد. «لسان العرب ـ معن ـ ج ١٣ ، ص ٤٠٩».

(٢) الغيضة : مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. «لسان العرب ـ غيض ـ ج ٧ ، ص ٢٠٢».

٣٥٠

رومين ، أقرئوا يعقوب منّي السّلام. فلمّا سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض : لا تزولوا من هنا حتى تعلموا أنّه قد مات. فلم يزالوا بحضرته حتى أمسوا (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) فلمّا سمع مقالتهم استرجع واستعبر ، وذكر ما أوحى الله عزوجل إليه من الاستعداد للبلاء ، فصبر وأذعن للبلوى ، وقال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) وما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة».

قال أبو حمزة : ثمّ انقطع حديث علي بن الحسين عليه‌السلام عند هذا (١).

وقال ابن عباس : لما استقرّ يوسف عليه‌السلام في قعر الجبّ سالما واطمأنّ من المؤذيات ، جعل ينادي إخوته : «إنّ لكلّ ميّت وصيّة ، ووصيّتي إليكم إذا رجعتم فاذكروا وحدتي ، وإذا أمنتم فاذكروا وحشتي ، وإذا طعمتم فاذكروا جوعتي ، وإذا شربتم فاذكروا عطشي ، وإذا رأيتم شابّا فاذكروا شبابي».

فقال له جبرئيل عليه‌السلام : يا يوسف ، أمسك عن هذا ، واشتغل بالدعاء ، وقل : يا كاشف كل كربة ، ويا مجيب كل دعوة ، ويا جابر كل كسير ، ويا حاضر كلّ بلوى ، ويا مؤنس كل وحيد ، ويا صاحب كلّ غريب ، ويا شاهد كلّ نجوى ، أسألك بحقّ لا إله إلا أنت أن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، وأن تجعل في قلبي حبّك حتى لا يكون لي همّ وشغل سواك ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقالت الملائكة : يا ربّنا ، نسمع صوتا ودعاء ، أمّا الصّوت فصوت نبيّ ، وأمّا الدّعاء فدعاء نبيّ ، فأوحى الله تعالى إليهم : هو نبيّي يوسف ، وأوحى

__________________

(١) علل الشرائع : ص ٤٥ ، ح ١.

٣٥١

تعالى إلى جبرئيل : أن اهبط على يوسف ، وقل له : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

نرجع إلى رواية أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام :

قال أبو حمزة : فلمّا كان من الغد غدوت عليه ، فقلت له : جعلت فداك ، إنّك حدّثتني أمس بحديث يعقوب وولده ثم قطعته ، فما كان من قصّة إخوة يوسف وقصّة يوسف بعد ذلك؟ فقال : «إنّهم لمّا أصبحوا ، قالوا : انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف ، أمات أم هو حي؟ فلما انتهوا إلى الجبّ وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة ، وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه ، فلمّا جذب دلوه فإذا هو غلام متعلق بدلوه ، فقال لأصحابه (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف ، فقالوا : هذا عبدنا سقط منّا أمس في هذا الجبّ ، وجئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم ، وتنحّوا به ناحية ، فقالوا : إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبد لنا فنبيعك على بعض هذه السيّارة أو نقتلك؟ فقال لهم يوسف : لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم. فأقبلوا به إلى السيّارة ، فقالوا : من منكم يشتري منّا هذا العبد فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما ، وكان إخوته فيه من الزّاهدين ، وسار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر ، فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر ، وذلك قول الله عزوجل : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

قال أبو حمزة : فقلت لعليّ بن الحسين عليه‌السلام : ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ فقال : كان ابن تسع سنين».

فقلت : كم كان بين منزل يعقوب يومئذ وبين مصر؟ فقال : «مسيرة اثني عشر يوما».

قال : «وكان يوسف من أجمل أهل زمانه ، فلمّا راهق يوسف راودته

٣٥٢

امرأة الملك عن نفسه ، فقال لها : معاذ الله ، أنا من أهل بيت لا يزنون ، فغلّقت الأبواب عليها وعليه ، وقالت : لا تخف. وألقت نفسها عليه ، فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته ، فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه ، فأفلت يوسف منها في ثيابه (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١) ـ قال ـ فهمّ الملك بيوسف ليعذّبه ، فقال له يوسف : وإله يعقوب ، ما أردت بأهلك سوءا ، بل هي راودتني عن نفسي ، فسل هذا الصبيّ : أيّنا راود صاحبه عن نفسه؟ ـ قال ـ وكان عندها من أهلها صبيّ زائر لها. فأنطق الله الصبيّ لفصل القضاء ، فقال : أيّها الملك انظر إلى قميص يوسف ، فإن كان مقدودا من قدّامه فهو الذي راودها ، وإن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته.

فلما سمع الملك كلام الصبيّ وما اقتصّه ، أفزعه ذلك فزعا شديدا ، فجيء بالقميص فنظر إليه ، فلمّا رآه مقدودا من خلفه ، قال لها : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وقال ليوسف : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) ولا يسمعه منك أحد ، واكتمه ـ قال ـ فلم يكتمه يوسف ، وأذاعه في المدينة حتّى قالت نسوة منهنّ : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) فبلغها ذلك ، فأرسلت إليهنّ ، وهيّأت لهنّ طعاما ومجلسا ، ثمّ أتتهنّ بأترج وأتت كل واحدة منهنّ سكينا ، ثم قالت ليوسف : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ) ما قلن ، فقالت لهنّ : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) يعني في حبّه. وخرجت النسوة من عندها ، فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن ، وقال : (إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) فصرف الله عنه كيدهن. فلمّا شاع أمر يوسف وامرأة العزيز

__________________

(١) أقول : أرادة أمرآة الملك براءة نفسها وسجن يوسف أو عذابه وذلك لحبها له فلم ترد قتله.

٣٥٣

والنسوة في مصر ، بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجننّ يوسف ، فسجنه في السجن ، ودخل السجن مع يوسف فتيان ، وكان من قصّتهما وقصّة يوسف ما قصّه الله في الكتاب».

قال أبو حمزة : ثمّ انقطع حديث عليّ بن الحسين عليه‌السلام (١).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

١ ـ (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)!

٢ ـ (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)!

٣ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)!

٤ ـ (قَدْ شَغَفَها حُبًّا)!

الجواب / ١ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام لبعض أصحابه : «أيّ شيء يقول الناس في قول الله عزوجل : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قلت : يقولون : رأى يعقوب عاضّا على إصبعه ، فقال : «لا ، ليس كما يقولون».

قلت : فأيّ شيء رأى؟ قال : «لمّا همّت به وهمّ بها ، قامت إلى صنم معها في البيت ، فألقت عليه ثوبا ، فقال لها يوسف : ما صنعت؟ قالت : طرحت عليه ثوبا ، أستحي أن يرانا ، فقال يوسف : فأنت تستحين من صنمك وهو لا يسمع ولا يبصر ، ولا أستحي أنا من ربّي؟!» (٢).

٢ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام : «لا يشعرون أنّك أنت يوسف ، أتاه جبرئيل وأخبره بذلك» (٣).

__________________

(١) علل الشرائع : ص ٤٨ ، ح ١.

(٢) تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ١٧٤ ، ح ١٩.

(٣) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٤٠.

٣٥٤

٣ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّهم ذبحوا جديا على قميصه» (١).

٤ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام : «قد حجبّها حبّه عن الناس ، فلا تعقل غيره» والحجاب : هو الشّغاف ، والشّغاف : هو حجاب القلب» (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها)؟!

الجواب / قال أبو الصّلت الهرويّ : لمّا جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام أهل المقالات ، من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجّته ، كأنه ألقم حجرا ، قام إليه علي بن محمّد بن الجهم ، فقال : يا بن رسول الله ، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : «نعم». فقال له : فما تقول في قوله عزوجل في يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها)؟

فقال عليه‌السلام : «أمّا قوله تعالى في يوسف عليه‌السلام : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) فإنّها همّت بالمعصية ، وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته ، لعظم ما تداخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله عزوجل : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) والسوء : القتل ، والفحشاء : الزنا» (٣).

وقال علي بن محمد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليهما‌السلام فقال له المأمون : يا بن رسول الله ، أليس من قولك : «إنّ الأنبياء معصومون»؟ قال : «بلى». وذكر الحديث ، إلى أن قال فيه : فأخبرني عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

__________________

(١) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٤١.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٥٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ ، ص ١٩١ ، ح ١.

٣٥٥

فقال الرضا عليه‌السلام : «لقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت به ، لكنّه كان معصوما ، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه. ولقد حدّثني أبي ، عن أبيه الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : همّت بأن تفعل ، وهمّ بأن لا يفعل». فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن» (١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا

٣٥٦

الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٥٦) [يوسف : ٣٥ ـ ٥٦]؟!

الجواب / قال عليّ بن إبراهيم : في رواية أبي الجارود ، قال أبو جعفر عليه‌السلام في قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) : «فالآيات : شهادة الصبيّ ، والقميص المخرّق من دبر ، واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إيّاه على الباب ، فلمّا عصاها لم تزل ملحّة بزوجها حتّى حبسه (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) يقول : عبدان للملك ، أحدهما خبّاز ،

__________________

(١) نفس المصدر السابق : ج ١ ، ص ٢٠١ ، ح ١.

٣٥٧

والآخر صاحب الشراب ، والذي كذب ولم ير المنام هو الخبّاز» (١).

وقال : وكّل الملك بيوسف رجلين يحفظانه ، فلمّا دخلا السّجن ، قالا له : ما صناعتك؟ قال : أخبّر الرؤيا. فرأى أحد المتوكّلين في منامه ، كما قال الله عزوجل : (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) ولم يكن رأى ذلك ، فقال له يوسف : أنت يقتلك الملك ويصلبك ، وتأكل الطير من رأسك. فضحك الرجل ، وقال : إنّي لم أر ذلك. فقال يوسف ، كما حكى الله تعالى : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام في قوله : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال : «كان يقوم على المريض ، ويلتمس المحتاج ، ويوسع على المحبوس». فلمّا أراد ـ من رأى في نومه يعصر خمرا ـ الخروج من الحبس ، قال له يوسف : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) فكان كما قال الله عزوجل : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)(٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ يوسف أتاه جبرئيل ، فقال له : يا يوسف ، إنّ ربّ العالمين يقرئك السّلام ، ويقول لك : من جعلك في أحسن خلقة؟ قال : فصاح ووضع خدّه على الأرض ، ثمّ قال : أنت يا ربّ ، ثم قال له : ويقول لك : من حبّبك إلى أبيك دون إخوتك؟ ـ قال : ـ فصاح ووضع خدّه على الأرض ، وقال : أنت يا ربّ ، قال : ويقول لك : ومن أخرجك من الجبّ بعد أن طرحت فيها ، وأيقنت بالهلكة؟ قال : ويقول لك : ومن أخرجك من

__________________

(١) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٤٤.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٤٤.

٣٥٨

الجبّ بعد أن طرحت فيها ، وأيقنت بالهلكة؟ قال : ـ فصاح ووضع خدّه على الأرض ، ثمّ قال : أنت يا ربّ. قال : فإن ربّك قد جعل لك عقوبة في استغاثتك بغيره (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

قال : «فلما انقضت المدّة ، وأذن الله في دعاء الفرج ، فوضع خده على الأرض ، ثم قال : اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإنّي أتوجّه إليك بوجه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. ففرّج الله عنه».

قلت : جعلت فداك ، أندعو نحن بهذا الدعاء؟ فقال : «أدع بمثله : اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإنّي أتوجه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم‌السلام» (١).

وقال علي بن إبراهيم : ثم إنّ الملك رأى رؤيا ، فقال لوزرائه : إني رأيت في نومي (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي مهازيل ، ورأيت (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وقرأ أبو عبد الله عليه‌السلام : «سبع سنابل» (٢). ثمّ قال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) فلم يعرفوا تأويل ذلك ، فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها ، وذكر يوسف بعد سبع سنين ، وهو قوله : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد حين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) فجاء إلى يوسف فقال : (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ)؟

قال يوسف : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا

__________________

(١) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٣٤٤.

(٢) انظر مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣٦١.

٣٥٩

قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي لا يدوسوه فإنّه يفسد في طول سبع سنين ، وإذا كان في سنبله لا يفسد (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي سبع سنين مجاعة شديدة ، يأكلن ما قدّمتم لهنّ في السبع سنين الماضية. قال الصادق عليه‌السلام : «إنّما نزل : ما قرّبتم لهنّ» (١).

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يمطرون .. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه‌السلام : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) على البناء للفاعل ، فقال : ويحك : أي شيء يعصرون ، يعصرون الخمر؟! قال الرجل : يا أمير المؤمنين ، كيف أقرأها؟ فقال : إنّما نزلت (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٢) أي يمرون بعد سنيّ المجاعة ، والدليل على ذلك ، قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً)(٣).

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف ، فقال الملك : (ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني إلى الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فجمع الملك النسوة ، فقال لهنّ : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي

__________________

(١) انظر مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣٦١.

(٢) قرأ الصادق عليه‌السلام ، والأعرج ، وعيسى بن عمر (يَعْصِرُونَ) بياء مضمومة وصاد مفتوحة ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف (تعصرون) بتاء مفتوحة وصاد مكسورة ، والباقون بالياء ، مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣٦١ ، النشر في القراءات العشر : ج ٢ ، ص ٢٩٥ ، كتاب التيسير في القراءت السبع : ص ١٢٩.

(٣) النبأ : ١٤.

٣٦٠