زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم المركب ، لا لان الشك في بقاء عدم المركب مسبب عن الشك في وجود اجزائه ، فإذا جرى الاصل فيه لا تصل النوبة إلى جريان الاصل في المسبب ، كما عن المحقق النائيني (ره) (١)

فان السببية في المقام ليست شرعية ، فلا يكون الاصل في السبب حاكما على الاصل في المسبب.

بل : لان المركب من حيث انه مركب بوصف الاجتماع ، لا يكون موضوعا للحكم ، وإنما هو مترتب على ذوات الاجزاء المجتمعة ، ولا شك فيها بعد ضم الوجدان إلى الاصل.

نعم ، إذا كان وصف المقارنة أو غيرها دخيلا في الحكم يجرى استصحاب العدم ، ويترتب عليه عدم الحكم ، ولا يعارض باستصحاب وجود الجزء وضمه إلى الوجدان كما لا يخفى.

وفي القسم الثاني : لا بد من اخذ الموضوع هو المعروض المتصف بذلك العرض ، لا مجرد وجود المعروض والعرض ، واجتماعهما في الوجود ، وذلك لان وجود العرض في نفسه وجود في الغير وعين وجوده لموضوعه.

وعليه ، فان اخذ وجود العرض في الموضوع ، بما هو شيء في نفسه ولم يلاحظ كونه في الغير ، ووصفا له ، فيخرج عن هذا القسم ، ويدخل في القسم الأول ، ولا بد من الالتزام بترتب الاثر وان كان العرض موجودا في غير هذا الموضوع وهو خلف الفرض.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٧٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٣٩ بتصرف.

٣٤١

وان اخذ بما هو قائم بالذات وعرض ، فلا محالة يعتبر العرض نعتا ، ففي ترتب الحكم لا بد من احراز اتصاف الموضوع بالعرض زائدا على احراز وجود الموضوع ووجود العرض ، وفي مثل ذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب واحراز الموضوع ، إلا إذا كان الوصف بوصف كونه نعتا مسبوقا بالحالة السابقة.

وفي القسم الثالث : يمكن ان يكون الحكم مترتبا على عدم الوصف ، بنحو النعتية ، وبنحو الموجبة المعدولة ، ويكون العدم رابطيا بمعنى اخذ خصوصية فيه ملازمة لعدم العرض ، وإلا فلا معنى لكون العدم نعتا ومنتسبا ومرتبطا بشيء ، فان الارتباط والنسبة من شئون الوجود ، وفي مثل ذلك لا مورد لجريان الاستصحاب في العدم ، واحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الاصل ، ما لم يكن العدم بوصف النعتية مسبوقا باليقين إذ لا يثبت به العدم النعتي ، لكون المستصحب هو العدم المحمولي واثبات العدم النعتي به من قبيل الاصل المثبت ، مثلا ، لو كان موضوع الحكم بالتحيض إلى خمسين عاما ، هي المرأة المتصفة بانها غير قرشية لا يجدي استصحاب عدم القرشية المتحقق قبل وجود المرأة لأنه لا يثبت به اتصاف هذه المرأة بغير القرشية.

ويمكن ان يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي ، بل هذا النحو هو الظاهر من القضايا المتضمنة لاخذ العدم في الموضوع ، فان وجود العرض في نفسه وان كان عين وجوده لموضوعه ، إلا ان عدم العرض ليس كذلك ، ولا يلزم ان يكون نعتا بل هو إنما يكون بعدم نسبته إلى موضوعه ، وعدم تحقق العرض بنفسه ، فلا يعتبر فيه ملاحظة النسبة بينه وبين الموضوع.

٣٤٢

وبالجملة ، الربط وان كان مأخوذا في طرف الوجود ، إلا انه لا يكون ماخوذا في طرف العدم ، وعلى ذلك فاخذ عدم العرض في الموضوع إنما يكون بالطبع باخذه على ما هو عليه من كونه عدما محموليا لا عدما نعتيا ، وفي مثل ذلك يجرى الاستصحاب في عدم الوصف الثابت قبل وجود الموضوع والمعروض ، ويحرز الموضوع بضم الوجدان إلى الاصل ، ويترتب عليه الحكم ، مثلا إذا كان الموضوع للتحيض إلى خمسين عاما المرأة التي لا تكون متصفة بالقرشية ، فباستصحاب عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش المتحقق قبل وجود المرأة ، وضمه إلى ما هو محرز بالوجدان ، وهو وجود المرأة يثبت الحكم ويترتب عليه ذلك.

هذا فيما إذا أحرز احد الامرين ، ولو شك في مورد ان المأخوذ في الموضوع ، هل هو العدم المحمولي ، أو العدم النعتي.

فقد يقال كما عن المحقق النائيني (ره) (١) بان الاعتبارين متباينان ، فليس أحدهما متيقنا والآخر مشكوكا فيه فلا يمكن ترتيب اثر أحدهما المعين.

وهو غير تام : فان اعتباره نعتا يحتاج إلى عناية زائدة بان يؤخذ في الذات خصوصية ملازمة لعدم الوصف ، لما عرفت من ان العدم من حيث هو لا معنى لانتسابه وارتباطه فانهما من شئون الوجود.

وعليه ، فما لم يدل دليل على اخذه كذلك يتعين حمله على ان المأخوذ هو العدم المحمولي.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٦٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٢٦ بتصرف.

٣٤٣

المقدمة الثالثة : انه إذا ورد عام ثم ورد خاص وكان عنوان الخاص من قبيل الاوصاف ، كما إذا ورد (المرأة تحيض إلى خمسين عاما) ثم ورد (ان القرشية تحيض إلى ستين عاما) فهو يكون كاشفا عن تقييد المراد الواقعي ، وعدم جعل الحكم للخاص من أول الأمر واقعا ، ولازم ذلك ، ان ما ثبت له الحكم واقعا هو المقيد وملحوظا بنحو التقييد إذ مع عدم الاهمال في الواقع ، وعدم الإطلاق يتعين التقييد.

وذهب المحقق العراقي (ره) (١) إلى انه في مثل ذلك لا يتعنون العام من جهة التخصيص ، واستدل له : بان خروج فرد كموته في الخارج فكما ان الموت يوجب قصر الحكم على الأفراد الباقية من دون ان يعنون عنوان العام بعنوان آخر زائدا على ما كان عليه ، كذلك إذا خرج فرد عن تحت العام بدليل خاص.

وفيه : ان دليل التخصيص إنما يوجب تضييق الموضوع في مقام الجعل ، وانه لم يجعل إلا على أفراد لا تكون داخلة تحت دليل الخاص ، وهذا بخلاف الموت ، فانه يوجب عدم فعلية الحكم من دون ان يوجب تصرفا في مقام الجعل ، وهذا هو الفارق بينهما.

فالتخصيص يوجب التقييد ولكن دليل الخاص لا يوجب تقييد العام بكونه متصفا بعدم ذلك الوصف ليكون الموضوع مركبا من الذات ، وعدم الوصف بنحو العدم النعتي كي لا يجدي استصحاب عدمه الثابت قبل وجود

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٢ ص ٥١٩ عند قوله : «فكما ان خروج من مات منها لا يوجب تعنون الافراد الباقية ...».

٣٤٤

الذات.

وذلك : فان غاية ما يلزم من التخصيص وخروج عنوان عن تحت دليل العام كونه غير مطلق بالاضافة إلى وجود ذلك الوصف ولا مقيدا بوجوده ولا مهملا ، بل مقيدا بعدم اتصافه بوجوده ، واما زائدا على ذلك بان يعتبر النسبة بين الذات والعدم بالنحو المعقول فدليل التخصيص ، لا يدل عليه ، فلا وجه لاعتباره ، والبرهان المتقدم على ان لازم اخذ عدم العرض في الموضوع أو المتعلق دخله فيه على نحو العدم النعتي ، قد عرفت ما فيه.

واما ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) برهانا عليه بأنه إذا كان دليل التخصيص كاشفا عن تقييد ما ورافعا لاطلاق العام ، فلا بد وان يكون ذلك باعتبار اوصافه ونعوته التي يكون انقسام العام باعتبارها في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته ، فيرجع التقييد إلى التقييد بالعدم النعتي ، إذ لو كان راجعا إلى التقييد بعدم المقارنة للوصف على نحو مفاد ليس التامة ، فاما ان يكون ذلك مع بقاء الإطلاق بالنسبة إلى كون العدم نعتا ، أو يكون ذلك مع التقييد بالاضافة إلى العدم النعتي ، وكلاهما باطل.

اما الأول : فللزوم التدافع بين الإطلاق من جهة العدم النعتي ، والتقييد بالعدم المحمولي.

واما الثاني : فللزوم لغوية التقييد بالعدم المحمولي لكفاية التقييد بالعدم النعتي.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٦٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٣٤. (والسر في ذلك).

٣٤٥

فيرد عليه : اولا : انه مع تحقق العام يكون كل من العدمين ملازما للآخر خارجا فلا يبقى مجال مع التقييد باحدهما للتقييد بالآخر أو الإطلاق بالاضافة إليه ، وان شئت فقل ان انقسام العام بالاضافة إلى نعوته واوصافه ، وان كان في مرتبة سابقة على انقسامه بالاضافة إلى مقارناته في طبعه ، إلا ان كونه كذلك في مقام الدخل في الغرض ولو في لحاظ المولى وفي مقام جعل الحكم ممنوع.

وعليه ، فعين البرهان المتقدم يجرى لو قيد العام بالعدم النعتي ، ويقال ، ان العام بالاضافة إلى العدم المحمولي مطلق أو مقيد ، وكلاهما باطل ، والحل ما ذكرناه.

وثانيا : انه يمكن ان يختار الشق الأول على فرض التنزل وهو كونه مطلقا بالاضافة إلى العدم النعتي ، وليس معنى الإطلاق ، دخل جميع القيود في الحكم حتى يلزم التدافع ، بل معناه رفض القيود فلا تدافع.

إذا حققت هذه المقدمات تعرف ان خروج الخارج عن تحت العام وهو في المثال عنوان القرشية يستلزم اخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على نحو التقييد بعدم اتصاف المرأة بذلك الوصف ، فيكون الباقي بعد التخصيص هي المرأة التي لا تكون متصفة بالقرشية.

وعليه فلو شك في كون امرأة قرشية لا مانع من التمسك باستصحاب عدم القرشية المتحقق قبل تولد المرأة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فيثبت الموضوع المركب من وجود المرأة ، وعدم اتصافها بالوصف الذي هو الموضوع للعام بعد التخصيص.

فالمتحصّل ان ما أفاده المحقق الخراساني متين لا يرد عليه شيء مما اوردوه

٣٤٦

عليه ، فالاصل في العدم الازلي يجرى.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) اورد على المحقق الخراساني بايرادات اخر :

منها : ان ما أفاده من ان العام يكون معنونا بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، يناقض ما أفاده في صدر كلامه من ان العام بعد التخصيص لا يكون معنونا بعنوان خاص.

وفيه : ما عرفت من ان مراده بقوله ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، ان التخصيص يوجب تعنون الموضوع وتقيده بعدم كونه متصفا بذلك الوصف الوجودي ـ وبعبارة أخرى ـ كل عنوان وجودي أو عدمي فرض تحققه في طرف العام ، فهو لا ينافي ثبوت الحكم له ، إلا العنوان المأخوذ في الخاص ولا يضر وجوده ولا عدمه ، فلا تناقض بين كلماته.

ومنها : جعله التخصيص بالمتصل إذا كان بالاستثناء كالمخصص المنفصل في عدم كونه موجبا لتعنون العام بعنوان خاص ، غير صحيح فان المخصص المتصل إنما يوجب انعقاد الظهور التصديقي في غير عنوان الخاص ، وقد اعترف هو بذلك.

وفيه : ان مراده بما ذكره ان التخصيص بالاستثناء لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص ، بل غاية ما يترتب عليه ، اعتبار عدم اتصاف العام بالوصف المأخوذ في الخاص ، وهذا لا ينافي مزاحمة المخصص للدلالة التصديقية فيما قال ، لدليل العام كما لا يخفى.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٤٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٣٤٧

ومنها : انه (ره) عدل عن إجراء اصالة العدم في نفس عنوان القرشية المأخوذ في لسان الدليل إلى إجراء اصالة العدم في العنوان الانتزاعي ، وهو عنوان الانتساب إلى قريش وهذا لاوجه له.

وفيه : ان عنوان القرشية ، والانتساب إلى قريش ، امر واحد والاختلاف إنما هو في التعبير.

التمسك بالعام في غير مقام التخصيص

ثم ان المحقق الخراساني ذكر في الكفاية (١) ، انه ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل (اوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلقا للنذر ، بان يقال وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم وكلما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر ثم اخذ في النقد على ذلك.

وتمام الكلام في المقام بالبحث في موارد :

الأول : ان ما ذكره هذا البعض من التمسك بعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر هو بعينه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية غاية الأمر مع اثبات

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤ (وهم وإزاحة).

٣٤٨

ان المشكوك فيه من الأفراد الباقية تحت العام لا الأفراد الخارجة الذي اعترف المحقق الخراساني بأنه يثبت به (١).

توضيح ذلك : ان اوفوا بالنذر إنما يكون عاما ، ومقتضى عمومه وجوب الوفاء بكل نذر ، خرج عنه ما إذا كان المتعلق غير راجح في نفسه ، فإذا شك في رجحان الوضوء بالماء المضاف وعدمه ، لأجل عدم الدليل ، فيشك في كون النذر المتعلق به مما يجب الوفاء به أم لا؟ فيتمسك بالعموم بناء على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ويحكم بلزوم الوفاء بالنذر المتعلق بالوضوء بالمضاف ، ويترتب عليه صحة الوضوء به ، إذ لو لم يكن صحيحا لما وجب الوفاء به.

وعلى ذلك ، فلا مورد لهذا الاستيحاش من صاحب الكفاية مع انه ممن يرى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا.

الثاني : انه (قدِّس سره) افاد انه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لاحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها ، إذا اخذ في موضوعاتها احد الأحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الأولية كما هو الحال في وجوب الوفاء بالنذر.

وملخص ما ذكره ان العنوان الثانوي المأخوذ في موضوع الحكم الشرعي.

قد يكون موضوعا لحكمه مطلقا. وقد يكون موضوعا له إذا كان العنوان الأولى للموضوع محكوما بحكم خاص.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٤.

٣٤٩

فان كان على النحو الثاني كما في النذر ، فانه موضوع لوجوب الوفاء إذا كان المنذور محكوما بحكم خاص ، وكونه راجحا لا مطلقا ، وشك في ثبوت ذلك الحكم الخاص ، وهو رجحان المنذور في نفسه لا مورد للتمسك بالعموم ، لان الشك حينئذ شك في الموضوع ومعه لا مورد للتمسك بعموم الحكم.

وان كان على النحو الأول ، فان شك في ثبوت حكم العام للفرد ، صح التمسك بالعموم لاثباته كما في العناوين الأولية ، وحينئذٍ ان كان محكوما بعنوانه الأولى بغير حكمه بالعنوان الثانوي ، وقعت المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الاقوى منهما لو كان ، وإلا لم يؤثر أحدهما ويحكم بحكم آخر كالاباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر مقتضيا للحرمة.

وفي كلا شقي كلامه نظر :

اما الأول : فلما مر من كون ذلك تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، وعليه ، فما ذكره وان صح على ما بنينا عليه من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا ، لكنه لا يتم على مسلكه ، بل عليه ان يقيد جوابه بأنه لا يجوز التمسك لو كان دليل اعتبار رجحان المنذور متصلا ، أو منفصلا لفظيا ، كما هو واضح.

واما الثاني : فلان المورد داخل في باب التعارض لا التزاحم ، إذ العنوانان منطبقان على موجود فارد فلا وجه للرجوع إلى مرجحات باب التعارض ، وحيث ان النسبة بينهما عموم من وجه ، فان كان دليل العنوان الثانوي حاكما على دليل العنوان الأولى ، كما في لا ضرر بالنسبة إلى دليل الوضوء مثلا ، فيقدم هو ، وإلا فلا بد من اعمال قواعد التعارض بين العامين من وجه المذكورة في

٣٥٠

محله.

مع ان ما ذكره في المقام ، ينافي ما اختاره ، من عدم مزاحمة ادلة العناوين الأولية لادلة العناوين الثانوية ، وان التوفيق العرفي يقتضي تقديم الثانية مطلقا.

الثالث : ان المحقق الخراساني ذكر في وجه صحة الصوم في السفر بنذره فيه بناء على عدم صحته فيه بدونه ، وكذا الاحرام قبل الميقات امورا :

الأول : ان صحتهما إنما تكون لدليل خاص كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات وإنما لم يؤمر بهما لمانع يرتفع مع النذر.

وفيه : ان المانع من الأمر بهما ، ان كان هي المفسدة التي بقدرها أو ازيد فهما ليسا راجحين فلا يجب الوفاء بالنذر المتعلق بهما ، فان قلت بعد تعلق النذر يصيران كذلك ، قلت فيرجع هذا الجواب إلى الجواب الثاني ، وان كان غيرها ، بمعنى ان هناك مانع عن البعث فلا بد وان يلتزم بصحة الصوم في السفر ، والاحرام قبل الميقات لو أتى بهما بقصد المحبوبية من دون قصد الأمر ، ولم يلتزم بذلك فقيه.

الثاني (١) : ان دليل صحتهما يكشف عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلق النذر بهما.

وفيه : ان ذلك العنوان الحسن الذي يصير الفعل راجحا ، إنما يستحق فاعله المدح إذا اتاه عن قصد لما تقدم مرارا من ان العناوين التي يختلف بها

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٥ (فانه يقال ..).

٣٥١

حسن الفعل وقبحه كعنواني التاديب ، والتشفي ، المنطبقين على ضرب اليتيم ، لا بد وان تقصد وإلا لا يقع الفعل حسنا ، والقصد يتوقف على العلم ، وحيث ان ذلك العنوان مجهول ومغفول عنه ، فلا يكون سببا لرجحان الفعل وعباديته.

الثالث (١) : انه يكفي الرجحان الطارى عليهما من قبل النذر في عباديتهما بعد تعلق النذر باتيانهما عبادة أو متقربا بهما منه تعالى وان لم يتمكن من اتيانهما كذلك قبله ، إلا انه يتمكن منه بعده ولا يعتبر في صحة النذر ، إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، والشاهد على كفاية ذلك في المقام النص الخاص المخصص لعموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر.

وفيه : انه ان اريد من الرجحان الطارى من قبل النذر انطباق عنوان راجح على المنذور ، بعد النذر ، فيرد عليه ما اوردناه على الوجه الثاني ، بل مرجعه إليه ، وان اريد منه الرجحان الطارى بسبب النذر من حيث انه يوجب تعلق الأمر النذرى به فيصير راجحا فيرد عليه : انه ينافي ما ذكره سابقا من ان الأمر النذرى توصلي لا يعتبر في سقوطه إلا الاتيان بالمنذور بأي داع كان.

نعم ، يتم هذا الوجه بناء على ما حققناه في محله من ان التعبدية والتوصلية ليستا من صفات الأمر والوجوب ، بل هو فيهما على نسق واحد وسنخ فارد ، وإنما هما من صفات الواجب ، إذ الغرض منه ، تارة يحصل لو أتى به بقصد القربة ، وأخرى يحصل لو اتى به بأي داع كان ، والأول تعبدي والثاني توصلي ، وعليه فسقوط الأمر بالوفاء بالنذر في التعبدية والتوصلية تابع

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٢٥ (فانه يقال ..).

٣٥٢

للمنذور ، فان كان عباديا لا يسقط إلا إذا أتى به بقصد القربة ، وإلا فيسقط بأي داع كان ، وفي المقام بما ان المنذور يكون الاتيان بهما عبادة ، فلا يسقط الأمر بالوفاء إلا باتيانهما كذلك فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.

وبالجملة ان صحة الاحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر إنما هما من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك.

وعليه فاما ان يجعل هذه الروايات مخصصة ، لما دل على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه ، واما ان يكون نذر الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ملازما واقعا لجهة موجبة للرجحان ، أو يكون النذر الجامع لشرائط الصحة سوى شرط الرجحان موجبا لرجحان المتعلق ، وعلى أي تقدير لا يكون ذلك دليلا على صحة التمسك بأدلة وجوب الوفاء بالنذر في مسألة الوضوء مثلا ، بل ولا يصلح للتأييد ، إذ غاية ما قيل في وجه التأييد احتمال كشف النص الخاص عن صلاحية عموم الوفاء بالنذر ، لاقتضاء الصحة ولو في حال النذر.

ولكنه كما ترى فان مرجع ما ذكر إلى كشف النص عن ان النذر يوجب قلب حكم العنوان الأولى ، ويؤثر في صحة المتعلق بعد فرض العلم بالبطلان قبل النذر ، وهذا غير مربوط بما هو محل البحث والكلام من الشك في دخوله في المخصص ، وإرادة اثبات صحته بما دل على وجوب الوفاء بالنذر بعد التمسك بعمومه ، لا قلب الحكم المترتب على العنوان الأولى.

٣٥٣

التمسك بالعام مع معلومية الحكم

بقي امران :

الأمر الأول : إذا علم ان فردا محكوم بحكم خلاف حكم العام ، وشك في انه من مصاديق العام فقد خصص العام به ، أم لا؟ كما إذا علم ان زيدا لا يجب اكرامه ، وشك في انه عالم فقد خصص ما دل على وجوب اكرام كل عالم ، أو جاهل يكون خروجه عنه تخصصا ، فهل يجوز التمسك ، باصالة العموم ، واصالة عدم التخصيص ، لاحراز عدم كونه من مصاديق العام ، بحيث يترتب عليه ساير ما لغير موضوع العام من الأحكام أم لا؟ قولان.

فعن الشيخ الأعظم (١) اختيار القول الأول ، وهو الظاهر من جماعة من الفقهاء حيث تمسكوا ، بما دل على طهارة ملاقي ماء الاستنجاء من الروايات على طهارة الماء نفسه بدعوى انه لو كان نجسا لصار سببا لنجاسة ملاقيه ، أو كان دليلها مخصصا لعموم ما دل على ان الملاقي للماء النجس نجس ، فبضم اصالة العموم في ذلك الدليل ، بما دل على طهارة ملاقي ماء الاستنجاء يحكم بأنه طاهر (٢).

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ١٩٤ (هداية : إذا علم تخصيص العام بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحق صحة التعويل عليه ...).

(٢) هذا الاستدلال نسبه آية الله السيد الخوئي (قدِّس سره) إلى بعض الأصحاب ، كما في المحاضرات ج ٥ ص ٢٣٧.

٣٥٤

ونظيره تمسك الاصوليين باطلاقات التحذير على مخالفة الأمر (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) لاثبات ان الأمر الندبي لا يكون امرا حقيقيا.

والمحقق الخراساني في مبحث الصحيح والاعم (٢) ذهب إلى هذا المسلك حيث استدل على كون الصلاة اسما لخصوص الصحيحة بالاخبار المتضمنة لترتب الآثار على الصلاة ، ولكنه في المقام (٣) استشكل في جواز التمسك باصالة العموم.

وقد استُدِل للجواز بوجهين :

الأول : ان ظاهر مثل اكرم العلماء جعل الملازمة بين عنوان العالم ، ووجوب الاكرام ، فكما ان مقتضى طرد القضية ثبوت الحكم كلما ثبت الموضوع ، كذلك قضية عكسها انتفاء الموضوع كلما انتفى الحكم.

وفيه : ان ظاهر القضية جعل الحكم من لوازم ثبوت الموضوع ، لا التلازم من الطرفين.

الثاني : انه من القواعد المنطقية المسلمة انه من لوازم القضية الموجبة الكلية عقلا عكس نقيضه ، مثلا من لوازم قولنا (كل انسان حيوان) ، (كل ما ليس بحيوان ليس بانسان) فمن لوازم اصالة العموم الجارية في العمومات

__________________

(١) الآية ٦٣ من سورة النور.

(٢) كفاية الاصول ص ٢٩ (ثالثها : الاخبار).

(٣) كفاية الاصول ص ٢٢٦ قوله : «وفيه اشكال لاحتمال اختصاص حجيتها بما اذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه ...».

٣٥٥

عكس نقيض القضية ، مثلا من لوازم (اكرم كل عالم) انه كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم ، وحيث ان اصالة العموم من الأصول اللفظية ، والامارات فتكون حجة في لوازمها ، فيثبت باصالة العموم ، عدم فردية ما علم انه غير مشمول لحكم العام من مصاديق العام.

وفيه : ان مدرك حجية اصالة العموم إنما هو بناء العقلاء ، فلا بد من ملاحظة ثبوت هذا البناء في كل مورد بالنسبة إلى مداليل الكلام ، إذ لم يرد دليل خاص على حجية مثبتات الامارات ، كي يتمسك باطلاقه ، وعلى ذلك فبناء العقلاء ، إنما هو على حجية اصالة العموم في مدلولها المطابقي ، والمدلول الالتزامى في فرض ثبوت الدلالة المطابقية ، فلو شك في شمول الحكم لفرد تجرى اصالة العموم ، ويترتب عليها الحكم ولوازمه ، واما مع العلم بعدم شمول الحكم لفرد ، فلا دليل على حجية اصالة العموم الجارية بالنسبة إلى ساير الأفراد في اثبات عدم فردية هذا المشكوك فيه.

وان شئت قلت ان حجية الإمارة في مثبتاتها تابعة لمقدار دلالة دليل تلك الإمارة ، وفي المقام لم يثبت بناء من العقلاء على حجية اصالة العموم بالنسبة إلى مثل هذا اللازم.

فتحصل ان الأظهر عدم جواز التمسك باصالة العموم في المقام.

الامر الثاني : انه إذا دار امر ما علم خروجه عن حكم العام بين فردين أحدهما فرد للعام ، والآخر ليس فردا له ، كما إذا ورد (لا تكرم زيدا) وتردد زيد بين زيد العالم ، وغيره ، فهل يجوز التمسك باصالة العموم لاثبات وجوب اكرام زيد العالم ، أم لا يجوز؟

٣٥٦

فيه وجهان :

اظهرهما الأول : لفرض ان الشك يكون في خروج فرد من العام المعلوم فرديته عن حكم العام ، وبذلك يثبت ان زيد الجاهل محكوم بعدم وجوب الاكرام :

والسر في ذلك ما تقدم من ان مورد التمسك باصالة العموم ، العلم بالفردية والشك في الحكم ، وإنما لم نتمسك بها في المسألة السابقة من جهة انه كان هناك الحكم معلوما وكان الشك في الفردية وفي هذه المسألة الأمر بالعكس.

واستدل للقول الثاني بان العلم الاجمالي بحرمة اكرام أحدهما المردد بين العالم والجاهل موجب لترك اكرامهما ، واصالة العموم لا توجب انحلاله لعدم تكفلها لبيان حال الأفراد بخلاف الإمارة القائمة على ان زيد العالم يجب اكرامه.

وفيه : ان لاصالة العموم مدلولين مطابقيا ، والتزاميا ، والأول وجوب اكرام زيد العالم ، والثاني انتفاء الحرمة عنه ، واثباتها لزيد الجاهل باعتبار حجيتها في مثبتاتها فلا محالة ينحل العلم الاجمالي بعلمين تفصيليين ، هما ، العلم بوجوب اكرام زيد العالم ، والعلم بحرمة اكرام زيد الجاهل.

اللهم إلا ان يقال انه لا إطلاق لدليل حجية اصالة العموم ليثبت به حجيتها في مثبتاتها كما تقدم ، فتدبر فان المسألة غير خالية عن الاشكال.

العمل بالعام قبل الفحص

الفصل الثاني : المشهور بين الاصحاب عدم جواز العمل بالعام قبل

٣٥٧

الفحص عن المخصص ، وعن النهاية دعوى الإجماع عليه ، وعن ظاهر التهذيب اختيار الجواز وتبعه جماعة ، ونقل التفصيل بين ضيق الوقت ، فالجواز وبين عدمه فالمنع عن بعض.

وتنقيح القول بالبحث في موارد :

الأول : في الاخذ بالعام قبل الفحص عن المخصص.

الثاني : في مقدار الفحص.

الثالث : في انه هل هناك فرق بين احتمال المخصص المتصل والمنفصل ، أم لا؟.

الرابع : في انه هل هناك فرق بين الفحص هنا ، والفحص في موارد الأصول العملية ، أم لا؟

اما المورد الأول : فقد استدل لعدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص عن المخصص بوجوه :

الأول : ما عن المحقق القمي (ره) (١) : وهو ان خطابات الكتاب والسنة مختصة بالمشافهين ولا بد لاثبات الحكم للغائبين والمعدومين من التمسك بدليل قانون الاشتراك في التكليف ، ومعلوم ان التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين من تلك الخطابات وانه عام أو خاص ، وتعيين ذلك يتوقف

__________________

(١) قوانين الاصول ص ٣٤٤ عند قوله : «على ما هو الحق من اختصاص الخطابات بالمشافهين ...».

٣٥٨

على الفحص ، فإذاً يجب الفحص على غير المشافهين.

وفيه : اولا : ان كثيرا من الأدلة المتضمنة لبيان الأحكام ليست بطريق الخطاب ، وإنما وردت على نحو القضية الحقيقية ، وبديهي انها لا تختص بالمشافهين ، فهل يتوهم ان قوله تعالى (.. وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ..)(١) وقوله عزوجل : (.. وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ..)(٢) وما شاكل. تكون مختصة بالمشافهين.

وثانيا : ان الخطابات الشرعية غير مختصة بالمشافهين كما سيمر عليك.

الثاني : ما عن الزبدة (٣) وهو ان الظن بالمراد لا يحصل قبل الفحص ، وحجية اصالة العموم مختصة بما إذا حصل الظن بالمراد ، فيجب الفحص تحصيلا للظن.

وفيه : ان حجية اصالة العموم ، إنما هي من باب افادة الظن النوعي ، دون الشخصي ، بل هي حجة وان قام الظن الشخصي على الخلاف.

اضف إليه انه اخص من المدعى إذ ربما يحصل الظن قبل الفحص.

الثالث : الإجماع.

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

(٣) زبدة الاصول للشيخ البهائي ولم يحضرني كتابه ، الا انه في حاشية الكفاية ص ٢٢٧ تحقيق مؤسسة أهل البيت (ع) خرجه في الزبدة ص ٩٧.

٣٥٩

ويرده ان الإجماع على فرض وجوده معلوم المدرك فلا يكون حجة.

الرابع : ما عن الشيخ الأعظم (قدِّس سره) (١) وهو ان كل من يتصدى للاستنباط يعلم اجمالا بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة في الكتاب والسنة ومقتضى ذلك عدم جريان اصالة العموم في شيء من الموارد ، إلا بالفحص وخروج العام ، عن اطراف العلم الاجمالي.

وأورد عليه بايرادين :

أحدهما : ان لازم ذلك هو عدم جواز العمل بالعام لو تفحص عن الخاص في الكتب المعتمدة ولم يظفر به ولكن احتمل وجوده في كتب أخرى فان العام لا يخرج عن الطرفية للعلم الاجمالي إلا إذا علم بعدم تخصيصه.

وفيه : ان لنا علمين اجماليين ، أحدهما العلم بوجود مخصصات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ثانيهما العلم بوجودها في ضمن خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة في الابواب المناسبة للمسألة ، والعلم الاجمالي الأول وان كان مقتضاه ما ذكر لو كان وحده ، لكنه ينحل بالعلم الاجمالي الثاني الاصغر منه ، ضرورة انه لا علم اجمالي بوجود المخصص في غير تلك الكتب فلا يكون مانعا عن التمسك بالعام إذا لم يكن الثاني مانعا كما لو تفحص في تلك الكتب ولم يظفر بالمخصص.

ثانيهما : ان المقتضى لوجوب الفحص ان كان هو العلم الاجمالي ، لزم عدم

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ص ٢٠٠ عند قوله : (إذا تمهد ذلك فنقول ان المعلومات التى بأيدينا اليوم في الاخبار يحتمل تخصيصها ...)

٣٦٠