التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

* س ٢٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) [سورة التوبة : ٣٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي (رحمه‌الله تعالى) : هذا تحذير من الله تعالى لهؤلاء الذين استبطأهم ووصفهم بالتثاقل عن سبيل الله بقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي إن لم تخرجوا إلى سبيل الله التي دعيتم إليها من الجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يقومون بنصرة نبيه ولا يتثاقلون فيه. والاستبدال جعل أحد الشيئين بدل الآخر مع الطلب له والتعذيب بطول وقت العذاب ، لأنه من الاستمرار وقد يكون عقابا وغير عقاب. وقوله (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) قيل فيمن يرجع إليه قولان :

أحدهما : إنه يعود على اسم الله في قول الحسن. قال : لأنه غني بنفسه عن جميع الأشياء.

والآخر ، قال الزجاج : إنها تعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الله عصمه من جميع الناس ، وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معناه قادر على الاستبدال بكم وعلى غيره من الأشياء وفيه مبالغة (١).

* س ٢٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا

__________________

(١) التبيان : ج ٥ ، الشيخ الطوسي : ص ٢٢٠.

١٢١

خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١) [سورة التوبة : ٤٠ ـ ٤١]؟!

الجواب / قال جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «لمّا لقّنه جابر بن عبد الله الأنصاريّ رسالة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابنه الباقر عليه‌السلام قال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : يا جابر ، أكنت شاهدا حديث جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغار؟ قال جابر : لا ، يابن رسول الله. قال : إذن أحدّثك ، يا جابر؟ قال : حدّثني ، جعلت فداك ، فقد سمعته من جدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما هرب إلى الغار من مشركي قريش حيث كبسوا داره لقتله ، وقالوا : اقصدوا فراشه حتى نقتله فيه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : يا أخي ، إن مشركي قريش يكبسوني في هذه الليلة ، ويقصدون فراشي ، فما أنت صانع يا عليّ؟

قال له أمير المؤمنين : أنا ـ يا رسول الله ـ اضطجع في فراشك ، وتكون خديجة (١) في موضع من الدّار ، وأخرج وأستصحب الله حيث تأمن على نفسك. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فديتك يا أبا الحسن ـ أخرج لي ناقتي العضباء حتى أركبها ، وأخرج إلى الله هاربا من مشركي قريش ، وافعل بنفسك ما تشاء ، والله خليفتي عليك وعلى خديجة.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركب الناقة وسار ، وتلقّاه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ، إنّ الله أمرني أن أصحبك في مسيرك وفي الغار الذي تدخله

__________________

(١) المراد بخديجة هنا ، خديجة الكبرى عليها‌السلام على ما يأتي في سياق الحديث ، وهو غير صحيح ، إذ أنّها توفّيت في عام الحزن ، قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل : بسنة ، وكلا التأريخين لا يدلّان على بقاء خديجة عليها‌السلام إلى زمان الهجرة ، وسيأتي توضيح عن هذه المسألة في ذيل هذا الحديث.

١٢٢

وأرجع معك إلى المدينة إلى أن تنيخ ناقتك بباب أبي أيّوب الأنصاريّ. فسار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلقّاه أبو بكر ، فقال له : يا رسول الله ، أصحبك؟ فقال ويحك ـ يا أبا بكر ـ ما أريد أن يشعر بي أحد ، فقال : فأخشى ـ يا رسول الله ـ أن يستحلفني المشركون على لقائي إيّاك ، ولا أجد بدّا من صدقهم. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويحك ـ يا أبا بكر ـ أو كنت فاعلا ذلك؟ فقال : إي والله ، لئلا أقتل ، أو أحلف فأحنث. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويحك ـ يا أبا بكر ـ فما صحبتك إيّاي بنافعتك. فقال له أبو بكر : ولكنّك تستغشّني وتخشى أن أنذر بك المشركين. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سر إذا شئت. فتلقّاه الغار ، فنزل عن ناقته العضباء ، وأبركها بباب الغار ، ودخل معه جبرئيل وأبو بكر.

وقامت خديجة في جانب الدّار باكية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واضطجع أمير المؤمنين عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفديه بنفسه ، ووافى المشركون الدار ليلا فتسوّروا عليها ودخلوا ، وقصدوا إلى فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجدوا أمير المؤمنين عليه‌السلام مضطجعا فيه ، فضربوا بأيديهم إليه ، وقالوا : يابن أبي كبشة ، لم ينفعك سحرك ولا كهانتك ولا خدمة الجانّ لك ، اليوم نسقي أسلحتنا من دمك. فنفض أمير المؤمنين أيديهم عنه ، فكأنّهم لم يصلوا إليه ، وجلس في الفراش ، وقال : ما بالكم ـ يا مشركي قريش ـ أنا عليّ بن أبي طلب! قالوا له : وأين محمّد ، يا عليّ؟ قال : حيث يشاء الله. قالوا : ومن في الدّار؟ قال : خديجة. قالوا : الحبيبة الكريمة لو لا تبعّلها بمحمّد. يا علي ، وحقّ اللّات والعزّى لو لا حرمة أبيك أبي طالب وعظم محلّه في قريش لأعملنا أسيافنا فيك.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا مشركي قريش ، أعجبتكم كثرتكم ، وفالق الحبّ ، وبارىء النّسمة ، ما يكون إلّا ما يريد الله ، ولو شئت أن أفني جمعكم ، كنتم أهون عليّ من فراش السّراج ، فلا شيء أضعف منه. فتضاحك

١٢٣

القوم المشركون ، وقال بعضهم لبعض : خلّوا عليّا لحرمة أبيه واقصدوا الطّلب لمحمّد.

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ، وجبرئيل عليه‌السلام وأبو بكر معه ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليّ عليه‌السلام وخديجة فقال جبرئيل عليه‌السلام : لا تحزن إن الله معنا. ثمّ كشف له فرأى عليّا وخديجة عليهما‌السلام ورأى سفينة جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ومن معه تعوم في البحر ، فأنزل الله سكينته على رسوله ، وهو الأمان ممّا خشيه على عليّ وخديجة ، فأنزل الله الآية (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) يريد جبرئيل عليه‌السلام (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية. ولو كان الذي حزن أبو بكر لكان أحقّ بالأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو لم يحزن.

ثمّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأبي بكر : يا أبا بكر ، إنّي أرى عليّا وخديجة ، ومشركي قريش وخطابهم وسفينة جعفر بن أبي طالب ومن معه تعوم في البحر ، وأرى الرّهط من الأنصار مجلبين في المدينة.

فقال أبو بكر : وتراهم ـ يا رسول الله ـ في [هذه الليلة ، وفي هذه الساعة ، وأنت في] الغار وفي هذه الظلمة ، وما بينهم وبينك من بعد المدينة عن مكّة؟!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي أريك ـ يا أبا بكر ـ حتّى تصدّقن. ومسح يده على بصره ، فقال : انظر ـ يا أبا بكر ـ إلى مشركي قريش ، وإلى أخي على الفراش وخطابه لهم ، وخديجة في جانب الدّار ، وانظر إلى سفينة جعفر تعوم في البحر. فنظر أبو بكر إلى الكلّ ، ففزع ورعب ، وقال : يا رسول الله ، لا طاقة لي بالنّظر إلى ما رأيته ، فردّ عليّ غطائي ، فمسح على بصره فحجب عمّا أراه رسول الله.

١٢٤

وقصد المشركون في الطّلب ليقفوا أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [حتّى] جاءوا إلى باب الغار ، وحجب الله عنهم النّاقة ولم يروها ، وقالوا : هذا أثر ناقة محمّد ومبركها في باب الغار. فدخلوا فوجدوا على باب الغار نسجا قد أظلّه ، فقالوا : ويحكم ما ترون إلى نسج هذه العنكبوت على باب الغار ، فكيف دخله محمّد؟! فصدّهم الله عنه ورجعوا.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار وهاجر إلى المدينة ، وخرج أبو بكر فحدّث المشركين بخبره مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهم : لا طاقة لكم بسحر محمّد». وقصص يطول شرحها. قال جابر ؛ هكذا والله ـ يابن رسول الله ـ حدّثني جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زاد ولا نقص حرفا واحدا» (١).

أقول : (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الآية ، في حديث هند بن أبي هالة : أن ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر ، فاجتمع بذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزنان ، وذلك قبل الهجرة.

وفي قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) في حديث عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة ، ومات أبو طالب بعد موت خديجة ، فلمّا فقدهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئم المقام بمكّة ودخله حزن شديد ، وأشفق على نفسه من كفّار قريش ، فشكا إلى جبرائيل عليه‌السلام فأوحى الله عزوجل : أخرج من القرية الظالم أهلها ، وهاجر إلى المدينة ، فليس لك اليوم بمكّة ناصر ، وانصب للمشركين حربا ، فعند ذلك توجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة». ولعل الرواية ببقاء خديجة إلى وقت الهجرة وقعت وهما من الرّاوي ، والله أعلم (٢).

وقال علي بن إبراهيم قوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ

__________________

(١) الهداية الكبرى : ص ٨٢.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٧٨ ، ح ٥٧١.

١٢٥

اللهِ هِيَ الْعُلْيا) هو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وقوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قال : شبابا وشيوخا ، يعني إلى غزوة تبوك (١).

* س ٣٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢) [سورة التوبة : ٤٢]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنهم كانوا يستطيعون ، وقد كان في العلم أنّه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا» (٢).

وقال عليه‌السلام أيضا : «كذّبهم الله عزوجل في قولهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ، وقد كانوا مستطيعين للخروج» (٣).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام ، في قوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) ، يقول : «غنيمة قريبة (لَاتَّبَعُوكَ)(٤).

وقال عليّ بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) : يعني إلى تبوك ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشدّ ، وكان سبب ذلك أن الصيّافة (٥) كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدّرنوك (٦) والطعام ، وهم الأنباط ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو

__________________

(١) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٠.

(٢) التوحيد : ص ٣٥١ ، ح ١٥.

(٣) التوحيد : ص ٣٥١ ، ح ١٦.

(٤) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٠.

(٥) أي الذين يمترون في الصيف.

(٦) الدرنوك : ضرب من البسط ذو خمل. «الصحاح ـ درنك ـ ج ٤ ، ص ١٥٨٣».

١٢٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عسكر ، وأنّ هر قل قد سار في جنوده ، وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد قدم عساكره البلقاء (١) ، ونزل هو حمص.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالتهيؤ إلى تبوك ، وهي من بلاد البلقاء ، وبعث إلى القبائل حوله ، وإلى مكّة ، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة ، فحثّهم على الجهاد ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع (٢) ، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به ، ومن كان عنده شيء أخرجه ، وحملوا وقووا وحثّوا على ذلك.

وخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال بعد حمد الله والثّناء عليه : «أيّها الناس ، إن أصدق الحديث كتاب الله ، وأولى القول كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السّنن سنّة محمد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الأمور عزائمها ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتلى الشّهداء ، وأعمى العمى الضّلالة بعد الهدى. وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتّبع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السّفلى ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشرّ النّدامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا ، منهم من لا يذكر الله إلّا هجرا ، ومن أعظم الخطايا اللّسان الكذب ، وخير الغنى غنى النّفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما ألقي في القلب اليقين. والارتياب من الكفر ، والتباعد من عمل الجاهليّة ، والغلول من قّيح جهنّم ، والسّكر جمر النار ، والشّعر من إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنّساء حبائل إبليس ، والشّباب شعبة من

__________________

(١) البلقاء : كورة من أعمال دمشق ، بين الشام ووادي القرى. «معجم البلدان : ج ١ ، ص ٤٨٩».

(٢) ثنيّة الوداع : اسم موضع مشرف على المدينة. «معجم البلدان : ج ٢ ، ص ٨٦».

١٢٧

الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الرّبا ، وشرّ الأكل أكل مال اليتيم ، والسّعيد من وعظ بغيره ، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه. وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى آخره ، وملاك الأمر خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكلّ ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه (١) من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن توكل على الله كفاه ، ومن صبر ظفر ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن كظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرّزيّة يعوّضه الله ، ومن يتّبع السّمعة يسمّع الله (٢) به ، ومن يصم يضاعف الله له ، ومن يعص الله يعذّبه. اللهمّ اغفر لي ولأمّتي ، اللهمّ اغفر لي ولأمّتي ، أستغفر الله لي ولكم».

قال : فرغب الناس في الجهاد لمّا سمعوا هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم ، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم ، ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجدّ بن قيس ، فقال له : «يا أبا وهب ، ألا تنفر معنا في هذه الغزاة ، لعلّك أن تستحفد (٣) من بنات الأصفر (٤)؟» فقال : يا رسول الله ، والله إنّ قومي ليعلمون أن ليس فيهم أحد أشد عجبا بالنساء منّي ، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر ، فلا تفتني ، وائذن لي أن أقيم. وقال لجماعة من قومه : لا تخرجوا في الحرّ. فقال ابنه : تردّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول له ما تقول ، ثمّ تقول لقومك : لا تنفروا في الحرّ ، والله لينزلنّ الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة. فأنزل الله

__________________

(١) قوله : وأكل لحمه ، أي بالغيبة.

(٢) أي يعمل العمل ليسمعه الناس ، أو يذكر عمله للناس ويجبّ ذلك ، ويسمع الله به : أي يشهر الله تعالى بمساوىء عمله وسوء سريرته.

(٣) حفد : خدم ، وقوله : تستحفد ، أي تجعلهنّ حفدة لك ، أي أعوانا وخدما.

(٤) بنو الأصفر : ملوك الروم.

١٢٨

على رسوله في ذلك : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)(١).

ثمّ قال الجدّ بن قيس : أيطمع محمّد أنّ حرب الرّوم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا (٢).

* س ٣١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣) [سورة التوبة : ٤٣]؟!

الجواب / قال عليّ بن محمّد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليه‌السلام ، فقال له المأمون : يا بن رسول الله ، أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال : «بلى». فقال له المأمون فيما سأله : يا أبا الحسن ، فأخبرني عن قول الله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

قال الرّضا عليه‌السلام : «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله تعالى بذلك نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأراد به أمّته ، وكذلك قوله عزوجل : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣). وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(٤)». قال : صدقت ، يا بن رسول الله (٥). وقال أبو جعفر عليه‌السلام : يقول : «تعرف أهل العذر (٦) والذين جلسوا بغير عذر» (٧).

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٠.

(٣) الزمر : ٦٥.

(٤) الإسراء : ٧٤.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ ، ص ٢٠٢ ، ح ١.

(٦) في «ط» : أهل الزور.

(٧) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٣.

١٢٩

* س ٣٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧) [سورة التوبة : ٤٧ ـ ٤٤]؟!

الجواب / قال عليّ بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) : أي وبالا ، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي هربوا عنكم ، وتخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم من أهل الثّبات والبصائر لم يكن يلحقهم شكّ ولا ارتياب ، ولكنّهم قالوا : نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : أبو خيثمة وكان قويّا ، وكانت له زوجتان وعريشان (١) ، وكانت زوجتاه قد رشّتا عريشيه ، وبرّدتا له الماء ، وهيّأتا له طعاما ، فأشرف على عريشيه ، فلمّا نظر إليهما ، قال : لا والله ، ما هذا بإنصاف ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، قد خرج في الضحّ (٢) والرّيح ، وقد حمل السّلاح يجاهد في سبيل الله ، وأبو خيثمة قويّ قاعد في عريشه وامرأتين حسناوين ، لا والله ، ما هذا بإنصاف. ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله ولحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنظر الناس إلى راكب على الطريق ، فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فأقبل وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان

__________________

(١) العريش : ما يستظلّ به. «الصحاح ـ عرش ـ ج ٣ ، ص ١٠١٠».

(٢) الضحّ : الشمس. «الصحاح ـ ضحح ـ ج ١ ، ص ٣٨٥».

١٣٠

منه ، فجزاه خيرا ودعا له.

وكان أبو ذرّ (رحمه‌الله) تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيّام ، وذلك أنّ جمله كان أعجف (١) ، فلحق بعد ثلاثة أيّام به ، ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلمّا ارتفع النّهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا ذر» فقالوا : هو أبو ذرّ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أدركوه بالماء عطشان» فأدركوه بالماء ، ووافى أبو ذرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه إداوة (٢) فيها ماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذرّ ، معك ماء وعطشت!» قال : نعم ـ يا رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ـ انتهيت إلى صخرة عليها ماء السّماء قذقته ، فإذا هو عذب بارد ، فقلت : لا أشربه حتّى يشرب حبيبي رسول الله.

فقال رسول الله : «يا أبا ذرّ ـ رحمك الله ـ تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنّة وحدك ، يسعد بك قوم من أهل العراق ، يتولّون غسلك وتجهيزك والصّلاة عليك ودفنك».

فلمّا سيّر به عثمان إلى الرّبذة ، فمات بها ابنه ذرّ ، وقف على قبره ، فقال : رحمك الله ـ يا ذرّ ـ لقد كنت كريم الخلق ، بارّا بالوالدين ، وما عليّ في موتك من غضاضة (٣) ، ما بي إلى غير الله من حاجة ، وقد شغلني الاهتمام بك عن الاغتمام لك ، ولو لا هول المطلع لأحببت أن أكون مكانك ، فليت شعري ما قالوا لك ، وما قلت؟ ثمّ رفع يده فقال : اللهمّ إنّك فرضت لك عليه حقوقا ، وفرضت لي عليه حقوقا ، فإنّي قد وهبت له ما فرضت لي عليه من

__________________

(١) الأعجف : المهزول. «الصحاح ـ عجف ـ ج ٤ ، ص ١٣٩٩».

(٢) الإداوة : المطهرة. «الصحاح ـ أدا ـ ج ٦ ، ص ٢٢٦٦».

(٣) الغضاضة : الذلّة والمنقصة. «القاموس المحيط ـ غاض ـ ج ٢ ، ص ٣٥١».

١٣١

حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك ، فإنّك أولى بالحقّ وأكرم منّي. وكانت لأبي ذرّ غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء ، يقال له : النّقاز (١) ، فماتت كلّها ، فأصاب أبا ذرّ وابنته الجوع فماتت أهله ، فقالت ابنته : أصابنا الجوع ، وبقينا ثلاثة أيّام لم نأكل شيئا.

فقال : يا بنيّة ، قومي بنا إلى الرّمل نطلب القت ـ وهو نبت له حبّ ـ فصرنا إلى الرّمل ، فلم نجد شيئا ، فجمع أبي رملا ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا ، فبكيت ، وقلت له : يا أبت ، كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟

فقال : يا بنيّة ، لا تخافي فإنّي إذا متّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فإنّه أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزاة تبوك ، فقال : «يا أبا ذرّ ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنّة وحدك ، يسعد بك أقوام من أهل العراق ، يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك». فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق فإذا أقبل ركب فقومي إليهم ، وقولي : هذا أبو ذرّ ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توفي.

قال : فدخل عليه قوم من أهل الرّبذة ، فقالوا : يا أبا ذر ، ما تشتكي؟ قال : ذنوبي؟ قالوا : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربّي. قالوا : فهل لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني.

قالت ابنته : فلمّا عاين الموت سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ، اللهمّ خنّقني خناقك ، فوحقّك إنّك لتعلم أنّي أحبّ لقاءك.

قالت ابنته : فلمّا مات مددت الكساء على وجهه ، ثمّ قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فقلت لهم : يا معشر المسلمين ، هذا أبو ذرّ صاحب رسول

__________________

(١) النقاز : داء يأخذ الغنم قتنفز منه حتى تموت. «الصحاح ـ نقز ـ ج ٣ ، ص ٩٠٠».

١٣٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد توفّي. فنزلوا ومشوا وهم يبكون فجاءوا فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر. فروي أنّه قال : دفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم.

قالت ابنته : فكنت أصلّي بصلاته ، وأصوم بصيامه ، فبينا أنا ذات ليلة نائمة عند قبره إذ سمعته يتهجّد بالقرآن في نومي ، كما كان يتهجّد به في حياته. فقلت : يا أبت ، ماذا فعل بك ربّك؟ فقال : يا بنيّة ، قدمت على ربّ كريم ، رضي عنّي ورضيت عنه ، وأكرمني وحباني ، فاعملوا ولا تغترّوا.

وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبوك رجل يقال له : المضرّب ، من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدّ لي أهل العسكر» فعددهم ، فقال : إنهم خمسة وعشرون ألف رجل سوى العبيد والتبّاع. فقال : «عدّ المؤمنين». فعددهم فقال : هم خمسة وعشرون رجلا.

وقد كان تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم من المنافقين ، وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق ، منهم : كعب بن مالك الشّاعر ، ومرارة بن الرّبيع ، وهلال بن أميّة الواقفي (١). فلمّا تاب الله عليهم ، قال كعب : ما كنت قطّ أقوى منّي في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك ، وما اجتمعت لي راحلتان قطّ إلّا في ذلك اليوم ، وكنت أقول : أخرج غدا ، أخرج بعد غد ، فإنّي قويّ ، وتوانيت وبقيت بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّاما ، أدخل السوق فلا أقضي حاجة ، فلقيت هلال بن أميّة ومرارة بن الرّبيع ، وقد كانا تخلّفا أيضا ، فتوافقنا أن نبكّر إلى السّوق ، ولم نقض حاجة ، فما زلنا نقول : نخرج غدا وبعد غد. حتّى بلغنا إقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فندمنا.

فلمّا وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلناه نهنّئه بالسّلامة ، فسلّمنا عليه فلم يردّ

__________________

(١) في «س» و «ط» : الرافعي ، تصحيف صوابه ما في المتن ، نسبة إلى بني واقف ، بطن من الأوس ، انظر أسد الغابة ج ٥ ، ص ٦٦ وأنساب السمعاني ج ٥ ، ص ٥٦٧.

١٣٣

علينا السّلام ، وأعرض عنّا ، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السّلام ، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا ، وكنّا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا ، فجاءت نساؤنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلن : قد بلغنا سخطك على أزواجنا ، أفنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تعتزلنّهم ، ولكن لا يقربوكن».

فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم ، قالوا : ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول الله ، ولا إخواننا ، ولا أهلونا ، فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل ، فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذناب (١) جبل بالمدينة ، فكانوا يصومون ، وكان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه ناحية ، ثمّ يولّون عنهم فلا يكلّمونهم ، فبقوا على هذا أيّاما كثيرة يبكون بالليل والنهار ، ويدعون الله أن يغفر لهم. فلمّا طال عليهم الأمر ، قال لهم كعب : يا قوم ، قد سخط الله علينا ورسوله ، وقد سخط علينا أهلونا وإخواننا ، فلا يكلّمنا أحد ، فلم لا يسخط بعضنا على بعض.

فتفرّقوا في الجبل ، وحلفوا أن لا يكلّم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه ، فبقوا على ذلك ثلاثة أيّام ، وكلّ واحد منهم في ناحية من الجبل ، لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه ، فلمّا كان في الليلة الثالثة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت أمّ سلمة نزلت توبتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

قوله : «لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة» قال الصادق عليه‌السلام : «هكذا نزلت. وهو أبو ذرّ وأبو خيثمة وعمرو بن وهب الذين تخلّفوا ، ثم لحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

ثمّ قال في هؤلاء الثلاثة : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)(٢) ، فقال

__________________

(١) الذناب من كلّ شيء : عقبه ومؤخره. «أقرب الموارد ـ ذنب ـ ج ١ ، ص ٣٧٤».

(٢) التوبة : ١١٨.

١٣٤

العالم عليه‌السلام : «إنّما أنزل : وعلى الثلاثة الذين خالفوا. ولو خلّفوا لم يكن عليهم عيب (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) حيث لم يكلّمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا إخوانهم ولا أهلوهم ، فضاقت عليهم المدينة حتّى خرجوا منها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ)(١) حيث حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضا فتفرّقوا ، وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نيّاتهم» (٢).

والمغيرة سمعته يقول في قول الله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً).

قال : «يعني بالعدّة النّيّة ، يقول : لو كان لهم نيّة لخرجوا» (٣).

* س ٣٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨) [سورة التوبة : ٤٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسيّ (رحمه‌الله تعالى) : أقسم الله تعالى أن هؤلاء المنافقين (ابْتَغَوُا) أي طلبوا إفساد ذات بينكم وافترق كلمتكم في يوم أحد حتى انصرف عبد الله بن أبي بأصحابه وخذل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان هو وجماعة من المنافقين يبغون للإسلام الغوائل قبل هذا ، فسلم الله المؤمنين من فتنتهم وصرفها عنهم. وقوله (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) فالتقليب هو تصريف الشيء بجعل أسفله أعلاه مرة بعد أخرى ، فهؤلاء صرفوا القول في المعنى للحيلة والمكيدة ، وقوله (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي حتى أتى الحق (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) أي في حال كراهتهم لذلك ، فهي جملة موضع الحال. والظهور

__________________

(١) التوبة : ١١٨.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٤.

(٣) تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ٨٩ ، ح ٦٠.

١٣٥

خروج الشيء إلى حيث يقع عليه الإدراك وقد يظهر المعنى للنفس إذا حصل العلم به (١).

* س ٣٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩) [سورة التوبة : ٤٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي : نزلت هذه الآية في ألحد بن قيس ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دعا الناس إلى الخروج إلى غزوة تبوك لقتال الروم جاءه ألحد بن قيس ، فقال : يا رسول الله إني رجل مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ، قال الفراء : سمي الروم أصفر ، لأن حبشيا غلب على ناحية الروم ، وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لعسا ، فنزلت هذه الآية فيه.

[وقيل : معنى ولا تفتني ولا تؤثمني بالعصيان في المخالفة التي توجب الفرقة ، فتضمنت الآية أن من جملة المنافقين من استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التأخر عن الخروج ، والإذن رفع التبعة في الفعل ، وهو والإباحة بمعنى ، وقال له (لا تَفْتِنِّي) أي لا تؤثمني بأن تكلفني المشقة في ذلك فأهم بالعصيان أولا تفتني ببنات أصفر على ما حكيناه ، فقال الله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي وقعوا في الكفر والمعصية بهذا القول وبهذا الفعل. والسقوط الوقوع إلى جهة السفل ووقوع الفعل حدوثه وسقوطه أيضا. وقوله (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أخبار منه تعالى أن جهنم مطيفة بما فيها من جميع جهاتها بالكافرين. والإحاطة والإطافة والأحداق نظائر في اللغة. ولا يدل ذلك على أنها لا تحيط بغير الكفار من الفساق ألا ترى أنها تحيط بالزبانية والمتولين

__________________

(١) التبيان : ج ٥ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٣٦

للعقاب ، فلا تعلق للخوارج بذلك (١).

* س ٣٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١) [سورة التوبة : ٥٠ ـ ٥١]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام ، في قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) : «أمّا الحسنة فالغنيمة والعافية ، وأما المصيبة فالبلاء والشدّة (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٢).

* س ٣٦ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢) [سورة التوبة : ٥٢]؟!

الجواب / قال أبو حمزة : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله عزوجل : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)؟

قال : «إمّا موت في طاعة الله ، أو إدراك ظهور إمام (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) مع ما نحن فيه من المشقّة (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) ـ قال : ـ هو المسخ (أَوْ بِأَيْدِينا) وهو القتل ، قال الله عزوجل لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)(٣).

__________________

(١) التبيان : ج ٥ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٢.

(٣) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٨٦ ، ح ٤٣١.

١٣٧

* س ٣٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧) [سورة التوبة : ٥٧ ـ ٥٣]؟!

الجواب / قال أبو أميّة يوسف ابن ثابت بن أبي سعيدة ، أنّهم قالوا حين دخلوا على أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّما أحببناكم لقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما أوجب الله عزوجل من حقّكم ، ما أحببناكم للدّنيا نصيبها منكم إلّا لوجه الله والدار الآخرة ، وليصلح امرؤ منّا دينه.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «صدقتم ، صدقتم». ثمّ قال : «من أحبّنا كان معنا ـ أو جاء معنا ـ يوم القيامة هكذا». ثم جمع بين السّبّابتين. ثمّ قال : «والله لو أنّ رجلا صام النّهار وقام الليل ، ثم لقي الله عزوجل بغير ولايتنا أهل البيت للقيه وهو عنه غير راض ، أو ساخط عليه» ثمّ قال : «وذلك قول الله عزوجل : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ).

ثمّ قال : «وكذلك الإيمان لا يضرّ معه العمل ، وكذلك الكفر لا ينفع معه العمل». ثمّ قال : «إن تكونوا وحدانيّين فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدانيّا ،

١٣٨

يدعو الناس فلا يستجيبون له ، وكان أوّل من استجاب له عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (١).

وقال عليّ بن إبراهيم : وقوله في المنافقين : (قُلْ) لهم يا محمّد : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) إلى قوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) ، وكانوا يحلفون للرّسول أنهم مؤمنون ، فأنزل الله (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ) يعني غارات في الجبال ، (أَوْ مُدَّخَلاً) قال : موضعا يلتجئون إليه (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي يعرضون عنكم (٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : في معنى (مُدَّخَلاً) أسرابا في الأرض (٣).

* س ٣٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠) [سورة التوبة : ٦٠ ـ ٥٨]؟!

الجواب / قال إسحاق بن غالب : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا إسحاق ، كم ترى أصحاب هذه الآية : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)؟. ثمّ قال لي : «هم أكثر من ثلثي النّاس» (٤).

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ١٠٦.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٨.

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٦٢.

(٤) كتاب الزهد : ج ٤٧ ، ص ١٢٦.

١٣٩

وقال عليّ بن إبراهيم : أنّها نزلت لمّا جاءت الصّدقات ، وجاء الأغنياء وظنّوا أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّمها بينهم ، فلمّا وضعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفقراء تغامزوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمزوه ، وقالوا : نحن الذين نقوم في الحرب ، ونغزو معه ، ونقوّي أمره ، ثمّ يدفع الصّدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ، ولا يغنون عنه شيئا؟! فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ).

ثمّ فسّر الله عزوجل الصّدقات لمن هي ، وعلى من تجب ، فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فأخرج الله من الصّدقات جميع الناس إلّا هذه الثمانية أصناف الذين سمّاهم الله.

وبيّن الصادق عليه‌السلام من هم ، فقال : «الفقراء : هم الذين لا يسألون وعليهم مؤمنات من عيالهم ، والدّليل على أنتم هم الذين لا يسألون قول الله في سورة البقرة : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً)(١).

(وَالْمَساكِينِ) هم أهل الزمانة (٢) من العميان والعرجان والمجذومين ، وجميع أصناف الزّمنى من الرّجال والنّساء والصّبيان. (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) هم السّعادة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدّوها إلى من يقسمها. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) هم قوم وحّدوا الله ولم تدخل المعرفة في قلوبهم من أنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٣.

(٢) الزمانة : العاهة. «لسان العرب ـ زمن ـ ج ١٣ ، ص ١٩٩».

١٤٠