زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

الثالث : ان استفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعينها حتى على القول بالوضع للتعريف ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة.

فالايرادان الأولان قابلان للمناقشة من وجوه :

منها : اختصاصهما باللام التي تكون اشارة إلى الجنس.

ومنها : ان الإشارة إلى الجنس المعين ليست بكونه ملحوظا وموجودا بالوجود الذهنى ، بل المراد بها الإشارة إلى جهة تعين الجنس.

توضيح ذلك : ان كل معنى طبيعي فهو متعين في الواقع وممتاز بنفسه عما عداه ، واسم الجنس إنما وضع لذات المتعين واللام إنما وضعت لافادة تلك التعين الواقعي.

ومنها : ان المراد بوضعهما للاشارة إلى المعين ذهنا لو سلم ليس دخل الوجود الذهنى بنحو الموضوعية ، بل بنحو المرآتية لما في الخارج.

واما الإيراد الاخير.

فيدفعه ان القرينة المعينة للمعنى الجامع المشار إليه باللام غير القرينة الدالة على اصل الإشارة إلى الخصوصية كما لا يخفى.

بقي في المقام شبهة أخرى ذكرها المحقق العراقي (ره) (١) ولاجلها سلم ما ذكره المحقق الخراساني (ره) وهي : انه في مثل هذا الانسان لو كان اللام ، للاشارة

__________________

(١) مقالات الاصول ج ١ ص ٥٠٠ (نعم هنا جهة شبه أخرى ..).

٤٤١

لزم اجتماع الاشارتين في زمان واحد ، وهو محال ، فلا مناص من جعل اللام فيه للزينة وحينئذٍ فيلتزم بذلك في غير المصدر بلفظ هذا لعدم صحة التفكيك بينهما.

وفيه : ان اللام إنما هي للاشارة إلى النوع المتعين ، وهذا اشارة إلى فرد خاص منه فلا يلزم اجتماع الاشارتين.

فالحق ان الألف واللام مطلقا للتعريف ، والتعيين ، لا بمعنى كون التعين الذهنى جزء المعنى الموضوع له أو قيده ، بل بمعنى دلالتهما على تعريف مدخولها وتعينه في موطنه ، نظير أسماء الإشارة ، والضمائر ، فكما ان اسم الإشارة موضوع للدلالة على تعريف مدخوله ، وتعينه في موطنه ، كما في هذا زيد ، أو هذا الكلي اعم من الآخر ، وما شاكل كذلك الالف واللام ، والشاهد على ذلك الارتكاز والوجدان في الاستعمالات المتعارفة.

نعم في خصوص العهد الذهنى كلمة لام لا تفيد شيئا زائدا على ما يفيده مدخولها ، ولا تدل على تعين مدخولها ، وإنما تدخل من جهة ان أسماء المعرب في كلمات العرب لا تستعمل بدون احد أمور ثلاثة ، التنوين ، الالف واللام ، والاضافة ، ففي مثله لا بد وان يقال ، ان اللام للتزيين فحسب.

وقد نقل الأستاذ (١) ان المحقق الرضي ذهب إلى ذلك أي كون اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني. وهو متين.

وبما ذكرناه يظهر ان مراد المحقق الخراساني (ره) من كون اللام للتزيين

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٥ ص ٣٥٩.

٤٤٢

مطلقا هو ذلك ، نظير ما ذهب إليه اهل العربية من ان التنوين ربما يكون ، للتمكن ، كما في مثل هذا رجل لا امرأة.

وعليه فلا معنى لما اورده المحقق الايروانى (ره) من انه أي زينة يحصل باللام ، لا تحصل بسائر الحروف الهجائية فتدبر.

وقد مر في مبحث العام والخاص ان افادة الجمع المحلى بالالف واللام للعموم إنما يكون لأجل ذلك فراجع.

النكرة

ومنها : النكرة ، وهي تطلق على معنيين :

أحدهما : ما يقابل المعرفة التي عرفوها بما هي قابلة لال ، وهي تشمل اسم الجنس.

ثانيهما : ما يكون حدا وسطا بين اسم الجنس ، القابل للصدق على كثيرين عرضيا ، وبين الماهية المتعينة بشخص معين ، وهي التي تكون محل الكلام ، وتصدق على أفراد الماهية تبادليا.

وبعبارة أخرى : المراد بالنكرة في محل الكلام الطبيعة المقيدة بالوحدة المعبر عنها بالحصة في كلمات بعضهم.

والمعروف في الألسنة ان النكرة وضعت للدلالة على الفرد المردد في الخارج. وهو على ظاهره بين الفساد : إذ لا وجود للفرد المردد ، لان كل ما هو

٤٤٣

موجود فهو متعين ولا يعقل كونه مرددا بين نفسه وغيره.

وذكر المحقق الخراساني (١) أنها تستعمل ، تارة في الفرد المعين في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الطبيعة وذلك في النكرة الواقعة في حيز الأخبار كما في (جاء رجل من أقصى المدينة) وتستعمل أخرى في الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة وذلك في النكرة الواقعة في حيز الطلب كما في (جئني برجل) فيكون حصة من الرجل ويكون كليا ينطبق على كثيرين ، وبالجملة النكرة اما هي فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب أو طبيعي مقيد بمفهوم الوحدة.

وبعبارة أخرى : حصة كلية فيكون كليا قابلا للانطباق.

وفيه : ان المفهوم منها في الموردين شيء واحد ، واللفظ إنما يستعمل في معنى واحد وقع في حيز الطلب أو الأخبار ، واستفادة التعين في المورد الثاني ، لا تستند إلى نفس اللفظ ، بل إنما هي تكون من الخارج من جهة نسبة الفعل الخارجي إليه.

وبعبارة أخرى : ان النكرة ليس لها وضع مخصوص ، بل هي مركبة من اسم الجنس ، والتنوين.

والأول يدل على نفس الطبيعة المهملة.

والثاني ، وضع لإفادة فرد غير معين في مرحلة الإسناد إخبارا ، أو إنشاءً ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٦ (ومنها النكرة ..).

٤٤٤

فلا يكون المفهوم منها في الموردين إلا شيء واحد ، وهي الحصة غير المعينة في مرحلة الاسناد ، والتعين الواقعي فيما إذا وقعت في حيز الأخبار ، غير مربوط بمفهوم اللفظ.

ثم انه يقع الكلام في ان التنوين ، هل يدل على مفهوم الوحدة ، فيكون مفاد النكرة الطبيعة الكلية المقيدة بمفهوم الوحدة ، أي عنوان احد التشخصات ، فتكون هي أيضاً كليا ، إذ ضم الكلي إلى الكلي ، لا يصيره جزئيا كما اختاره المحقق الخراساني (١) ، أم يدل على مصداقها اما معينا أو مرددا ، أم يدل على احد التشخصات المفردة بنحو يكون القيد المفهوم منه نفس التشخص غير المعين المنطبق على الخارج بنحو التبادل ، وان احداً اخذ كما ، للقيد وإشارة إلى كم التشخص كما اختاره المحقق العراقي (ره) وجوه :

الاظهر ما ذكره المحقق الخراساني وذلك ، لان القيد ليس مصداق احد التشخصات لا معينا كما تقدم ولا مرددا ، لما عرفت من انه لا ذات له ولا وجود ، ولا نفس التشخص ، لان له أيضاً مفهوما ومصاديق ، ولا ريب في ان مفهومه ليس قيدا وكذلك جميع المصاديق ، بل مصداق واحد ، وحينئذٍ فلا بد من اختيار احد الطرق الثلاثة الأخر. فالاظهر ما اختاره المحقق الخراساني.

ثم انه قد عرفت في ضمن المباحث السالفة ان اسم الجنس موضوع للماهية المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات التي يمكن ان يطرأ عليها ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٦ عند قوله : «فلا بد ان تكون النكرة الواقعة في متعلق الامر هو الطبيعي المقيد بمفهوم الوحدة ، فيكون كليا قابلا للانطباق».

٤٤٥

وبديهي ان الإطلاق والتقييد من الخصوصيات الطارئة على الماهية المهملة ، فهما خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، وعليه فالتقييد لا يوجب المجاز لاستعمال اللفظ في معناه الموضوع له والتقييد مستفاد من دال آخر.

واما على ما نسب إلى المشهور من كون اللفظ موضوعا للمطلق أي المقيد بالارسال والشمول ، ففي الكفاية (١) ان المطلق بهذا المعنى لطرو التقييد غير قابل ، فان ما له من الخصوصية ينافيه ويعانده.

فيرد عليه انه على هذا المسلك أيضاً لا يستلزم التقييد المجاز ، إذ المراد الاستعمالى منه هو المطلق ، واستعمل اللفظ فيه ، والتقييد إنما يدل على ان المراد الجدِّي هو المقيد ، دون المطلق ولا يدل على ان اللفظ استعمل في المقيد ليكون مجازا.

وبعبارة أخرى : ان المطلق حينئذ يكون كالعام فكما مر في العام والخاص ان التخصيص لا يوجب كون استعمال العام مجازا ، لأنه لا يوجب التصرف في الدلالة التفهيمية ، بل في الدلالة التصديقية فكذلك في المطلق.

ولكن ذلك في التقييد بالمنفصل.

واما في المقيد المتصل فيتم ما أفاده المحقق الخراساني ، إذ لا يجرى فيه ما ذكرناه في التخصيص بالمنفصل ، من ان اداة العموم موضوعة لافادة الشمول لجميع أفراد ما يصلح ان يراد من مدخولها فتقييد المدخول لا ربط له باداة العموم ، والوجه في عدم الجريان واضح ، فان المطلق على هذا المسلك موضوع

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٧.

٤٤٦

للطبيعة المقيدة بالارسال والشمول لجميع افرادها ، وبديهي ان التقييد ينافي ذلك.

فالمتحصّل انه على ما نسب إلى المشهور لا بد من التفصيل بين التقييد بالمتصل وبالمنفصل ، والبناء على المجازية في الأول ، دون الثاني.

مقدمات الحكمة

الفصل الثاني : في مقدمات الحكمة.

وقبل بيانها لا بد وان يعلم ان المحمول في القضية :

تارة يكون من قبيل الذات والذاتيات.

وأخرى ، يكون من المعقولات الثانوية من قبيل : الانسان نوع ، والحيوان جنس.

وثالثة ، يكون من غيرهما مما هو قابل للسراية إلى حصص الموضوع وافراده في الخارج :

فان كان من قبيل الذات والذاتيات ، يستكشف ان المأخوذ هي الطبيعة التي قصر النظر على ذاتها وذاتياتها.

وان كان من المعقولات الثانوية يستكشف انه لوحظت الطبيعة مجردة عن الخصوصيات ، وماخوذة بنحو بشرط لا في الموضوع.

وان كان المحمول من غير هذين القسمين ، يعلم عدم اخذ الطبيعة من

٤٤٧

حيث هي ، ولا بنحو بشرط لا ، فيدور الأمر بين اخذها مطلقة وسارية في جميع الأفراد ، بمعنى عدم دخل شيء من الخصوصيات في الحكم ، وبين اخذها بشرط شيء بمعنى دخل خصوصية من الخصوصيات فيه ، فلا بد في الحكم باحدهما من اقامة الدليل عليه فلو كانت هناك قرينة خاصة فلا كلام ، وإلا فان تمت المقدمات التي سيمر عليك المسماة بمقدمات الحكمة يحكم باخذها مطلقة وإلا فلا ، وتلك المقدمات ثلاث :

الأولى : ان يكون المتكلم الحاكم متمكنا من بيان القيد على فرض دخله في الحكم بانشاء واحد ، أو بإنشاءين ، أو بنحو آخر كالاخبار ، وإلا فلا يكون لكلامه إطلاق في مقام الإثبات حتى يكون كاشفا عن الإطلاق في مقام الثبوت ، وعدم دخل القيد في الحكم ، لفرض انه على فرض دخله ، لا يتمكن المولى من بيانه ، ومعه كيف يكون إطلاق كلامه في مقام الإثبات كاشفا عن الإطلاق في مقام الثبوت.

الثانية : ان يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده من الجهة التي نحاول التمسك باطلاق كلامه لكشف الإطلاق من تلك الجهة في مقام الثبوت ، ولا يكون في مقام الاهمال أو الاجمال كما في قوله تعالى (وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ)(١) و (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا)(٢) وكما في قول الطبيب للمريض اشرب الدواء ، ولا يكون في مقام البيان من جهة أخرى ومسوقا لبيان حكم آخر كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٦ من سورة المائدة.

٤٤٨

(فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) الوارد في مقام بيان عدم كون ما افترسه الكلب المعلم باصطياده ميتة سواء امسك من الحلقوم أو من غيره.

فانه لا يكون واردا في مقام بيان اثبات طهارة موضع الامساك من الصيد.

وعلى الجملة يعتبر ان يكون المتكلم في مقام البيان من جهة التي يراد التمسك باطلاق كلامه من تلك الجهة ، إذ مع فرض عدم كون المولى في مقام البيان ، أو كونه في مقام بيان حكم آخر لا معنى للتمسك باطلاق كلامه والحكم بان ما بينه تمام مراده ، وهذا من الوضوح بمكان.

الثالثة : أن لا يأتي المتكلم في كلامه بما يدل على اعتبار خصوصية من الخصوصيات الوجودية أو العدمية ، واما الصيد المنفصل فستعرف حاله.

فلو تمت المقدمات يستكشف ان موضوع الحكم أو متعلقه هي الطبيعة المطلقة.

ثم انه لا بد من التنبيه على أمرين :

الامر الأول : ان في المقام نزاعا معروفا بين الشيخ الأعظم وبين المحقق الخراساني وهو ان عدم البيان الذي هو من المقدمات :

هل هو عدم البيان إلى الابد ولو منفصلا بحيث إذا ظفرنا بعد على المقيد يكشف ذلك عن اختلال المقدمة الثالثة ، فلا إطلاق للمطلق أصلاً.

فالمقدمة الثالثة : هي عدم اتيان المتكلم في كلامه ما يدل على اعتبار قيد لا

__________________

(١) الآية ٤ من سورة المائدة.

٤٤٩

متصلا ولا منفصلا ، اختاره الشيخ (١) وتبعه المحقق النائيني (ره) (٢).

أو ان الامر الثالث الذي هو جزء المقتضي للاطلاق هو عدم بيان القيد متصلا ، واما بيان القيد منفصلا فهو لا يضر بالإطلاق ، وإنما يوجب تقييد المراد الجدِّي ، اختاره المحقق الخراساني (ره) (٣).

والحق هو ما اختاره المحقق الخراساني (ره) فالمراد بكون المتكلم في مقام البيان هو كونه في مقام بيان المراد الاستعمالى ، لا بيان المراد الجدِّي.

وبعبارة أخرى : يكون المراد منه كون الملقى للكلام بنحو ينعقد لكلامه ظهور في الإطلاق ، ولا يكون من قبيل قول الطبيب للمريض اشرب الدواء ، ويكون حجة على المخاطب على سبيل القانون والقاعدة.

توضيح ذلك انه قد بينا سابقا ان مراتب الدلالة ثلاث :

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٢٢٠ (هداية : في موارد حمل المطلق على المقيد). ويظهر أيضا من شيخ الطائفة في العدّة ج ١ ص ٣٣٠ التزامه بذلك ، حيث اعتبر ان المطلق لا يتم اطلاقه اذا قام دليل متصل أو منفصل عليه نعم فصل بانواع المنفصل فبعضه مانعا من الاطلاق دون البعض الآخر.

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٥٢٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٣١ (الثالث : ان لا يأتي المتكلم في كلامه ما يدل على اعتبار خصوصية ... لا متصلا بكلامه ولا منفصلا عنه ..).

(٣) كفاية الاصول ص ٢٥٠ قوله : «وانت خبير ... لما عرفت من ان الظفر بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، بل عن عدم كون الاطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة بمراد جدي ..».

٤٥٠

الأولى : الدلالة التصورية.

الثانية : الدلالة التفهيمية ، ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال ، والمراد بها انعقاد الظهور فيما قاله المتكلم ، وهذه الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة المتصلة ، ولا يضر بها وجود القرينة المنفصلة ، وهي الدلالة اللفظية.

الثالثة : الدلالة التصديقية الكاشفة عن مطابقة المراد الجدِّي للمراد الاستعمالى ، ولا ربط للفظ بذلك ، بل مدركها سيرة العقلاء في المحاورات ، وهذه الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة ولو منفصلا ، وعلى ذلك فالقرينة المنفصلة كاشفة عن تقييد المراد الجدِّي ، ولا ينثلم بها ظهور المطلق في الإطلاق.

ويترتب على ذلك ان تقييد المطلق من جهة ، لا يوجب سقوط إطلاق الكلام من الجهات الأخر.

مثلا ، لو فرضنا ان الآية الكريمة (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) في مقام البيان من جميع الجهات ، وورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبيا أو مجنونا ، وشك في ورود التقييد عليها من جهة أخرى ككون الإنشاء باللفظ ، وعدم كفاية المعاطاة ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق والحكم بعدم اعتباره.

الأمر الثاني : المشهور بين الاصحاب ، ان الاصل فيما شك في كون المتكلم في مقام البيان حمل كلامه عليه ، فعدم كونه في هذا المقام ، يحتاج إلى دليل.

__________________

(١) الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

٤٥١

ولكن الحق تبعا للمحقق النائيني (١) هو التفصيل بين ما لو شك في ان المتكلم كان في مقام التشريع ، أو كان في مقام بيان تمام مراده ، وبين ما لو شك في ذلك من جهة سعة الارادة وضيقها ، بان علمنا ان لكلامه اطلاقا من جهة ، وشك في اطلاقه من جهة أخرى ، كما في الآية الكريمة (فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ)(٢) حيث نعلم باطلاقها من جهة عدم اعتبار الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتبار القبلة فيها وما شاكل ، وشك في انها في مقام البيان من جهة طهارة محل الامساك وعدمها ، فالاصل في الكلام حمله على كونه في مقام البيان في المورد الأول ، دون الثاني : وذلك لجريان سيرة اهل المحاورات على ذلك في المورد الأول خاصة ، ولعل منشأ ذلك ان اهل المحاورات عند القاء كلماتهم يكونون في مقام إبراز مراداتهم لا في مقام الاهمال فنفس القاء الكلام كاشف بالكشف الناقص عن كون المتكلم في مقام البيان ، وهذا الملاك كما ترى مختص بالمورد الأول.

وقد يقال كما عن صاحب الدرر (٣) بأنه لا حاجة إلى احرار كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في الحمل على الإطلاق ، بيانه ، ان المهملة مرددة بين المطلق ، والمقيد ، ولا ثالث ، ولا اشكال في انه لو كان المراد المقيد تكون الارادة متعلقة به بالاصالة وإنما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد وعليه ، فيستفاد الإطلاق من ظاهر الكلام بواسطة اصالة الظهور حيث ان الظاهر ان الارادة متعلقة

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٥٢٩ ، وفي الطبع الجديدة ج ٢ ص ٤٣٠.

(٢) الآية ٤ من سورة المائدة.

(٣) درر الفوائد للحائري ج ١ ص ٢٠١.

٤٥٢

بالطبيعة اصالة.

وفيه : ان اصالة الظهور لا بد لها من منشأ من الوضع أو القرينة ، وحيث ان الموضوع له ليس هو المطلق كما عرفت بل هي الطبيعة المهملة ، والاطلاق كالتقييد يتوقف على شيء آخر غير ترتب الحكم على الطبيعة المهملة ، فلا يصح التمسك باصالة الظهور إلا بعد فرض تمامية المقدمات.

لا يقال ، كيف يمكن الحكم بان الموضوع هو المطلق مع ان الإطلاق كالتقييد قيد زائد يحتاج ثبوته إلى دليل دال عليه.

لأنه يقال انه بعد فرض عدم معقولية ثبوت الحكم للطبيعة المهملة نفس عدم التقييد يكفي في الحكم بان الموضوع هو الطبيعة السارية ، بمعنى انه لا يكون شيء من القيود دخيلا في الحكم.

وبعبارة أخرى : كون الموضوع هو الطبيعة المطلقة يكفي في احرازه احراز عدم التقييد بضميمة ان الموضوع ليس هو الطبيعة المهملة.

ثم ان المحقق الخراساني (١) جعل من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ولو كان المتيقن بحسب الخارج عن ذلك المقام في البين ، والمراد به ، ان لا يكون المتقيد بقيد خاص بالنظر إلى دلالة اللفظ ، وظهوره لا بحسب واقع الارادة متيقنا وإلا فلو كان هناك قدر متيقن بالنظر إلى ذلك المقام ، واتكل المولى في مقام بيان مراده على وجوده ، وكان المقدار المتيقن هو تمام مراده لما اخل بغرضه لفرض بيانه ، وهذا بخلاف القدر المتيقن بلحاظ

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٧.

٤٥٣

الخارج عن ذلك المقام ، فانه لو كان تمام مراده المقدار المتيقن لاخل ببيانه.

وبهذا البيان اندفع ما أورد عليه بأنه ما الفرق بين القسمين ، فان كان أحدهما مضرا بالتمسك بالإطلاق فليكن الآخر كذلك.

فالصحيح ان يورد عليه : اولا : بان لازم ذلك عدم التمسك بالاطلاقات في اكثر المطلقات المتضمنة لبيان الأحكام فانها واردة في موارد خاصة ، ومن المعلوم ان المورد هو المتيقن ، كون مرادا من اللفظ المطلق مع انه لم يلتزم به احد ، ولذا اشتهر ان المورد ، لا يكون مخصصا ، ولا مقيدا ولا يلتزم هو أيضاً به ، إلا في بعض الموارد ، مثل المطلقات الواردة في مورد قاعدة التجاوز حيث انه التزم باختصاصها بالصلاة من جهة ان الامثلة المذكورة في صدر النصوص من اجزاء الصلاة.

وثانيا : انه إذا فرضنا ان المولى كان في مقام بيان تمام مراده ، وكان القيد دخيلا في حكمه لاخل بغرضه ، وان كان قدر المتيقن في مقام التخاطب موجودا ، فان المطلق الشامل لذلك المورد قطعا ، لا يدل على دخل القيد في الحكم ، وإنما يدل على ثبوت الحكم لذات المقيد وهو اعم من دخل القيد وعدمه فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.

واما ما جعله المحقق النائيني (ره) (١) من المقدمات ، وهو كون الموضوع أو المتعلق قابلا للانقسام إلى قسمين ، مع قطع النظر عن تعلق الحكم به ، بدعوى انه مع عدم قبوله للانقسام في مرتبة سابقة على الحكم كانقسام الواجب إلى ،

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٥٢٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٢٩ (الأولى ..).

٤٥٤

ما يقصد به امتثال امره ، وما لا يقصد فيه ذلك ، يستحيل فيه الإطلاق من جهة استحالة التقييد لانهما من قبيل العدم والملكة ، فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر.

فيرد عليه ، انه لو سلم عدم إمكان التقييد بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة في انشاء واحد مع انه ممنوع كما تقدم في التعبدى والتوصلى ، إلا انه يمكن بإنشاءين ، أو بانشاء واخبار.

وعليه فيمكن التقييد ولو بتعدد الدليل ، فيمكن الإطلاق ، مضافا إلى ما مر في ذلك المبحث من ان استحالة التقييد كما لا توجب ضرورية الإطلاق لا تستلزم امتناعه.

نعم ، هي مانعة عن التمسك بالإطلاق كما تقدم في المقدمة الأولى.

الانصراف مانع عن التمسك بالإطلاق

ثم انه يعتبر في التمسك بالإطلاق زائدا على ما مر ، احراز صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه ، كما هو الشأن في كل دليل ، وما لم يحرز صدقه لا يجوز التمسك بالدليل وهو واضح جدا.

وعليه ، فحيث ان التشكيك في الماهية وان كان محالا عقلا ، إلا انه بحسب المرتكزات العرفية امر ممكن وواقع وله عوامل متعددة.

منها علو مرتبة بعض أفراد الماهية كما في المثال الآتي.

ومنها غير ذلك ، فالانصراف الناشئ عن ذلك يمنع عن التمسك

٤٥٥

بالإطلاق ، والانصراف في غير هذا المورد لا يمنع عنه.

وتفصيل القول في ذلك ان الانصراف المانع عن التمسك بالإطلاق ، قسمان يجمعهما التشكيك في الماهية في متفاهم العرف.

توضيحه ان التشكيك في الماهية الموجب للانصراف المانع عن التمسك بالإطلاق.

تارة يكون بحيث يرى العرف بعض أفراد الطبيعة خارجا عن كونه فردا لها ، كما في الإنسان الذي هو حيوان حقيقة ولكن الحيوان لا يصدق عليه عند العرف وعلى ذلك بنوا انصراف ما دل على بطلان الصلاة في شيء من أجزاء ما لا يؤكل عن أجزاء الإنسان.

وأخرى يكون بحيث يشك العرف في كون فرد مصداقا للطبيعة وعدمه.

وعلى أي تقدير ، الانصراف في الموردين مانع عن التمسك بالإطلاق غاية الأمر.

في المورد الأول ، لا ينعقد للمطلق ظهور إلا في غير ما انصرف عنه اللفظ من جهة كون الكلام حينئذ من قبيل المحفوف بالقرينة المتصلة.

وفي المورد الثاني لا ينعقد له ذلك من جهة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ولكنهما يشتركان في المنع عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق.

واما في غير هذين الموردين ، من قبيل الانصراف الناشئ عن غلبة الوجود ، أو كثرة الاستعمال ، وما شاكل ، فلو كان فهو بدوي يزول بأدنى تأمل.

٤٥٦

ثم ان المحقق الخراساني (١) قال لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد ، أو الأصناف لظهوره فيه ، أو كونه متيقنا منه ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه انتهى.

فان كان نظره الشريف إلى ما ذكرناه من القسمين فهو متين.

وان كان نظره إلى ما أفاده في التقريرات (٢) من ان شيوع إرادة المقيد من المطلق ربما يبلغ حد الشياع في المجاز المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة ، وربما يوجب استقرار الشك واستمراره على وجه لا يزول بالملاحظة والتامل ، نظير الشك الحاصل في المجاز المشهور عند التردد في وصول الشهرة حدا يمكن معها التصرف ، وحكم فيهما بعدم التمسك بالإطلاق وانه يحكم ، في القسم الأول بالتقييد ، وفي الثاني بالاجمال.

فيرد عليه ان إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق بدال آخر لا يوجب انس اللفظ بالمعنى كما في المجاز المشهور ، فضلا عن ان يوجب تعينه ، وقد صرح المحقق الخراساني (٣) في مبحث ان الأمر حقيقة في الوجوب في الجواب عن صاحب المعالم ، ان كثرة الاستعمال مع القرينة المصحوبة لا توجب صيرورة اللفظ مجازا مشهورا ، وعدم الحمل على معناه الحقيقي كيف ، وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام إلا وقد خص ولم ينثلم به ظهوره في

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٤٩.

(٢) مطارح الانظار ص ٢١٩.

(٣) كفاية الاصول ص ٧٠.

٤٥٧

العموم بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

وبذلك يظهر ما يرد على ما أفاده في المقام بقوله كما انه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل ، لا يقال كيف يكون ذلك وقد تقدم ان التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلاً ، فانه يقال إلى ان قال ان كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ، ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية انس كما في المجاز المشهور أو تعيينا واختصاصا به كما في المنقول بالغلبة انتهى.

حمل المطلق على المقيد

الفصل الثالث : إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يختلف حكمهما بمعنى كون المحكوم به فيهما مختلفين ، مثل (اطعم يتيما ، واكرم يتيما هاشميا) أو يتحد حكمهما ، مثل (اطعم يتيما ، اطعم يتيما هاشميا) ومحل الكلام هو الثاني.

اما الأول : فلا يحمل المطلق على المقيد اجماعا إلا عن اكثر الشافعية ، وقد نقل عنهم حمل اليد في آية التيمم على اليد في آية الوضوء ، فقيدوها بالانتهاء إلى المرفق لاتحاد الموجب وهو الحدث ، واشكاله ظاهر لأنه يرجع إلى اثبات العلة والعمل بالقياس.

واما على الثاني : فقد يكون المقيد مخالفا للمطلق في الحكم مثل (اعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة).

وآخر يكون موافقا له مثل (اعتق رقبة ، واعتق رقبة مؤمنة).

وعلى الأول فقد تسالم الاصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد.

٤٥٨

وعلى الثاني فالمشهور الحمل والتقييد.

وذهب جماعة منهم إلى انه يحمل المقيد على افضل الأفراد.

ولكن الظاهر انه لاوجه للفرق بين القسمين ، لما مر في العام والخاص ، من ان الوجوب إذا تعلق بالطبيعة ربما يكون تطبيقها على مورد مباحا ، كما في الصلاة في الدار ، وربما يكون مستحبا ، كما في الصلاة في المسجد وربما يكون واجبا ، كما في الصلاة في محل نذر ان يأتي بها فيه ، وربما يكون مكروها ، كما في الصلاة في الحمام ، وعلى ذلك فكما يمكن ان يقال انه إذا ورد مطلق ومقيد مثبتان ، مثل (اعتق رقبة ، واعتق رقبة مؤمنة) انه يحمل الأمر في المقيد على الاستحباب ، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد ، كذلك يمكن ان يقال انهما إذا كانا مختلفين ، كما في (اعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة) يحمل النهي على الكراهة فيكون عتق الكافرة اردأ الأفراد ، كما ان عتق المؤمنة في الأول افضل الأفراد ، فما هو المشهور من حمل المطلق على المقيد في المختلفين جزما وبدون الترديد. والكلام والبحث في المتوافقين في غير محله ، بل هما من باب واحد.

وكيف كان فقد استدل الاكثرون للحمل فيما هو محل البحث بينهم : بأنه جمع بين الدليلين وهو اولى.

وأورد عليه بامكان الجمع على وجه آخر كحمل الأمر فيهما على التخيير أو في المقيد على الاستحباب.

وأورد عليه في التقريرات (١) على ما حكى انتصاراً للمشهور : بان الأول

__________________

(١) مطارح الانظار ص ٢٢١.

٤٥٩

باطل لعدم معقولية التخيير بين الفرد والكلى ، والثاني فاسد : لان التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ ، وإنما هو تصرف في وجه من وجوه المعنى الذي اقتضاه تجرده عن القيد ، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الاجمال ، فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفا فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد بحمل امره على الاستحباب.

وناقش المحقق الخراساني (١) في انتصار التقريرات بما حاصله انه قد مر ان الظفر بالمقيد المنفصل لا يكشف عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، بل عن عدم كون الإطلاق بمراد جدى ، فيكون التقييد أيضاً تصرفا في المطلق ، كما ان حمل الأمر على الاستحباب يكون تصرفا ، فيتعادل التصرفان ، مع ان حمل الأمر في المقيد في الحقيقة مستعمل في الإيجاب ، فان المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من افضل أفراد الواجب لا مستحبا فعلا ، فلا يلزم من حمل الأمر في المقيد على الاستحباب تصرف في المعنى فلا يعارض ذلك بالتصرف في المطلق.

ثم انه (قدِّس سره) قال ، ولعل وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

أقول : ما اورده على التقريرات متين.

واما ما أفاده في وجه حمل المطلق على المقيد.

فيرد عليه انه لا يلائم مع ما اختاره من ان دلالة الأمر على الوجوب

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٥٠.

٤٦٠