زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

واما في البناء فلانه ان ادعى ان متعلق النهي هو قصد الامتثال ، فيرد عليه انه يلزم اجتماع الأمر الاستحبابي الضمنى المتعلق بقصد القربة مع النهي التنزيهي.

وان ادعى ان متعلقه ذات العبادة مع قصد الأمر ، فيرد عليه انه يلزم وحدة متعلق الأمر الاستحبابي ، والنهي التنزيهي.

وقد أجاب الشيخ الأعظم (١) وتبعه المحقق الخراساني (٢) ، عن اشكال اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد في هذا القسم ، بما حاصله :

ان النهي التنزيهي فيه لا يكون زجرا عن الفعل ، بل يكون ارشادا إلى وجود مصلحة في الترك ارجح من مصلحة الفعل ، المستكشفة ارجحيته من مداومة الائمة ـ عليهم صلوات الله ـ على الترك ، فليست الكراهة في هذا القسم بمعناها المصطلح ، المقابل للاستحباب ، المتحقق عن الزجر عن الفعل الناشئ عن المفسدة في الفعل ، كي تنافى ، مع استحبابه ، بل هي بمعنى رجحان الترك من جهة انطباق عنوان ذى مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، فان كان مصلحة الترك اكثر ، فيكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن اهم في البين ، وإلا فيتعين الاهم وان كان الآخر يقع صحيحا حيث انه كان راجحا وموافقا

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ١٣٥ (المقام الأول : في تحقيق المراد من الكراهة في العبادات التي لها بدل).

(٢) فوائد الاصول للآخوند ص ١٥٤ / كفاية الاصول ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

٨١

للغرض كما هو الحال في ساير المستحبات المتزاحمات.

وقد أورد على هذا الجواب بايرادات.

الأول : انه لا تستكشف الارجحية من مداومة الائمة ـ عليهم‌السلام ـ إذ يمكن ان يكون اختيارهم للترك لأجل مجامعته مع ساير المستحبات من دون رجحان لمزية الترك.

وفيه : ان صوم يوم عاشوراء مثلا لا يكون مزاحما مع ساير المستحبات كي يكون اختيارهم لتركه لما ذكر.

مع انه يستكشف تلك من امرهم (عليهم‌السلام) اصحابهم بالترك بلا تأمل.

الثاني : ما في الدرر (١) من ان انطباق عنوان راجح على الترك غير معقول ، لان معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي والعدم ليس له وجود.

وفيه : ان معنى الانطباق هو الاتصاف على الوجه المناسب للمثبت له ولو بلحاظ الفرض والتقدير.

وعليه ، فان كان المدعى انطباق عنوان وجودي على الترك كان الإيراد في محله.

ولكن يمكن ان يكون مراده انطباق عنوان عدمي عليه ، وهو مخالفة بني أمية مثلا أي عدم الموافقة لهم في الصوم.

مع انه يمكن القول بانطباق عنوان اعتباري عليه.

__________________

(١) راجع درر الفوائد للعلامة الحائري ج ١ ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

٨٢

الثالث : انه لم لا يلتزم برجحان الترك نفسه وإنما التزم بانطباق عنوان راجح عليه.

واجيب عن ذلك ، تارة باستلزامه عليَّة الشيء وجودا وعدما لشيء واحد وهي المصلحة وهو محال.

وأخرى بان الترك لو كان بذاته راجحا لزم اتصاف الفعل بالراجحية والمرجوحية معا لكونه نقيض الترك الراجح ونقيض الراجح مرجوح.

وثالثة : بان الترك لكونه عدميا لا يعقل ان يكون ذا مصلحة.

وفي الكل نظر :

اما الأول : فلان المدعى حينئذ ليس ترتب فرد واحد من المصلحة على الوجود والعدم ، بل ترتب مصلحتين احداهما على الفعل ، والاخرى على الترك.

واما الثاني ، فلانه ان اريد بكون نقيض الراجح مرجوحا كونه ذا مفسدة ومبغوضية أو منهيا عنه فهو ممنوع ، وان اريد به كونه اقل رجحانا من الترك ، فهو تام إلا إنه لا ينافي رجحان الفعل في نفسه.

واما الثالث : فلان العدم المطلق كذلك ، واما العدم المضاف فبما ان له حظا من الوجود فيمكن ان يكون ذا مصلحة كتروك الحج والصوم.

فتحصل ، انه لا مانع من الالتزام بثبوت الرجحان في الترك ولعل عدم ذكره في الكفاية من جهة ان موارد هذا القسم ليست كذلك.

الرابع : ان ارجحية الترك وان لم توجب حزازة في الفعل إلا انها توجب

٨٣

المنع عنه فعلا ولذا كان ضد الواجب بناء على كونه مقدمة له حراما ويفسد إذا كان عبادة.

وفيه : ما تقدم في مبحث الضد من ان الأمر بالشىء لا يقتضي النهي عن ضده ونقيضه فليس الفعل منهيا عنه إذ النهي النفسي لا بد وان يكون عن منقصة ، والغيري ، لا بد وان يكون لكونه مقدمة للحرام ، وشيء من الملاكين لا يكون متحققا في ضد الواجب ونقيضه.

واما ما أجاب به المحقق الخراساني في الحاشية (١) ، من ان المانع عن التقرب احد أمرين : النهي النفسي. والحزازة في الفعل.

فالنهي التحريمي مطلقا يوجب الفساد ، والنهي التنزيهي إنما يوجبه إذا كان عن منقصة وحزازة في الفعل ، إذ الفعل لا يكون قابلا للتقرب ، مع عدم الترخيص في ارتكابه كما انه لا يكون قابلا له إذا كان فيه منقصة وحزازة ، وإلا كما في المقام فلا يكون مانعا عنه لكونه مرخوصا فيه وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبية.

فهو غير تام ، لما ذكرناه في مبحث الضد من ان النهي الغيرى كالنفسى يوجب عدم إمكان التقرب بالمنهى عنه ، فراجع ، فالصحيح ما ذكرناه.

الخامس : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان الفعل والترك إذا كان كل

__________________

(١) راجع فوائد الاصول للآخوند ص ١٥٤.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧٣ (ولكن لا يخفى أن الفعل والترك).

٨٤

منهما مشتملا على مقدار من المصلحة ، فحيث انه يستحيل تعلق الأمر ، بكل من النقيضين في زمان واحد ، يكون المؤثر في نظر الأمر احدى المصلحتين على تقدير كونها اهم ، وما فيه المصلحة المهمة لا امر به ، لا تعيينا في عرض الأمر بالمهم ، ولا تخييرا ، ولا بنحو الترتب. اما الأول : فلكونه مستلزما لطلب النقيضين. واما الثاني : فلكونه مستلزما لطلب الحاصل. واما الثالث : فلما عرفت من عدم جريان الترتب في الضدين الذين لا ثالث لهما ، ففي النقيضين اولى بعدم الجريان.

وفيه : ان الفعل والترك وان كانا نقيضين إلا ان ما فيه المصلحة هو الفعل العبادي ، والترك ـ أي ترك الفعل رأسا ـ وهما ليسا نقيضين ، لوجود ثالث لهما ، وهو الفعل غير العبادي.

وعليه فلا مانع من الالتزام بجريان الترتب فيهما وكون الفعل أيضاً مامورا به على تقدير عدم امتثال الأمر بالترك.

مع ، انه لو سلم عدم جريان الترتب في المقام فمن الإجماع القطعي يستكشف وجود الملاك في الفعل فيؤتى به بهذا الداعي فيقع عبادة.

فتحصل ، من مجموع ما ذكرناه ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) ـ في هذا القسم من الالتزام بان النهي ارشاد إلى ما في الترك من المصلحة لا انه ناش عن حزازة ومنقصة في الفعل ، لتنافي كونه عبادة ، ومن مداومتهم (عليهم‌السلام) بالترك وامرهم اصحابهم به يستكشف اهمية تلك المصلحة عما في الفعل ، وهذا لا

__________________

(١) مطارح الانظار ص ١٣٥.

٨٥

ينافي وقوع الفعل عبادة.

تام ، لا يرد عليه شيء.

نعم : هو خلاف الظاهر فان النهي كما عرفت عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك ، والزجر عن الفعل إنما يصح إذا كان الفعل ذا منقصة وحزازة ، فحمله على إرادة طلب الترك خلاف الظاهر ، بل غير صحيح ، بل يتعين الالتزام بخلاف ظاهر آخر الذي هو مراد الشيخ (ره) وهو حمل النهي على الارشاد إلى ارجحية الترك.

واما القسم الثاني : فيمكن ان يلتزم فيه بما التزمنا به في القسم الأول.

ويمكن ان يجاب عن الاشكال فيه بجواب آخر وهو يبتني على مقدمة ، وهي : انه إذا تعلق الأمر بطبيعة بنحو صرف الوجود فلا محالة يكون المكلف مختارا في تطبيقها على أي فرد شاء ما لم ينه عن فرد بالنهي الارشادي إلى المانعية ، أو بالنهي التحريمي.

وحينئذٍ : ربما لا يكون في خصوصية خاصة محبوبية ولا مبغوضية.

وأخرى يكون فيها محبوبية ومصلحة غير ملزمة.

وثالثة يكون فيها مبغوضية ومفسدة غير ملزمة.

فعلى الأول يكون تطبيق الطبيعة على الفرد المتخصص بتلك الخصوصية مباحا كالصلاة في الدار.

وعلى الثاني يكون مستحبا كالصلاة في المسجد.

٨٦

وعلى الثالث يكون مكروها كالصلاة في الحمام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم انه في هذا القسم النهي التنزيهي متعلق بتخصيص الطبيعة بالخصوصية التي فيها حزازة ومنقصة ، من دون ان يكون في وفاء ذلك الفرد بمصلحة الواجب نقص ، بل هذا الفرد يفي بجميع ما يفي به ساير الأفراد من المصلحة غاية الأمر من جهة تلك الخصوصية نهى عنه تنزيهيا.

وبالجملة النهي التنزيهي لم يتعلق بصرف وجود الطبيعة الذي هو متعلق الأمر فلا وجه للتنافى بينهما ، بل تعلق بتطبيق الطبيعة على هذا الفرد ، فلو كان هناك تناف فإنما هو بينه وبين الترخيص في تطبيق الطبيعة على أي فرد شاء المكلف ، ولكن بما ان النهي ليس تحريميا بل هو تنزيهي فهو لا ينافي الترخيص.

فان قيل ان وجود الطبيعة وتطبيقها على فرد. وبعبارة أخرى : وجود الخصوصية الذي نعبر عنه بتطبيق الطبيعة على الفرد ، هل هما وجودان؟ أم وجود واحد مضاف اليهما؟

فعلى الأول كما يجتمع الوجوب والكراهة يجتمع الوجوب والحرمة.

وعلى الثاني لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة أيضاً إذ الأحكام باسرها متضادة لا يعقل اجتماع اثنين منها في مورد واحد.

اجبنا عنه بانا نختار الشق الثاني ، ولا ندعي اتصاف ذلك الوجود بالوجوب والكراهة ، بل نقول انه واجب لا غير لكونه وافيا بجميع ما في الطبيعة من المصلحة بلا نقص أصلاً ، ولكن النهي عنه إنما يكون ارشادا إلى ان هذا الوجود بما انه وجود للخصوصية أيضاً ، وتلك الخصوصية يبغضها المولى

٨٧

وفيها مفسدة غير ملزمة ، فالحري ان لا يأتي المكلف به في مقام الامتثال وان كان لو أتى به وقع مصداقا للواجب ، والمثال العرفي لذلك ما لو امر المولى عبده بإتيان الماء وكان غرضه رفع العطش ، وكان المولى يكره الاناء من الخزف ، ولكن لم يكن هذا لزوميا ، فنهى عبده عن اتيان الماء في تلك الاناء نهيا تنزيهيا ، والعبد في مقام الامتثال اختار ذلك الفرد ، فهو في عين كونه مصداقا للواجب ووافيا بمصلحته بما انه وجود لتلك الخصوصية يكون منهيا عنه بالنهي التنزيهي.

فليكن هذا مراد من فسر الكراهة في هذا القسم باقلية الثواب أي بما انه متحد مع ما يبغضه المولى يكون اقل ثوابا مما لا يكون متحدا معه فلو كان مراد المحقق الخراساني من قوله في المقام.

انه يمكن ان يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في الحمام (١) انتهى. فنعم الوفاق.

وان كان مراده نقصان المصلحة اللزومية كما هو ظاهره ، فلا يتم إذ مع نقص المصلحة اللزومية من حد اللزوم لا يكون العمل واجبا فتأمل.

واما القسم الثالث : وهو ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى عنه عموما من وجه كالصلاة في مواضع التهمة ، فالقائل بجواز الاجتماع في وسع من هذا الاشكال ، واما القائل بالامتناع مطلقا أو فيما كان العنوانان منطبقين على وجود واحد كما اخترناه ، فله ان يجيب عن الاشكال بالجواب الثاني الذي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٦٤

٨٨

ذكرناه في القسم الثاني ولا يمكن له الجواب بما اجبنا به في القسم الأول ، كما لا يخفى.

اجتماع الوجوب والاستحباب

ثم انه قال المحقق الخراساني (ره) (١) كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها وان الأمر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى افضل الأفراد مطلقا على نحو الحقيقة ومولويا اقتضائيا كذلك وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز ، ولا يخفى انه لا يكاد يأتي القسم الأول هاهنا فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه لا انه يوجب استحبابه أصلاً ولو بالعرض والمجاز إلا على القول بالجواز وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فانه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا بالعرض والمجاز انتهى.

ويرد عليه ، ان ضم المصلحة غير الملزمة إلى المصلحة الملزمة لا يوجب اشتداد ملاك الوجوب بما هو وجوب ، فلا يكون لتاكد الوجوب معنى معقول ، ولذا لا يشتد عقابه لو خالف ، اللهم إلا ان يكون مراده من ايجابه الأمر به ، ولا بأس بالالتزام بتاكد الطلب فتدبر.

مع انه لو تم ما ذكره (قدِّس سره) في القسم الثاني وهو ما له بدل من حمل الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٦٥ ـ ١٦٦ / وقرب منه ما في فوائد الأصول للآخوند ص ١٥٦.

٨٩

الاستحبابي على الاستحباب الاقتضائي ، تم في القسم الأول وهو ما ليس له بدل ، إذ المراد بالاستحباب الاقتضائي ليس هو ما يمكن ان يصير فعليا ولو في وقت ما : فان ذلك لا يمكن في القسم الثاني أيضاً إذ ما دام لم يغفل عن العبادة الواجبة لا معنى لصيرورته فعليا وإلا لزم اجتماع الحكمين ، ومع الغفلة عنها لا يعقل تحققه ، كي يمكن ان يصير باعثا فعليا إذ المفروض ان المتعلق هو تخصيص الطبيعة الواجبة بهذه الخصوصية ، بل بمعنى وجود المقتضي والملاك للاستحباب وهذا يمكن تصويره فيما ليس له بدل أيضاً.

وحق القول في المقام ، انه إذا جامع مع الفعل الواجب عنوان ذو مصلحة غير ملزمة.

فلو كان التركيب انضماميا ، نلتزم بتعلق الأمر الاستحبابي بذلك العنوان كما ذكرناه في القسم الثالث من العبادات المكروهة.

وان كان التركيب اتحاديا يجرى فيه ما ذكرناه في القسم الثاني من العبادات المكروهة وهو ما إذا كانت الخصوصية المتحدة مع الواجب ذا مصلحة ، أو مفسدة من الجواب الثاني وهو حمل النهي أو الأمر على الارشاد فراجع ما ذكرناه.

واما إذا انطبق عنوان ذو مصلحة على الفعل الواجب فتأكد الوجوب غير معقول كما عرفت ، فيتعين ، حمل الأمر على الارشاد إلى وجود تلك المصلحة أو الالتزام بتاكد الطلب ، وبه يظهر ما في ساير كلماته.

٩٠

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام

وينبغي التنبيه على أمور :

* الامر الأول : ان الامتثال بإتيان المجمع له حالات :

الحالة الأول : ما إذا كان المكلف متمكنا من امتثال الواجب في الخارج بدون ان يرتكب الحرام ولكنه باختياره يرتكب الحرام ويأتى بالواجب في ضمنه.

وذلك كمن يتمكن من الاتيان بالصلاة في غير الدار المغصوبة ، ولكنه باختياره دخلها وصلى فيها فعندئذ يقع الكلام في صحة تلك الصلاة وفسادها ، هذه هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا.

الحالة الثاني : ما إذا كان متمكنا من ترك الحرام ولكنه كان غير متمكن من امتثال الواجب من دون ان يرتكب الحرام ، لعدم المندوحة له ، كما إذا توقف الوضوء مثلا على التصرف في ارض الغير بان يكون الماء في محل يتوقف الوضوء به على التصرف فيها ، وهذه المسألة من مسائل التزاحم وقد مر الكلام فيها في مبحث الضد.

الحالة الثالث : ما إذا كان المكلف غير متمكن من ترك الحرام كالمحبوس في الدار المغصوبة سواء أكانت مقدمته باختياره ، أو بغير الاختيار ، وبعد ذلك لم يتمكن من الخروج عنها ، ويضطر إلى التصرف فيها فقهرا يكون مضطرا إلى الصلاة فيها ، وهذه هي المسألة التي انعقد هذا الأمر لبيان الحكم فيها.

٩١

فالكلام فيها يقع في موضعين :

الأول : ما إذا كان الاضطرار بغير سوء اختيار المكلف.

الثاني : في الاضطرار بسوء الاختيار.

اما الموضع الأول : فالكلام فيه في موردين :

المورد الأول : في حكم الفعل المضطر إليه نفسه.

المورد الثاني : في حكم العبادة الواقعة معه كالصلاة في الدار المغصوبة.

اما المورد الأول : فلا اشكال ولا كلام في ان الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن العمل المضطر إليه ، ولا يعقل بقائه : ويدل عليه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق : الآيات والروايات.

حكم العبادة الواقعة مع الفعل المحرم المضطر إليه

واما المورد الثاني : فان كانت العبادة غير متحدة مع المحرم خارجا ، فلا كلام في الصحة.

والوجه فيه مضافا إلى ما مر من انه من ثمرات مسألة الاجتماع هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقا المتوقف على كون المجمع متعددا خارجا.

انه مع سقوط الحرمة لا مانع عن الصحة والفرض وجود المقتضى.

وان كانت العبادة متحدة وجودا مع المنهي عنه في الخارج فهل تصح

٩٢

العبادة الواقعة في ذلك المكان كما لعله المشهور بين الأصحاب؟ (١) أم لا تصح مطلقا؟ كما هو المنسوب إلى المحقق النائيني (ره) (٢) أم يفصل بين كون ارتكاب المحرم واجبا فالصحة وبين كونه غير واجب فالفساد كما هو المنسوب إلى بعض المحققين وجوه.

وقد استدل للقول الأول : (٣) بان تقييد المأمور به بعدم وقوعه في ذلك المكان إنما كان لأجل النهي النفسي المفروض سقوطه فمقتضى القاعدة سقوط هذا القيد ، لسقوط علته المقتضية لذلك اعني بها الحرمة.

وبعبارة أخرى : ليس اعتبار هذا القيد المستفاد من النهي النفسي بواسطة دلالته على الحرمة ، كالقيد العدمي المدلول ابتداء للنهي الغيرى كما في النهي عن الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه ، الذي لا يسقط اعتباره بمجرد الاضطرار إلى ارتكابه ، من جهة ان النهي إنما يدل على ان المأمور به وما فيه المصلحة ، إنما هو غير هذا الفرد وهذا لا مصلحة فيه ، وحديث الرفع لا يصلح لاثبات وجود المصلحة فيه وصيرورته مامورا به.

نعم ، إذا كان الاضطرار مستوعبا للوقت تكون الصلاة مامورا بها لما

__________________

(١) نسبه إلى المشهور في أجود التقريرات واستدل له آية الله الخوئي في حاشيته ج ١ ص ٣٧١ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٢ ـ ١٨٣ (التحقيق صحة ما ذهب اليه المشهور).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢١٦.

(٣) كما هو ظاهر حكاية المحقق النائيني عن جملة من المحققين ، أجود التقريرات ج ١ ص ٤٠٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٢١ (تنبيه : ذكر جملة من المحققين ..).

٩٣

تضمن ان الصلاة لا تدع بحال ، بل القيد إنما اعتبر بتبع دلالة النهي على الحرمة ، فإذا سقطت الحرمة ، سقط اعتبار هذا القيد.

وقد استدل للقول الثاني (١) ، تارة بان الحرمة وفساد الصلاة ، معلولان للنهي في مرتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما ، وما يكون مرتفعا بأدلة نفى الاضطرار إنما هو الحرمة ، ولا دليل على رفع المعلول الثاني ، فمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط الأمر بتعذره في مجموع الوقت وتقييد اطلاقه فيما إذا كان التعذر في بعض الوقت.

وأخرى ، بان مقتضى إطلاق النهي ثبوت الحكم والمفسدة حتى في حال الاضطرار ، وبأدلة نفى الاضطرار ، إنما يرفع الحكم ، فلا مقيد لاطلاق النهي بالاضافة إلى ثبوت المفسدة ، وليست هذه الأدلة نظير الدليل المخصص ، المتضمن للتخصيص الوارد على دليل النهي الكاشف عن اختصاص الحرمة بغير مورد التخصيص من أول الأمر كي يمنع عن التمسك باطلاق النهي حتى بالاضافة إلى ثبوت المفسدة.

بل غاية ما يدل عليه هذه الأدلة ، إنما هو رفع الحكم الفعلي لأجل عروض ما يوجب ارتفاعه فلا رافع لملاك التحريم ، ولا كاشف عن رفعه ، فاطلاق النهي بالاضافة إليها على حاله ، وهي تكون مانعة عن اتصاف الفعل بالوجوب ، إذ الفعل الذي فيه مفسدة غالبة على المصلحة لا يعقل اتصافه بالوجوب.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

٩٤

وفيهما نظر :

اما الأول : فلانه ان اريد به ان الحرمة والفساد ، معلولان له في مرتبة واحدة كما هو صريحه.

فهو بديهي الفساد إذ لا تغصب مثلا لا دلالة له على فساد الصلاة المجتمعة مع الغصب ، لعدم كونه ارشاديا بل هو متضمن لحكم نفسي وليس من قبيل النهي المستفاد منه المانعية ابتداء.

وان اريد به ان لا تغصب مثلا إنما يدل بالدلالة المطابقية على الحرمة ، وبالدلالة الالتزامية على فساد العبادة ، والاضطرار إنما اوجب سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ، فتبقى الدلالة الالتزامية بحالها ، لانها تابعة للدلالة المطابقية وجودا لا حجية كما قيل في توجيه هذا الوجه.

فيرد عليه ، ما حققناه في محله ، من انها كما تكون تابعة لها وجودا تابعة لها حجية.

واما الثاني : فلانه مضافا إلى انه لا كاشف عن وجود الملاك بعد سقوط التكليف ، ان المفسدة التي لا تكون منشئا للمبغوضية الفعلية ، لا تكون مانعة عن ايجاب الفعل.

وللمحقق النائيني (ره) (١) في تأييد المستدلين والإيراد على الناقدين كلام في المقام محصله ان التقييد ربما يستفاد من النهي مطابقة كما في النواهي التي تكون

__________________

(١) المصدر السابق.

٩٥

ارشادا إلى المانعية كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه والميتة والحرير وما شاكل. وربما يستفاد التقييد من النهي النفسي من جهة مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ، بمعنى ان المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج ، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما فلو قدمنا جانب النهي لا محالة يقيد المأمور به بغير هذا الفرد. وثالثا : يستفاد التقييد من النهي النفسي لا من جهة المزاحمة بل من ناحية الدلالة الالتزامية بمعنى ان النهي ، بالمطابقة يدل على الحرمة ، وبالدلالة الالتزامية على التقييد.

اما النوع الأول : فلا اشكال في دلالته على الفساد في حال الاضطرار : لان مقتضى إطلاق دليل التقييد فيه على تقدير تمامية مقدماته ، هو اعتبار هذا القيد في المأمور به في جميع احوال المكلف ، ولازم ذلك هو سقوط الأمر عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد للقيد ، نعم ، في خصوص باب الصلاة دل الدليل على عدم سقوط الصلاة بحال ومفاده الغاء الشارع كل قيد من قيودها في حال العجز عن تحصيله.

واما النوع الثاني : أي ما كان اعتبار القيد العدمي ناشئا من مزاحمة المأمور به للمنهى عنه. فالقاعدة تقتضي سقوط التقييد عند الاضطرار ، لان التقييد فرع التزاحم ، والتزاحم فرع وجود التكليف التحريمي كي يكون معجزا للمكلف عن الاتيان بالمأمور به ومعذرا له في تركه فإذا فرض سقوط التكليف التحريمي بالاضطرار لم يبق موضوع للتزاحم الموجب لعجز المكلف فلا محالة يسقط التكليف.

واما النوع الثالث : اعني ما كان اعتبار القيد العدمي مستفادا من النهي

٩٦

النفسي ، فان قلنا ان التقييد تابع للحرمة ومتفرع عليها كما هو المشهور فمقتضى القاعدة هو سقوط القيد عند الاضطرار لسقوط علته المقتضية اعني بها الحرمة.

واما ان قلنا بان التقييد والحرمة ، معلولان لعلة في مرتبة واحدة بلا سبق ولحوق بينهما ، فالقاعدة تقتضي سقوط الأمر عند تعذر قيده.

والمقام كذلك.

ووجهه على ما في تقريرات المحقق الكاظمي (١) ان القيدية في هذا النوع وان استفيدت من النهي إلا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي اوجب النهي فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة وهو الملاك وسقوط احد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر ، فالقيدية المستفادة من النهي النفسي أيضاً تقتضي القيدية المطلقة.

وعلى ما في تقريرات بعض تلامذة الأستاذ (٢) : ان الوجوب والحرمة متضادان وقد تقدم في بحث الضد ان وجود احد الضدين ليس مقدمة لعدم الضد الآخر فلا تقدم ولا تأخر بينهما ، كما لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما ، فإذا كان الأمر كذلك : استحال ان يكون عدم الوجوب متفرعا ومترتبا على الحرمة فلا يكون الدليل دالا على الحرمة في مرتبة متقدمة وعلى عدم الوجوب

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ٢ ص ٤٤٥.

(٢) وهو الظاهر من دراسات في علم الاصول ج ٢ ص ٢٨ عند قوله : «وملخص الكلام في المقام ..» ، بتصرف.

٩٧

في المرتبة المتأخرة بل تكون دلالته عليهما في مرتبة واحدة فالقاعدة الأولية تقتضي سقوط الأمر بالمركب عند الاضطرار وتعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد.

ولكن يرد على التقريب الأول الذي ذكره المحقق الكاظمي (ره) (١) انه وان كان مقتضى حديث الرفع وما شاكله الوارد في مورد الامتنان ثبوت الملاك والمقتضى ، وإلا لم يكن رفع الحكم مستندا إلى الامتنان بل كان مستندا إلى عدم المقتضى كما هو واضح.

إلا ان الملاك الذي لا يؤثر في المبغوضية لا يكون مانعا عن صحة العبادة : إذ الفعل المشتمل عليه يكون في نفسه جائزا ، وإذا كان جائزا لم يكن مانعا عن التمسك باطلاق دليل الواجب لاثبات كونه مصداقا له.

ويرد على التقريب الثاني : ان عدم ترتب عدم احد الضدين على وجود الآخر واقعا وفي عالم الثبوت غير عدم ترتب ثبوته على ثبوته في مقام الدلالة والكشف والمدعى هو الثاني ، وبديهي ان دليل الحرمة لا يدل بالدلالة المطابقية على فساد العبادة وعلى تقيدها بقيد ، وعلى عدم الوجوب ، بل يكون ذلك بالدلالة الالتزامية كما هو الشأن في المتلازمين ، بل يكون الدليل الدال على المعلول دالا على وجود علته بالدلالة الالتزامية فيكون وجود المعلول مترتبا على وجود علته ولكن كاشفية الدليل عنهما إنما تكون بالعكس أي يكون

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٢ ص ٤٦٨ (وينبغي التنبيه على امرين : الامر الأول) عند قوله : «الا أن يقال أن الاضطرار والنسيان حيث وردا في حديث الرفع ..».

٩٨

كاشفيته عن وجود العلة متفرعة على كاشفيته عن وجود المعلول ، وقد مر في مبحث الضد بشكل موسع ان الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وجودا وحجية.

فالقاعدة الأولية تقتضي صحة العبادة المجامعة مع الحرمة عند سقوط الحرمة.

واستدل للقول الثالث (١) بعد البناء على وجود المفسدة المانعة عن اتصاف الفعل بالوجوب مع سقوط الحرمة لعروض الاضطرار ، بأنه إذا وجب ارتكاب ذلك الفعل كما إذا توقف حفظ النفس المحترمة على الدخول في الدار المغصوبة والمكث فيها ، لا محالة يوجد في ذلك الفعل مصلحة ويصير محبوبا وتلك المصلحة توجب اندكاك مفسدة الغصب ، فكان هذا الفعل لا مفسدة فيه أصلاً ، فالصلاة فيها أيضاً جائزة ، وهذا بخلاف ما إذا لم تحدث فيه مصلحة.

وفيه : مضافا إلى ضعف المبنى كما عرفت آنفا ، لا يتم هذا التفصيل ، لان صيرورة شيء محرم ذى مفسدة مقدمة لواجب اهم ، إنما توجب سقوط حرمته ولا يوجد فيه مصلحة فمع بقاء المفسدة والملاك ، كما هو المفروض يكون حكم هذا الشق حكم الشق الآخر بلا فرق بينهما.

__________________

(١) وقد أشار إلى هذا الاستدلال غير واحد منهم ما يظهر من كلام المحقق الحائري في درر الفوائد ج ١ ص ١٣٢ بقوله : «واما إذا لم يكن المكلف مختاراً على ترك الغصب أصلا فلا يكون مجرد المفسدة الخالية عن الأثر مانعاً للأمر بعنوان آخر متحد مع فعل الغصب وان كان ترك الغصب أهم من فعل ذلك بمراتب فلا تغفل».

٩٩

وبعبارة أخرى : لا يوجد فيه مصلحة كي يكون ذلك فارقا بين الفرضين ، فتحصل ان الاقوى هو ما ذهب إليه المشهور وهي الصحة مطلقا.

حكم الصلاة في حال الاضطرار

ثم انه لا بأس بالتعرض لمسألة مناسبة للمقام وهي بيان حكم الصلاة في الارض المغصوبة في حال الاضطرار والكلام فيها في مقامين :

الأول : ما إذا لم يتمكن المكلف من الخروج عنها في الوقت.

الثاني : ما إذا كان متمكنا من ذلك.

اما المقام الأول : فبعد ما لا كلام ولا اشكال في وجوب الصلاة عليه ، وقع الكلام في انه ، هل يجوز له الاتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود كما عن جماعة منهم صاحب الجواهر (ره) (١) أم يجب الاقتصار على الايماء والاشارة بدلا عنهما كما عن جماعة آخرين منهم المحقق النائيني (ره) (٢).

ومنشأ الاختلاف بعد الاتفاق على ان الاضطرار ، وان كان يسوغ الحرام إلا

__________________

(١) راجع المسألة في جواهر الكلام ج ٨ ص ٢٦٤ إلى ص ٣٠٠ حيث تعرض لحالات الغصب ونقل أقوال العلماء ، ثم علل بأن القيام والجلوس والكون والحركة وغيرها من الاحوال متساوية في شغل الحيز ، وكان قد اعتبر قبل ذلك أن أي تصرف زائد على أصل الكون لا يجوز.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٤ ـ ١٨٥ (وفيه أن الاعتبار في صدق التصرف ..).

١٠٠