زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

انه لا بد من الاقتصار في التصرف على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد عليه ، فانه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز.

ان الركوع والسجود تصرف زائد على مقدار الضرورة فلا يسوغ ، أم لا يعدان من التصرف الزائد باعتبار ان كل جسم يشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ، وذلك المقدار لا يختلف باختلاف اوضاعه واشكاله فيجوز.

والمحقق النائيني (ره) قد سلم ان الركوع والسجود لا يعدان من التصرف الزائد عقلا (١) ومع ذلك حكم بعدم الجواز نظرا إلى انهما منه عرفا.

توضيح ما أفاده ان الانسان سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل يشغل مقدارا خاصا من المكان ، وذلك لا يختلف زيادة ونقيصة بتفاوت تلك الاوضاع والاحوال ، فبالدقة العقلية ان الركوع والسجود لا يعدان تصرفا زائدا ، إلا انهما من جهة استلزامهما للحركة يعدان تصرفا زائدا بنظر العرف ، وبديهي ان العبرة بصدق التصرف الزائد بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية ، فلا محالة يجب الاقتصار في الصلاة على الايماء والاشارة بدلا عنهما.

ولكن يرد عليه مضافا إلى ما صرح به (قدِّس سره) ـ أيضاً مرارا ، ان نظر العرف إنما يتبع في تعيين المفاهيم وتحديدها سعة وضيقا.

واما في تطبيق المفهوم على المصداق فهو لا يتبع والمقام من قبيل الثاني.

__________________

(١) المصدر السابق.

١٠١

ـ ما صرح به صاحب الجواهر (ره) (١) قال : ان القيام والجلوس والسكون والحركة وغيرها من الاحوال متساوية في شغل الحيز وجميعها اكوان ولا ترجيح لبعضها على بعض فهي في حد سواء في الجواز وليس مكان الجسم حال القيام اكثر منه حال الجلوس ، نعم يختلفان في الطول والعرض إذ الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى اكثر مما يظرفه ويتضح ما أفاده ببيان أمرين :

أحدهما : ما تقدم من ان كل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص يشغل المكان بمقدار حجمه من دون ان يختلف ذلك باختلاف اوضاعه واشكاله ، لان نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته واوضاعه ، ولا يختلف ذلك باختلاف الاوضاع الطارئة عليه من الركوع والسجود والقيام والجلوس وما شاكل.

ثانيهما : انه لا فرق بين كون المكلف في الدار المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة في انه مرتكب محرمات متعددة : إذ كونه فيها بأي هيئة كان معصية ومحرم في كل آن ، ولا سبيل إلى توهم انه لو كان قائما في جميع الآنات ، فهو مرتكب لمحرم واحد ولو ركع وسجد فقد ارتكب محرمات متعددة ، لان كون المكلف في الدار على هيئة واحدة في كل آن وزمان تصرف في الارض ومحرم لا ان كونه عليها في جميع الآنات والازمنة تصرف واحد ومحكوم بحكم واحد.

وبذلك يتضح ان الركوع والسجود لا يكون تصرفا زائدا عرفا أيضاً لأنه

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٨ ص ٣٠٠.

١٠٢

إذا لم يركع وبقى قائما فقد تصرف في الدار المغصوبة ، وكذلك إذا ركع وسجد والحركة الركوعية أو السجودية ، وان كانت تصرفا إلا ان البقاء على القيام أيضاً تصرف لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف.

فالمتحصّل انه لا بد من البناء على انه يأتي بالصلاة مع الركوع والسجود.

واما المقام الثاني : وهو ما إذا كان المكلف متمكنا من التخلص عن الغصب في الوقت ، فتارة يكون مضطرا إلى البقاء بمقدار ما يصلى الصلاة ، وأخرى لا يكون مضطرا إلى ذلك بل يرتفع الاضطرار قبل ذلك.

اما في المورد الأول : فعلى ما اخترناه في صلاة المضطر إلى الغصب يجوز له الاتيان بالصلاة ولا يجب عليه تأخير الصلاة لان يؤتى بها في خارج الدار ، واما على مسلك المحقق النائيني فيتعين عليه التاخير إذ لا موجب لان يصلى مع الايماء والاشارة بدلا عن الركوع والسجود مع فرض تمكنه من الاتيان بها معهما في الوقت.

واما في المورد الثاني : فالظاهر انه لا يجوز له الاتيان بالصلاة لحكم العقل والشرع بلزوم التخلص من الغصب والخروج عن الدار المغصوبة في أول ازمنة الامكان ورفع الاضطرار فلو بقى بعد ذلك يكون مرتكبا للحرام لفرض انه تصرف في ملك الغير من دون اضطرار.

ولو صلى والحال هذه ، تدخل صلاته هذه تحت مسألة الاجتماع ، فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي تصح ، وعلى القول بالامتناع لا تصح لما تقدم مفصلا.

١٠٣

واما الموضع الثاني : وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار كما إذا توسط الدار المغصوبة باختياره فالكلام فيه في موردين :

المورد الأول : ما إذا لم يكن له مندوحة ، كما لو دخل الدار ولم يتمكن من الخروج عنها ، فقد ظهر مما تقدم حكم ذلك ، من حيث نفسه ، ومن حيث العبادة التوأمة معه والمهم هو البحث في المورد الثاني.

حكم الخروج من الدار المغصوبة

المورد الثاني : وهو ما إذا كان له مندوحة كما لو دخل الدار المغصوبة وتمكن من الخروج عنها والكلام فيه إنما هو في حكم الخروج وفي الصلاة الواقعة في حاله.

اما الأول فقد اختلفت كلمات الاصحاب فيه ، والاقوال فيه خمسة :

الأول : انه محرم ومنهى عنه فقط نسبه صاحب التقريرات إلى بعض الافاضل في الاشارات.

الثاني : انه واجب فحسب ولا يكون محرما بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق الساقط فلا يجرى عليه حكم المعصية ، اختاره الشيخ الأعظم ، والمحقق النائيني ، ونسب إلى العضدي ، والحاجبي.

الثالث : انه حرام وواجب بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي بعنوانين بينهما عموم من وجه ، وان المقام من هذا القبيل فالخروج واجب اما لأنه مقدمة للتخلص عن الحرام الذي هو واجب ومقدمة الواجب واجبة أو لأنه مصداق

١٠٤

للتخلص الواجب ، وحرام لأنه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرم ، ذهب إليه أبو هاشم المعتزلي والمحقق القمي ناسبا له إلى اكثر افاضل متأخرينا بل وظاهر الفقهاء.

الرابع : انه واجب فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ولكن يجرى عليه حكم المعصية ، اختاره صاحب الفصول (١) ، ونسب إلى الفخر الرازي.

الخامس : انه غير محكوم بحكم من الأحكام الشرعية ، ولكنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بواسطة الاضطرار ، فيجرى عليه حكم المعصية ، نعم هو واجب عقلا من جهة انه اقل المحذورين وأخف القبيحين. اختار هذا القول المحقق الخراساني (ره) في الكفاية (٢) :

اما القول الأول : فهو بين الفساد لأنه بعد فرض الاضطرار ، وعدم تمكن المكلف من ترك الغصب بمقدار زمان الخروج لأنه بعد الدخول في الدار المغصوبة لا بد له من ان يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث ، وحيث ان البقاء فيها حرام ، فلو حرم الخروج لزم التكليف بما لا يطاق ، وقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما هي في العقاب دون الخطاب.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ١٣٨ (فصل : حكي عن القاضي أن من توسط أرضا مغصوبة ...).

(٢) كفاية الأصول ص ١٧١ ـ ١٧٢.

١٠٥

واما القول الثاني : وهو ما اختاره المحقق النائيني ـ (١) تبعا للشيخ الأعظم (٢) ، فملخص ما أفاده : ان المقام لا يكون تحت قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ودخوله تحت كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه ، ولاجل ذلك يكون الخروج واجبا شرعا. ولا يجرى عليه حكم المعصية.

نعم ، لو كان داخلا تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كان الصحيح ما أفاده المحقق الخراساني (٣) ، ـ فله (قدِّس سره) دعاو ثلاث (٤) اثنان غير تامين والثالثة تامة.

اما الدعوى الأولى (٥) : وهي عدم كون المقام داخلا في كبرى قاعدة" عدم

__________________

(١) في اجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٦ (الرابع .. إلى أن قال وهو الصحيح عندنا).

(٢) مطارح الانظار في نهاية ص ١٥٣ ـ ١٥٤ فبعد استعراض آراء العلماء قال : «لنا على كون الخروج مأمورا به أن التخلص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ولا شك أن الخروج تخلص عنه بل لا سبيل إليه إلا بالخروج فيكون واجبا على وجه العينية وعلى عدم كونه منهيا عنه ما ستعرف في تزييف احتجاج الأقوال المذكورة».

(٣) كفاية الأصول ص ١٧٣ حيث قال : «وما قيل من أن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما هو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بان الافعال غير اختيارية ...».

(٤) الدعوى الأولى في أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٤ وفي ط الجديدة ج ٢ ص ١٨٧ والدعوى الثاني ص ٣٧٦ وفي ط الجديدة ص ١٨٩ وهي ذات شقين.

(٥) هذه الدعوى هي عند المحقق النائيني الشق الأول من الدعوى الثانية فإننا يمكننا تقسيمها إلى شقين : أحدهما سالب والآخر موجب والشق الثاني هو الذي أعتبره المصنف حفظه

١٠٦

منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار" فقد استدل لها بوجوه اربعة :

الوجه الأول (١) : ان ما يكون داخلا تحت تلك الكبرى ، لا بد من ان يكون قد عرضه الامتناع باختيار المكلف وارادته بحيث يكون خروجه عن القدرة مستندا إلى اختيار المكلف كالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إلى الحج باختياره ، ومن الواضح ان الخروج عن الدار المغصوبة ليس كذلك ، فانه باق على ما هو عليه من كونه مقدورا للمكلف فعلا وتركا ولم يطرأ عليه ما يوجب امتناعه.

ثم قال : نعم مطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع بين البقاء والخروج باقل زمان يمكن فيه الخروج وان كان مما لا بد منه إلا انه اجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج.

والجواب عن ذلك يظهر ببيان أمور :

__________________

المولى ، الدعوى الثانية وهي : دخول المقام في كبرى : «وجوب رد مال الغير إلى مالكه» وهي عند النائيني (قدِّس سره) نتيجة حتمية بعد بطلان دخول المقام في كبرى «عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار» ، واما الدعوى الأولى عند المحقق النائيني فلم يتعرض لها المصنف وهي : «كون الخروج لا يكون محكوما بحكم شرعي فعلا ويجري عليه حكم المعصية بناء على دخول المقام تحت كبرى : قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار» فلعله لوضوح بطلانها عند النائيني من جهة ومن جهة اخرى فإنه تعرض لنقيضها من عدم دخول المقام تحت كبرى عدم المنافاة. وسيتضح ذلك بالتخريجات الآتية

(١) وهو الامر الأول من الدعوة الثانية في اجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٩.

١٠٧

١ ـ انه لا فرق في شمول القاعدة بين المحرمات والواجبات ، غاية الأمر انه على العكس فيهما : فانه في التكاليف الوجوبية يصير الفعل ممتنعا وفي التكاليف التحريمية يصير الترك ممتنعا.

وبعبارة أخرى : انه بحسب الغالب في التكاليف الوجوبية ترك المقدمة يفضى إلى امتناع فعل ذى المقدمة في الخارج ، وفي التكاليف التحريمية يكون إيجاد المقدمة موجبا لامتناع ترك الحرام ، مثلا : ترك المسير إلى الحج يوجب امتناع الحج ، والدخول في الدار المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه.

٢ ـ ان الخروج إنما يكون محكوما بالحرمة من حيث انطباق عنوان الغصب عليه لا من حيث هو ، وعليه فبمقدار اقل زمان يمكن فيه الخروج يكون مقهورا في ارتكاب الغصب إذ لا ثالث للبقاء والخروج ، فبذلك المقدار يكون مضطرا إلى مخالفة التكليف ويمتنع عليه الامتثال.

٣ ـ لا فرق في شمول القاعدة بين موارد الامتناع الشرعي والامتناع العقلي.

وبعد ذلك يظهر شمول قاعدة الامتناع بالاختيار لمقدار زمان يمكن فيه الخروج.

مع انه لو تم ما أفاده لزم ان يكون الخروج محرما ومنهيا عنه فعلا ، لان المانع ليس إلا الاضطرار وامتناع الامتثال ، ولو انكر ذلك لزم البناء على وجود المقتضى بالفتح وهو الحرمة.

ولو قيل بان النهي يسقط من جهة اضطرار المكلف إلى التصرف في الدار المغصوبة بمقدار اقل زمان يمكنه الخروج وحيث انه لا بد من سقوط احد

١٠٨

التكليفين اما حرمة البقاء أو حرمة الخروج ، والخروج اقل محذورا ، فيسقط نهيه لذلك.

قلنا : ان الاضطرار إلى ذلك تكوينا بمعنى عدم القدرة على تركه ، لا عدم القدرة على فعله ، بضميمة بقاء النهي عن البقاء ، يوجب كون ترك الخروج ممتنعا فيدخل في تلك القاعدة.

الوجه الثاني (١) : انه يعتبر في شمول القاعدة ، كون الشيء ذا ملاك وجدت المقدمة أم لا ويكون الحكم بنفسه مشروطا بمجيء زمان متعلقه ، لامتناع الواجب التعليقي ، وهذا بخلاف المقام ، فان التصرف بالدخول من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وملاك الحكم فان الداخل هو الذي يمكن توجيه الخطاب المتعلق بالخروج به دون غيره ، فلا يكون مشمولا للقاعدة.

وفيه : ان الخروج قبل الدخول ، ذو ملاك ، ومنهى عنه ، ويكون تركه مقدورا بواسطة القدرة على الواسطة ، وهو ترك الدخول ، وإنما يكون غير مقدور بعد الدخول فليس الدخول دخيلا في ملاك حكم الخروج ، ومن شرائط اتصاف الفعل بالمفسدة.

وبعبارة أخرى : ان الخروج بعد الدخول مقدور تكوينا وذو ملاك قبل الدخول ، وإنما يصير ممتنعا بعد الدخول للنهى عن البقاء ، فبعد الدخول يصير ممتنعا شرعيا ، فلا يكون الدخول موجبا لتحقق ملاك الحكم في الخروج.

وان شئت قلت : بعد ما لا ريب في شمول القاعدة للمحرمات كشمولها

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٠ ـ ١٩١.

١٠٩

للواجبات وايضا تكون القاعدة شاملة للامتناع الشرعي ، وعرفت ان شمولها للمحرمات عكس شمولها للواجبات ، بمعنى انه يعتبر في الواجبات كون الفعل مقدورا قبل الاتيان بالمقدمة وبتركها يمتنع ، وفي المحرمات يعتبر كون الترك مقدورا قبل الاتيان بالمقدمة وممتنعا بعد الاتيان بها :

ان شمول القاعدة للخروج ان كان بلحاظ وجوبه ، تم ما أفاده ، لان وجوب الخروج بلحاظ وجوب رد المال إلى مالكه لا ملاك له قبل الدخول ليفوت ذلك بترك هذه المقدمة ، مع انه بايجاد المقدمة لا يفوت منه ذلك للاتيان بالخروج.

ولكن ان كان بلحاظ حرمته كما هو كذلك ، وحيث ان ترك الخروج قبل الدخول مقدور ، والخروج لكونه منطبق عنوان التصرف في مال الغير ذو ملاك ملزم وحرام ، وبالدخول يصير ترك الخروج ممتنعا بعد فرض فعلية النهي عن البقاء ، لدوران امره بين البقاء والخروج ، وامتناع الخروج يكون مستندا إلى الدخول باختياره فيكون مشمولا للقاعدة.

الوجه الثالث (١) : ان الملاك في دخول الشيء تحت القاعدة هو ان تكون المقدمة موجبة للقدرة على ذى المقدمة ليكون الآتى بها قابلا لتوجيه الخطاب بإتيان ذى المقدمة إليه ، وفي المقام الدخول وان كان مقدمة للخروج إلا ان تحققه في الخارج يوجب سقوط النهي عن الخروج فكيف يمكن ان يكون الخروج من صغريات تلك القاعدة.

وفيه : انه في الواجبات يعتبر في تحقق مورد القاعدة كون المقدمة موجبة

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩١.

١١٠

للقدرة على ذى المقدمة وتركها موجبا لامتناعه ليكون الآتى بها قابلا لتوجه الخطاب بإتيان ذى المقدمة إليه ، واما في المحرمات فينعكس ذلك أي يعتبر كون المقدمة موجبة للزوم وجوده وامتناع الانزجار وتركها موجبا للقدرة عليه.

الوجه الرابع (١) : ان الخروج في المقام واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل ويكشف ذلك عن كونه مقدورا وكل ما كان كذلك لا يدخل تحت القاعدة قطعا لان موردها ما إذا كان الفعل غير مقدور وغير قابل لتعلق الخطاب به.

وفيه : ان الخروج لا يكون واجبا شرعا كما ستعرف ، مع ان جعل الوجوب للخروج بعد جعل الحرمة لسائر انحاء التصرفات لغو ولا اثر عقلي له فلا يعقل جعله ، وان شئت قلت ان العبد مجبور بحكم العقل بالمعنى الصحيح في اتيانه ، وما هذا شأنه يكون جعل الوجوب له لغوا وتمام الكلام في محله ، ولا عقلا ، إذ شان القوة العاقلة الدرك ، لا الالزام.

واما الدعوى الثانية (٢) : وهي كون المقام داخلا في كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٨ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٢

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٩ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٣ ـ ١٩٤ ، ويمكن القول أن هذه الدعوى هي عند النائيني الشق الثاني من الدعوى الثانية حيث قال : بعد استعراض أدلة الدعوى الثانية : «فتبين من هذه الادلة بطلان دخول المقام تحت قاعدة ـ ان الامتناع بالاخيار لا ينافي الاختيار ـ فلا مناص عن الالتزام بكونه داخلا تحت قاعدة اخرى أعني بها وجوب رد مال الغير إلى مالكه».

١١١

فقد استدل لها : بان الخروج يوجب تحقق التخلية بين المال ومالكه التي به يتحقق الرد في غير المنقولات فيكون واجبا.

توضيح ما أفاده ان الاضطرار تعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة بعد الدخول بقدر اقل زمان يمكن فيه الخروج لا بخصوص البقاء ليرتفع حرمته ، ولا بالخروج ليسقط وجوبه ، فلا محالة يرتفع حرمة الجامع ، وحيث ان البقاء بالسكون والحركة غير الخروجية محرم ، والخروج مصداق للتخلية بين المال ومالكه وواجب ، فيكون المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير الذي يكون بعض أفراده واجبا وبعضها محرما فهو نظير ما لو اضطر إلى شرب الماء لرفع عطشه الجامع بين النجس والطاهر ، فكما انه في المثال لا يوجب الاضطرار سقوط الحرمة عن شرب النجس لعدم الاضطرار إليه بل يجب رفع العطش بشرب الماء الطاهر ، كذلك في المقام يتعين عليه رفع الاضطرار بالخروج.

وبالجملة فالخروج واجب شرعا وعقلا لدخوله ، تحت قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه وامتناع دخوله تحت قاعدة الامتناع بالاختيار ، وغير الخروج من اقسام التصرف يبقى على حرمته.

ثم انه (قدِّس سره) قال (١) : انه لو بنينا على ان الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بلا رضاه ، وان كان ذلك بعنوان التخلية ورده إليه ، فغاية ما هناك ان يكون حال الخروج في المثال حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس ، فكما ان الشارع حيث لا يرضى بصدور شرب الخمر من أي شخص ، فيحكم بحرمة

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٠ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٤.

١١٢

المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شربه ولكنه بعد تحقق المقدمة في الخارج لا يكون الشرب المتوقف عليه حفظ النفس إلا مطلوبا عقلا وشرعا ، فكذلك يكون الخروج في المقام ، فيكون المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج وهي الدخول محرما ، وحيث انه محرم في نفسه فيكون الدخول حراما من جهة نفسه ومن جهة كونه علة للخروج ، واما الخروج نفسه ، فهو بعد الدخول يكون مطلوبا فحسب.

فالمتحصّل (١) ان التصرف في مال الغير بالخروج لا يخلو الأمر فيه من ان يكون حاله حال ترك الصلاة من المرأة التي توسلت إلى صيرورتها حائضا بشرب الدواء ، أو يكون حاله حال شرب الخمر المشتمل على ملاك الحرمة في جميع التقادير ، فيحرم التسبيب بفعل ما يضطر المكلف معه إليه ، لكنه على تقدير تحقق الاضطرار في الخارج ، لتوقف واجب فعلى عليه ، أو لكونه بنفسه مصداق الواجب لا يقع الفعل إلا محبوبا.

والجواب عن ذلك : ان التخلية والتخلص ، اما ان يكون امرا عدميا وعبارة عن ترك الغصب ، أو يكون امرا وجوديا وعبارة عن إيجاد الفراغ والخلاء بين المال وصاحبه كما هو الصحيح ، وعلى التقديرين لا يكون الخروج مصداقا لها : لان الحركة الخروجية تصرف في مال الغير ومصداق للغصب ، فهي اما مضادة للتخلية أو نقيض لها ، وعلى التقديرين لا يكون الخروج معنونا بعنوان التخلية.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٠ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٥.

١١٣

فان قيل ان الخروج وان كان مصداقا للغصب اصله ، ولا يصدق عليه التخلص منه إلا انه مصداق للتخلية والتخلص بالاضافة إلى الغصب الزائد ، ومعه يكون محبوبا.

اجبنا عنه بان التخلص من الغصب الزائد ، فرع الابتلاء به فما دام لم يبتل بشيء لا يصدق انه خلص عنه ، وبذلك يظهر اندفاع الوجهين الذين افادهما.

واما ما أفاده من ان العقاب إنما يكون على فعل المقدمة في مثال الاتيان بما يضطر معه إلى شرب الخمر ، فقد مر في مبحث المقدمات المفوتة مفصلا ، وعرفت ان العقاب إنما يكون على فعل ما هو محرم لو لا الاضطرار فراجع.

وقد استدل في محكي التقريرات (١) لوجوب الخروج بوجهين آخرين :

الوجه الأول : ان الخروج يكون مقدمة للواجب لوجوب ترك الغصب الزائد عن مقدار الخروج ، فيتعلق به الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذى المقدمة ووجوب مقدمته ، فالخروج عن الدار الغصبية يكون مامورا

__________________

(١) وهو ظاهر كلام الشيخ الاعظم في مطارح الانظار ، وقد نسبه اليه غير واحد ، راجع ص ١٥٤ عند قوله : «ان الخروج ليس بمأمور به من حيث إنه خروج بل لأنه تخلّص عن الغصب كما أن الكون في الدار ليس حراما إلا من جهة أنه غصب والنسبة بين الغصب والخروج عموم من وجه والظاهر أن ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدمات ترك الغصب الواجب ومقدمة الترك أعم من الخروج وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ... الخ.

١١٤

به لكونه مقدمة للواجب المنجز الفعلي.

وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين (١) :

الجواب الأول : ما محصله ان مقدمة الواجب ان كانت مباحة تجب ، وان كانت محرمة فمع عدم الانحصار ، لا تجب بل يكون الواجب هو المباحة ، واما مع الانحصار فان لم يكن وجوب ذى المقدمة اهم لا تجب ، وان كان اهم فان كان الانحصار لا بسوء الاختيار ، تجب المقدمة ، وان كان بسوء الاختيار لا تجب بل تبقى على مبغوضيتها وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له ، ففي المقام حيث ان الخروج واحد زمانا ففرض خروجه عن المبغوضية لا يعقل فانه يلزم منه حرمة الخروج على تقدير إرادة الدخول وجوازه على تقدير إرادة نفسه كما هو بعد الدخول.

وقد يقال في توجيه مراده من قوله (وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له) ان الضمير في قوله لغيره ، وله ، عائد إلى الخروج فتكون النتيجة تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه ، وجواز الخروج على إرادة الدخول ، فيكون الحاصل حرمة الخروج عند ترك الدخول وتجويزه عند الدخول.

وايضا قد يقال في توجيه مراده ان المراد بغير الخروج ترك الخروج ، وعليه فيلزم من رفع حرمته رجوع الالزام إلى الاباحة أو طلب الحاصل : إذ طلب ترك الخروج معلقا على إرادة ترك الخروج يلزم منه الأول وطلبه معلقا على نفس

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٦٩.

١١٥

الخروج يلزم منه الثاني.

وكيف كان فيرد عليه انه لو سلم كون الخروج مقدمة للواجب ، لا محالة يصير واجبا إذ بعد فرض سقوط تكليفه التحريمي لا مانع عن اتصافه به ، إذ المبغوضية الذاتية لما لم تكن منشئا للاثر وموجبة لزجر الأمر عنه ، فلا تنافى مع ايجابه من جهة توقف الواجب الفعلي عليه ، فالمقتضى موجود والمانع مفقود ، فلا مناص عن البناء على وجوبه.

وبعبارة أخرى : ان الخروج قبل الدخول محرم شرعا ، ولا يكون مقدمة للواجب ، فان للمكلف ترك الدخول والخروج ، ولكن بعد الدخول يصير مقدمة للواجب ، وحيث لا مانع عن وجوبه لسقوط حرمته بالاضطرار ، وعدم منافاة المبغوضية الذاتية له ، فلا بد من البناء على وجوبه

الجواب الثاني : ما ذكره (ره) (١) بقوله مع انه خلاف الفرض وان الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

وفيه : ان المفروض كون الاضطرار إلى الخروج بسوء الاختيار ، لا ان اختيار الخروج يكون بسوء ، والفرق بينهما واضح.

فالحق في الجواب عن ذلك ان يقال ان الخروج مقدمة للكون في خارج الدار وهو ليس بواجب ، وإنما هو ملازم لترك الكون في الدار الذي هو ترك للحرام.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٦٩.

١١٦

نعم ، بناء على كون ترك الحرام واجبا ، ولازم الواجب واجبا ، يجب الكون في خارج الدار فيجب مقدمته ، وهو الخروج ، ولكن قد عرفت في مبحث الضد فساد كلا المبنيين.

الوجه الثاني (١) : ان التصرف في الدار المغصوبة بالخروج ليس كالتصرف بالدخول والبقاء ، بل هو لأجل كونه مما يترتب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه التخلص عن التصرف بالحرام ، لا يكون حراما في حال من الحالات ، بل حاله مثل حال شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات.

وفيه : اولا : ما عرفت آنفا من عدم كونه مقدمة للواجب فلا وجه لوجوبه.

وثانيا : ان دعوى عدم كونه منهيا عنه قبل الدخول لاوجه لها سوى دعوى عدم القدرة عليه إلا بالدخول.

وهي فاسدة ، فانه مقدور غاية الأمر بالواسطة لا بدونها.

واما الجواب عن ذلك بعد تسليم المقدمية بان المبغوضية الفعلية مانعة عن الاتصاف بالوجوب فيدفعه ما ذكرناه آنفا.

فتحصل مما ذكرناه انه لاوجه للقول بوجوب الخروج عن الدار المغصوبة ، وبه يظهر عدم تمامية القولين الآخرين وهما.

__________________

(١) مما أفاده الشيخ الاعظم كما نسبه اليه غير واحد من الاعلام سيما المعلقين على الكفاية عند ما ذكر هذا الوجه صاحب الكفاية ان قلت ١٦٩. وهو الظاهر من مطارح الانظار ص ١٥٥ ـ ١٥٦ بتصرف.

١١٧

القول بأنه حرام وواجب.

والقول بأنه واجب فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط بالاضطرار.

مع انه يرد على الأول منهما ما تقدم من عدم كونه منهيا عنه.

اضف إليه لزوم اجتماع الضدين في مورد واحد.

واما الثاني منهما وهو القول الرابع ، فقد أورد عليه المحقق الخراساني (١) والمحقق النائيني (٢) بان تعلق حكمين بفعل واحد ممتنع ولو كان زمانا الإيجاب والتحريم متغايرين ، لان الاعتبار في الاستحالة والامكان ، إنما هو باتحاد زمان صدور الفعل وتعدده لا باتحاد زمان الإيجاب والتحريم وتعدده من حيث انفسهما ، كيف وإلا لزم وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهى السابق واطاعة للأمر اللاحق فعلا مبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد.

ولكن : الظاهر عدم ورود هذا الإيراد على صاحب الفصول ، فان كون فعل خاص موردا للنهى في مدة من الزمان وموردا للأمر في مدة أخرى ، لا محذور فيه ولا يكون ذلك من اجتماع الضدين المحال بشيء.

وبعبارة أخرى : صاحب الفصول (ره) لا يدعي بقاء الحرمة إلى حين ما يصير واجبا ، حتى يورد عليه ما ذكراه بل يدّعي سقوط النهي بعد ذلك وبقاء اثره ، فالاشكال من حيث لزوم اجتماع الضدين في غير محله.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٢ (وقد ظهر مما حققناه ..).

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٥ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٨.

١١٨

وهو أجاب عن هذا الإيراد التقديرى (١) : بأنه لو كانت مبغوضية شيء في زمان مضادا لمطلوبيته في زمان آخر ، لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه وإنما لا يترتب هنا اثر الأول لرفع البداء له بخلاف المقام.

فالأولى الجواب عن هذا القول بما تقدم.

ثم ان المحقق النائيني (٢) أورد على المحقق الخراساني بان هذا الجواب وان كان حقا إلا انه ليس لك الجواب بذلك ، فانك التزمت في حاشية المكاسب (٣) بنظير ما التزم به صاحب الفصول في المقام ، وهو ان المال الواقع عليه العقد الفضولي بعد صدور العقد وقبل حصول الاجازة محكوم عليه واقعا بكونه ملك من انتقل عنه ، وبعد الاجازة يحكم عليه واقعا بكونه في ذلك الزمان بعينه لمن انتقل إليه ، ولا منافاة بين الحكمين أصلاً لتعدد زمانهما وان اتحد زمان المحكوم بهما.

ولكن : الظاهر عدم ورود هذا الاشكال على المحقق الخراساني إذ فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية.

فان الأحكام الوضعية إنما تكون تابعة للمصلحة في نفس الاعتبار ، إذ لا وعاء له سوى الاعتبار ، فمن الممكن وجود المصلحة في اعتبار ملكية ثوب

__________________

(١) الفصول الغروية ص ١٣٩.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٥ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨٨

(٣) الحاشية على كتاب المكاسب للآخوند ص ٦١ عند قوله : «ولا يخفى ان قضية قاعدة وجوب الوفاء بالعقود ..» الخ ، بتصرف.

١١٩

خاص في يوم السبت لزيد ، ثم في يوم الاحد بواسطة الاجازة تحدث المصلحة في اعتبار ملكية ذلك الثوب في يوم السبت لعمرو ، فيعتبر له ، ولا مضادة بين الاعتبارين. وتفصيل ذلك في محله.

واما الأحكام التكليفية فهي تابعة للمصالح والمفاسد في نفس الفعل فحينئذ ان كانت فيه مصلحة ملزمة فلا معنى للنهى عنه ، وإلا فلا مورد للأمر به فتدبر.

فتحصل : من مجموع ما ذكرناه ان الخروج ليس مامورا به ، ولا منهيا عنه ولكنه واجب عقلا ، لكونه اقل المحذورين ، ومعاقب عليه لدخوله تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فالاقوى هو القول الخامس ، وهو انه غير محكوم بحكم شرعا وواجب عقلا ، ومعاقب عليه.

الصلاة في حال الخروج

واما الصلاة في حال الخروج ، فقبل بيان حكمها لا بد وان يعلم ان محل الكلام ما لو كانت الصلاة التي تكون وظيفته يتمكن من اتيانها في حال الخروج ، وإلا فلا كلام في البطلان.

وملخص القول في المقام انه بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي تصح الصلاة ، لما عرفت من ان الاظهر هي الصحة على هذا المسلك مطلقا.

وكذلك على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر.

١٢٠