زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

١
٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته واكمل تحياته على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين لا سيما بقية الله في الأرضيين أرواح من سواه فداه.

وبعد فهذا هو الجزء السادس من كتابنا زبدة الأصول من الطبعة الثانية وفقنا لنشره واخراجه إلى عالم الظهور والمرجو من الله تعالى المزيد من التوفيق لنشر معالم الدين وما فيه خدمة المسلمين.

٤

خاتمة : حول اعتبار بقاء الموضوع

ثم ان خاتمة الكلام في الاستصحاب إنما هي بذكر أمور :

الامر الأول : لا خلاف ولا اشكال في انه يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، وتوضيح البحث فيه وتنقيح المرام ببيان أمور :

منها : في الدليل على ذلك ، وقد استدل له الشيخ الأعظم (١) ، بان بقاء المستصحب لا في موضوع محال ، وكذا في موضوع آخر اما لاستحالة انتقال العرض ، واما لان المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق.

وأورد عليه المحقق الخراساني (٢) بان استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا والالتزام بآثاره شرعا.

ورد هذا الإيراد ، بأنه كما يستحيل انتقال العرض الخارجي من محل إلى محل آخر كبقائه بلا محل كذلك يستحيل انتقال الوجوب وغيره من الأحكام الشرعية ، وان شئت قلت ان الوجوب متقوم في النفس بموضوع خاص ، وعليه فانشاء ذلك الربط الخاص لغير موضوعه ، يستلزم انتقال العرض من محل إلى محل آخر.

ولكن يمكن توجيه ما أفاده بان المحال انتقال العرض ، واما بيان الحكم

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٩١.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٢٧.

٥

بلسان انتقال العرض فلا محذور فيه ، والاستصحاب في اللب والواقع يكون دائما جعلا للحكم ، وبيان ذلك بلسان إلا بقاء لا محذور فيه.

ويمكن توجيه كلام الشيخ (ره) بنحو لا يرد عليه هذا الإيراد انه مع عدم بقاء الموضوع لا يجري الأصل للشك في استعداد العرض المتقوم بالموضوع للبقاء لامتناع بقاء العرض بلا محل ، وانتقاله من محل إلى محل آخر ، ومع الشك في الاستعداد لا يجري الاستصحاب ، وهذا على مبناه تام ، ولكن قد مر ضعف المبنى.

فالصحيح ان يستدل له : بأنه مع عدم بقاء الموضوع لا محالة لا تكون القضية المتيقنة متحدة مع القضية المشكوك فيها ، ومع عدم اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها ، لا يصدق الابقاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، والنقض على عدم العمل على طبقها ـ مثلا ـ من كان عالما بعدالة زيد وشك في عدالة ابنه ، لا يصدق على ترتيب آثار العدالة على ابنه إبقاء اليقين ، وعلى عدم ترتيبها النقض ، وهذا من الوضوح بمكان.

ومنها : بيان المراد من بقاء الموضوع ، لا اشكال في انه ليس المراد بقاء الموضوع خارجا : إذ لا ريب في جريان الاستصحاب لو كان الشك في ثبوت شيء وبقائه ، فان الموضوع حينئذ نفس الماهية وحيث لا ثبوت لها ولا تقرر فلا يكون لها الحدوث والبقاء.

بل المراد منه كون القضيتين بنحو يكون متعلق الشك بعينه متعلق اليقين ، وهذا كما يصدق في الشك في العارض والمحمول من جهة الشك في طرو المانع مع اليقين بوجود معروضه ، كذلك يصدق عند الشك فيه من جهة

٦

الشك في بقاء معروضه.

ويتضح ذلك بذكر وجوه الشك في البقاء ، وبيان ما هو الحق فيها.

ونخبة القول في المقام : ان الشك تارة يكون في المحمولات الأولية من الوجود والعدم ، وأخرى ، يكون في المحمولات المترتبة ، كالقيام والقعود والعدالة ونحوها من المحمولات التي لا تترتب على الشيء إلا بعد وجوده.

فان كان الشك في المحمول الأولى ، يجري الاستصحاب ، والموضوع في القضيتين هي الماهية المجردة عن الوجود والعدم ، وهي واحدة في القضيتين ، وان شئت قلت : انه لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق ، وصدق الإبقاء على العمل على طبق اليقين السابق ، والنقض على رفع اليد عنه يجري الاستصحاب : إذ لا يعتبر فيه سوى ما ذكر شيء.

جريان الاستصحاب في المحمولات الثانوية

وان كان المحمول من المحمولات الثانوية :

فقد يكون الشك في البقاء ، بعد إحراز ذات الموضوع كما لو علم بحياة زيد ، وشك في بقاء عدالته.

وقد يكون مع الشك في بقائه أيضاً.

لا اشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول.

واما القسم الثاني : فقد يكون الشك في بقاء المحمول مسببا عن الشك في

٧

بقاء الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضاً ، كما إذا شك في بقاء مطهرية الماء للشك في بقاء اطلاقه.

وقد لا يكون مسببا عنه ، بل كان كل منهما متعلقا للشك مستقلا كما لو شك في حياة زيد لاحتمال موته ، وشك في عدالته على فرض حياته لاحتمال فسقه.

اما القسم الأول : فتارة يكون ذلك بعد العلم بحقيقة الموضوع وحدوده.

وأخرى : يكون لإجمال الموضوع وعدم تبينه :

اما في الصورة الأولى : فان كان المحمول المترتب من الأحكام الشرعية يجري الاستصحاب في الموضوع ويترتب عليه المحمول ، ولا يجري في ذلك المحمول ، وان كان من غيرها ، فاستصحاب بقاء الموضوع لا يكفى لعدم كون الترتب شرعيا فلا يترتب عليه ثبوت المحمول المشكوك ثبوته.

فما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من انه لا اشكال في ان جريان الأصل في الموضوع يغنى عن جريانه في المحمول المترتب لأنه رافع لموضوعه.

غير تام : لعدم كونه رافعا له في غير الأحكام الشرعية.

ولكن يجري الاستصحاب في نفس المحمول الثانوي ويحكم ببقائه : لان هذا الموجود الخاص ، كعدالة زيد ، متيقن سابقا ، ومشكوك فيه لاحقا ، فالقضية المشكوك فيها بعينها هي القضية المتيقنة فيجرى الاستصحاب فيها : إذ لا دليل

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٥٦٧.

٨

على اعتبار إحراز بقاء الموضوع في جريانه من غير جهة الاتحاد المحرز في المقام.

نعم ، بعض الآثار في نفسه يلزم في ترتبه إحراز الموضوع كالإنفاق ، وهذا امر غير مربوط بالاستصحاب ، بل يعتبر إحراز الموضوع من جهة احتياج ترتب ذلك الأثر على إحرازه ، هذا بناءً على المختار من جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضى.

واما على مختار الشيخ الأعظم (ره) (١) والمحقق النائيني (ره) (٢) من عدم جريانه فيها ، فالظاهر عدم جريان هذا الأصل للشك في استعداد العرض المتقوم بالموضوع للبقاء لامتناع بقاء العرض بلا محل وانتقاله من محل إلى آخر ، ومع الشك في الاستعداد لا يجري الاستصحاب.

ولعله إلى هذا نظر الشيخ الأعظم (ره) (٣) في الاستدلال بالدليل العقلي لاعتبار بقاء الموضوع المتقدم كما مر وهو على مسلكه تام.

والغريب ان المحقق النائيني (ره) (٤) مع اختياره هذا المسلك ، أورد على الشيخ الأعظم (ره) بان الاستدلال بهذا الدليل تبعيد للمسافة.

هذا كله إذا كان موضوع الأثر ثبوت المحمول الثانوي.

واما ان كان هو وجود الموضوع وثبوت المحمول له ، فلا يجري الاستصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٩٠.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٨٠ بتصرف.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٩١ بتصرف.

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٨٠.

٩

إذ استصحاب بقاء الموضوع ، وان كان يجري إلا انه لا يترتب عليه المحمول الثانوي لكونه من لوازمه غير الشرعية ، ولا يجري في المحمول الثانوي لعدم الشك فيه على تقدير بقاء الموضوع ، ولا يكون هو محرزا بالوجدان.

وعليه ، فلا يجري الاستصحاب في هذا الفرض.

واما في الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الموضوع مجملا ، كما لو شك في بقاء نجاسة الكلب الذي صار ملحا ، من جهة الشك في ان الموضوع للنجاسة ومعروضها ، هو ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات ، والانقلابات حتى في حال انقلابه ملحا ، أم يكون الموضوع الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا.

فلا يجري الاستصحاب لا حكما ولا موضوعا.

اما الحكمي فلعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة ، مع المشكوك فيها ، الذي يدور مدار صدق نقض اليقين بالشك ، ومع عدم الإحراز ، يكون التمسك بعموم ما دل على حرمة النقض من باب التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

اما الاستصحاب الموضوعي فلعدم معلوميته وتردده بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، واما استصحاب بقاء موضوعية الموضوع ، فهو عبارة أخرى عن استصحاب الحكم.

واما استصحاب بقاء موضوع الحكم الذي هو عنوان عرضي ، فلا يجري لعدم ترتب الأثر عليه.

١٠

واما القسم الثاني : وهو ما لو كان الشك في كل منهما مسببا عن غير سبب الآخر ، كما لو شك في عدالة زيد لاحتمال فسقه مع الشك في حياته أيضاً.

فقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) (١) وتبعه المحقق النائيني (ره) (٢) إلى جريان استصحابين ، أحدهما في الموضوع ، والآخر في المحمول ، وبضم أحدهما إلى الآخر ، يحرز الموضوع ويترتب عليه حكمه ، إذا كان الأثر مترتبا على مجموعهما ، وقد التزم في الاستصحاب الجاري في المحمول كالعدالة في المثال بإجرائه فيها على تقدير الحياة ، نظرا إلى انه لو كان المستصحب العدالة نفسها كان ذلك من الاستصحاب في الشك في المقتضى إذ بعد ما لم يكن الموضوع لها هو الشخص اعم من كونه حيا ، أو ميتا ، بل الحي خاصة ، لو شك في الحياة يشك في الموضوع ، ومع الشك فيه ، بمقتضى البرهان المتقدم يكون من الشك في المقتضى ، فلا يجري الاستصحاب ، وهذا بخلاف ما لو أجرينا الأصل في العدالة على تقدير الحياة ، فانه على هذا التقدير يكون استعداد المستصحب للبقاء محرزا ، ويكون الشك في الرافع ، فإذا اجرينا الأصل في ذلك ، وضممنا إلى ذلك الأصل الجاري في الحياة ، المثبت لذلك التقدير ، فقد احرزنا الموضوع للأثر ، ويترتب الأثر.

ولكن يرد عليهما ان استعداد المستصحب للبقاء إنما يكون محرزا ، فيما إذا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٩١.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٨٢ / فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٥٧٠.

١١

كان المستصحب العدالة على تقدير الحياة واقعا ، لا على تقديرها ولو ظاهرا ، إذ الأصل الجاري في ذلك التقدير لا يصلح لاثبات كون المحمول مما له استعداد البقاء إلا على القول بالأصل المثبت ولا نقول به ، وعليه فذلك التقدير لا يحرز بالاستصحاب الجاري في الموضوع.

نعم بناءً على المختار من جريان الاستصحاب في الشك في المقتضى يجري الاصلان المشار اليهما ، بل لا يحتاج في ترتب الأثر إلى إجراء الأصل في العدالة على تقدير الحياة ، بل في العدالة التي هي موجودة خاصة في نفسها وبضم احد الاصلين بالآخر يتم الموضوع ويترتب عليه الأثر.

ملاك اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها

ومنها : بيان ملاك اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها.

وبعبارة أخرى : ملاك بقاء الموضوع : هل هو نظر العقل فلا يجري مع تغير أي خصوصية فرضت.

أم يكون الملاك نظر العرف ، فيكفي الاتحاد العرفي في جريانه ، وان لم يكن متحدا في نظر العقل الفلسفي.

أم يكون الملاك الاتحاد بحسب الدليل المثبت للحكم؟

والكلام في هذا الأمر في موارد :

١ ـ في صحة هذا الترديد.

٢ ـ في انه يختلف الحكم باختلاف الانظار ، وبيان النسبة بينها.

١٢

٣ ـ في تعيين ما هو الملاك.

اما المورد الأول : فقد ذكر هذا الترديد الشيخ الأعظم (١).

وأورد عليه بإيرادات (٢) :

أحدها : ان الرجوع إلى العقل إنما يصح في المستقلات العقلية ، ولا معنى للرجوع إليه في الموضوعات الشرعية ، لأنه لا سبيل له إليها ، لعدم كون مناطات الأحكام الشرعية بيده فما معنى الرجوع إلى العقل.

ثانيها : ان الشيخ قال ان اخذ الموضوع من العقل لزم البناء على عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الشرعية إلا فيما إذا كان الشك في بقاء الحكم ناشئا من احتمال وجود الرافع ، أو الغاية ، وهذا بخلاف ما إذا كان الملاك نظر العرف ، أو الدليل المثبت للحكم فانه لا ينحصر جريانه حينئذ بما ذكر ، مع ان بناء الشيخ على عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضى مطلقا ، فكيف جعل ذلك من ثمرات هذا الترديد.

ثالثها : انه ما معنى المقابلة بين ما اخذ في الدليل موضوعا ، وبين ما يراه العرف موضوعا ، فانه ان أريد من الثاني ما يراه العرف موضوعا بحسب نظره :

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٩٣ حيث جعل الترديد بين خذ الموضوع من العقل أو الادلة أو العرف ، فقال : «لا بدّ من ميزان يُميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ... الخ».

(٢) هذه الايرادات للمحقق النائيني على الشيخ الأعظم راجع فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٧٥ ـ ٥٧٦ .. الخ.

١٣

فيرد عليه انه ليس مشرعا ، وان أريد به ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل ، مع عدم كونه منها حقيقة ، فيرد عليه ، ان المسامحات العرفية في تشخيص المصاديق تضرب على الجدار ، بل لا بدَّ من إحراز صدق المفهوم على المصداق ، وان أريد به الرجوع إلى العرف في تعيين مفهوم اللفظ وتشخيصه فهو وان كان صحيحا ، إلا ان المراد من موضوع الدليل أيضاً ذلك إذ لا عبرة بالظهور التصوري ، ولا بالظهور التصديقي البدوي الزائل ، بعد ملاحظة القرائن قطعا.

وفي الجميع نظر :

اما الأول فلأنه يمكن دفعه بان المراد من الاتحاد بنظر العقل ليس تعيين الموضوع بنظر العقل ، بل المراد اتحاد الموضوع في القضيتين بالدقة العقلية ، كما لو علم بوجود زيد وشك في بقائه فان معروض الوجود بعينه موضوع القضية المشكوك فيها.

واما الثاني : فلإمكان ان ينتصر للشيخ (ره) بان المتيقن قد يكون بحيث لا يبقى في عمود الزمان بنفسه مع قطع النظر عن حدوث شيء أو ارتفاعه ، فلو شك في ذلك يكون ذلك من الشك في المقتضى ، وقد يكون بنفسه باقيا ما لم يرفعه رافع ، كالنجاسة ، ولو شك في الرافع يكون ذلك من الشك في الرافع الذي بنى الشيخ (ره) على جريان الاستصحاب فيه ، وهو على قسمين إذ ربما يكون الرافع حدوث امر معدوم وقد يكون انعدام امر موجود ، فلو قلنا بان المتبع في الاتحاد نظر العرف كان الاستصحاب جاريا في القسمين ، ولو قلنا بان المتبع هو العقل لزم جريانه في خصوص القسم الأول.

١٤

وبذلك يرتفع التنافي بين كلمات الشيخ (ره).

كما ان به يظهر ان مراده من الرافع هو خصوص القسم الأول فتدبر.

كما انه بذلك يظهر عدم تمامية ما أفاده المحقق الخراساني (١) من انه لو كان المناط نظر العقل لما كان سبيل إلى جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية ، وكان جاريا في الموضوعات :

فانه في الأحكام إذا كان منشأ الشك حدوث امر معدوم كالشك في بقاء الطهارة من جهة خروج المذي ، كان الاستصحاب جاريا حتى على هذا المسلك ، كما انه في الموضوعات إذا شك فيها لأجل نقصها مما كانت عليه كالكر المأخوذ منه مقدار من الماء ، لا يجري الاستصحاب على ذلك.

واما الثالث : فلامكان الجواب عنه بان للعرف نظرين :

أحدهما بما هو من أهل فهم الكلام.

ثانيهما بما ارتكز في ذهنه من المناسبات بين الأحكام والموضوعات ، على خلاف ما هو متفاهم الكلام ، ما لم يكن بحد يعد من القرائن الحافة بالكلام الموجبة لصرف الظهور.

مثلا : إذا ورد ان الماء المتغير نجس فاهل العرف بالنظر البدوي يرون ان الموضوع هو الماء بوصف التغير فلو زال تغيره وشك في بقاء النجاسة للماء ، تكون القضية المشكوك فيها غير القضية المتيقنة موضوعا ، ولكنه بالنظر الثانوي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٧.

١٥

بعد ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع يرون ان الموضوع هو ذات الماء لما ارتكز في أذهانهم ، من ان النجاسة من عوارض الماء لا هو مع التغير.

وعلى هذا فمنشأ الشك في نجاسة الماء بعد زوال التغير هو احتمال ان يكون التغير واسطة في ثبوت النجاسة للماء حدوثا وبقاءً.

فالمتحصّل ان المراد من اعتبار الاتحاد بحسب الدليل المثبت للحكم ، ليس هو الظهور التصوري ولا الظهور التصديقي البدوي الزائل بعد ملاحظة المناسبة المذكورة كما اختاره المحقق النائيني (ره) (١).

كما ظهر ان المراد من اعتبار الاتحاد بلحاظ الموضوع العرفي ، ليس هو التسامح في صدق الاتحاد ، والنقض والبقاء مع الموضوع الدليلي ، حتى يقال ان المسامحات العرفية تضرب على الجدار.

بل المراد هو اتحاد موضوع القضية المشكوك فيها ، مع موضوع القضية المتيقنة ، الذي يراه العرف موضوعا بحسب المناسبات المذكورة ، فالاتحاد حقيقي على كل حال.

واما المورد الثاني : فالنسبة بين نظر العقل وغيره واضح.

واما النسبة بين نظر العرف ولسان الدليل فعموم من وجه : لأنه قد يكون الموضوع باقيا بنظرهما ، كما إذا ورد الماء إذا تغير ينجس ، فتغير ماء ثم زال تغيره من قبل نفسه ، فانه يشك في بقاء النجاسة ، والموضوع باق بالنظرين.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٥٨٥ ـ ٥٨٦ (والاقوى اتباع نظر العرف في بقاء الموضوع ... الخ).

١٦

وقد يكون الموضوع باقيا بحسب لسان الدليل دون نظر العرف كما إذا ورد ، ان الرجل إذا صار مجتهدا يجوز تقليده ، فصار زيد مجتهدا ثم زال اجتهاده لمرض ، فشك في بقاء جواز تقليده ، فان الموضوع بنظر العرف هو المجتهد وبزوال اجتهاده ، يكون الموضوع متبدلا ، بخلافه بحسب لسان الدليل.

وقد يكون الأمر بالعكس ، كما إذا ورد الماء المتغير ينجس ، فتغير ماء ثم زال تغيره من قبل نفسه.

واما المورد الثالث : فالظاهر ان المتبع هو نظر العرف.

وتنقيح القول فيه : ان المعاني : ربما تكون حقيقية لا تتفاوت بالقياس إلى موجود آخر ، كجملة من الجواهر والاعراض.

وقد تكون اضافية تختلف بالقياس إلى شيء دون آخر ، ومن هذا القبيل ، الوحدة والاتحاد والنقض والبقاء ، فان الشيء الواحد في فرض الشك ان لوحظ بالقياس إلى الموضوع العقلي ربما يكون غير متحد معه ، ولكن يكون متحدا مع الموضوع العرفي ، أو الدليلي ، كما انه ربما لا يكون متحدا مع الموضوع الدليلي ويكون متحدا مع الموضوع العرفي.

والظاهر من الخطابات الشرعية منها خطاب لا تنقض كون المناط هو الموضوع العرفي لا العقلي ولا الدليلي ، حتى وان أمكن إطلاق الدليل بالإضافة إلى جميع مراتب الموضوع من العقلي والدليلي والعرفي ، وامكن الجمع بين الانظار وكان هناك جامع مفهومي.

لا من جهة ان الموضوع هو النقض ، فيرجع إلى العرف في تحديد هذا

١٧

المفهوم ، لان هذا المفهوم ، مبين من جميع الجهات لا اجمال فيه.

ولا من جهة الرجوع إلى العرف في تطبيقه على مصداقه ، فانه لا عبرة بالمسامحة العرفية في تطبيق المفهوم على المصداق.

بل من جهة : انه إذا كان للمفهوم مصاديق حقيقية باعتبار أخذ الموضوع الثابت له الحكم في دليل المتيقن من العرف ، أو الدليل ، أو العقل ، يكون الظاهر من خطاب الشارع مع العرف الذي بنائه على مخاطبته معهم كأحد منهم ، والمفاهمة معهم بالطريقة المألوفة بين أهل المحاورة والعرف ، إرادة ما هو مصداق عرفي فان إرادة غيره منهم تحتاج إلى نصب ما يدل على تعينه دون ما هو متعين عندهم.

وبالجملة كما ان حجية الظاهر تستفاد من كون الشارع في مقام افهام مراداته يخاطب العرف كأنه أحدهم ، كذلك إذا كان للظاهر مصاديق متباينة ، كلها من أفراد الظاهر حقيقة ، وكان بعض مصاديقه وافراده مصداقا له بنظر العرف ، دون الآخر ، يستفاد كون الملاك نظر العرف.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما قيل (١) ، من ان صدور خطاب لا تنقض من الشارع ، يقتضي ارادة تحريم نقض اليقين بما هو امر شرعي.

كما انه يظهر اندفاع ، دعوى الإطلاق ، من حيث العقلية ، والعرفية ، والدليلية ، إذ ذلك يصح مع عدم القرينة المعينة لأحد الاعتبارات ، وقد عرفت وجودها.

__________________

(١) الظاهر ان القائل المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٢٨٣.

١٨

ويظهر أيضاً مما ذكرناه ، ان مراد صاحب الكفاية (١) من الإطلاق ، في قوله : ان قضية إطلاق خطاب لا تنقض ، هو ان يكون بلحاظ الموضوع ، هو الإطلاق المقامي ، دون اللفظي.

وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب

الأمر الثاني : يعتبر في الاستصحاب ان يكون المستصحب مشكوك البقاء ، فلو أحرز بقائه أو ارتفاعه لا يجري الاستصحاب ، ولا فرق في ذلك بين الإحراز الوجداني أو التعبدي.

وعليه فلا يجري الاستصحاب مع قيام الطريق على بقاء المستصحب أو ارتفاعه ، وهذا في الجملة مما لا كلام فيه ، إلا ما يظهر من بعض الفقهاء من البناء على اعمال التعارض بين الأمارات والأصول ، وهو ظاهر البطلان مما ذكرناه.

إنما الكلام في وجه تقدم الأمارات على الأصول ، وانه الورود ، أو الحكومة ، وقبل التعرض له لا بدَّ من تقديم مقدمة.

وهي ، الإشارة الاجمالية إلى بيان معنى ، الورود ، والحكومة وبيان الفرق بينهما وبين التخصيص ، والتخصص ، والتوفيق العرفي ، فهنا خمسة أمور :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٨.

١٩

أحدها : الورود وهو عبارة عن كون احد الدليلين بعد ورود التعبد به رافعا لموضوع دليل الآخر وجدانا وحقيقة ، كما في الأمارات بالاضافة إلى البراءة العقلية ، فان موضوعها عدم البيان ، وهذا يرتفع حقيقة بالتعبد بامارة جارية في موردها.

ثانيها : الحكومة وهي عبارة عن كون احد الدليلين ناظرا إلى الآخر أو صالحا لذلك :

اما بالتصرف في موضوعه سعة ، كقوله (ع) الفقاع خمرة استصغرها الناس (١) ، أو ضيقا ، كما في قوله (ع) " لا شك لكثير الشك" (٢).

أو بالتصرف في محموله بان بلونه بلون ويدل على ثبوت الحكم في بعض الحالات والموارد.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٢٣ باب الفقاع ح ٩ وفيه قوله (ع): «خُميرة استصغرها الناس» / التهذيب ج ٩ ص ١٥٢ ح ٢٧٥ / الوسائل ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٣٢١٣٦.

(٢) هذا اللفظ لا يوجد له عين في لسان الروايات ، والظاهر أنه مصطلح فقهي كثر استعماله مأخوذ من ظاهر الروايات كرواية الكافي ج ٣ ص ٣٥٩ باب من شك في صلاته كلها .. ح ٨ حيث قال (ع): «إذا كثر عليك السهو فامضِ في صلاتك فإنه يوشك أن يدعك ، إنما هو من الشيطان» / وما رواه الفقيه ج ١ ص ٣٣٩ باب أحكام السهو في الصلاة ح ٩٨٨ قوله (ع) : إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامضِ على صلاتك ولا تعد» وقريب منه ما في التهذيب «.. فامضِ في صلاتك» ج ٢ ص ٣٤٣ ح ١١ باب أحكام السهو .. / راجع الوسائل ج ٨ ص ٢٨٧ و ٢٨٩ باب عدم وجوب الاحتياط على من كثر سهوه .. ح ١٠٤٩٥ و ١٠٤٩٧ و ١٠٥٠٠.

٢٠