التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لئن بقيت لأخرجنّ المشركين من جزيرة العرب» (١).

وقال الشيخ الطوسي : وقوله «فإن خفتم عيلة» فالعيلة الفقر ، تقول : عال يعيل إذا افتقر قال الشاعر :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل (٢)

وكانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين ، فقال الله تعالى : «وإن خفتم عيلة» يعني فقرا بانقطاعهم ، فالله يغنيكم من فضله إن شاء ، وإنما علقه بالمشيئة لأحد أمرين : أحدهما ـ لأن منهم من لا يبلغ هذا المعنى الموعود به ، لأنه يجوز أن يموت قبله ـ.

والثاني : لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ، كما قال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ)(٣). وقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معناه عالم به بمصالحكم حكيم في منع المشركين من دخول المسجد الحرام (٤).

* س ١٩ ما هو تفسير قوله تعالى :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) [سورة التوبة : ٢٩]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في حديث الأسياف الذي ذكره عن أبيه عليه‌السلام ، قال فيه : «وأمّا السّيوف الثلاثة المشهورة : فسيف على مشركي العرب ، قال الله عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقد تقدّم

__________________

(١) الدر المنثور : ج ٤ ، ص ١٦٦.

(٢) مجاز القرآن : ج ١ ، ص ٢٥٥.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) التبيان : ج ٥ الشيخ الطوسي ص ٢٠١.

١٠١

في هذه الآية (١).

قال : «والسيف الثاني على أهل الذّمّة ، قال الله عزوجل : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(٢) نزلت هذه الآية في أهل الذّمة ، ثم نسخها قوله عزوجل : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منه إلّا الجزية أو القتل ، ومالهم فيء ، وذراريهم سبي ، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم ، وحرمت أموالهم ، وحلّت لنا مناكحتهم ، ومن كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم وأموالهم ، ولم تحلّ لنا مناكحتهم ، ولم يقبل منهم إلّا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل» (٣).

وقال زرارة : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حدّ الجزية على أهل الكتاب ، وهل عليهم في ذلك شيء موظّف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟

فقال : «ذاك إلى الإمام أن يأخذ كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله ممّا يطيق ، إنّما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا ، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى يسلموا ، فإنّ الله تبارك وتعالى قال : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) ، وكيف يكون صاغرا وهو لا يكترث لما يؤخذ منه حتّى يجد ذلّا لما أخذ منه فيألم لذلك فيسلم».

قال : وقال ابن مسلم : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أرأيت ما يأخذ هؤلاء

__________________

(١) تقدّم في الحديث من تفسير الآية (٥) من هذه السورة.

(٢) البقرة : ٨٣.

(٣) الكافي : ج ٥ ، ص ١٠ ، ح ٢.

١٠٢

من هذا الخمس من أرض الجزية ، ويأخذ (١) من الدّهاقين جزية رؤوسهم ، أما عليهم في ذلك شيء موظّف؟

فقال : «كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم ، وليس للإمام أكثر من الجزية ، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء ، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء».

فقلت : فهذا الخمس؟ فقال : «إنّما هذا شيء كان صالحهم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

* س ٢٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠) [سورة التوبة : ٣٠]؟!

الجواب / قال الإمام العسكريّ عليه‌السلام : «قال الصادق عليه‌السلام : لقد حدّثني أبي الباقر عليه‌السلام عن جدّي عليّ بن الحسين زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن عليّ سيّد الشهداء ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين) ، أنّه اجتمع يوما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل خمسة أديان : اليهود ، والنّصارى ، والدّهريّة ، والثّنويّة ، ومشركو العرب.

فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن الله ، وقد جئناك ـ يا محمّد ـ لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك.

وقالت النّصارى : نحن نقول : إنّ المسيح ابن الله اتّحد به ، وقد جئناك

__________________

(١) في (من لا يحضره الفقيه : ج ٢ ، ص ٢٧ ، ح ٤) : ويأخذون.

(٢) الكافي : ج ٣ ، ص ٥٦٦ ، ح ١.

١٠٣

لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك.

وقالت الدّهريّة : نحن نقول : الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك.

وقالت الثّنويّة : نحن نقول : إنّ النّور والظّلمة هما المدبّران ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك.

وقال مشركو العرب : نحن نقول : إنّ أوثاننا آلهة ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمنت بالله وحده لا شريك له ، وكفرت بكلّ معبود سواه. ثمّ قال : إنّ الله تعالى بعثني بالحقّ إلى الخلق كافّة بشيرا ونذيرا ، حجّة على العالمين ، وسيردّ الله كيد من يكيد دينه في نحره.

ثمّ قال لليهود : أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجّة؟ قالوا : لا.

قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأنّ عزيرا ابن الله؟ قالوا : لأنّه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ، ولم يفعل به هذا إلّا لأنّه ابنه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكيف صار عزير ابن الله دون موسى ، وهو الذي جاء بالتوراة ، ورئي منه من العجائب ما قد علمتم ، ولئن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التّوراة ، فلقد كان موسى بالبنوّة أحقّ وأولى ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب أنه ابنه ، فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من النبوّة ، لأنّكم إن كنتم إنّما تريدون بالبنوّة الولادة

١٠٤

على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمّهات الأولاد بوطء آبائهم لهنّ فقد كفرتم بالله تعالى ، وشبّهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، وأنّ له خالقا صنعه وابتدعه!

قالوا : لسنا نعني هذا ، فإنّ هذا كفر كما ذكرت ، ولكنّا نعني أنّه ابنه على معنى الكرامة ، وإن لم يكن هناك ولادة ، كما يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانة المنزلة من غيره : يا بني ، و : إنّه ابني. لا على إثبات ولادته منه ، لأنّه قد يقول ذلك لمن هو أجنبيّ لا نسب بينه وبينه ، وكذلك لمّا فعل بعزير ما فعل كان اتّخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهذا ما قلته لكم : إنّه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه ، فإنّ هذه المنزلة لموسى أولى ، وإنّ الله تعالى يفضح كلّ مبطل بإقراره ، ويقلب عليه حجّته. إنّ ما احتججتم به إنّما يؤدّيكم إلى ما هو أكبر ممّا ذكرته لكم ، لأنّكم زعمتم أنّ عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبيّ لا نسب بينه وبينه : يا بنيّ ، وهذا ابني ، لا على طريق الولادة ، فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لأجنبيّ آخر : هذا أخي. ولآخر : هذا شيخي ، وأبي. ولآخر : هذا سيّدي ، ويا سيّدي ، على طريق الإكرام ، وإنّ من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذن يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو أبا أو سيّدا لأنّه قد زاده في الكرامة على ما لعزير ، كما أن من زاد رجلا في الإكرام ، فقال له : يا سيدي ، ويا شيخي ، ويا عمّي ، ويا رئيسي ، ويا أميري [على طريق الإكرام ، وإنّ من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عمّا أو رئيسا أو سيّدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له : يا شيخي أو : يا سيّدي أو : يا عمّي أو : يا رئيسي أو : يا أميري؟].

قال : فبهت القوم وتحيّروا ، وقالوا : يا محمّد ، أجّلنا نتفكّر فيما قلته.

١٠٥

فقال : انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.

ثمّ أقبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النّصارى ، فقال لهم : وأنتم قلتم : إنّ القديم عزوجل اتّحد بالمسيح ابنه ، ما الذي أردتموه بهذا القول؟ أردتم أنّ القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى؟ أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما لوجود القديم الذي هو الله ، أو معنى قولكم : إنّه اتّحذ به ، أنّه اختصّه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه. فإن أردتم أنّ القديم تعالى صار محدثا ، فقد أحلتم (١) ، لأنّ القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أنّ المحدث صار قديما ، فقد أحلتم ، لأنّ المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنّه اتّحد به بأن اختصّه واصطفاه على سائر عباده ، فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتّحد به من أجله ، لأنّه إذا كان عيسى محدثا ، وكان الله اتّحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى محدثا ، وكان الله اتّحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولون.

قال : فقالت النصارى : يا محمّد ، إن الله تعالى لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر ، فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقد سمعتم ما قلت لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ، ثمّ أعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كلّه ، فسكتوا إلّا رجلا واحدا منهم ، قال له : يا محمّد ، أو لستم تقولون إنّ إبراهيم خليل الله؟ [قال : قد قلنا ذلك. فقال :] فإذا قلتم ذلك ، فلم منعتمونا من أن نقول : إن عيسى ابن الله؟!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّهما لن يشتبها ، لأنّ قولنا : إنّ إبراهيم خليل الله ، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة والخلّة ، فأمّا الخلّة فمعناه الفقر والفاقة ، فقد كان

__________________

(١) أحال : جمع بين المتناقضين في كلامه. «المعجم الوسيط ـ حال ـ ج ١ ، ص ٢٠٨».

١٠٦

خليلا إلى ربّه فقيرا وإليه منقطعا ، وعن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا ، وذلك لمّا أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله تعالى إلى جبرئيل عليه‌السلام ، وقال له : أدرك عبدي. فجاءه فلقيه في الهواء ، فقال له : كلّفني ما بدا لك ، فقد بعثني الله لنصرتك ، فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل ، إنّي لا أسأل غيره ، ولا حاجة لي إلّا إليه ، فسمّاه خليله ، أي فقيره ومحتاجه ، والمنقطع إليه عمّن سواه.

وإذا جعل معنى ذلك من الخلّة فقد تخلّل معانيه ، ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره ، كأنّ معناه العالم به وبأموره ، فلا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ، ألا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ، وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ، وأنّ من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأنّ معنى الولادة قائم.

ثمّ إن وجب ـ لأنه قال الله تعالى : إبراهيم خليلي ـ أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إنّ عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى : إنّ موسى أيضا ابنه ، وإنّه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : شيخه وعمّه وسيّده ورئيسه وأميره ، كما قد ذكرته لليهود.

فقال بعضهم : ففي الكتب المنزلة أنّ عيسى قال : أذهب إلى أبي؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فإنّ فيه : ربّي وربّكم ، وأذهب إلى أبي وأبيكم ، فقولوا : إنّ جميع الذين خاطبهم كانوا أبناء الله ، كما كان عيسى ابنه ، من الوجه الذي كان عيسى ابنه ثمّ إنّ ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا المعنى الذي زعمتم أنّ عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لأنّكم قلتم : إنّما قلنا : إنّه ابنه لأنّه تعالى اختصّه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خصّ به عيسى ، لم يخصّ به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : أذهب إلى أبي وأبيكم. فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى ،

١٠٧

لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى. وأنتم إنّما حكيتم لفظة عيسى وتأوّلتموها على غير وجهها ، لأنّه إذا قال : أبي وأبيكم. فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه. وما يدريكم لعلّه عنى : أذهب إلى آدم وإلى نوح ، إنّ الله يرفعني إليهم ، ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبوكم ، وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا؟

قال : فسكتت النّصارى ، وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ومخاصما ، وسننظر في أمورنا.

ثمّ أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الدّهريّة ، فقال : وأنتم ، فما الذي دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة لم تزل ، ولا تزال؟

فقالوا : إنّا لا نحكم إلّا بما نشاهد ، ولم نجد للأشياء حدثا ، فحكمنا بأنّها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء [فحكمنا بأنّها لا تزال].

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفوجدتم لها قدما ، أم وجدتم لها بقاء أبد الأبد؟ فإن قلتم : إنّكم قد وجدتم ذلك أثبتّم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ، ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذّبكم العالمون الذين يشاهدونكم.

قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الأبد.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما ، لأنّكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التمييز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع ، لأنّه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد. أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ فقالوا : نعم.

فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا : نعم.

قال : فيجوز عندكم اجتماع اللّيل والنهار ، فقالوا : لا.

١٠٨

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإذن ينقطع أحدهما عن الآخر ، فيسبق أحدهما ، ويكون الثاني جاريا بعده ، قالوا : كذلك هو.

قال : قد حكمتم بحدوثه ما تقدّم من ليل ونهار لم تشاهدوهما ، فلا تنكروا الله قدرة.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتقدّرون ما تقدّم من اللّيل والنهار متناه أو غير متناه؟ فإن قلتم : غير متناه. فكيف وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله؟ وإن قلتم : إنّه متناه. فقد كان ولا شيء منهما. قالوا : نعم.

قال لهم : أقلتم ، إنّ العالم قديم ليس بمحدث. وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به ، وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا : نعم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهذا الذي نشاهده من الأشياء ، بعضها إلى بعض مفتقر ، لأنّه لا قوام للبعض إلّا بما يتّصل به ، كما نرى أنّ البناء محتاج بعض أجزائه إلى بعض وإلّا لم يتّسق ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما نرى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإن كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا فكيف كان يكون؟ وما ذا كانت تكون صفته؟ قال : فبهتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلّا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم ، فوجموا ثم قالوا : سننظر في أمرنا.

ثمّ أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النور والظّلمة هما المدبّران ، فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟

قالوا : لأنّا وجدنا العالم صنفين : خيرا ، وشرّا ، ووجدنا الخير ضدّ الشّر ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضدّه ، بل لكّل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أنّ الثّلج محال أن يسخن ، كما أنّ النار محال أن تبرد ، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين : ظلمة وضياء.

١٠٩

وقال آخرون منهم : إنّ الله لمّا خلق آدم وأمر الملائكة بالسّجود له ، كنّا نحن أحقّ بالسجود لآدم من الملائكة ، ففاتنا ذلك ، وصوّرنا صورته فسجدنا لها تقرّبا إلى الله ، كما تقرّبت الملائكة بالسّجود لآدم إلى الله تعالى ، وكما أمرتم بالسّجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم ، ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها ، وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدتم بالكعبة إلى الله تعالى لا إليها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخطأتم الطريق وضللتم ، أمّا أنتم ـ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب الذين قالوا : إنّ الله يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّور التي صوّرناها ، فصوّرنا هذه نعظّمها لتعظيمنا لتلك الصّور التي حلّ فيها ربّنا ـ فقد وصفتم ربّكم بصفة المخلوقات ، أو يحلّ ربّكم في شيء حتّى يحيط به ذلك الشيء؟ فأيّ فرق بينه إذن وبين سائر ما يحلّ فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفّته؟ ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما؟ وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل يكون ذلك محدثا وهذا قديما؟ وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال ، وهو عزوجل [لا يزال] كما لم يزل؟ فإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال ، وما وصفتموه بالزّوال والحدوث وصفتموه بالفناء ، لأنّ ذلك أجمع من صفات الحالّ والمحلول فيه ، وجميع ذلك يغيّر الذات ، فإن جاز أن تتغيّر ذات الباري عزوجل بحلوله في شيء ، جاز أن يتغيّر بأن يتحرّك ويسكن ويسودّ ويبيضّ ويحمرّ ويصفرّ وتحلّه الصّفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإذا بطل ما ظننتموه من أنّ الله يحلّ في شيء فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم. قال : فسكت القوم ، وقالوا : سننظر في أمورنا.

١١٠

ثمّ أقبل على الفريق الثاني ، فقال لهم : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصلّيتم ، ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب ، فما الذي أبقيتم لربّ العالمين؟ أما علمتم أن من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوى به عبده؟ أرأيتم ملكا عظيما إذا سويتموه بعبيده في التعظيم والخشوع والخضوع أيكون في ذلك وضع للكبير ما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا : نعم. فقال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظّمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون على ربّ العالمين؟ فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمورنا.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلا وشبّهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء ، وذلك أنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر عمّا زجرنا ، ونعبده من حيث يريد منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا ، ولم يأذن لنا ، لأنّا لا ندري لعلّه أراد منّا الأوّل وهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه. فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعنا ، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره ، والله عزوجل حيث أمر بالسّجود لآدم لم يأمر بالسّجود لصورته التي هي غيره ، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه ، لأنّكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون ، إذ لم يأمركم به.

ثمّ قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتم لو أمركم رجل بدخول داره يوما بعينه ، ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره؟ ولكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه ، أو عبدا من عبيده ، أو دابّة من دوابّه ، ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا : نعم. قال : فإن لم تجدوه أخذتم آخر مثله؟ قالوا : لا ، لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن لنا في الأوّل.

١١١

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأخبروني ، الله تعالى أولى بأن لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا : بل الله أولى بأن لا يتصرّف في ملكه بغير أمره وإذنه. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلم فعلتم ، ومن أمركم أن تسجدوا لهذه الصّور؟ قال : فقال القوم : سننظر في أمورنا ثمّ سكتوا.

قال الصادق عليه‌السلام : فو الذي بعثه بالحقّ نبيّا ما أتت على جماعتهم ثلاثة أيّام حتى أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا ، من كلّ فرقة خمسة ، وقالوا : ما رأينا مثل حجّتك ـ يا محمّد ـ نشهد أنّك رسول الله.

وقال الصادق عليه‌السلام : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فأنزل الله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١) فكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم : لمّا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فكان ردّا على الدّهريّة الذين قالوا : إن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة. ثمّ قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فكان ردّا على الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبّران. ثمّ قال : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فكان ردّا على مشركي العرب الذين قالوا : إنّ أوثاننا آلهة. ثمّ أنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) إلى آخرها ، فكان فيها ردّ على من ادّعى من دون الله ضدّا أو ندا.

قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : قالوا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي نعبد واحدا ، لا نقول كما قالت الدّهرية : إنّ الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة. ولا كما قالت الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبّران. ولا كما قال مشركو العرب : إنّ أوثاننا آلهة. فلا نشرك بك شيئا ، ولا ندعو من دونك إلها ، كما يقول هؤلاء الكفّار ، ولا نقول كما قالت اليهود والنّصارى : إنّ لك

__________________

(١) الأنعام : ١.

(٢) الإخلاص : ١.

١١٢

ولدا ، تعاليت عن ذلك» (١).

وقال الطّبرسي في (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي لعنهم الله أنّى يؤفكون ، فسمّى اللعنة قتالا ، وكذلك (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)(٢) أي لعن الإنسان» (٣).

* س ٢١ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣١) [سورة التوبة : ٣١]؟!

الجواب / قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)؟ فقال : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «والله ما صلّوا لهم ولا صاموا ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا ، فاتّبعوهم» (٥).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «والله ما صلّوا لهم ولا صاموا ، ولكن أطاعوهم في معصية الله» (٦).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ص ٥٣٠ ، ح. ٣٢٣

(٢) عبس : ١٧.

(٣) الاحتجاج : ٢٥٠.

(٤) الكافي : ج ١ ، ص ٤٣ ، ح ١. والمحاسن : ص ٢٤٦ ، ح ٢٤٦.

(٥) المحاسن : ص ٢٤٦ ، ح ٢٤٥.

(٦) المحاسن : ص ٢٤٦ ، ح ٢٤٤.

١١٣

وقال جابر : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، قال : «أما إنّهم لم يتّخهذوهم آلهة ، إلّا أنّهم أحلّوا حراما فأخذوا به ، وحرّموا حلالا فأخذوا به ، فكانوا أربابا من دون الله» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام ، في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) ، قال : «أمّا المسيح فبعض ، عظّموه في أنفسهم حتى زعموا أنّه إله ، وأنه ابن الله. وطائفة منهم قالوا : ثالث ثلاثة. وطائفة منهم قالوا : هو الله.

وأمّا قوله : (أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم ، واتّبعوا ما أمروهم به ، ودانوا بما دعوهم إليه ، فاتّخذوهم أربابا بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله ، فنبذوه وراء ظهورهم ، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم وعصوا الله ، وإنّما ذكر هذا في كتابنا لكي يتّعظ به ، فعيّر الله بني إسرائيل بما صنعوا ، يقول الله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٢).

* س ٢٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) [سورة التوبة : ٣٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسيّ : أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) والإطفاء إذهاب نور النار. ثم استعمل في إذهاب كل نور. و (نُورَ اللهِ) القرآن والإسلام ، في

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ٨٦ ، ح ٤٧.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٨٩.

١١٤

قول المفسرين. وقال الجبائي : نور الله. الدلالة والبرهان ، لأنه يهتدى بها كما يهتدى بالأنوار. وواحد الأفواه فم في الاستعمال ، وأصله فوه فحذفت الهاء وأبدلت من الواو ميم ، لأنه حرف صحيح من مخرج الواو مشاكل لها. ولما سمى الله تعالى الحجج والبراهين نورا سمى معارضتهم له إطفاء. وأضاف ذلك إلى الأفواه ، لأن الإطفاء يكون بالأفواه ، وهو النفخ ، وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم ، لأن النفخ يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة. وقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) الإباء الامتناع مما طلب من المعنى. قال الشاعر :

وإن أرادوا ظلمنا أبينا

أي منعناهم من الظلم ، وليس الإباء من الكراهة في شيء على ما يقول المجبرة لأنهم يقولون : فلان يأبى الضيم ، فيمدحونه ، ولا مدحة في كراهة الضيم لتساوي الضعيف والقوي في ذلك. وإنما المدح في المنع خاصة ، ولذلك مدح عورة بن الورد بأنه أبى للضيم بمعنى أنه ممتنع منه ، وقوله «وإن أرادوا ظلمنا أبينا» يدل على ذلك لأنه لا مدحة في أن يكرهوا ظلم من يظلمهم. وإنما المدحة في منع من أراد ظلمهم. والمنع في الآية يمنع الله إلا إتمام نوره. وإن كره الكافرون ، ولا يجوز على قياس (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أن تقول : ضربت إلا أخاك ، لأن في الإباء معنى النفي ، فكأنه قال : لا يمكنهم الله إلا أن يتم نوره. وإذا لم يكن في اللفظ مستثنى منه لم تدخل «إلا» في الإيجاب ، وتدخل في النفي على تقدير الحذف قال الشاعر :

وهل لي أم غيرها إن تركتها

أبى الله إلا أن أكون لها ابنا (١)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ٨ ، ص ١٢١ ، ومعاني القرآن : ص ٤٣٣١.

١١٥

والتقدير في الآية ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره في قول الزجاج ، وأنكر أن يكون في الآية معنى الجحد (١).

* س ٢٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣) [سورة التوبة : ٣٣]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «والله ما نزل تأويلها بعد ، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم عليه‌السلام ، فإذا خرج القائم عليه‌السلام لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه حتى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة ، قالت : يا مؤمن ، في بطني كافر فاكسرني واقتله» (٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «يكون أن لا يبقى أحد إلا أقرّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٣).

* س ٢٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥) [سورة التوبة : ٣٥ ـ ٣٤]؟!

الجواب / قال معاذ بن كثير ، سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «موسّع على شيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم بالمعروف ، فإذا قام قائمنا حرّم على كلّ

__________________

(١) التبيان : ج ٥ ، ص ٢٠٨.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة : ص ٦٧٠ ، ح ١٦ ، ينابيع المودة : ص ٤٢٣.

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٣٨.

١١٦

ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به على عدوّه ، وهو قول الله عزوجل في كتابه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا نزلت هذه الآية كلّ مال تؤدّى زكاته فليس بكنز ، وإن كانت تحت سبع أرضين ، وكلّ مال لا تؤدّى زكاته فهو كنز ، وإن كان فوق الأرض» (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مانع الزكاة يجرّ قصبه في النار» يعني أمعاءه في النار (٣).

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : سئل أبي عن الدنانير والدّراهم ، وما على الناس فيها؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «هي خواتيم الله في أرضه ، جعلها الله مصلحة لخلقه ، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم ، فمن أكثر له منها فقام بحقّ الله تعالى فيها ، وأدّى زكاتها ، فذاك الذي طابت وخلصت له ، ومن أكثر له منها فبخل بها ، ولم يؤدّ حقّ الله فيها ، واتّخذ منها الأبنية ، فذاك الذي حقّ عليه وعيد الله عزوجل في كتابه ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٤).

* س ٢٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ، ص ٦١ ، ح ٤.

(٢) الأمالي : ج ٢ ، ص ١٣٣.

(٣) الأمالي : ج ٢ ، ص ١٣٣.

(٤) الأمالي : ج ٢ ، ص ١٣٣.

١١٧

أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦) [سورة التوبة : ٣٦]؟!

الجواب / قال أبو حمزة الثّمالي : كنت عبد أبي جعفر محمّد ابن عليّ الباقر عليهما‌السلام ذات يوم ، فلمّا تفرّق من كان عنده ، قال لي : «يا أبا حمزة ، من المحتوم الذي لا تبديل له عند الله ، قيام قائمنا ، فمن شكّ فيما أقول لقي الله وهو به كافر ، وله جاحد».

ثمّ قال : «بأبي أنت وأمّي ، المسمّى باسمي ، والمكنّى بكنيتي ، السابع من بعدي ، بأبي من يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

ثمّ قال : «يا أبا حمزة ، من أدركه فلم يسلّم له فما سلّم لمحمّد وعليّ عليهما‌السلام وقد حرّم الله عليه الجنّة ، ومأواه النار وبئس مثوى الظّالمين.

وأوضح من هذا ـ بحمد الله ـ وأنور وأبين وأزهر لمن هداه الله وأحسن إليه قول الله عزوجل في محكم كتابه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ومعرفة الشهور ـ المحرّم وصفر وربيع وما بعده ، والحرم منها ، هي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ـ لا تكون دينا قيّما لأنّ اليهود والنّصارى والمجوس وسائر الملل والناس جميعا من الموافقين والمخالفين يعرفون هذه الشّهور ، ويعدّونها بأسمائها ، وإنّما هم الأئمة القوّامون بدين الله عليهم‌السلام ، والحرم منها : أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الذي اشتقّ الله تعالى له اسما من اسمه العليّ ، كما اشتقّ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسما من اسمه المحمود. وثلاثة من ولده ، أسماؤهم عليّ ابن الحسين ، وعليّ بن موسى ، وعليّ بن محمد ، فصار لهذا الاسم المشتقّ من اسم الله جلّ وعزّ حرمة به ، صلوات الله على محمّد وآله المكرمين المتحرّمين به» (١).

__________________

(١) الغيبة : ج ٨٦ ، ص ١٧.

١١٨

وروي أن السنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقال عليّ بن إبراهيم : قوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) يقول : جميعا (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(٢).

* س ٢٦ : ما هو سبب نزول قوله تعالى :

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧) [سورة التوبة : ٣٧]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : كان سبب نزولها أن رجلا من كنانة كان يقف في الموسم ، فيقول : قد أحللت دماء المحلّين من طيّىء وخثعم في شهر المحرّم وأنسأته ، وحرّمت بدله صفرا. فإذا كان العام المقبل ، يقول : قد أحللت صفرا وأنسأته وحرّمت بدله شهر المحرّم. فأنزل الله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إلى قوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ)(٣).

* س ٢٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٣٨) [سورة التوبة : ٣٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي (رحمه‌الله تعالى) : هذا خطاب من الله تعالى لجماعة من المؤمنين وعتاب وتوبيخ لهم بأنهم إذا قيل لهم على لسان رسوله «انفروا في سبيل الله» ومعناه اخرجوا في سبيل الله يعني الجهاد وسماه سبيل الله ، لأن القيام به موصل إلى معنى الجنة ورضا الله تعالى والنفر

__________________

(١) الغيبة : ج ١٤٩ ، ص ١١٠.

(٢) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٨٩.

(٣) تفسير القميّ : ج ١ ، ص ٢٩٠.

١١٩

الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه وضده الهدوء تقول : نفر إلى الثغر ينفر نفرا ونفيرا ولا يقال النفور إلا في المكروه كنفور الدابة عما تخاف ، وقوله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أصله تثاقلتم وأدغمت التاء في الثاء لمناسبتها لها وأدخلت ألف الوصل ليتمكن الابتداء بها ومثله أدركوا قال الشاعر :

تولى الضجيج إذا ما استافها خصرا

عذب المذاق إذا ما أتابع القبل (١)

والتثاقل تعاطي إظهار ثقل النفس ومثله التباطىء وضده التسرع. ومعنى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) قيل فيه قولان :

أحدهما : إلى المقام بأرضكم ووطنكم.

الثاني : لما أخرج من الأرض من الثمر والزرع. قال الحسن ومجاهد : دعوا إلى الخروج إلى غزوة تبوك بعد فتح مكة وغزوة الطائف ، وكان أيام إدراك الثمرة ومحبة القعود في الظل فعاتبهم الله على ذلك ، والآية مخصوصة بقوم من المؤمنين دون جميعهم ، لأن من المعلوم أن جميعهم لم يكن بهذه الصفة من التثاقل في الجهاد. فقال الله تعالى لهم على جهة التوبيخ ، والتعنيف أرضيتم بالحياة الدنيا على الآخرة ، آثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة الآخرة الباقية. وهو استفهام ، والمراد به الإنكار. والرضا هو الإرادة غير أنها لا توصف بذلك إلا إذا تعلقت بما مضى من الفعل والإرادة توصف بما لم يوجد بعد قال تعالى مخبرا (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ليس الانتفاع بما يظهر للحواس إلا قليل ومنه قولهم : تمتع بالرياض والمناظر الحسان. ويقال للأشياء التي لها أثمان : متاع تشبيها بالانتفاع به (٢).

__________________

(١) معاني القرآن : ج ١ ، ص ٤٣٨ والطبري : ج ١٤ ، ص ٢٥٢ ، (استاف) الشيء قرب منه وشمه ، و (القبل) ـ بضم القاف ـ جمع قبلة.

(٢) التبيان : ج ٥ ، ص ٢١٩ ، الشيخ الطوسيّ.

١٢٠