زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

وعلى هذا فيتعين الثالث وهو وضع الالف واللام للتعريف ، وحيث لا تعين لشيء من مراتب الجمع إلا إرادة جميع الأفراد فهي المرادة.

والإيراد عليه كما عن المحقق الخراساني (١) ، في مبحث المطلق والمقيد ، بان اقل مراتب الجمع أيضاً متعين الظاهر ان إليه نظر المحقق النائيني حيث منع استفادة العموم من ما ذكرناه ، وقال وإلا لكان لمنعها مجال واسع.

غير تام إذ المراد التعين بين المصاديق في الخارج المختص بالمرتبة الأخيرة لان لها مصداقا واحدا ، واما اقل مراتب الجمع فالظاهر ان ابهامها ازيد من ابهام ساير المراتب ، فان مصاديقها القابلة لانطباقها عليها ازيد من مصاديق ساير المراتب ، فان كل ثلاثة ، ثلاثة ، أو اثنين اثنين على الخلاف في اقل مراتب الجمع بانحاء التركيبات المختلفة من مصاديق هذه المرتبة.

فالاظهر ان افادتها العموم إنما تكون لأجل تعين اقصى مراتب الجمع.

إذا عرفت هذه الأمور ، فالكلام يقع في فصول :

حجية العام المخصص في الباقي

الفصل الأول : إذا ورد عام وخصص بشيء ، فهل يوجب تخصيصه به سقوطه عن الحجية بالنسبة إلى الباقي فما لم يعلم شمول الحكم وشك فيه لا حجة على ثبوته ، أم لا؟

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٥ (واما دلالة الجمع المعرف باللام).

٣٠١

وتنقيح القول فيه بالبحث في مواضع ثلاثة.

الأول : ما إذا كان المخصص مبينا مفهوما ومصداقا ، وكان الشك في شمول العام لمورد ناشئا عن الاشتباه في الحكم ، كما إذا ورد اكرم كل عالم ، وخصص ذلك ب (لا تكرم مرتكب الكبائر من العلماء) وشك في وجوب اكرام العالم المرتكب للصغائر.

الثاني : ما إذا كان المخصص مجملا مفهوما ، وكان الشك في شمول العام لمورد من الاشتباه في مفهوم الخاص ، ودورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد (اكرم كل عالم) ثم ورد (لا تكرم الفساق منهم) وفرضنا ان مفهوم الفاسق كان مجملا مرددا بين ان يكون خصوص المرتكب للكبائر ، أو الجامع بينه وبين المرتكب للصغائر ، وشككنا في وجوب اكرام العالم المرتكب للصغيرة ومنشؤه اجمال مفهوم الخاص.

الثالث : ما إذا كان المخصص مجملا مصداقا يعنى كان الشك في شمول العام لمورد ناشئا من الاشتباه في الأمور الخارجية ، كما إذا دل الدليل على وجوب اكرام العلماء ، ودل دليل آخر على عدم وجوب اكرام الفاسق منهم ، وشككنا ان زيدا فاسق أم لا؟

اما الأول : فلا خلاف بين أصحابنا في حجية العام في الباقي كما عن

٣٠٢

المعالم (١) ، وعن الفصول (٢) والقوانين (٣) دعوى الاتفاق عليه.

وإنما الخلاف فيه يكون بين العامة حيث نسب إلى جماعة منهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقا ، ونسب إلى آخرين التفصيل بين ما كان المخصص منفصلا وما كان متصلا فذهبوا إلى عدم جواز التمسك بالعام على الأول دون الثاني ، وربما نسب إلى بعضهم التفصيل بين الاستثناء وغيره.

واستدل النافي بان اللفظ حقيقة في العموم ، فبعد التخصيص ، يعلم انه غير مراد فهو لم يستعمل في العموم ، فلا يكون حجة في الباقي لتعدد مراتبه ، ومعلوم ان المعاني المجازية إذا تعددت ، فارادة كل واحد منها تحتاج إلى قرينة معينة ، وحيث لا قرينة فبالطبع يصبح العام مجملا ، فلا يمكن التمسك به.

وبالجملة ففي كل مورد كان المعنى المجازى متعددا يحتاج إرادة معنى واحد من تلك المعاني إلى قرينتين صارفة ، ومعينة وفي المقام القرينة الصارفة وهو المخصص موجودة ، والقرينة المعينة غير موجودة فلا محالة يكون اللفظ مجملا فلا يجوز التمسك به.

__________________

(١) معالم الدين ص ١١٦ قوله : «الأقرب عندي أن تخصيص العام لا يخرجه عن الحجية في غير محل التخصيص إن لم يكن المخصص مجملا مطلقا ولا أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا نعم يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه».

(٢) الفصول الغروية ص ١٩٩ قوله : «والحق عندي أنه حجة مطلقا كما عزي إلى أصحابنا وعليه المحققون من مخالفينا».

(٣) قوانين الاصول ج ١ ص ٢٦٥ قوله : «وأمّا المخصّص بمبيّن فالمعروف من مذهب أصحابنا الحجيّة في الباقي مطلقا».

٣٠٣

وأجابوا عنه باجوبة :

منها ، ما ذكره المحقق القمي (١) وصاحب الفصول (٢) ، وهو انه مع وجود المرجح لا اجمال وهو الاقربية إلى العام فهي قرينة على إرادة تمام الباقي.

وردّه المحقق الخراساني (٣) ، بان الاقربية بحسب المقدار لا اعتبار بها وإنما المدار على الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال.

وفيه : ان الظاهر ان المجيب اراد من الاقربية معناه الثاني ، مدعيا ان منشأ زيادة الانس ، كما يكون كثرة الاستعمال ، كذلك قد يكون شدة العلاقة والارتباط.

ومنها : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (٤).

وحاصله : ان دلالة العام على جميع الأفراد ، وان كانت واحدة ، إلا انها تنحل إلى دلالات ضمنية متعددة حسب تعدد الأفراد.

__________________

(١) قوانين الاصول ج ١ ص ٢٦٦.

(٢) كما هو الظاهر في الفصول الغروية ج ١ ص ٢٨٧ حيث نقل حكاية ذلك في المعالم عن العلامة ، وفي ص ٢٠٠ قال : «واما في الاستثناء فالاقربية لحوق الحكم المقصود بالباقي من لحوقه بما دونه».

(٣) كفاية الاصول ص ٢١٩.

(٤) مطارح الانظار ص ١٩٢ (هداية : في العام والخاص) عند قوله : «والأولى ان يجاب بعد تسليم مجازية الباقي بأن دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر ..»

٣٠٤

وبعبارة أخرى : بما ان المصاديق التي تحكى عنها هذه الدلالة الواحدة متعددة وشان الحكاية والمرآة جذب لون محكيه ، فالحكاية أيضاً متعددة ، فالعام يدل على كل فرد بدلالة ضمنية في قبال دلالته على ساير الأفراد ، ومعنى ذلك كون كل فرد مستعملا فيه ومرادا بالارادة الاستعمالية ، فإذا ورد المخصص فهو وان كان كاشفا عن عدم تعلق الارادة الاستعمالية بجميع الأفراد ، ولازم ذلك كونه مجازا ، إلا ان هذا المجاز ليس على حد ساير المجازات التي تكون مباينة للمعنى الحقيقي ، ولذا لو تردد المعنى المجازى بين أمور متعددة لا يحكم بارادة أحدهما مع عدم القرينة عليه ، بل هذا المعنى المجازى إنما هو من جهة عدم شمول العام لافراد مخصوصة.

فالمقتضي للحمل على الباقي ، وهو دلالة العام بنفسه على كل فرد موجود ، والمانع مفقود إذ المانع المتصور ليس إلا ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بان الدلالات الضمنية تابعة للدلالة المطابقية ، فهو إنما يدل على كل فرد بتبع دلالته على العموم والشمول ، فإذا انكشف بالمخصص عدم استعماله في العموم والشمول ، فلا كاشف عن استعماله في الأفراد الباقية لسقوط الدلالة التضمنية بسقوط المطابقية.

وعليه ، فالمانع وان كان مفقودا إلا انه لا مقتضى للحمل على الباقي ، إذ المقتضى اما الوضع أو القرينة ، والمفروض انه ليس بموضوع له وليست قرينة ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٠.

٣٠٥

ولا موجب آخر للحمل على الباقي ، ودلالته على كل فرد قد عرفت سقوطها.

ويمكن ان يقال ان العام حين استعماله دال على جميع الأفراد بدلالة واحدة وعلى كل فرد بدلالة تضمنية ، فبعد ورود المخصص ، وان كان يكشف عدم استعماله في العموم وسقوط الدلالة المطابقية ، إلا ان سقوطها إنما يكون بتبع سقوط الدلالة التضمنية على عكس الثبوت ، حيث ان التضمنية تابعة للمطابقية ، وذلك لان المزاحم إنما يزاحم اولا وبالذات الدلالة التضمنية فهي تسقط ابتداء وبتبعها تسقط المطابقية ، وحيث انه إنما يزاحم بعض تلك الدلالات التضمنية لا جميعها فلا وجه لسقوط جميعها بل الساقط منها خصوص ما له مزاحم أقوى ، وعلى ذلك فمرجعه إلى ثبوت القرينة على الحمل على الباقي فتدبر فانه دقيق.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) افاد في وجه مراد الشيخ الأعظم (ره) (٢) وجها آخر ، وهو ان دلالة العام على ثبوت الحكم لكل فرد من أفراد العام ، لا تكون منوطة بدلالته على ثبوته لسائر الأفراد ، فكما ان نفس ثبوت الحكم لكل فرد غير مربوط بثبوته لسائر الأفراد ، كذلك دلالة العام على ذلك ، وهذا نظير ما لو قال اكرم هؤلاء مشيرا إلى جماعة خاصة ، فكما ان تخصيص بعض الأفراد في مثل ذلك ، لا ينافي وقوع الإشارة إلى الجميع ، وكون كل فرد من الأفراد الباقية محكوما عليه بوجوب الاكرام ، وان قلنا باستلزام التخصيص للمجازية كذلك

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٥٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣١٠.

(٢) المصدر السابق (مطارح الانظار ص ١٩٢).

٣٠٦

يكون الحال فيما إذا كانت الدلالة على ثبوت الحكم لجميع الأفراد بلفظ عام ، فهناك دلالات عرضية فإذا سقطت احداها عن الحجية لاوجه لسقوط غيرها من الدلالات عن الحجية فخروج بعض الأفراد عن حكمه لو سلم انه يستلزم المجاز لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمها المخصص ، وبذلك يظهر ان المجاز اللازم للتخصيص إنما هو من جهة خروج بعض ما كان داخلا في المفهوم المستفاد من لفظ العام ، واما دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون الاستعمال مجازيا ، وهذا بخلاف المجاز المتحقق في مثل قولنا (رأيت اسدا يرمي) الذي هو من جهة استعمال اللفظ فيما يباين ما وضع له.

أقول : ان خروج بعض الأفراد عن الحكم الثابت لجميع الأفراد :

ان لم يكن مستلزما للتصرف في استعمال العام في العموم كما هو ظاهر تقريره فهذا خروج عن الفرض والتزام بعدم المجازية ، ومجرد اخراجه عن الحكم بعد كون المستعمل فيه هو معناه الموضوع له لا يوجب صيرورته مجازا.

وان كان مستلزما لذلك. فيرد عليه ما ذكره المحقق الخراساني ، لو لا ما اوردناه عليه.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، وإليه يرجع ما أفاده المحقق النائيني (٢) كما سيمر عليك.

وملخصه ان التخصيص لا يستلزم تجوزا في العام مطلقا سواء أكان

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢١٨ (والتحقيق في الجواب).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٩٩ (الامر الرابع).

٣٠٧

المخصص متصلا ، أم منفصلا ، اما إذا كان المخصص متصلا كما إذا قال (اكرم كل هاشمى عادل) فلان اداة العموم مستعملة فيما هو معناها الحقيقي من استغراق تمام أفراد المدخول.

وبعبارة أخرى : شمول المدخول لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه ، غاية الأمر ان دائرة المدخول مضيقة من جهة التقييد ، وكذلك المدخول مستعمل فيما وضع له ، فانه لم يوضع إلا للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، ومن البديهى انه لم يستعمل إلا فيه ، وإفادة التقييد بدال آخر كافادة الإطلاق بمقدمات الحكمة ، لا تنافى استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة.

وبالجملة الإطلاق لم يؤخذ في معنى المطلق كي يكون التقييد مخالفا للمعنى الموضوع له ، كما ان المدخول لم يستعمل في المقيد ويكون القيد قرينة عليه كي يكون مجازا.

واما إذا كان المخصص منفصلا كما إذا ورد (اكرم كل عالم) ثم ورد (لا تكرم الفاسق من العلماء) فالعام استعمل في العموم والتقييد لا يوجب تصرفا فيه.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مقدمة وهي ان الدلالات على اقسام :

الأولى : الدلالة التصورية وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ، ولو كان اللافظ بغير شعور واختيار ، وهذه الدلالة لا تستند إلى الوضع بل منشأها الانس الحاصل من كثرة الاستعمال.

الثانية : الدلالة التصديقية فيما قال ويعبر عنها بالدلالة التفهيمية ، وهي

٣٠٨

دلالة اللفظ على ان المتكلم اراد به تفهيم المعنى ، وهذه الدلالة مستندة إلى الوضع لما تقدم في مبحث الوضع من ان حقيقته ، تعهد الواضع بأنه متى اراد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص ، وهذه الدلالة تتوقف زائدا على العلم بالوضع على احراز ان المتكلم في مقام التفهيم وانه لم ينصب قرينة متصلة في الكلام على الخلاف ولاما يصلح للقرينية.

الثالثة : الدلالة التصديقية فيما اراده وهي دلالة اللفظ على ان المراد الجدِّي للمتكلم مطابق مع المراد الاستعمالى.

وبعبارة أخرى : ان الداعي للارادة الاستعمالية هو الجد لا غيره ، وهذه الدلالة أيضاً اجنبية عن الوضع بل هي مستندة إلى بناء العقلاء على ان ما يصدر من الفاعل المختار من قول أو فعل يصدر بداعي الجد لا بغيره من الدواعى ، وهذه الدلالة تتوقف زائدا على ما مر على احراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً ، وإلا فمع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفا عن المراد الجدِّي ، فهذه القرينة مانعة عن حجية ظهور العام في العموم لا عن اصله.

إذا عرفت ذلك يظهر لك انه في التخصيص بالمنفصل ، لا يستعمل العام إلا في العموم وليس هناك معنى مجازى حتى يصير مجملا ، لان المخصص حينئذ لا يصادم العام في الدلالة الثانية التي هي الدلالة الوضعية ، وإنما يصادمه في الثالثة.

وبعبارة أخرى : يكشف المخصص عن عدم مطابقة المراد الجدِّي للمراد الاستعمالى ، وعدم حجية العام في جميع الأفراد ، وهذا لا يقتضي رفع اليد عن

٣٠٩

الدلالة الوضعية والظهور ، فالعام المخصص مستعمل في معناه الحقيقي دائما غاية الأمر في المقدار الذي قامت القرينة على عدم كونه مرادا جديا يرفع اليد عنه وفي المقدار الزائد ينعقد الظهور بالمعنى الثالث ببناء العقلاء الذي هو المتبع في المقام.

فان قيل ، كما قيل : ان المخصص المنفصل إذا كان كاشفا عن عدم كون المراد الجدِّي مطابقا للمراد الاستعمالى ، فما فائدة استعمال العام في العموم.

اجبنا عنه : بأنه مضافا إلى ان المتكلم ربما يكون لا بد من ذلك لأجل مفسدة في بيان القيد أو مصلحة في تأخيره ولو تقية أو ما شاكل ، ان استعماله فيه إنما هو ضرب للقانون والقاعدة ، حيث انه لا بد بحكم العقل من العمل على طبقه وعدم التعدي عنه إلا بقيام دليل على خلافه ، فهو حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده ومصاديقه إلا ما قام الدليل على خلافه وفي غيره يرجع إلى العموم.

فالمتحصّل ان التخصيص لا يوجب التجوز في العام بل هو مستعمل فيما وضع له وان لم يكن المستعمل فيه مرادا جديا.

وأورد على ذلك بايرادات :

احدها : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان الارادة الاستعمالية.

ان اريد بها إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والارادة

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠١ (ويرد عليه ..).

٣١٠

مغفولين عنهما حين الاستعمال باعتبار ان النظر اليهما إلى ، فهذه هي بعينها الارادة الجدية المتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى.

وان اريد بها الارادة الهزلية في مقابل الارادة الجدية ، فهي وان لم تكن منافية لاستعمال اللفظ في المعنى لعدم كون الاستعمال الحقيقي دائرا مدار كون الداعي إليه هو خصوص الارادة الجدية ، إلا انه من المقطوع به ان استعمال عمومات الكتاب والسنة في معانيها لا يكون من هذا القبيل أي لا يكون الداعي إليه الارادة الهزلية.

وفيه : انه لا تلازم ، بين ان لا يكون الداعي إلى الاستعمال هو الارادة الجدية ، وبين كونه هو الارادة الهزلية ، لما عرفت من انه يمكن ان يكون الداعي ضرب القانون والقاعدة وعرفت ما يترتب على ذلك من الفائدة.

ثانيها : ما عن المحقق النائيني (١) أيضاً ، وهو ان ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشك ضربا للقاعدة ، وان كان لا ينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة وما شاكل ، إلا ان التخصيص في هذه الموارد قليل جدا حيث ان تقدم شيء عليها غالبا يكون بنحو الحكومة أو الورود ، واما العمومات المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية للاشياء بعناوينها الأولية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه ، فعمل اهل العرف بها حال الشك لا يكشف عن كونها واردة في مقام ضرب القانون والقاعدة ، ضرورة ان عملهم بها عند الشك في ورود التخصيص عليها إنما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون الظاهر مرادا واقعا ،

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠٢ (ويرد عليه ..).

٣١١

وعن ان المتكلم القى كلامه بيانا لما اراده في الواقع ، وعليه فيستحيل كون تلك العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك.

وفيه : ان المراد من استعمال العام في العموم من باب جعل القانون والقاعدة ، ليس كون الحكم المجعول على العام مجعولا عليه في ظرف الشك ، بل المراد به ان العام استعمل في معناه الموضوع له والداعى إليه كونه بيانا للمراد الجدِّي ما لم تكن قرينة على التخصيص.

الثالث : ما أفاده المحقق الاصفهاني (ره) (١) قال : ان الظاهر من الإنشاء كونه بداعي البعث لا بداعى جعل القانون والقاعدة ، فبعد ورود التخصيص ، يدور الأمر بين مخالفة احد ظهورين ، اما الظهور الاستعمالى برفع اليد عنه مع حفظ ظهوره في كونه بداعي البعث الجدِّي بالنسبة إلى ما استعمل فيه وهو الخصوص ، واما الظهور من حيث الداعي وهو كون الإنشاء بداعي البعث برفع اليد عنه ، وحمل الإنشاء على كونه بداعي ضرب القانون واعطاء الحجة ، ولا مرجح لاحدهما على الآخر.

وفيه : انه إذا ورد كلام له ظهورات ، ثم ورد ما ينافيه ، لا بد من لحاظ انه مناف لاى ظهور من الظهورات ورفع اليد عن خصوصه ، وان ارتفع التنافي برفع اليد عن الظهور الآخر ، مثلا إذا ورد (اكرم العلماء) ، ثم ورد (لا يجب اكرام زيد العالم) فالتنافي وان كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل الأول على الاستحباب ، إلا انه لاوجه له : إذ التنافي إنما هو بين ظهور الدليل الأول في

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥١٨ ، بتصرف.

٣١٢

العموم ، وبين الخاص فلا بد من رفع اليد عنه ، وابقاء ظهوره في الوجوب ، وهذا هو الميزان الكلي في جميع موارد التعارض.

وعليه ففي المقام إذا فرضنا ورود اكرم العلماء ، ثم ورود (لا تكرم زيدا) فبما ان طرف المعارضة للدليل الثاني ، هو ظهور الأول في كون الإنشاء بداعي البعث بالاضافة إلى جميع أفراد العام فالمتعين هو رفع اليد عنه خاصة ، دون ظهوره في إرادة العموم بالارادة الاستعمالية.

الرابع : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) أيضاً وحاصله : ان حجية الدليل إنما هي باعتبار كاشفية الإنشاء عن كونه بداعي البعث الجدِّي والانشاء الواحد المتعلق بموضوع متعدد ، حيث انه بداعي البعث الحقيقي ، فيكون منشأ لانتزاع البعث حقيقة بالاضافة إلى كل واحد ، ولو لم يكن بداعي البعث الحقيقي بالاضافة إلى بعض الأفراد مع كونه متعلقا به في مرحلة الإنشاء ، فاما ان يكون الداعي متعددا ، فيلزم صدور الإنشاء الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هي الداعي ، واما ان يكون هو البعث الحقيقي ، فالمفروض عدمه بالاضافة إلى بعض الأفراد ، فيتعين كون الإنشاء لا بداعي البعث الجدِّي بالاضافة إلى الجميع.

وعليه فلا يكون حجة بالنسبة إلى البقية : إذ الحجية إنما تكون فيما إذا كان الإنشاء بداعي البعث الجدِّي ، لاما إذا كان بداع آخر.

وفيه : ان انشاء الحكم لموضوع متعدد وصدوره عن داعيين بمعنى كون الداعي بالاضافة إلى بعض الأفراد ، البعث الجدِّي ، وبالاضافة إلى آخر داع

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٦٣٥ (هل العام المخصص حجة في الباقي).

٣١٣

آخر ، كما إذا كانت مصلحة في تأخير بيان القيد أو مفسدة في بيانه بالمتصل ، لا محذور فيه ، إذ الداعي ليس علة الفعل كي يصح ان يقال الواحد لا يصدر إلا عن الواحد.

الخامس : انه في الكلام الصادر من المتكلم وان كان اصلين مترتبين :

أحدهما اصالة الظهور المعينة ان الظاهر هو المراد الاستعمالي عند الشك واحتمال إرادة غيره.

ثانيهما ، اصالة صدور الظاهر بداعي الجد لا بدواع اخر ، إلا ان الاصل الأول ، إنما يكون طريقا وقنطرة للمراد الجدِّي الذي هو مقتضى الاصل الثاني ، وإلا فاى معنى للبناء على ان الظاهر هو المراد بالارادة الاستعمالية مع العلم بعدم كونه مرادا جديا.

وعليه ، فإذا فرضنا ان القرينة ، وهي الخاص قامت على ان الظاهر ليس مرادا جديا.

وبعبارة أخرى : لا إرادة جدية على طبق مدلول اللفظ بتمامه ، لا يبقى مجال لاصالة الظهور إذ لا بناء لاهل المحاورات على حمل اللفظ على ظاهره بعد ذلك.

وفيه : انه ان احتملنا استعمال اللفظ في معناه الظاهر غير المراد بلا داع من الدواعى العقلائية كان ما ذكر تاما ، ولكنا لا نحتمل ذلك في الكلمات الصادرة من الشارع الاقدس ، وعليه ، فإذا كان ذلك لأجل داع عقلائي ولو كان ذلك في المقام اعطاء الحجة وجعل القانون ، فلا محالة يكون بناء العقلاء

٣١٤

على اصالة الظهور والاعتماد عليها.

فتحصل ان ما أفاده المحقق الخراساني في المقام حق لا يرد عليه شيء من ما اوردوه عليه.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله ، ان الميزان في كون اللفظ حقيقة هو كونه مستعملا ، في معناه الموضوع له بحيث ان الملقى في الخارج كانه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني ، وهذا الميزان متحقق في المقام ، من جهة ان اداة العموم لا تستعمل إلا فيما وضعت له ، كما ان مدخولها لم يستعمل إلا فيما وضع له.

اما الثاني : فلان المدخول لم يوضع إلا للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، ومن الواضح انه لم يستعمل إلا فيها ، وإفادة التقييد بدال آخر متصل أو منفصل كافادة الإطلاق بمقدمات الحكمة ، لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر.

واما الأول : فلان الاداة لا تستعمل ابدا إلا في معناها الموضوع له اعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، غاية الأمر ان المراد بالمدخول ، تارة يكون امرا وسيعا ، وأخرى يكون امرا ضيقا ، وهذا لا يوجب فرقا في ناحية الاداة أصلاً.

وفيه : ان هذا لا يتم بناء على ما اخترناه من ان اداة العموم بانفسها متكفلة لبيان عدم دخل شيء من الخصوصيات في الحكم ولا تحتاج إلى إجراء

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠٣ (والتحقيق أن يقال : ..).

٣١٥

مقدمات الحكمة في المدخول : فانه على هذا يكون المخصص منافيا لهذه الدلالة مع قطع النظر عما ذكرناه والظاهر ان مراده ما ذكرناه وعليه فيتم.

ومنها : ان تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه لامكان ان يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه ، وحيث ما كان العموم مرادا من اللفظ كان اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي (١).

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بان ذكر العام للدلالة على معناه دلالة تصورية توطئة للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعض وان كان صحيحا إلا انه يختص بموارد التخصيص بالمتصل ولا يعم موارد التخصيص بالمنفصل فتبقى دعوى عدم استلزام التخصيص فيها للمجازية بلا دليل.

وفيه : ان مراد هذا القائل ، من ان إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية ليس هو الارادة التصورية ، بل مراده منها الارادة التفهيمية أي التصديقية فيما قال ، والتعبير عنها بالتمهيدية من جهة ان ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده ، فهذا الوجه يرجع إلى ما ذكرناه واوضحنا به ما أفاده المحقق الخراساني وأجبنا عن كل ما أورد عليه.

__________________

(١) حكى هذا الوجه المحقق النائيني في اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠١ (الثاني ..).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠٢ (ويرد عليه : ان ذكر العام).

٣١٦

إذا خصص العام بالمجمل مفهوما

واما الموضع الثاني : وهو ما إذا فرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشك في مفهوم الخاص ومن جهة الشبهة المفهومية فملخص القول فيه.

ان المجمل المفهومي ربما يكون مجملا من جميع الوجوه كما في (اكرم العلماء إلا بعضهم) وهذا القسم خارج عن محل الكلام ، ولا كلام في سقوط العام عن الحجية رأسا.

وربما يكون مجملا من بعض الجهات بحيث يبقى للعام موارد متيقنة ، كما في (اكرم العلماء إلا الفساق منهم) وفرض تردد الفاسق بين اختصاصه بمرتكب الكبيرة ، وشموله لمرتكب الصغيرة ، حيث ان العالم الذي لا يرتكب شيئا منهما يكون مشمولا للعام يقينا ، وهذا هو محل الكلام.

ثم ان المخصص المجمل مفهوما على اربعة اقسام :

إذ ربما يكون المخصص متصلا.

وربما يكون منفصلا.

وعلى كل تقدير ، قد يكون امره مرددا يبن الأقل والأكثر.

وقد يكون مرددا بين المتباينين.

وقبل بيان ما هو الحق في هذه المسألة لا بد من التنبيه على امر مر تفصيله :

وملخصه ، ان لكل كلام صادر من متكلم مختار دلالات :

٣١٧

الأولى : الدلالة التصورية.

الثانية : الدلالة التصديقية فيما قال.

الثالثة : الدلالة التصديقية فيما اراد.

والمخصص منفصلا كان أو متصلا لا يصادم الدلالة الأولى ، وإذا كان متصلا فهو يصادم ويزاحم الدلالة الثانية ، ويوجب قصرها على غير موارد التخصيص ، وإذا كان منفصلا فهو لا يصادم الثانية ، بل يزاحم الثالثة ، ويوجب قصر الحجية على غير مورد التخصيص.

إذا حققت ذلك فاعلم ، ان المخصص إذا كان متصلا يسري اجماله إلى العام كان اجماله لدوران الأمر بين الأقل والأكثر ، أو لدورانه بين المتباينين : فانه من جهة مزاحمة الخاص إذا كان متصلا لظهور العام في العموم لا ينعقد للعام ظهور ، إلا في الأفراد المعلوم عدم دخولها تحت الخاص.

وبعبارة أخرى : بعد فرض كون الخاص المتصل موجبا لعدم ظهور العام إلا في غير ما هو مشمول للخاص ، إذا كان الخاص مجملا يصير العام أيضاً مجملا.

وان كان المخصص منفصلا ، فان كان امره دائرا بين المتباينين يسرى اجماله إلى العام من جهة ان الخاص ، اوجب تقييد مراد المتكلم بشيء ، غير معين ، وقصر حجيته في غير ذلك الشيء ، فإذا كان الخاص مجملا لا محالة يصير العام مجملا ، غاية الأمر لا يوجب اجمال العام بالاضافة إلى دلالته التصديقية فيما قال ، بل يوجب اجماله بالاضافة إلى دلالته التصديقية فيما اراد.

واما ان كان اجماله لدوران امره بين الأقل والأكثر كما إذا ورد اكرم

٣١٨

العلماء ، ثم ورد في دليل منفصل ، لا تكرم الفساق منهم ، وتردد الفاسق بين ان يكون مرتكب الكبيرة خاصة ، أو هو مع المرتكب للصغيرة ، فلا يسرى اجماله إلى العام ، لا بالاضافة إلى الدلالة التصديقية فيما قال ، ولا بالاضافة إليها فيما اراد.

اما في الأولى فواضح ، واما في الثانية فلان قصر الخاص حجية العام إنما يكون من جهة كونه حجة أقوى ، فهو إنما يصلح لقصر الحجية في المقدار الذي هو حجة فيه ، واما فيما لا حجية له بالاضافة إليه ، فلا قاصر لحجية العام فلا محالة يكون العام حجة فيه.

وحيث ، ان الخاص حجة في القدر المتيقن ، وهو الأقل ولا يكون حجة في الأفراد المشكوك فيها فلا مزاحم لحجية العام فيها كي يمنع عن حجيته فهو الحجة فيها.

وقد أورد على ما ذكرناه من التفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل وان اجمال الخاص لا يسرى إلى العام في الثاني بامرين :

الأول : ان دليل الخاص يوجب تقييد المراد الواقعي بغير ما يكون الخاص شاملا له لا بخصوص ما علم من أفراده ، إذ الخارج هو المفهوم الكلي ، وعليه ، فإذا فرض اجمال الخاص لتردده بين الأقل والأكثر يكون الباقي تحت العام بحسب المراد الواقعي ، مرددا بين الأقل والأكثر فلا فرق بين المخصص المتصل ، والمنفصل بالنسبة إلى تقييد المراد الواقعي ، فكل منهما يوجب اجمال العام.

وبعبارة أخرى : ان المنفصل فيما له من المدلول واقعا ، يمنع عن حجية العام ويوجب قصر الحجية على ما لا يكون داخلا تحت الخاص واقعا ، لا بما علمناه

٣١٩

من مدلوله ، كما انه في صورة الاتصال يتضيق ظهوره بما له من المدلول لا بما علمناه من مدلوله ، وبالجملة لا فرق بين صورتي الاتصال والانفصال ، إلا في زوال الظهور في أحدهما دون الآخر ، وإلا فمن حيث تضييق الحجية هما متساويان.

وفيه : انه في المخصص المتصل لا ينعقد للعام ظهور بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها فلا يتم موضوع الحجية الثابتة ببناء العقلاء ، واما في المنفصل فالعام ينعقد ظهوره في جميع الأفراد فيكون حجة على جميع الأفراد في نفسه ، وإنما الخاص يمنع عن حجيته لكونه حجة أقوى ، وحيث ان حجية الخاص إنما تكون بالنسبة إلى الأفراد المعلومة خاصة ، لعدم ترتب الحكم على المفاهيم ، والالفاظ ، وتعلقه بالمصاديق ، فقول المولى ، لا تكرم الفساق حكم انحلالي بحسب ما للفاسق من الأفراد وحينئذٍ فكل فرد علم شمول الخاص له يكون هو خارجا عن تحت العام ، والافراد المشكوك فيها من جهة عدم العلم بشمول الخاص لها ، وبالتبع لا يكون هو حجة فيها ، تكون باقية تحت العام ، وبالجملة ليس الخارج عن تحت العام شيء واحد ، بل اشياء فكل ما علم خروجه فهو ، وإلا فيبقى تحت العام.

الثاني : انه بعد ما صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلا عن كلامه ، فلا محالة يحتاج في التمسك بعموم كلام المتكلم احراز عدم المخصص المنفصل ، وعليه ، فاللازم الاجمال فيما نحن فيه لعدم احرازه بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها لا بالقطع ، ولا بالاصل ، اما الأول فواضح ، واما الثاني فلعدم بناء العقلاء على التمسك به بعد وجود ما يصلح ان يكون صارفا

٣٢٠