زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

وما أفاده الأستاذ (١) من ان الظاهر ان المتفاهم العرفي من القضية المغياة بغاية هو عدم دخول الغاية في المغيا.

ان اراد منه عدم الدلالة على الدخول.

فكلام متين.

وان اراد منه الدلالة على العدم ، فلا يتم.

واما المقام الثاني : فالغاية قد تكون قيدا وغاية للموضوع كما في مثل قوله تعالى : (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(٢).

وقد تكون غاية للمتعلق كقوله تعالى : (أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)(٣).

وقد تكون غاية للحكم كقوله" كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام" (٤).

اما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم يبتنى على القول بدلالة الوصف على المفهوم ، وقد مر ان المراد من الوصف ليس هو الوصف المصطلح ، وعرفت ان الفرق بين القضية الشرطية ، والقضية الوصفية حيث ان الأولى تدل على المفهوم دون الثانية ، إنما يرتكز على ان القيد في الأولى

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٥ ص ١٣٦.

(٢) الآية ٦ من سورة المائدة.

(٣) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / الوسائل ج ١٧ ح ٢٢٠٥٣.

٢٦١

للحكم ، وفي الثانية للموضوع أو المتعلق.

واما إذا كانت غاية للحكم فقد افاد المحقق الخراساني (١) ، في وجه دلالتها على المفهوم بقوله لانسباق ذلك منها كما لا يخفى وكونه قضية تقييده بها وإلا لما كانت ما جعل غاية له بغاية انتهى.

ويرد عليه انه (قدِّس سره) صرح في مفهوم الشرط بأنه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم ، مع تصريحه برجوع القيد فيها إلى الحكم ، وافاد انه لا يستفاد المفهوم ما لم يدل الكلام على كون القيد علة منحصرة ، وحيث انه لا يدل على ذلك فلا تدل على المفهوم.

وبعين هذا البرهان يقال في المقام ان الدلالة على المفهوم تتوقف على ثبوت كون الغاية للحكم مطلقا بحيث تكون غاية لتاثير كل ما يفرض كونه علة له ، واما إذا لم يدل إلا على كونها غاية للحكم المعلول لعلة خاصة ، اما لتمامية ذلك المقتضى أو لوجود المانع عن تأثيره ، ولم يكن ناظرا إلى الحكم المعلول لعلة أخرى ولا لعلته ، فلا يدل على المفهوم.

ولكن ما أفاده (قدِّس سره) في المقام في نفسه تام إذ لو جعل الغاية غاية للحكم ، لدلت على المفهوم وانه حيث يكون ظاهرها كون الغاية غاية لطبيعي الحكم في المنطوق ، فتدل على انتفائه بعد الغاية.

ثم ليعلم ان المراد من كون الغاية غاية للحكم كونها غاية لثبوت الحكم لا لنفسه ، وإلا لما دل على المفهوم فان الكلام حينئذ يدل على جعل الحكم المقيد ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٠٨ (والتحقيق).

٢٦٢

وهو لا يستلزم عدم جعل غيره ، وإنما التزمنا في الشرط بدلالته على المفهوم ، من جهة ظهور الكلام في حصر ثبوت الحكم بثبوت القيد ، وهذا بخلاف ما إذا كانت غاية لثبوت الحكم فان الكلام حينئذ ، يدل على ان الحكم المطلق ثبوته لهذا الموضوع مغيا بهذه الغاية ، فتكون القضية حينئذ كالقضية المتضمنة للشرط.

وعليه فادعاء الأستاذ ان دلالة الغاية على المفهوم أقوى من دلالة الشرط ، في محله : لان ظهورها في كونها قيدا لثبوت الحكم لا لنفسه أقوى من ظهور الشرط فتدبر فانه دقيق.

هذا كله في مقام الثبوت ـ واما في مقام الإثبات وتمييز موارد كون الغاية غاية للحكم ـ أو للموضوع أو المتعلق ، مع صلاحيتها كونها غاية لكل منها.

مثلا إذا قال صم إلى الليل يصلح إلى الليل كونه غاية للصوم ، فيكون الواجب مقيدا ، ويصلح ان يكون غاية للحكم فيدل على المفهوم ، فالمحقق الخراساني لم يذكر شيئا.

واما المحقق النائيني (١) فافاد انها بحسب الوضع لا تكون ظاهرة في شيء ، ولكنها بحسب التركيب الكلامي لا بد وان تتعلق بشيء والمتعلق لها هو الفعل المذكور في الكلام لا محالة فتكون حينئذ ظاهرة في كونها من قيود الجملة لا من قيود المفهوم الافرادى فتلحق بادوات الشرط فتكون ظاهرة في المفهوم.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٣٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٨١.

٢٦٣

وافاد المحقق الخوئي (١) في ضابط ذلك ـ انه ان كان الحكم المذكور في القضية مستفادا من الهيئة كان الكلام في نفسه ظاهرا في رجوع القيد إلى متعلق الحكم : إذ الظاهر هو رجوع القيد في الكلام إلى المعنى الحدثى فرجوعه إلى الموضوع خلاف الظاهر ، كما ان رجوعه إلى الهيئة خلاف المتفاهم العرفي ، وان كان الحكم المذكور مستفادا من مادة الكلام فان لم يذكر متعلق الحكم في الكلام كما في قولنا يحرم الخمر إلى ان يضطر إليه المكلف ، فالكلام ظاهر في رجوع القيد إلى نفس الحكم ، وان كان المتعلق مذكورا فيه ، فلا يكون للكلام ظهور في رجوعه إلى الحكم ، أو المتعلق.

أقول : لم يظهر لى وجه ادعائه ظهور الكلام في رجوع القيد إلى المتعلق دون الحكم إذا كان الحكم المذكور في القضية مستفادا من الهيئة بعد كون بنائه على إمكان رجوع القيد إليها وعدم محذور في ذلك.

ثم أي فرق بين كون الحكم مستفادا من الهيئة أو من المادة حيث ادعى في الفرض الثاني اجمال الحكم وعدم ظهوره في رجوعه إلى الحكم أو المتعلق.

فالأولى في مقام الضابط ، ان يقال ان الاصل في القيود التي تذكر بعد الجملة رجوعها إلى النسبة أي ما سيق الكلام لبيانه وهو النسبة ، وما يذكر قبل اسناد الحكم إلى متعلقة فهو يرجع إلى المتعلق أو الموضوع.

والحق : ان هذا واضح لا يحتاج إلى بيان ازيد من التنبيه إليه.

والظاهر ان مراد المحقق النائيني ذلك.

__________________

(١) في حاشيته على اجود التقريرات ج ١ ص ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٨٠.

٢٦٤

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الغاية ان ذكرت بعد اسناد الحكم إلى المتعلق دل الكلام على المفهوم ، وإلا فلا.

المبحث الرابع في مفهوم الحصر

المشهور بين الاصحاب انه يدل على الحصر كلمات :

منها : كلمة" إلا" الاستثنائية ، وقالوا انها تدل على اختصاص الحكم سلبا وايجابا بالمستثنى منه.

وتنقيح القول في المقام ، ان هذه الكلمة تستعمل على نحوين ، وفي موردين :

أحدهما : تستعمل وصفية ، وهي التي تذكر قيدا للمفهوم الافرادى من الموضوع ، أو المتعلق ، قبل ورود الحكم عليه ، وانتسابه إليه كما في الآية الكريمة (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا)(١) ونحوها قولنا : القوم إلا زيدا جاءوا.

وهي حينئذ خارجة عن محل الكلام ويكون سبيلها حينئذ سبيل ساير الاوصاف ، وقد مر ان المراد بها كل ما يوجب تقييد المفهوم الافرادى لا خصوص الوصف المصطلح وقد مر عدم دلالتها على المفهوم ، فلا تدل الوصفية على المفهوم.

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة الأنبياء.

٢٦٥

مورد دلالة كلمة (إلا) على الحصر

ثانيهما : ما تستعمل استثنائية ، وهي التي تذكر قيدا للجملة ، وتستعمل بعد تماميتها أي ثبوت الحكم للموضوع كقولنا : جاء القوم إلا زيدا.

وهي حينئذ تدل على المفهوم وعلى نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى فتفيد كلمة (إلا) ثبوت نقيض الحكم المذكور في القضية للمستثنى.

وما في الكفاية (١) وذلك للانسباق عند الإطلاق قطعا.

مراده ما ذكرناه ومحل كلامه إلا الاستثنائية.

فلا يرد عليه انه لم لا يذكر القسمين في كلمة إلا نحو ما ذكره في الغاية.

واما ما في بعض الكلمات من تصور ان يكون الاستثناء عن الحكم مع قطع النظر عن المتعلق أو الموضوع أو ثبوت الحكم له ، فلا معنى له سوى في مثل لا وجوب لاكرام زيد إلا وجوبا ضعيفا أو وجوبا لا عقاب على مخالفته وامثال ذلك.

وعلى الجملة ان الاستثناء أي كلمة (إلا) ان كان من المفهوم الافرادى تكون القضية وصفية وغير دالة على المفهوم ، وان كان من الجملة التركيبية تدل على المفهوم.

فالنزاع في الحقيقة راجع في قوله : جاء القوم إلا زيدا ، إلى ان قوله إلا زيدا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٠٩.

٢٦٦

من قيود القوم ، ويكون المعنى ان القوم الذين هم غير زيد جاءوا فلا تدل القضية على المفهوم لان اثبات حكم لموضوع خاص لا يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع ، أو يكون من الحكم فتكون (إلا) استثنائية ، ويكون للقضية مفهوم ، لان اثبات حكم للقوم واخراج زيد عن هذا الحكم مع انه منهم عين المفهوم. هذا بحسب مقام الثبوت.

واما في مقام الإثبات فما كان قبل الاسناد يكون استثناء عن الموضوع أو المتعلق فلا يدل على المفهوم ، وان كان بعد الاسناد فهو ظاهر في رجوعه إلى الجملة ، أي ما سيقت الجملة لبيانه وهو ثبوت الحكم للموضوع.

وان شئت قلت انه ظاهر في رجوعه إلى الموضوع بما ان الحكم ثابت له وعليه فيدل على المفهوم ، وهذا هو الضابط في المقام.

واما ما ذكره المحقق النائيني (١) من ان الاصل في كلمة (إلا) كونها استثنائية ومن قبيل الثاني ، وكونها وصفية ومن قبيل الأول يحتاج إلى القرينة.

فلم يظهر لى وجه كون ما ذكر أصلاً فيها بعد وضعها للاخراج الجامع بين القسمين ، وكون الوصفية ، والاستثنائية منتزعتين عن كونها اخراجا عن المفهوم الافرادى أو الجملة. مع انه لو سلم تعدد الوضع لم يظهر وجه كون أحدهما أصلاً.

واما ما نقل عن نجم الائمة (٢) من ان رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٣٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٨٤.

(٢) نقل الحكاية عنه المحقق النائيني في فوائد الاصول ج ٢ ص ٥٠٥.

٢٦٧

منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد.

فكما أفاده المحقق النائيني (١) كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه إذ الكلام لا يحمل على شيء إلا على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته من لواحقه وتوابعه ، فلا تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل الاسناد.

اضف إليه انه لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تكون القرينة مناقضة لذى القرينة كما في قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات مع ذى القرائن والعمومات والمطلقات ، وعلى الجملة لا اختصاص لهذا التوهم بباب الاستثناء.

وربما يستدل لدلالة الاستثناء على المفهوم بقبول رسول الله (ص) قبول اسلام من اظهر الاعتراف بكلمة التوحيد ، قال في محكي التقريرات (٢) وقبول رسول الله (ص) اسلام من قال لا إله إلا الله من اعدل الشواهد على ذلك ، أي على كون الاستثناء من النفي مفيدا للاثبات ، وقريب منه ما عن الفصول.

وافاد المحقق الخراساني (٣) في رده انه يمكن دعوى ان دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

وفيه ، ان هذه كلمة التوحيد في جميع الأزمنة لا في خصوص الصدر الأول

__________________

(١) المصدر السابق في الفوائد

(٢) مطارح الانظار ص ١٨٧ (هداية) في مفهوم الاستثناء.

(٣) كفاية الاصول ص ٢١٠ (ومنه انقدح ..).

٢٦٨

كي تصح هذه الدعوى ، وان تمت بالاضافة إلى ما عن التقريرات.

وبعبارة أخرى : نفس هذه الكلمة مع عدم القرينة تكون كلمة التوحيد.

والانصاف ان هذه الكلمة تدل على التوحيد بحسب المتفاهم العرفي.

فيما أورد على كلمة التوحيد وجوابه

ولكن هاهنا اشكالا معروفا ، ولاجله التزم جماعة بان كون هذه الكلمة كلمة التوحيد ، إنما هو من جهة التعبد.

وهو : ان خبر لا بما انه محذوف فلا بد وان يقدر شيء ، ولا يخلو ذلك من ان يكون ممكنا ، أو موجودا ، ولا ثالث ، وان كان الأول فلا يدل على وجوده تعالى ، وان كان الثاني فلا يدل على نفى إمكان إله آخر حيث ان نفى الوجود اعم من نفي الامكان.

وأجابوا عنه باجوبة :

منها : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو ان مراد من الإله واجب الوجود ، وامكانه مساوق لوجوده ووجوبه ، فان المتصف بالامكان الخاص ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم ، فوجوده يحتاج إلى وجود علة له فمفهوم واجب الوجود إذا قيس إلى الخارج يدور امره بين الامتناع والوجود ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢١٠ ، عند قوله : «مندفعة بأن المراد من الإله ..».

٢٦٩

ولا ثالث لهما ، وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكنا أو موجودا.

والظاهر ان نظره (قدِّس سره) إلى البرهان المعروف عند العرفاء ببرهان الصديقين ، وهو ان الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج ، فلا بد وان يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضى ، أو عدم الشرط ، أو وجود المانع ، وحيث ان كل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود لعدم استناد وجوده إلى وجود المقتضى وإلا انقلب الواجب ممكنا ، فنفس تصوره يكفي للتصديق بوجوده.

وفيه : ان الإله ليس بمعنى واجب الوجود ، بل هو بمعنى المعبود : لأنه من أله أي عبد ، اضف إليه ان هذا مطلب فلسفي دقيق لا يعرفه العوام ، وهذه كلمة التوحيد للجميع.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان كلمة لا الواقعة في كلمة التوحيد ، مستغنية عن الخبر ، فهي تدل على عدم تقرر مدخولها مطلقا ولو في مرحلة الامكان ، فتدل الكلمة المباركة على نفى الوجود والامكان عن غير الله تعالى واثبات كليهما له.

وفيه : ان كلمة لا وان كانت تستعمل بلا خبر ، إلا انها حينئذ تكون تامة لا ناقصة فلا تدل حينئذ على نفى الامكان عن غيره ، نعم يثبت به نفى وجود غيره تعالى.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٤٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٨٦.

٢٧٠

ومنها : ما ذكره المحقق اليزدى (ره) (١) قال ويمكن ان يجاب بان المراد من الإله المنفى هو خالق تمام الموجودات وبعد نفى هذا المعنى مطلقا واثباته في ذاته المقدسة يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقا له ، ولا يمكن مع كونه مخلوقا ان يكون خالقا فحصر وجود الإله في الباري جل وعلا يدل بالالتزام البين على عدم إمكان غيره تعالى.

وفيه : مضافا إلى ان الإله ليس بمعنى الخالق : ان الجملة مركبة من عقدين ، سلبى ، وايجابى ، والأول ينفى خالقية غيره تعالى ، والثاني يثبت الخالقية له ، واما اثبات مخلوقية ما عداه فهو خارج عن العبارة ، فلا يصح جعله اساسا لهذا الجواب.

والصحيح في الجواب ان يقال ان الإله كما مر هو المعبود ، فالمراد بهذه الكلمة نفى المستحق للعبادة غيره تعالى ، واثبات استحقاقه جل جلاله لها : وذلك يلازم مبدئيته تعالى لجميع الموجودات ، فان ذلك يوجب كونه مستحقا لها ، لاستحقاق العلة لان يخضع لديه المعلول وعدم مبدئية غيره.

اضف إليه انه لو كان الإله بمعنى واجب الوجود ، امكن اثبات التوحيد بهذه الكلمة بوجه آخر ، وهو كفاية التوحيد الوجودي ، والاقرار بوجود مبدأ واحد في الاسلام ، ولا يتوقف على نفى الامكان عن غيره ، ولذا لو غفل عن ذلك حين التكلم بها يحكم باسلامه بلا كلام.

وقد يقال ان هذه الكلمة وردت في قبال المشركين ، ولذا يسمونه كلمة

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ١ ص ١٧٦.

٢٧١

التوحيد واثبات وجود الصانع مفروغ عنه ، وعليه فحيث ان الإله بمعنى المعبود ، فمفاد الكلمة نفى المستحق للعبادة غيره تعالى ، ومعلوم ان نفى الموجود الكذائي سوى الله تعالى يدل على التوحيد في المعبود وهو يكفي في الاسلام.

ثم ان الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد بمقايسة نظائرها كون المقدر فيها موجود لا ممكن.

ثم ان المحكي عن ابي حنيفة (١) انه استدل لعدم دلالة الاستثناء على المفهوم ، بقوله (ص) " لا صلاة إلا بطهور" ، إذ لو كان الاستثناء من النفي اثباتا للزم كفاية الطهور في صدق الصلاة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني باجوبة :

١ ـ ما أفاده في الهامش (٢) ، وهو ان كلمة إلا في مثل هذا التركيب ، تدل على نفي الامكان يعني ان الصلاة لا تكون ممكنة بدون الطهور ومعه تكون ممكنة لا ثابتة فعلا.

وفيه : ان موارد استعمال هذه الكلمة تشهد بانها تستعمل للنفي الفعلي ،

__________________

(١) وهو ابو حنيفة النعماني الكوفي ولد عام ٨٠ للهجرة وهو امام الحنفية احد ائمة اهل السنة وقيل ان اصله من فارس ولكنه نشأ بالكوفة توفي سنة ١٥٠ ه‍ ببغداد (الكنى والالقاب» نقل الحكاية عنه غير واحد من الاعلام منهم الشيخ الاعظم في مطارح الانظار ص ١٨٧ / كفاية الاصول ص ٢٠٩ / راجع شرح مختصر العضدي ص ٢٦٥

(٢) كفاية الاصول ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ هامش رقم ٢.

٢٧٢

أو الإثبات كذلك ، مع ، انه ان لوحظ العمل المشتمل على جميع ما يعتبر في الصلاة فهي صلاة فعلا ، وان لوحظ نفس الطهارة أو كل عمل مقترن بها ، فهي ليست بصلاة إمكانا.

٢ ـ ان الاستعمال مع القرينة كما في مثل التركيب مما علم فيه الحال لا دلالة له على مدعاه أصلاً.

وفيه : انه لا قرينة هنا حيث أنه لا فرق بين هذا التركيب في المورد واستعماله في غيره من الموارد.

٣ ـ ما توضيحه ان المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب ، نظير ، لا علم إلا بالعمل. ان الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة ، وإذا تحققت ، لا بد وان تكون مع الطهارة.

وبعبارة أخرى : ان الصلاة الواجدة لجميع ما يعتبر فيها لا تكون صلاة إلا إذا اقترنت بالطهارة ، كما ان العلم ليس علما حقيقة إلا مع الاقتران بالعمل ، ولا يدل على ان العمل وحده غير مقرون به علم ، وعلى ذلك فلا مانع من الاخذ بمفهومه وهي صلاتية الواجدة لجميع ما يعتبر في الصلاة إذا اقترنت بالطهارة لا صلاتية الطهارة ولا صلاتية كل مقترن بالطهارة.

ثم انه وقع الخلاف في ان دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى هل هي داخلة في المنطوق أو المفهوم؟

٢٧٣

فقد أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) انه ان كانت الدلالة عليه في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما هو ليس ببعيد ، وان كان لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية كانت بالمفهوم.

وفيه : انه وان كانت الدلالة عليه بنفس الاستثناء لما كان بالمنطوق ، فان اداة الاستثناء تدل على الاخراج ، وليس ذلك عين ثبوت نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه للمستثنى ، بل هو لازمه ، نظير ، ان عدم وجوب اكرام زيد على فرض عدم مجيء عمرو المستفاد من قولنا : اكرم زيدا ان جاء عمرو.

إنما يكون لازم العلية المنحصرة والقيد المنحصر على اختلاف المسلكين.

فالمتحصّل ان كلمة إلا ، المستعملة للاخراج عن الحكم تدل على المفهوم ، وما تستعمل بمعنى الصفة وللاخراج من الموضوع أو المتعلق لا تدل عليه.

وبما ذكرناه ظهر ان ما أفاده في المسالك (٢) في توجيه فتوى صاحب الشرائع ، بأنه لو قال ليس لزيد عليَّ عشرة إلا درهما لا يلزم بشيء.

بما حاصله : ان الاستثناء إذا كان من نفس الموضوع قبل الحكم المذكور في الكلام ، لم يكن في الكلام دلالة إلا على نفى العشرة المخرج عنها الواحد فكأنه قال : ليس لزيد عليَ تسعة. وإذا كان استثناء بعد الحكم المذكور ، ثبت الدرهم الواحد في ذمة المقر ، وحيث انه لا قرينة على كون الاستثناء بعده أو

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢١١.

(٢) مسالك الافهام ج ١١ ص ٧٠.

٢٧٤

قبله فلا يكون الكلام المذكور اقرارا بشيء.

متين ولا يرد عليه شيء.

مما يدل على الحصر كلمة (إنما)

ومما يدل على الحصر والاختصاص كلمة (إنما) على المشهور.

وقد نص اهل الادب على ذلك أي على انها من اداة الحصر ، وتبادره منها قطعا عند اهل العرف والمحاورة ، وان لم يكن لهذه الكلمة مرادف في لغة الفرس ولذلك استشكل في محكي التقريرات (١) في ذلك ، ولكنه لا يمنع عن الانسباق بملاحظة تتبع موارد استعمال هذه الكلمة.

ويمكن ان يقال : انها مركبة من كلمة (ان) التي هي للتحقيق واثبات الشيء ، وكلمة (ما) التي هي للنفي ، والنفى يرد على تالى إنما والاثبات على الجزء الآخر وعليه فقوله إنما الاعمال بالنيات ، بمنزلة لا عمل الا بنية.

فان قيل انها كما تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كقولنا إنما الفقيه زيد ، كذلك تستعمل في قصر الموصوف على الصفة كقولنا إنما زيد عالم أو مصلح ، وبديهي انها في المورد الثاني ، لا تدل على الحصر حيث ان لزيد

__________________

(١) مطارح الانظار ص ١٨٨ عند قوله : «ومنها الحصر بانما» فبعد ذكر دعوى المشهور وأهل اللغة على الحصر قال : «والانصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك في موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا ..».

٢٧٥

صفات اخر غيره ، فيستكشف من ذلك ان انسباق الحصر منها في ما هو من قبيل الأول إنما يكون بواسطة القرائن المقامية كتقديم ما حقه التاخير ونحو ذلك ، فيتم ما أفاده الشيخ (ره) من انه ليس لهذه الكلمة في عرفنا اليوم مرادف حتى يعلم ان انسباق الحصر منها إنما يكون من حاق اللفظ فتكون دالة على الحصر.

اجبنا عنه بأنه في المورد الأول أي قصر الصفة إنما يكون المتكلم في مقام التجوز والمبالغة ، وكأنه فرض ان لا صفة له غيره ، فيجعله مقصورا عليه ادعاء ، كما في زيد عدل ، ونفس ذلك دليل على افادة الحصر ، وإلا لم يكن ذلك مبالغة.

ثم ان الفخر الرازي في تفسيره (١) في الآية الكريمة : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(٢) نقل استدلال الشيعة بهذه الآية على خلافة علي بن ابى طالب صلوات الله عليه.

وأجاب عنه : بان هذا الاستدلال يبتني على كون كلمة (إنما) مفيدة للحصر ، ولا نسلم ذلك : والدليل عليه قوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء)(٣) ولا شك في ان الحياة الدنيا لها امثال أخرى ولا تنحصر بهذا المثال ، وقوله تعالى ، إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، ولا شك في ان اللعب

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ١٢ ص ٣٠ ، الطبعة الثالثة.

(٢) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

(٣) الآية ٢٤ من سورة يونس.

٢٧٦

واللهو قد يحصلان في غيرها.

ويرد عليه :

اولا : النقض بقوله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(١) وقوله عزوجل (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٢) ، مع انه لا شبهة لأحد حتى الفخر في انها تفيد الحصر فما يجيب به عن هاتين الآيتين ، اجبنا به عن تلك الآية.

وثانيا بالحل : وهو ان الدنيا في الآيتين صفة للحياة لا انها مضاف إليها ، فتدل الآيتين على انحصار الحياة الدانية التي هي في مقابل الحياة الراقية العالية التي تستعمل في موردين ، أي في مقابل الحياة الاخروية ، وفي مقابل الحياة الدنيوية الراقية كحياة الانبياء والأولياء ومن يتلو تلوهما ، حيث ان حياتهم عبادة وطاعة لله تعالى في أي شكل ونوع كانت.

باللعب واللهو ، يعنى ان الحياة الدنية في هذه الدنيا هي اللعب واللهو.

ثم انه افاد المحقق النائيني (ره) (٣) ان دلالتها على ثبوت شيء لشيء ونفيه عن غيره ، إنما يكون بنفس اللفظ فهي خارجة عن محل الكلام ، وداخلة في الدلالات المنطوقية.

__________________

(١) الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ٦٤ من سورة العنكبوت.

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٤٣٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٨٣.

٢٧٧

ويرد عليه ان كلمة إنما لا تدل بالمنطوق على النفي ، بل تدل على حصر المحمول بالموضوع ، ولازم ذلك هو القضية الاخرى مناقضة لما تدل عليه ، وهذا هو المفهوم.

كلمة (بل) الاضرابية

وقد يعد من ما دل على الحصر كلمة" بل" الاضرابية قال المحقق الخراساني (ره) (١) : والتحقيق ان الاضراب على انحاء :

منها ما كان لأجل ان المضرب عنه إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له على الحصر أصلاً ، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء كما لا يخفى.

ومنها ما كان لأجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له عليه أيضاً.

ومنها ما كان في مقام الردع وابطال ما اثبت اولا فيدل عليه وهو واضح ، والظاهر ان مراده من التأكيد الترقي أي ما يستعمل لأجل الاهتمام في افهام المقصود بذكر غير المقصود ، فلا يرد عليه ان ما كان لأجل التأكيد ليس من اقسام" بل" الاضرابية بل هو قسيمها.

ثم ان المحقق الخراساني في الكفاية (٢) ذهب إلى دلالة القسم الثالث منها

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢١١.

(٢) كفاية الاصول ص ٢١١ ـ ٢١٢.

٢٧٨

وهو ما كان في مقام الردع وابطال ما اثبت اولا على المفهوم ، وفي الهامش ، قال ان هذا يتم إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتا ، واما إذا كان بصدده اثباتا كما إذا كان مثلا بصدد بيان انه إنما اثبته اولا بوجه لا يصح معه الإثبات اشتباها فلا دلالة له على الحصر.

وفيه : انه وان كان بصدد الردع عنه ثبوتا لما دل على المفهوم والحصر : فان غاية ما يدل عليه حينئذ هو الحصر بالاضافة إلى خصوص ما ذكر اولا أي يدل على عدم ثبوت الحكم له ، واما الحصر بالاضافة إلى غيره فلا يدل عليه ، فالانصاف ان الاضراب باقسامه لا يدل على المفهوم.

تعريف المسند إليه باللام

ومما قيل بأنه يفيد الحصر تعريف المسند إليه باللام ومرادهم به خصوص المبتدإ كما صرح به جماعة ، فتعريف الفاعل باللام كما في جاء الضارب خارج عن محل الكلام.

وكيف كان فملخص القول في المقام انه قد استدل لدلالته على الحصر بوجوه :

الأول : ان اللام للاستغراق فيكون مفاد قولنا القائم زيد ، ان جميع أفراد القائم هو زيد فيدل على الحصر.

وفيه : ان الظاهر ولا اقل من المحتمل كونها للجنس.

٢٧٩

الثاني : ان مدخولها مأخوذ بنحو الطبيعة المطلقة السارية في جميع الأفراد ، والفرق بينه وبين الأول اخذ الخصوصيات الفردية المقومة في الأول ، دون الثاني.

وفيه : انه لا معين لذلك.

الثالث : ان الحمل اولى ذاتي فيدل على عدم ثبوت المسند إليه في غير مورد المسند.

وفيه : ان الظاهر من مثل هذه التراكيب كون الحمل شايعا صناعيا.

الرابع : ما أفاده المحقق الاصفهاني (ره) (١) هو ان المعروف عند اهله اعتبار كون الموضوع هو الذات ، لا المفهوم وان كان الموضوع من الاوصاف العنوانية فالقائم وان كان مفهوما كليا ، إلا ان جعله موضوعا في القضية يستدعى جعله بما هو ذات أي اعتبار كونه كذلك ومعه لا يعقل ان يعرضه خصوصيات متباينة كخصوصية الزيدية والعمروية والبكرية إذ الواحد لا يكون إلا معروضا لخصوصية واحدة ، فاعتبار الكلي ذاتا وجعل المحمول ما لا يقبل السعة يقتضي الحصر.

وفيه : مضافا إلى ما يعترف به هو (قدِّس سره) من عدم كون ذلك لأجل ادخال اللام عليه ، انا لا نسلم لزوم جعل الموضوع هو الذات ، بل في موارد الحمل الأولى الموضوع هو المفهوم الكلي لا الذات ، وإلا انقلب الحمل إلى الشائع الصناعي ، وفي موارد الحمل الشائع وان كان الشائع جعل الموضوع هو الذات ،

__________________

(١) نهاية الدراية ص ٦٣٠.

٢٨٠