زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

وجوب الفحص بعد انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، مع ان ظاهر الاصحاب وجوب الفحص حتى في شبهة واحدة باقية ولو مع الظفر بالمخصصات اكثر مما علم اجمالا.

وقد تصدى المحقق النائيني لاثبات ان هذا العلم الاجمالي غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار الأقل المعلوم.

ومحصل ما أفاده (١) ان المعلوم بالاجمال المردد بين الأقل والأكثر على قسمين :

القسم الأول : ما لا يكون للمعلوم علامة وتمييز كما لو علم بأنه مديون اما بعشرة تومان ، أو بعشرين ، وفي مثل ذلك ينحل العلم الاجمالي ، بالعلم باشتغال الذمة بالعشرة ، والشك في الاشتغال بالزائد وتجرى فيه البراءة.

القسم الثاني : ما يكون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتمييز ، كما لو علم بأنه مديون بزيد بالمقدار المكتوب في دفتره المردد عنده بين الأقل والأكثر ، وفي مثل ذلك لا ينحل العلم الاجمالي ، وليس لأحد دعوى جريان البراءة في المقدار الزائد على المتيقن بحسب الكمية والمقدار.

والسر في ذلك ، ان العلم إذا تعلق بذلك العنوان والعلامة يوجب تنجز الواقع بمقدار سعة عنوان متعلقه ، وعليه فلا يعقل انحلال العلم بالاقل ، والشك في الأكثر.

__________________

(١) أي المحقق النائيني (قدِّس سره) في أجود التقريرات ج ١ ص ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٥٥ ـ ٣٥٨ ، بتصرف.

٣٦١

وان شئت قلت ، ان الأكثر حينئذ طرف لعلم اجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلاحظ فيه الكمية فلا وجه لجريان الاصل فيه.

والمقام من قبيل الثاني : إذ نعلم بوجود المخصصات للعمومات في الكتب المعتبرة ، ففي الحقيقة هناك علمان أحدهما العلم بوجود المخصصات المرددة بين الأقل والأكثر. الثاني : العلم بوجودها في الكتب المعتبرة ، فالعلم الأول الملحوظ فيه الكمية ، وان انحل بعد العثور على المقدار المعلوم ، إلا ان العلم الثاني يمنع عن جريان الاصل في غير المقدار المتيقن.

وفيه : ان المعلوم بالاجمال إذا كان معنونا بعنوان غير مردد بنفسه بين الأقل والأكثر ، صح ما ذكره ، واما إذا كان نفس ذلك العنوان المعلوم والعلامة المعينة مرددا بين الأقل والأكثر ، وظفرنا بالمقدار المتيقن يجرى الاصل في الزائد ، مثلا لو علمنا بنجاسة اناء زيد الموجود بين الاناءات ، وتردد بين كونه إناء واحدا أو ازيد ، ثم علمنا بكون اناء خاص اناء زيد يجرى الاصل في غيره بلا مانع.

والمقام من هذا القبيل : فان العلم بوجود المخصصات في الكتب المعتبرة ، وان كان علما بعنوان خاص وعلامة مخصوصة ، إلا ان ذلك العنوان امره بنفسه مردد بين الأقل والأكثر ، فبعد العثور على المقدار المتيقن المعنون بذلك العنوان يكون الشك في المقدار الزائد شكا خارجا عن طرف العلم الاجمالي.

فتحصل ان هذا الوجه أيضاً لا يصلح ان يكون مستند الحكم بعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص مطلقا ، لاخصيته عن المدعى.

٣٦٢

الخامس : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو ان عمومات الكتاب والسنة بما انها في معرض التخصيص من جهة غلبة المخصصات لم يثبت استقرار سيرة العقلاء على العمل بها قبل الفحص لو لم ندع ثبوت عدمه.

وفيه : انه ان اريد بذلك ، الاصل المحرز لكون الظاهر ، هو المراد بالارادة الاستعمالية ، فيرد عليه ما تقدم من ان المخصص القطعي التفصيلي لا يكشف عن عدم كون الظاهر مرادا بالارادة الاستعمالية ولا ينافيه فضلا عن العلم الاجمالي بوجود المخصصات.

وبعبارة أخرى : يتم ذلك بناء على احتياج استفادة العموم من اداته إلى إجراء مقدمات الحكمة في المدخول ، إذ حينئذ يصح ان يقال حجية العمومات متقومة بجريان مقدمات الحكمة الكاشفة عن عدم دخل قيد في مراد المتكلم ، فإذا علم بجريان عادة المتكلم على التعويل على القرائن انهدم اساس مقدمات الحكمة ، ولكن قد عرفت عدم تمامية ذلك فراجع.

وان اريد به الاصل المحرز لكون المراد الجدِّي منطبقا على المراد الاستعمالى ، فيرد عليه : انه لم يظهر وجه دعوى التفصيل ، بين كون العام في معرض التخصيص وعدمه ، نعم ، بناء على اعتبار الظن الفعلي في حجية اصالة العموم يتم ذلك ، لكنك عرفت فساد المبنى.

فالحق ان يستدل لوجوب الفحص بحكم العقل بذلك : فانه يستقل بوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية جريا على طبق قانون العبودية

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٦.

٣٦٣

والمولوية ، إذ ليس وظيفة الشارع ايصال أحكامه إلى المكلفين بأي نحو كان بل وظيفته بيان الأحكام ، وجعلها في معرض الوصول إليهم بحيث لو تفحصوا عنها لعثروا بها ، ووظيفة العبد حينئذ الفحص عنها في مظان وجودها ، بمعنى انه لو لم يفحص عنها وكانت ثابتة وعاقبه المولى على مخالفتها جاز له ذلك ، ويشهد له مضافا إلى ذلك الأدلة الدالة على وجوب التعلم مقدمة للعمل.

واما المورد الثاني : ففي الكفاية (١) ان مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له ، والظاهر ان مراده بذلك ليس ما هو ظاهره ، إذ العمومات التي تكون معرضا للتخصيص لا تخرج عن المعرضية بالفحص عن المخصص ، إذ الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، بل مراده ان المقدار الواجب هو ما يحصل به الاطمينان بعدم وجود المخصص في مظانه ، دون الزائد عليه ، لان الاطمينان حجة عقلائية ، كما انه لا يجوز الاقتصار على ما دونه يعنى الظن ، لعدم الدليل عليه والظن لا يغنى من الحق شيئا.

واما المورد الثالث : ففي الكفاية (٢) الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل باحتمال انه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينية المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص عنها.

وافاد المحقق الأصفهاني (ره) (٣) توجيها لذلك بان الفارق عليه المعرضية

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٧.

(٢) كفاية الاصول ص ٢٢٧.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٦٤٧ (في العمل بالعام بعد الفحص عن المخصص).

٣٦٤

للتخصيص بالمنفصل ، ولا غلبة للاحتفاف بالمتصل ، فلا يبقى إلا احتمال احتفافه بالمخصص والظهور حجة على عدمه.

ولكن بعد ما عرفت من ان وجه لزوم الفحص عن المخصص ليس هي المعرضية ، بل الوجه فيه ما ذكرناه من الوجهين ، ولا فرق فيهما بين المتصل والمنفصل ، تعرف ان الاظهر لزوم الفحص عن المخصص المتصل أيضاً.

واما المورد الرابع : فقد ذهب المحقق الخراساني (١) والمحقق النائيني (ره) (٢) إلى الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد التمسك بالاصول العملية ، حيث ان الفحص هاهنا عما يزاحم الحجية والمانع عنها ، مع ثبوت المقتضى لها ، والفحص هناك إنما هو لتتميم المقتضى لان العام قد انعقد ظهوره في العموم مع عدم الاتيان بالقرينة المتصلة ، والفحص إنما هو عن وجود قرينة منفصلة ، وهي إنما تزاحم حجية العام ، لا ظهوره ، فالفحص إنما هو لرفع المانع والمزاحم ، واما الفحص هناك فإنما هو لتتميم مقتضى جواز العمل بالاصل ، اما بالاضافة إلى البراءة العقلية ، فان العقل بدونه يستقل باستحقاق العقاب على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، واما الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ، فادلتها وان كانت مطلقة وغير مقيدة بالفحص ، إلا ان الإجماع بقسميه على تقييده به كما في الكفاية.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٧ (ايقاظ).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٨٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٥١ / فوائد الاصول للنائيني ج ٢ ص ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

٣٦٥

وحكم العقل يقيدها بذلك ضرورة ان اطلاقها يستلزم نقض الغرض من بعث الرسل وانزال الكتب ، فان لازم الإطلاق هو عدم وجوب النظر في المعجزة ، ومع عدم النظر لا تثبت اصل النبوة فضلا عن فروعها ، فتجويز ترك النظر في المعجزة تستلزم نقض الغرض الداعي إلى بعث الرسل وانزال الكتب وهو قبيح ، وبعين هذا الملاك يجب الفحص عن الأحكام الشرعية عند احتمال تحققها في نفس الأمر وامكان وصول العبد إليها بالفحص كما عن المحقق النائيني (ره) (١).

ولكن : بناء على ما ذكره المحقق الخراساني في وجه لزوم الفحص في المقام ، لا يكون الفحص هاهنا عما يزاحم مقتضى الحجية ، لفرض انه لا بناء من العقلاء على حجية اصالة العموم إلا بعد الفحص عن المخصص ، فلا مقتضى للحجية قبله ، كما هو الشأن في الأصول العملية ، فانه لا مقتضى لجريانها قبل الفحص عن الدليل على الحكم وان شئت فقل انه في كلا البابين يكون الفحص فحصا عن ان العام ، أو الاصل حجة ، أم يكون شيء آخر حجة.

كما انه بناء على ما سلكناه في وجه لزوم الفحص ، من ان العقل يدل على ذلك ، لا يكون الفحص في شيء من الموردين عما يزاحم الحجة.

وما أفاده المحقق النائيني في وجه تقييد ادلة الأصول ، يجرى بالاضافة إلى اصالة العموم ، فان العقل كما يستقل بوجوب النظر إلى المعجزة ، وإلا لزم اقحام جميع الانبياء عليهم‌السلام ، وبوجوب الفحص في مقام الرجوع إلى

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٨٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٣٦٦

الأصول العملية ، كذلك يستقل بوجوب الفحص في مقام التمسك باصالة العموم ، فالملاك لاستقلاله في كلا الموردين واحد ، لان المكلف لو تمسك باصالة العموم بدون الفحص عن المخصص ، مع علمه بان بيان الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج وبالطرق العادية المتعارفة لوقع المكلف في مخالفة تلك الأحكام كثيرا ولا يكون معذورا ، لان العقل يرى ان وظيفته هي الفحص عن المخصص فتدبر.

الخطابات الشفاهية

الفصل الثالث : هل الخطابات الشفاهية مثل : (يا ايها الذين آمنوا) تختص بالحاضرين مجلس التخاطب أو تعم غيرهم من الغائبين بل المعدومين؟

فيه خلاف.

وقبل الخوض في بيان المقصود لا بد من تعيين محل الكلام.

قال المحقق الخراساني (ره) (١) انه يمكن ان يكون النزاع في ان التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين كما صح تعلقه بالموجودين أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدم صحتها ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب اداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٨ (فاعلم انه يمكن ان يكون النزاع ..).

٣٦٧

بقرينة تلك الاداة انتهى.

لا اشكال في ان محل كلام القوم ليس هو الوجه الأول ، إذ الظاهر انه لا خلاف بينهم في انه لا يصح توجيه التكليف الحقيقي بمعنى البعث أو الزجر الفعلي إلى المعدومين بل الغائبين ، واما التكليف بمعنى الإنشاء على نحو القضية الحقيقية فامكانه وصحته من البديهيات ، ولذا ترى ان موضوع بحثهم هو ما إذا كان الكلام المتكفل لبيان الحكم مشتملا على اداة من ادوات الخطاب ولكن تبعا له نبحث في جميع الموارد.

فان كان النزاع على الوجه الأول ففي الكفاية ما محصله : ان التكليف المتوجه إلى المكلف الذي هو محل النزاع في المقام من انه ، هل يتعلق بالمعدوم ، أم لا؟ اما ان يراد به التكليف الإنشائي بلا بعث ولا زجر. واما ان يراد به التكليف الحقيقي.

فان اريد به الأول فيصح تعلقه بالمعدوم إذ الإنشاء خفيف المئونة فللحكيم ان ينشأ حكمه على وفق الحكمة والمصلحة ويطلب شيئا قانونا من الموجود والمعدوم ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط.

وان اريد به الثاني ، فهو على قسمين : الأول التكليف التنجيزي المطلق ، بان يراد به الاتيان بالفعل قبل ان يوجد. الثاني : التكليف الحقيقي الفعلي بالفعل الكائن في ظرف الوجود والقدرة وتحقق ساير الشرائط. فان اريد به القسم الأول فهو محال. وان اريد الثاني فهو امر ممكن.

٣٦٨

وإلى الثاني ، اشار في آخر كلامه بقوله (١) واما إذا انشأ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط فامكانه بمكان من الامكان.

وبهذا التقريب لكلامه يندفع ما اورده عليه المحقق الأصفهاني (ره) (٢) من انه بناء على مسلكه من صحة تعلق الارادة والبعث حقيقة بأمر استقبالي يمكن تعلقه بالمعدوم أيضاً ، فان إرادة شيء فعلا ممن يوجد استقبالا كارادة ما لم يمكن فعلا بل يمكن تحققه استقبالا ، إذ المراد منه كالمراد ليس موضوعا للارادة كي يتوهم انه من باب العرض بلا موضوع ، بل موضوعها النفس والمراد منه كالمراد مما تتقوم بها الارادة الخاصة في مرتبة وجودها لا في مرتبة وجودهما.

لما عرفت من انه يصرح بامكان تعلق التكليف الحقيقي بالنحو المزبور به وإنما ينكر تعلقه به مطلقا غير معلق على وجوده وهو مما لا ريب في عدم امكانه.

ثم انه نظر المقام بانشاء التمليك في الوقف على البطون.

قال (٣) : فان المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة بعد وجوده بانشائه ويتلقى لها من الواقف بعقده انتهى.

وفيه : ان التمليك الحقيقي بالملكية الاعتبارية ـ لا الملكية الحقيقية ، التي هي من المقولات العشر ، وخارجة عن محل الكلام ـ وان كان يمكن ان يكون

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٦٥٠ (في خطاب المشافهة).

(٣) كفاية الاصول ص ٢٢٨ (ونظيره من غير الطلب انشاء ..).

٣٦٩

للمعدوم.

وبعبارة أخرى : بعد كون الملكية من الأمور الاعتبارية وهي خفيفة المئونة فكما يمكن اعتبار ملك المعدوم إذا دعت المصلحة إلى اعتبارها ، كذلك يمكن اعتبارها للمعدوم ولكن ليست الملكية كالطلب الحقيقي ، كما ان الأمر في الوقف ليس كما افاده من جهة ان الشيء الواحد لا يقبل لان يكون ملكا للموجود وللمعدوم بالاستقلال.

وان كان النزاع على الوجه الثاني فقال المحقق الخراساني (١) انه لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة وعدم امكانه ضرورة عدم تحققه توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت إليه انتهى.

ويتوجه عليه : ان الأقسام الثلاثة المتقدمة في الطلب تجرى في الخطاب أيضاً.

فانه ربما يكون خطابا انشائيا ، فيصح خطاب المعدوم فضلا عن الغائب.

وأخرى يكون خطابا حقيقيا ، وهو على قسمين : الأول : ان يخاطب المعدوم بغرض التفهيم فعلا. الثاني : ان يخاطبه بغرض التفهيم في ظرف وجوده والتفاته.

اما القسم الأول فهو ممتنع بالنسبة إلى الغائب والمعدوم.

واما الثاني فهو ممكن ، ويكون هذا بعينه كخطاب النائى في المكاتبات

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٩.

٣٧٠

والمصنفات ، فكما انه ربما يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حين ما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره كما إذا فرضنا ان المخاطب نائم ، أو كان في بلد آخر فيكتب له كتابا ويخاطبه بخطاب ليعمل عملا بعد قيامه من النوم أو مجيئه من السفر ، أو يخاطب ولده الصغير بقوله يا ولدى إذا كبرت فافعل كذا ، أو نحو ذلك فكذلك يمكن ان يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب جميع البشر إلى يوم القيامة.

واما النزاع على الوجه الثالث : وهو عموم الألفاظ الواقعة عقيب اداة الخطاب للغائبين والمعدومين وعدم عمومها لهم ، بمعنى انها هل وضعت للخطاب الإنشائي ، فيشمل المعدومين ، أو للخطاب الحقيقي فلا يشمل الغائبين ، فضلا عن المعدومين ، فهو يبتنى على اختيار جواز تكليف المعدوم ، وامتناع المخاطبة معه.

اما على فرض اختيار جواز مخاطبة المعدوم بالخطاب الحقيقي فلا يبقى لهذا النزاع مجال ، إذ على فرض كون الاداة موضوعة للخطاب الحقيقي أيضاً يجتمع مع عموم المتعلق ، وحيث عرفت امكانها فالاظهر هو شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين أيضاً.

وعلى تقدير الامتناع يمكن ان يستدل لشمول الخطابات الشفاهية للمعدومين : بما في الكفاية (١).

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٧١

وذهب إليه الأستاذ الأعظم (١) ، من ان اداة الخطاب حسب ما ندركه من مفاهيمها عند الاستعمال موضوعة للخطاب الإنشائي ، فصح شمولها للمعدوم والغائب ، وانصرافها إلى الحقيقي وان كان لا ينكر ، إلا انه ما لم يمنع عنه مانع ، كما هو موجود في كلام الشارع ، ضرورة عدم اختصاص تلك الأحكام التي تضمنتها الجملات المصدرة باداة الخطاب بالحاضرين مجلس التخاطب ، إذ اختصاص الخطاب بالمدركين لزمان الحضور وان كان ممكنا ومحتملا ، إلا انه لم يحتمل احد اختصاصه بالحاضرين مجلس الخطاب.

وعليه فلا بد من حمله على الخطاب الإنشائي ، فيشمل الخطاب المعدومين.

واما ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) في وجه الشمول في القضايا الحقيقية بعد تسليم امتناع خطاب المعدوم ، بأنه يصح خطابه بعد التنزيل والعناية ، بان يفرض المعدوم موجودا حاضرا ويخاطب معه ، وهذا التنزيل مفروض في القضايا الحقيقية ، ومقوم لكون القضية حقيقية ، لا انه امر زائد ، ليكون مدفوعا بالاصل إذ كون القضية حقيقية يقتضي بنفسه فرض الموضوع موجودا ، فيكون الخطاب خطابا لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة في موطنه.

__________________

(١) دراسات في علم الاصول ج ٢ ص ٢٩٠ / محاضرات في الاصول ج ٥ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، وفي ص ٢٧٦ اكد ذلك بقوله : «والظاهر انها ـ أي اداة الخطاب ـ موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي ...».

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨ (واما القضايا الحقيقية كما هو محل الكلام).

٣٧٢

فغير سديد إذ مقوم القضية الحقيقية ، فرض الموضوع موجودا وهذا المقدار لا يكفي في صحة الخطاب الحقيقي بل يحتاج إلى فرضه حاضرا ، هو مما لا يقتضيه القضية الحقيقية ، وبالجملة ملاك القضية الحقيقية جعل الحكم على الأفراد المقدرة الوجود ، وملاك الخطاب الحقيقي هو الحضور.

ثم انه قد استدل (١) لعموم الخطابات القرآنية للمعدومين باحاطته تعالى بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال.

__________________

(١) الظاهر ان المستدل هو الملا محمد صالح المازندراني (ره) المتوفى ١٠٨١ ه‍ في حاشيته على معالم الدين عند ما نقل قول صاحب المعالم وهو : «لا يقال للمعدومين يا أيها الناس» قال : «وجه ذلك أن الخطاب بالناس يستدعي كون المخاطب إنسانا والمعدوم لا يتصف بالإنسانية فلا يخاطب به. وفيه نظر : أما أولا : فلقوله تعالى (كن فيكون) حيث تعلق خطابه بالمعدوم لاستحالة تحصيل الحاصل ، وأما ثانيا : فلأنه إن تم ذلك في خطاب البشر فلا يتم في خطابه سبحانه لأن الموجودين في زمن الخطاب والمعدومين عنده سواء ومما يؤيد ذلك قوله تعالى (ألست بربكم) والقول بأن الخطاب هنا تعلق بالمشرك بأن قوله به سبحانه لما كان مقرونا بتبليغ الرسول كان من لوازمه اشتراط وجود المخاطبين لا يخلو ما فيه فإن التبليغ إنما يكون بهذا الخطاب على ما هو في نفس الأمر فإن كان الخطاب عاما وجب أن يكون التبليغ أيضا عاما وامتناع تعلق خطاب هذا الرسول نفسه بالمعدومين لا ينافي تعلق خطاب الله من حيث التبليغ بهم». حاشية معالم الدين ص ١٤٠ ـ ١٤١. / ونقل هذا الاستدلال صاحب الفصول الغروية ص ١٨٣ بقوله : «منها : أنّ دليل المنع على تقدير صحته لا يجري في خطابه تعالى لأن الموجودين في زمن الخطاب والمعدومين عنده سواء» ولكنه ضعفه بقوله : «وهذا أيضا ضعيف ..».

٣٧٣

ويرد عليه ، مضافا إلى ان عدم صحة خطاب المعدوم إنما هو لقصور فيه لا في المخاطب بالكسر ، فلا يلزم من عدم شمول خطاباته له نقصا فيه تعالى ، ان خطابه تعالى من صفات فعله لا ذاته فعدم صلاحيته للشمول للمعدوم لا يوجب نقصا في الله تعالى.

وكون المعدوم موجودا في عالم آخر غير عالم المادة ، ككونه في عالم الذر ، أو في علمه تعالى ، لا يصلح لان يكون سببا لصحة المخاطبة معه بالخطاب بالالفاظ وغيرها من الدوال المناسبة لهذا العالم ، ومحل الكلام هو خطابات القرآن وإلا فالخطاب بما يناسب ذلك العالم لا كلام فيه.

وفي خطابات الكتاب المجيد احتمال آخر وهو ان المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا والهاما ، هو النبي ويكون النبي (ص) حين القاء الخطاب إلى الناس حاكيا لخطاب الله تعالى إليه ، ويؤيد ذلك ما ورد (انه لا يعرف القرآن إلا من خوطب به) (١) وعلى هذا فحيث ان متلو اداة الخطاب بنفسه شامل لغيره ، فلا محيص عن حمل الاداة في مثله للخطاب الايقاعي لفرض كون المخاطبة الحقيقية معه (ص) وعدم المخاطبة الحقيقية مع غيره.

وعليه فلا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين بل يعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

ولكن احتمال حمل لفظ الجمع مثل (يا ايها الذين آمنوا) على إرادة النفس النبوية من جهة انه لقوة ايمانه ورجحان ايمانه على ايمان جميع المؤمنين

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٣٥ ح ٢١٥١٥

٣٧٤

كأنه جميع المؤمنين ، خلاف الظاهر.

ثمرة البحث

ثم ان الاصحاب ذكروا لهذا البحث ثمرتين :

الثمرة الأولى : ما ذكره المحقق القمي (ره) (١) وهي حجية خطابات الكتاب للمعدومين وعدمها ، فانه إذا كانت الخطابات مختصة بالمشافهين ، فلا محالة لا يكون غير المشافهين مقصودين بالافهام ، فلا يكون الظواهر حجة عليهم لاختصاص حجيتها بالمقصودين بالافهام.

وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بايرادين (٢) :

الأول : انه مبنى على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام وقد حقق عدم الاختصاص.

الثاني : انه لو سلم ذلك فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ، ممنوع ، بل الظاهر ان الناس كلهم كذلك ، وان لم يعمهم الخطاب ، ثم استشهد له بغير واحد من الأخبار ، والظاهر ان نظره ، إلى الأخبار الدالة على عرض الخبر على الكتاب والاخذ بما وافقه ونحو ذلك.

__________________

(١) راجع قوانين الاصول ص ٢٣٣.

(٢) كفاية الاصول ص ٢٣١.

٣٧٥

ويرد على الإيراد الثاني انه إذا كان الخطاب مختصا بالمشافهين ، لا محيص عن البناء على انهم مقصودون بالافهام ، وإلا لزم لغوية القاء الخطاب المتضمن للتكليف ، والاخبار الدالة على الرجوع إلى الكتاب لا يدل شيء منها على انه في آيات الأحكام الواردة بطريق المخاطبة كغيرها من الآيات ، يكون الجميع مقصودين بالافهام.

الثمرة الثانية : ما عن المحقق البهبهاني (١) وفي التقريرات (٢) ومحصلها ان المعدومين حين الخطاب إذا وجدوا وبلغوا وكانوا مخالفين مع الموجودين حال الخطاب في خصوصية مصنفة يحتمل دخلها ثبوتا في الحكم ، كاختلافهم في درك حضور الامام المحتمل دخله في وجوب صلاة الجمعة.

فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين ، يجوز لهم التمسك بالإطلاق لرفع دخالة ما شك في دخله ، كما جاز التمسك باطلاقاتها للموجودين.

واما لو قلنا بعدم شمولها لهم ، فلا يجوز لهم التمسك بالاطلاقات لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين ، والتمسك بالإطلاق فرع توجه الخطاب ، فلا يبقى في البين سوى قاعدة الاشتراك المثبتة للاحكام الثابتة للمشافهين للمعدومين ، وحيث لا دليل لها سوى الإجماع ، أو اخبار لا إطلاق لها ، ولا إطلاق للاجماع فلا يثبت به الحكم إلا مع الاتحاد في الصنف.

__________________

(١) الفوائد الحائرية ص ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) مطارح الانظار ص ٢٠٦ (هداية : في شمول الخطابات للمعدمين).

٣٧٦

وأورد عليه في الكفاية (١) بأنه يمكن اثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له ، باطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه ، فيما يمكن ان يتطرق إليه الفقدان ، وان صح فيما لا يتطرق إليه ذلك ، وليس المراد من الاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الانام بل في شخص واحد بمرور الدهور والايام ، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلا عن المعدومين حكم من الأحكام ، ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف باشخاص المشافهين ، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضاً ، فلولا الإطلاق واثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما افاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ، ولو قيل باختصاص الخطابات بهم.

وزاد عليه المحقق صاحب الدرر (٢) ، بأنه ليس شيء يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر عمرهم ولا يوجد عندنا.

وفيه : انه يصح التمسك بالإطلاق في الصفات التي يتطرق إليها الفقدان ككونهم في المسجد ويثبت به عدم دخلها في الحكم بالنسبة إليهم ، فبدليل الاشتراك يثبت لغيرهم ، إذا لم يحتمل دخل الحدوث واعتباره في الحكم حدوثا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣١.

(٢) درر الفوائد للحائري ج ١ ص ١٩٤ (في الخطاب الشفاهي).

٣٧٧

وبقاء ، وإلا فلا يصح التمسك بالإطلاق كالفرض الآخر ، وهو كونهم واجدين لصفة لا يتطرق إليها الفقدان ككونهم في زمان الحضور ، إذ الحدوث مما لا يتطرق إليه الفقدان.

وعليه ، فلا يمكن دفع شيء من القيود المحتمل دخلها بالإطلاق على فرض عدم شمول الخطابات للمعدومين ، فلا بد من اثبات تلك الأحكام لهم ، اثبات الاتحاد ، وعدم دخل تلك القيود فيها ، وهذا بخلاف القول بالتعميم فانه حينئذ يصح التمسك بالإطلاق لهم ابتداء.

ولعمري هذه ثمرة نفيسة مهمة مترتبة على هذا المبحث.

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

الفصل الرابع : إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، فان كانا في كلام واحد ، وكانا محكومين بحكم واحد كما لو قيل (والمطلقات ازواجهن احق بردهن) فلا شبهة في تخصيص العام به.

وان وقعا في كلامين ، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام كما في قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ)(١) إلى قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) فيدور الأمر بين التصرف في العام ، أو في الضمير ، لان كلمة المطلقات تعم الرجعيات ، وغيرهن والضمير في قوله

__________________

(١) الآية ٢٢٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٢٨ من سورة البقرة.

٣٧٨

وبعولتهن يرجع إلى خصوص الرجعيات ، لان حق الرجوع للزوج إنما هو فيهن دون غيرهن.

وملخص القول في المقام انه في المسألة اقوال :

الأول : التصرف في العام باجراء اصالة عدم الاستخدام في ناحية الضمير ، ذهب إليه العلامة في النهاية (١).

الثاني : الالتزام بالاستخدام أو ما بحكمه ، باجراء اصالة العموم وابقاء ظهور العام في عمومه ، ذهب إليه العلامة في التهذيب (٢) والسيد المرتضى (٣).

الثالث : تعارض الاصلين والحكم بالاجمال ، ذهب إليه المحقق (٤) وصاحب المعالم (٥).

الرابع : التفصيل بين ما إذا كانت الجملتان في كلام واحد فيحكم بالاجمال لأجل عدم جريان شيء من الاصلين ، وبين ما إذا كانتا في كلامين منفصلين ،

__________________

(١) كما نسبه اليه في معالم الدين ص ١٣٧ (اصل : ذهب جماعة من الناس إلى ان العام اذا تعقبه ضمير يرجع إلى بعض ..) / كما نسبه اليه الشيخ الاعظم كما في بحث تقريراته في مطارح الانظار ص ٢٠٧.

(٢) المصدر السابق ، كما نسبه اليه المعالم والشيخ الاعظم.

(٣) الذريعة ج ١ ص ٣٠٤.

(٤) في كتابه معارج الاصول ص ١٠٠ (المسألة الثانية : اذا تعقب العام صفة أو استثناء أو حكم ..).

(٥) معالم الدين ص ١٣٧ ـ ١٣٨ عن قوله : «وعلى الثالث يتوقف ، وهذا هو الاقرب ..».

٣٧٩

فيحكم ببقاء ظهور العام باجراء اصالة العموم خاصة ، ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (١).

الخامس : الالتزام بجريان الاصلين وعدم تعارضهما ، وحمل كلتا القضيتين على إرادة معناهما اللغوى في مرحلة الاستعمال ، مع الالتزام بخروج بعض أفراد العام في الثانية عن تحت الارادة الجدية.

هذه هي الأقوال في المسألة وعرفت ان ظاهر الكفاية اختيار القول الرابع.

فللمحقق الخراساني دعويان (٢) :

احداهما : ان الجملتين لو كانتا في كلام واحد يحكم بالاجمال وعدم جريان شيء من اصالة العموم ، واصالة عدم الاستخدام.

ثانيتهما : انهما لو كانتا في كلامين تجرى اصالة العموم بلا معارض.

اما الدعوى الأولى : فاستدل لها بأنه لا يجرى اصالة عدم الاستخدام ، لان مدركها بناء العقلاء والمتيقن منه اتباع الظهور في ما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ ، واما إذا كان المراد معلوما وكان الشك في كيفية ارادته ، وانها على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الاسناد كما هو الحال في ناحية الضمير ، فلا يجرى ذلك الاصل ، لعدم ثبوت بناء العقلاء عليه ، واما اصالة العموم فهي أيضاً لا تجرى لان تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، مع كونهما في كلام واحد ، يصلح ان يمنع عن انعقاد ظهوره فيه ، لأنه من قبيل احتفاف الكلام بما

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٢.

(٢) كفاية الاصول ص ٢٣٣ (وبالجملة).

٣٨٠