زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

كانت الحرمة مدلولة لدليل لفظي ، وحيث ان هذا المعنى مورد للنزاع فلا مورد للنزاع في دلالة اللفظ.

مع ان ما قيل من انه ينازع في دلالة اللفظ بالدلالة الالتزامية على الفساد ، اجبنا عنه : بأنه يشترط في الدلالة الالتزامية كون اللزوم بينا وإلا كما في المقام فلا دلالة التزامية أيضاً حتى على فرض حكم العقل بالملازمة.

وعلى ذلك فيتعين ان يكون السر في عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) من ان الاصوليين لم يعقدوا بحثا خاصا للاحكام العقلية غير المستقلة اعني بها مباحث الاستلزامات بل ذكروا كلا منها في مورد لأجل مناسبة ما وبديهي ان المناسب لهذه المسألة إنما هي مباحث النواهي.

عدم اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي

الجهة الثالثة : ربما يقال بان محل النزاع في هذه المسألة ، إنما هو النهي النفسي التحريمي.

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

١ ـ في الاختصاص بالتحريمي.

٢ ـ في جريان النزاع في النهي الغيري وعدمه.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠٠.

١٤١

اما المورد الأول : فقد استدل المحقق النائيني (ره) (١) وتبعه الأستاذ الأعظم (٢) على الاختصاص بالتحريمي ، بان النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا ينافي إطلاق الأمر بالطبيعة بالاضافة إلى ذلك الفرد ، بخلاف النهي التحريمي فانه ينافي الإطلاق المزبور فيوجب تقييد المأمور به بغير الفرد المنهي عنه.

وأورد عليهما ، بان تطبيق الطبيعة على الفرد ان كان له وجود غير وجود الطبيعة فلا مانع من كونه حراما مع كون الطبيعة واجبة وان لم يكن له وجود منحاز كما لا يمكن ان يكون حراما ، لا يمكن ان يكون مكروها أيضاً : إذ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة.

ولا يمكن دفع هذه الشبهة إلا بما ذكرناه في مبحث العبادات المكروهة من كون النهي التنزيهي إرشادا إلى وجود منقصة وحزازة في الخصوصية الموجودة بوجود الطبيعي.

وبعبارة أخرى : الموجود الخارجي لا يكون متصفا إلا بالوجوب ، واما الالتزام بالكراهة الفعلية فمما لا يمكن كما مر.

ولكن يرد عليهما ، ان هذا خلف الفرض إذ محل الكلام ، ما لو تعلق النهي بنفس ما تعلق به الأمر ، وما ذكراه إنما هو تصحيح لتعلق النهي التنزيهي بتطبيق الطبيعة المأمور بها على الفرد.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠٠ ، (اما الأول).

(٢) في حاشيته على اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠١.

١٤٢

وبعبارة أخرى : بإيجاد المأمور به متخصصا بخصوصية خاصة التي فيها مفسدة غير ملزمة ، واما لو تعلق النهي التنزيهي بعبادة فبما ان الأحكام متضادة فلا محالة لا امر بها.

ويكون ملاكه مغلوبا أو معدوما ، فلا وجه حينئذ لتصحيح العبادة حينئذ لا أمرا ولا ملاكا.

فالمتحصّل جريان النزاع في النهي التنزيهي أيضاً.

المورد الثاني : في انه هل النهي الغيري كالنهي النفسي ، يجرى فيه النزاع أم لا؟ ملخص القول فيه ان النهي الغيري على قسمين :

الأول : ما كان مسوقا لبيان مانعية المنهي عنه عن العبادة واعتبار قيد عدمي في المأمور به.

الثاني : ما كان نهيا تبعيا ناشئا من توقف واجب فعلى على ترك عبادة.

اما القسم الأول : فلا ريب في دلالته على الفساد ، فانه إذا اعتبر في المأمور به قيد عدمي ولم يقترن المأمور به بذلك القيد ، لا محالة لا يكون واجدا لجميع ما اعتبر فيه فلا ينطبق على المأتي به المأمور به بحده ، وليس معنى الفساد إلا ذلك.

واما القسم الثاني : وهو كالنهي عن الصلاة التي تتوقف على تركها ، إزالة النجاسة عن المسجد بناء على ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده.

١٤٣

فقد ذهب المحقق النائيني (١) خلافا للمحقق الثاني (٢) والخراساني (٣) ، إلى عدم دلالته على الفساد.

واستدل له : بان غاية ما يترتب على النهي الغيري ، إنما هو عدم الأمر بالفعل ، ولا دلالة له بوجه على عدم الملاك ، لعدم كونه ناشئا عن مفسدة ومبغوضية ، وإنما هو ناش عن كون تركه مقدمة لواجب اهم.

وحيث انه يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك وان لم يتعلق بها امر.

وقد تقدم الكلام في الكاشف عن الملاك.

والفرض ان النهي لا يضر بالملاك ، فيصح الاتيان بالعبادة.

ويرد عليه مع قطع النظر عن ما ذكرناه من عدم الكاشف عن الملاك : ان الملاك الذي يسبب الشارع الأقدس إلى تفويته وعدم إيجاده لا يصلح للمقربية وصيرورة العمل عبادة ومقربا إلى الله تعالى.

وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا في مبحث الضد.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠٢ ، (واما القسم الثاني).

(٢) لقد طبق المحقق الكركي مسألة الأمر بالشيء يقتضي انهي عن ضده على عدة موارد في الفقه منها جامع المقاصد ج ١ ص ٤٧٨ / ورسائل الكركي ج ٣ ص ١٤٧.

(٣) راجع كفاية الاصول ص ١٨٦.

١٤٤

بيان المراد من العبادة

الجهة الرابعة : في بيان المراد من العبادة التي وقع البحث في ان النهي عنها هل يقتضي الفساد ، أم لا؟

وإنما سيق هذا الامر لبيان دفع ما قد يشكل في تصوير النهي عن العبادة ، بان العبادة ليست إلا ما يوجب القرب ، فكيف يعقل النهي عنها.

والحق في الجواب ان العبادة على قسمين.

الأول : ما يكون عبادة ذاتا وأدبا يليق الخضوع به.

وبعبارة أخرى : ما يكون ذاتا تخضعا وتذللا إظهارا للعبودية كالسجود.

الثاني : ما لا يكون كذلك.

اما القسم الأول : فتصوير النهي عن العبادة بذلك المعنى واضح.

نعم ، هناك اشكال آخر وهو ان العبادة بهذا المعنى لا يصح النهي عنها ، لأنها إذا كانت أدبا وحسنا ذاتيا ، فالنهى عنها ، إنما يكون كالنهي عن الإطاعة ، وبعبارة أخرى : حسنها الذاتي مانع عن النهي.

ولكن يمكن دفعه بأنه ربما يكون في المكلف من الأرجاس ما يوجب عدم كونه لائقا بإظهار العبودية ، فتكون العبادة منه قبيحة فيصح النهي عنها.

واما القسم الثاني : فقد قيل في مقام الجمع بين كونها عبادة ومنهيا عنها ، وجوه :

١٤٥

أحدها : ما في الكفاية (١) وهو ان المراد بالعبادة ، ما لو تعلق الأمر به كان امره أمرا عباديا لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربي كسائر أمثاله ، نحو ، صوم العيدين ، والصلاة في أيام العادة.

وفيه : ان هذا خلاف الظاهر فان ظاهر قولهم النهي عن العبادة هي الفعلية لا التقديرية ، مع : ان فساد العبادة بهذا المعنى مستند إلى عدم المقتضى لا إلى النهي كما هو واضح.

ثانيها : ما في التقريرات (٢) وهو ما امر به لأجل التعبد به.

ثالثها : ما هو منسوب إلى غير واحد (٣) ، وهو ما يتوقف صحته على النية.

رابعها : ما عن المحقق القمي (ره) (٤) وهو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء.

وأورد المحقق الخراساني (ره) (٥) على هذه الثلاثة : بأنه ضرورة أنها بواحد منها لا يكاد يمكن ان يتعلق بها النهي.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨١.

(٢) مطارح الانظار ص ١٥٨.

(٣) نسبه في مطارح الانظار إلى غير واحد ، ص ١٥٨.

(٤) قوانين الاصول ج ١ ص ١٥٤ (وتحقيق المقام يستدعي رسم مقدمات) الأولى : المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحتها إلى النية ، وبعبارة اخرى ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء.

(٥) كفاية الاصول ص ١٨٢.

١٤٦

أقول : ان ما ذكره (ره) وان تم ، إلا انه غير وارد عليهم ، لعدم كونهم في مقام بيان المراد من العبادة في المقام ، بل في مقام بيان العبادة من حيث هي.

فالصحيح في المقام ، ان يقال ان المراد بها ما لو لا النهي كان عبادة لكونها مشمولة لدليل متضمن للأمر بها ، فتكون في مرتبة سابقة على النهي عبادة ، فلا يكون المراد ، العبادة التقديرية فتدبر هذا كله في العبادة بالمعنى الأخص.

واما العبادة بالمعنى الأعم كغسل الثوب وأمثاله من مقدمات الصلاة ، فهي من جهة وقوعها عبادة داخلة في محل النزاع.

واما من جهة الآثار الوضعية المترتبة عليها :

فقد يتوهم دخولها في محل النزاع من جهة ان الطهارة مثلا من الاعتباريات فحكمها حكم الملكية.

لكنه فاسد فان الطهارة ليست مترتبة على فعل المكلف حتى يمكن التفرقة بين كونها مبغوضة للشارع وعدمه كالملكية.

بل هي مترتبة على نفس الغسل الذي هو اسم المصدر فما هو سبب له غير مربوط بما يتعلق النهي به ، فلا وجه لتوهم دلالة النهي فيه على الفساد فتدبر فانه لا يخلو عن دقة.

المراد بالمعاملة

الجهة الخامسة : في تعيين المراد من المعاملة التي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها وعدمه.

١٤٧

وقد قسم في التقريرات المعاملة على ثلاثة اقسام (١) :

الأول : ما يتصف بالصحة والفساد كالعقود والايقاعات.

الثاني : ما لا يتصف بهما مع ترتب الاثر الشرعي عليه ، كالغصب ، والاتلاف ، واليد ، والجنايات ، واسباب الوضوء.

الثالث : ما لا يتصف بهما مع عدم ترتب اثر شرعى عليه وقد مثل له بشرب الماء.

والمحقق الخراساني (ره) (٢) تبع صاحب التقريرات في ذلك ، واستدل لعدم جريان النزاع في القسم الثاني ، بان اثره لا ينفك عنه ، وفي الثالث بأنه لا اثر له ، واختار جريان النزاع في القسم الأول ، سواء كان من قبيل العقود والايقاعات أم كان من قبيل التحجير والحيازة وامثالهما.

وبعبارة أخرى : ان الداخل في العنوان هو المعاملة بالمعنى الاعم.

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ١٥٨ حيث قال : «الثاني وهو غير العبادة فهو على قسمين : فتارة يكون من الأمور التي يتصور فيها الاتصاف بالصحة والفساد كغسل النجاسات والعقود والإيقاعات وأخرى يكون من الأمور التي لا تتصف بهما والثاني على قسمين فإنه تارة يكون من الأمور التي يترتب عليها الآثار الشرعية كالغصب والإتلاف ونحوهما فإنه يترتب عليها الضمان ووجوب الرد ونحوهما وتارة لا يكون منها كشرب الماء مثلا وإذ قد عرفت ما ذكرنا من تقسيم الشيء إلى العبادة وغيرها وقد يسمى بالمعاملة.

(٢) كفاية الاصول ص ١٨٢ (الخامس).

١٤٨

وأورد المحقق النائيني (١) على ما أفاده في القسم الأول ، بان المعاملة بالمعنى الاعم الشاملة للتحجير والحيازة وامثالهما ، لم يتوهم احد دلالة النهي فيها على الفساد فالمراد بها هي العقود والايقاعات خاصة.

وفيه : انه كما ان الملكية الحاصلة بالبيع من الأمور الاعتبارية التسبيبية لا الواقعية ، وبهذا الاعتبار دخلت في محل النزاع ، من جهة انه بما ان الاعتبار فعل الشارع فيمكن ان لا يعتبرها لو كان السبب مبغوضا له ، كذلك ثبوت الملكية بالحيازة والحق بالتحجير من الأمور الاعتبارية بلا فرق أصلاً ، فالاظهر دخولها في محل النزاع.

واما ما أفاده العلمان من عدم دخول القسم الثاني في محل النزاع فهو متين جدا ولكن لا لما أفاده المحقق الخراساني.

بل لعدم قابليته للاتصاف بالصحة والفساد فانه يختص بما يكون مرغوبا فيه وهو لا يكون كذلك فيه ، بل يكون اثره الشرعي مجعولا على المكلف كباب الضمانات والمحرمات ، والحدث ، ألا ترى انه لا يقال لشرب الخمر غير المحرم للاضطرار انه فاسد ، ولسبب الضمان الذي لا يترتب عليه كالاكل في موضع حق المارة انه اتلاف فاسد ، ولما صدر من المسلوس والمبطلون انه فاسد.

ثم لا يخفى انه يظهر مما ذكرناه من انه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد.

انه يخرج عن محل النزاع امران آخران :

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٨ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠٣ (المقدمة الثالثة).

١٤٩

أحدهما : البسائط فانها تتصف بالوجود والعدم لا بالصحة والفساد.

وان شئت قلت انهما وصفان للموجود الخارجي ، وفي البسائط مع فرض الوجود الخارجي يكون الشيء تاما ومع عدمه يكون معدوما لا فاسدا.

الثاني : موضوعات التكاليف ، وذلك لان الصحة والفساد كانتا بمعنى ترتب الاثر وعدمه ، أم كانتا بمعنى مطابقة المأتي به لما هو طرف اعتبار الشارع أو حكمه كما هو الاظهر على ما ستعرف ، لا تتصف الموضوعات بهما.

اما على الأول فلعدم تأثير الموضوع في الحكم وإلا لزم انقلاب المجعول التشريعي مجعولا تكوينيا كما نبه عليه المحقق النائيني.

واما على الثاني فلان اعتبار الشارع وحكمه إنما يصير فعليا بعد وجود الموضوع فمع عدمه ولو بنقص جزء أو شرط منه ، لا حكم ولا اعتبار أصلاً فلا مورد للنزاع.

حقيقة الصحة والفساد

الجهة السادسة : في بيان حقيقة الصحة والفساد.

فقد قال المحقق الخراساني (ره) (١) انهما وصفان اضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب اثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر ومن هنا صح ان يقال ان الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٢ (السادس).

١٥٠

فيهما بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس إليها تتصف بالتمامية وعدمها انتهى.

والظاهر انه ليس مراده كونهما من مقولة الاضافة التي هي عبارة عن شيئين إذا عقل أحدهما عقل الآخر ، كالأبوّة والبنوة ، حتى يقال انهما ليسا كذلك قطعا ، مع ان ما ذكر في وجه ذلك بقوله يختلفان بحسب الانظار ، لا يدل عليه : فان الأمور الحقيقية النظرية أيضاً تختلف باختلاف الانظار.

بل مراده كونهما من الصفات ذات الاضافة ، كالعلم مثلا ، لو كان من الصفات لا من الأفعال.

ولكن يرد عليه (قدِّس سره) ان الصفات الحقيقية ذات الاضافة ، وان كان يجوز اجتماع المتقابلات منها ، ككون الشخص عالما بشيء وجاهلا بآخر ، وكون شيء علة لشيء ومعلولا لآخر ، إلا ان ذلك في صورة اختلاف المضاف إليه لا مطلقا. وإلا فلا ريب في عدم جواز اجتماعها. ألا ترى انه لا يعقل كون الشخص عالما بشيء وجاهلا به.

وعلى ذلك ، فحيث انه (قدِّس سره) سيصرح بان معنى الصحة هي التمامية (١) ، فالمضاف إليه للتمامية ، ان كان هو الطبيعة الجنسية أو النوعية أو الصنفية ، فاجتماعهما في واحد الذي يكون مع اختلاف المضاف إليه إنما يتحقق بكون الشيء صحيحا تاما من طبيعة ، وفاسدا وناقصا من أخرى ، لا من حيث ترتب اثر دون آخر ، مثلا ، الخل صحيح وفاسد ، صحيح بالاضافة إلى الخل فاسد

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

١٥١

بالنسبة إلى ماء التمر ، وليس لترتب الاثر دخل في ذلك.

وان كان المضاف إليه للتمامية هو الاثر ، فالصحيح هو ما يترتب عليه جميع الآثار فان ترتب عليه اثر دون آخر ، لا يكون صحيحا فلا يصح ان يقال انه صحيح بلحاظ اثر دون آخر.

والحق في المقام ان يقال ان الصحة والفساد إذا اضيفتا إلى الأمور الخارجية ، يراد من الصحيح ما يترتب عليه الآثار المرغوبة منه ، ومن الفاسد ما لا يترتب عليه شيء من الآثار ، واما ما يترتب عليه بعض الآثار دون بعض فهو المعيب.

واما في الشرعيات ، فهما ليسا بهذا المعنى قطعا ، اما في المعاملات فلان البيع مثلا لا اثر له وثبوت الملكية وترتبها عليه إنما يكون حكما واعتبارا شرعيا ، وهو خارج عن قدرة البائع وفعل اختياري للمولى وفعل المكلف غير مؤثر فيه.

وبالجملة باب التأثير والتّأثر ، والعلية والمعلولية ، أجنبي عن الحكم وموضوعه وليس الموضوع سببا للحكم ومؤثرا فيه.

واما في العبادات ، وان كان يمكن تصوير هذا المعنى فيها بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، بدعوى ان الصحيح هو ما يؤثر في حصول المصلحة التي دعت المولى إلى الأمر بالفعل ، والفاسد ما لا يؤثر فيه إلا ان الصحيح والفاسد ، يطلقان فيها عند الاشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وبعض الامامية القائل بتبعيتها للمصالح في الجعل ، بما لهما من المعنيين اللذين يطلقان عليهما عند المشهور من العدلية.

١٥٢

فيستكشف من ذلك ، انه ليس مرادهم من الصحة والفساد ترتب الاثر وعدمه.

بل المراد بالصحة في الشرعيات انطباق الماتى به والموجود الخارجي على ما هو طرف اعتبار الشارع وحكمه ، ويكون شاملا لجميع قيوده ، وبالفاسد ، ما لا يكون كذلك ، مثلا إذا قال الشارع ان العقد العربي المقدم ايجابه على قبوله ، سبب للملكية ، فإذا اوجد الشخص البيع مع هذه القيود فهو صحيح وإلا فهو فاسد.

وبالجملة الصحة والفساد وصفان لا يتصف بهما إلا الموجود الخارجي ، ولا معنى معقول للقول بان طبيعة الصلاة صحيحة أو فاسدة ، واتصاف الموجود الخارجي بهما إنما يكون باعتبار انطباقه على ما اخذ متعلقا للحكم الشرعي ، وسببا للاعتبار وعدمه.

مجعولية الصحة والفساد وعدمها

الجهة السابعة : ان الصحة والفساد في العبادات والمعاملات ، هل هما مجعولان شرعا كسائر الأحكام الشرعية ، أو واقعيان ، أو يفصل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان شرعا في المعاملات دون العبادات كما اختاره الأستاذ (١) ، أو يفصل في المعاملات بين المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية

__________________

(١) راجع محاضرات في الاصول ج ٥ ص ٧ ـ ٨ (السادس).

١٥٣

فهما في الأول مجعولان شرعا دون الثانية كما اختاره المحقق الخراساني (ره) (١) أو يفصل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية ، فالثانية مجعولة دون الأولى كما اختاره المحقق النائيني (ره) (٢) فيه وجوه :

والتحقيق ان الصحة والفساد من الاوصاف الطارئة على الموجود الخارجي ، واما الماهيات مع قطع النظر عن طرو الوجود عليها فلا يعقل اتصافها بالصحة والفساد كما مر بيان ذلك مفصلا.

وعليه فالصحة الواقعية في العبادات والمعاملات غير مجعولة ، بل هي والفساد وصفان واقعيان لكونهما عبارتين عن انطباق الماتى به على المأمور به ، أو على الاسباب الشرعية ، وعدمه ، والانطباق وعدمه امران تكوينيان.

واما في موارد الأوامر الظاهرية بالنسبة إلى الأوامر الواقعية.

فالحق ان الصحة امر مجعول ما لم ينكشف الخلاف : إذ انطباق المأمور به بالامر الواقعي على الماتى به ، وان كان مشكوكا فيه إلا ان للشارع ان يتعبد بذلك وبترتيب آثار الصحة عملا ، وقد فعل ذلك في جميع موارد الأحكام الظاهرية ، غاية الأمر في بعضها بالصراحة كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز ، لاحظ قوله (ع) " بلى قد ركعت" (٣) ، وفي الآخر بالالتزام كما إذا صلى مع الطهارة المستصحبة : فان دليل الاستصحاب يدل بالالتزام على جعل الصحة

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٤.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٠٩ (ورابعها التفصيل).

(٣) التهذيب ج ٢ ص ١٥١ ح ٥٠ / الوسائل ج ٦ ص ٣١٧ ح ٨٠٧٠.

١٥٤

للمأتى به وانطباقه على المأمور به.

واما إذا انكشف الخلاف فان كان ذلك قبل فوات محل تدارك الجزء الناقص مثلا ، فلا محالة لا يحكم بالصحة إلا بعد الاتيان به لان موضوع الحكم بالصحة كان هو الشك وقد ارتفع ، وان كان بعد فوات محل التدارك وكان الناقص مما لا يوجب نقصه البطلان.

فالحق هو تبدل الصحة الظاهرية حينئذ بالصحة الواقعية : إذ لو لم يرفع الشارع التكليف عن الناقص ، كان اللازم الاتيان به ، ولو رفع التكليف عنه وسقط عن الجزئية كان الماتى به صحيحا واقعا.

وبذلك ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) الملتزم بكون الصحة امرا مجعولا حتى في صورة كشف الخلاف.

بدعوى ، انه في هذه الصورة يفرض الشارع ما أتى به مطابقا للمأمور به ، إذ لا يمكن الحكم بالصحة مع عدم رفع اليد عن التكليف بما لم يأت به ، ومعه يكون صحيحا واقعا لا ظاهرا كي تكون الصحة مجعولة.

ثم ان المحقق الخراساني بعد اختياره ان الصحة في العبادات بمعنى ، سقوط الاعادة والقضاء في المأمور به الواقعي ، إنما هي امر واقعى ومما يحكم به العقل.

قال (١) وفي غيره ربما يكون مجعولا ، والتعبير ب (ربما) اشارة إلى انه ان كان الماتى به المنطبق عليه المأمور به بالامر الاضطراري ، أو الظاهرى وافيا بجميع ما

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٤.

١٥٥

يكون المأمور به بالامر الواقعي الأولى وافيا به من المصلحة ، أو كان وافيا بالمهم منها بحيث كان الباقي غير لازم الاستيفاء يكون السقوط غير مجعول ، بل هو حينئذ امر واقعى.

ولكن حيث لا طريق لنا إلى كشف الملاكات وكون الماتى به وافيا بالجميع لا محالة تكون الصحة مجعولة دائما وقد مر الكلام في ذلك في مبحث الاجزاء.

ثم انه (قدِّس سره) قال (١) نعم الصحة والفساد في الموارد الخاصة لا يكاد يكونان مجعولين بل هي إنما تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به انتهى.

ولكن يرد عليه انه مع فرض مجعولية الصحة للكلى لا معنى لعدم كون الصحة في الموارد الخاصة مجعولة ، إذ بعد فرض كون تعلق الأحكام بالطبائع على نحو القضية الحقيقية ، لا يعقل عدم سراية الحكم المجعول إلى الفرد ، إذ الجعل المتعلق بالطبيعي إنما هو جعل على الأفراد المقدر وجودها ، وبعد وجودها يصير المجعول فعليا ، فالصحة في الموارد الخاصة تكون مجعولة على فرض كون الصحة مجعولة على الكلي كما هو الشأن في جميع الأحكام التكليفية والوضعية كما لا يخفى.

ثم ان المحقق الخراساني (ره) (٢) ذهب في المعاملات إلى التفصيل بين الكلية منها ، كالبيع ، والاجارة ، والصلح ، والنكاح ، وما شاكل ذلك ، وبين الخارجية الشخصية فبنى على انهما في الأولى مجعولان شرعا ، وفي الثانية منتزعان واقعا

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الاصول ص ١٨٤ (واما الصحة في المعاملات).

١٥٦

بدعوى ان المأخوذ في ادلة الامضاء هو المعاملات الكلية ، واما الشخصية فإنما تتصف بهما لأجل انطباق المعاملة الخارجية مع ما هو المجعول سببا ، وعدمه.

وفيه : ان الصحة والفساد بمعنى مطابقة الموجود الخارجي لما جعل سببا في الأحكام الوضعية ، لا يكونان مجعولين في المعاملات أيضاً ، فان انطباق الكلي على الفرد كان الكلي امرا تكوينيا أم جعليا ، عقلي قهرى.

وان شئت قلت ان المجعول الشرعي هو جعل شيء خاص سببا ، وفي هذا المقام لا معنى للصحة والفساد ، لانهما من صفات الموجود الخارجي ، وهو إنما يتصف بهما باعتبار انطباق المجعول الشرعي عليه وعدمه ، والانطباق وعدمه لا يكونان مجعولين فهما في المعاملات أيضاً غير قابلين للجعل بل امران واقعيان.

مع انه إذا كانت الصحة مجعولة للكلى لا محالة تكون صحة كل فرد مجعولة ولا يعقل التفكيك.

الاصل في المسألة

الجهة الثامنة : لا اصل في المسألة يعول عليه في المسألة الأصولية ، إذ الاصل المتوهم وجوده ليس إلا الاستصحاب ، ولا مجرى له في المقام ، إذ الملازمة وان لم تكن داخلة تحت احدى المقولات لكنها من الأمور الواقعية الازلية ، وليست لها حالة سابقة ، فان كانت موجودة فهي من الازل وإلى الابد كذلك فلا يتصور اليقين باحد الطرفين في زمان والشك فيه في زمان آخر ، بل الشك فيها دائما إنما هو في اصل ثبوتها من الازل وعدم ثبوتها كذلك.

١٥٧

واوضح من ذلك ما لو كان النزاع في دلالة النهي على الفساد لفظا وعدم دلالته عليه إذ عدم الاصل على هذا الفرض ظاهر.

واما في المسألة الفرعية ففي الكفاية (١) ، نعم ، كان الاصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة ، واما العبادة فكذلك لعدم الأمر بها مع النهي عنها.

قال المحقق النائيني (ره) (٢) ان الاصل في المعاملة هو الفساد مطلقا.

واما العبادة فان كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد الماتى به وعدم سقوط امرها ، واما إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحة والفساد عند الشك يبتنى على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال عند الشك في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.

أقول : ان ما ذكراه غير مربوط بما هو محل الكلام إذ الكلام في المقام ليس في حكم مطلق الشك في الصحة والفساد إذ هو موكول إلى محله.

وإنما الكلام في المقام في خصوص الشك في الصحة من جهة تعلق النهي.

فالحري في المقام ان يقال : ان الاصل في المعاملات هي الصحة وفي العبادات هو الفساد.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٤ (السابع).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٩٣ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢١٢ (المقدمة السادسة).

١٥٨

اما في المعاملات ، فلان مورد النزاع ينحصر في وجهين :

الأول : استلزام النهي عقلا لتقييد إطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى ما تعلق به.

الثاني : استلزامه لذلك عرفا وبالدلالة الالتزامية ، وعلى كل تقدير يشك في تقييد الإطلاق ، والاصل عدمه.

وبعبارة أخرى : يحكم بالصحة للاطلاق أو العموم. نعم ، إذا لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة الاصل هو الفساد إلا انه خارج عن محل الكلام.

واما في العبادات فيتصور هناك نزاع آخر.

وهو انه هل يمكن التقرب بالمبغوض أم لا؟

وعلى كل تقدير لا كلام في تقييد إطلاق الأمر ، إذ لو فرض الشك في استلزام المبغوضية لاستحالة التقرب والشك في ظهور اللفظ في الفساد ، إلا انه لا يتصور الشك في تقييد إطلاق الأمر لانهما ضدان لا يجتمعان. فإذا لم يكن هناك امر ، وحيث ان ملاكه أيضاً ليس فان ملاكه المصلحة غير المغلوبة للمفسدة ، والمفروض من فعلية النهي وسقوط الأمر غلبة ملاك النهي ، فلا يمكن التقرب به والحكم بصحتها إذ صحة العبادة متوقفة على الأمر بها أو اشتمالها على ملاك الأمر والمفروض عدمهما.

١٥٩

وبما ذكرناه سيما في العبادات ظهر ما في كلمات المحقق الأصفهاني (١) حيث انه التزم ، بان الاصل هو الفساد إذا كانت عقلية من جهة الشك في ان التقرب بالعبادة مع المبغوضية الفعلية ، هل يتنافيان أم لا؟ فان ذلك موجب للفساد بحكم قاعدة الاشتغال.

إذ يرد عليه ان الشك ليس في مانعية المبغوضية بل في صلاحية الملاك للتقرب.

النهي المتعلق بذات العبادة

إذا عرفت هذه الجهات فالكلام يقع في مقامين :

الأول : في العبادات.

الثاني : في المعاملات.

اما المقام الأول : فملخص القول فيه ، ان النهي المتعلق بها يتصور على اقسام :

الأول : ما يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صوم يوم العيد.

الثاني : ما يتعلق بجزئها كالنهي عن قراءة سورة العزيمة في الصلاة.

الثالث : ما يتعلق بشرط العبادة كالنهي عن التستر بثوب مغصوب أو

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٩٠ (في الاصل في المسألة) بتصرف.

١٦٠