زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

١
٢

٣
٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلواته واكمل تحياته على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما بقية الله في الأرضين أرواح من سواه فداه.

وبعد فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.

***

٥

المقصد السادس

من مقاصد علم الأصول

في

القطع وأقسامه وأحكامه

وفيه مباحث :

٦

المقصد السادس

في القطع

القطع ، أقسامه ، وأحكامه :

وقبل الشروع في مباحث هذا المقصد ، لا بد من تقديم أمور :

الأمر الأول : أن مباحث القطع خارجة عن المسائل الأصولية ، بل هي أشبه بمسائل الكلام ، وإنما نتعرض لها لشدة مناسبته مع المقام.

فلنا دعاوى ثلاث :

أما خروجها عن المسائل الأصولية ، فلأنها عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية بمعنى أنها إذا انضمت إليها الصغريات أنتجت نتيجة فقهية ، وهو الحكم الشرعي الكلي الواقعي ، أو الظاهري ، وحجية القطع بأقسامه ـ بما أنها لا تكون واسطة في استنباط الحكم الشرعي ـ تكون خارجة عن مسائل علم الأصول.

فان قلت : إنه بناء على كون المسائل الأصولية ، هي المسائل التي تفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل شرعا ، تكون هذه المسألة منها إذ البحث عن منجزية القطع بأقسامه كالبحث عن منجزية الأمارة ، يفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل في الفقه.

قلت : إن الحجة في الفقه التي جعلت موضوع علم الأصول ، وقيل : إن

٧

مسائله إنما هي ما تفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل شرعا ، يحتمل أن يراد بها معناها المصطلح في المنطق ، ويحتمل أن يراد بها معناها المصطلح عند الأصوليين ، وعلى أي تقدير لا يصح إطلاقها على القطع الطريقي :

أما بمعناها الأول : فلان الحجة عبارة عن الوسط ، الذي يحتج به على ثبوت الأكبر للأصغر ، كالتغير لاثبات حدوث العالم ، وهي بهذا المعنى تتوقف على أن يكون بينها وبين الأكبر ـ الذي يراد إثباته للأصغر ـ علقة ثبوتية : إما علقة العلية والمعلولية بان يكون الوسط علة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمّي ، أو يكون معلولا له الذي هو البرهان الإنّي ، وإما علقة التلازم.

ومن المعلوم أن الحجة بهذا المعنى لا تصدق على القطع ، ولا يصح جعله وسطا في تأليف القياس. فلا يصح أن يقال : إن هذا معلوم الخمرية أو الحرمة ، وكل معلوم الخمرية خمر ، أو يجب الاجتناب عنه إذ معلوم الخمرية يمكن ان يكون خمرا ، ويمكن ان لا يكون.

وبعبارة أخرى : ان الخمرية من العناوين الواقعية تدور مدار الواقع لا العلم ، ووجوب الاجتناب متعلق بالخمر الواقعي لا بما هو معلوم الخمرية.

ثم ان الحجة بهذا المعنى كما لا تصدق على القطع لا تصدق على الأمارات الشرعية ، ولا يصح جعلها وسطا :

إذ متعلقاتها ان كانت من الموضوعات الخارجية فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح ، إذ لا علقة بين البينة القائمة على الخمرية وبين نفس الخمر ، لا علقة التلازم ، ولا علقة العلية ، والمعلولية.

٨

وان كانت من الأحكام الشرعية ، فلان الأحكام الشرعية إنما تثبت لمتعلقاتها ومترتبة على موضوعاتها الواقعية ، لا على ما أدى إليه الطريق إلا بناء على التصويب الذي لا نقول به ، فلا ربط ثبوتي بين الأمارة وبين الأكبر وقد عرفت لزوم وجوده في إطلاق الحجة.

وبهذا يظهر عدم تمامية ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله ان إطلاق الحجة على القطع ليس كاطلاقها على الأمارات المعتبرة شرعا إلى ان يقول فقولنا الظن حجة يراد به كونه وسطا لاثبات حكم متعلقه فراجع وتدبر.

وأما بمعناها الثاني : فلان الحجة في اصطلاح الأصوليين ، عبارة عن الطرق والأمارات الواسطة لاثبات أحكام ما تعلقت به بحسب الجعل الشرعي ، وهذا المعنى لا ينطبق على القطع ، إذ القطع بالحكم هو وصوله حقيقة ولا يتوقف على منجزية القطع لتكون نتيجة البحث عنها مفيدة في الفقه.

وهذا بخلاف سائر الأمارات لأنها ليست وصولا حقيقيا للحكم ، فيتوقف العلم بالحكم على ثبوت كونها وصولا تعبديا ، وبهذه العناية يصح جعلها وسطا في القياس لاثبات أحكام متعلقاتها فيقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية حرام ، ولعله إلى هذا نظر الشيخ الأعظم (ره) وان كان خلاف ظاهر كلامه.

فالمتحصّل : انه لا يصح إطلاق الحجة على القطع باصطلاح أهل الميزان ولا باصطلاح الأصولي ، نعم يصح إطلاق الحجة عليه بمعنى القاطع للعذر أي

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٤ المقصد الاول في القطع

٩

المنجز والمعذر ، ولكن هذا في القطع الطريقي.

واما القطع المأخوذ في الموضوع فقد يقال انه يصح إطلاق الحجة بمعناها الأول عليه بنحو من العناية فيقال هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية نجس يجب الاجتناب عنه إذا كانت النجاسة مترتبة على معلوم الخمرية لان نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلة إلى المعلول وان لم تكن من العلل الحقيقية إلا انه من جهة عدم تخلف الحكم عن موضوعه والتلازم بينهما يقع وسطا للقياس ، ولا فرق في ذلك بين ما لو كان القطع تمام الموضوع أو جزئه ، نسب ذلك إلى المحقق النائيني (ره) (١) ولا بأس به.

ولكن لا يصح إطلاق الحجة عليه بالمعنى الثاني : إذ القطع حينئذ وان كان دخيلا في فعلية الحكم ، إلا ان الحكم لا يكون مستفادا أو مستنبطا من القطع ، بل من الأدلة الدالة على ثبوت ذلك الحكم كالنجاسة عند القطع بالخمرية مثلا.

وبعبارة أخرى : تكون نسبته إليه هي نسبة سائر الموضوعات إلى الحكم ، فكما ان الحرمة لا تستنبط من الخمر بل من الأدلة الدالة على حرمة الخمر كذلك هذا الحكم.

ثم انه بما ذكرناه ظهر ان مسألتي منجزية العلم الإجمالي ، واستحقاق المتجري للعقاب خارجتان عن مسائل الفن.

واما مسألة قيام الأمارات والأصول مقام القطع ، فهي وان كانت من

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢ ـ ٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٩ (المقصد السادس).

١٠

المسائل الأصولية إلا أنها خارجة عن مسائل القطع ، لان إمكان قيام الأمارة مقام القطع وعدمه من توابع الأمارة ، لا القطع لأنه يثبت بها ترتب حكم الواقع على مؤدى الأمارة أو عدمه ، فظهر خروج هذه المسألة من المسائل الأصولية.

واما وجه اشبهيته بمسائل الكلام : فلان المسائل الكلامية ، عبارة عن كل شيء له مساس بالعقائد الدينية ، وحيث ان البحث عن منجزية القطع يمكن إرجاعه إلى انه هل يصح للمولى ان يعاقب على مخالفة المقطوع به ، فيصح دعوى ان هذه المسألة أشبه بمسائل الكلام.

واما شدة مناسبته مع المقام فلأنه يبحث في الأصول عما يقع نتيجته في طريق القطع بالحكم فيناسب بيان حال القطع بالحكم.

هل المسائل الأصولية تختص بالمجتهد

الأمر الثاني : ظاهر كلام الشيخ الأعظم (ره) (١) من جعل المقسم للحالات الثلاث ، القطع ، الظن ، الشك ، هو المكلف ، عدم اختصاص ما يذكره من احكامها ، بالمجتهد ، وهو صريح المحقق الأصفهاني (٢) ، وصريح المحققين

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢ وعاود ذكر التقسيم في المقصد الثالث من الكتاب ص ٣٠٨.

(٢) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٨.

١١

الخراساني (١) والنائيني (٢) هو الاختصاص وتبعهما جماعة وقالوا ان المسائل الأصولية من حجية خبر الواحد ، والاستصحاب ، وما شاكل تختص بالمجتهد ، وقد استدل للثاني ، بوجوه.

الأول : ما أفاده المحقق النائيني (ره) وتوضيحه : اختصاص عناوين موضوعاتها بالمجتهد : إذ حصول تلك الصفات من : القطع ، والظن ، والشك ، فرع الالتفات التفصيلي إلى الحكم ، والعامي من جهة غفلته لا يكاد تحصل له تلك الصفات ، وعلى فرض حصولها له لا عبرة بظنه وشكه بعد عجزه عن تشخيص موارد الأمارات والأصول ، وعدم تمكنه من فهم مضامينها والفحص في مواردها.

وفيه : انه يمكن فرض حصولها للمقلد ، ولو بعد تنبيه المجتهد ، أو كان محصلا غير بالغ مرتبة الاجتهاد ، واما عدم تشخيص مواردها ، فيرجع في ذلك إلى المجتهد وهو يعين الموارد.

الثاني : ما ذكره المحقق الأصفهاني (٣) قال ان عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تنطبق إلا على المجتهد ، فانه الذي جاءه النبأ ، أو جاءه الحديثان المتعارضان ، وهو الذي أيقن بالحكم الكلي ، وشك في بقائه وهكذا إلا ان محذوره عدم ارتباط حكم المقلد به فلا يتصور في حقه تصديق عملي وجري

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٩.

(٣) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٧.

١٢

عملي ، ولا نقض عملي ، وابقاء عملي ، فمن يتعنون بعنوان الموضوع ليس له تصديق عملي ليخاطب به ، ومن له تصديق عملي لا ينطبق عليه العنوان ليتوجه إليه التكليف انتهى.

وفيه : ان وظيفة المجتهد هي وظيفة الإمام (ع) ، وهي بيان الأحكام المجعولة في الشريعة بنحو القضايا الحقيقية ، ومن جملة تلك الأحكام ، الأحكام الأصولية ، فإذا فرضنا ان الخبر الموثق المتضمن للحكم الكلي ، كوجوب جلسة الاستراحة فهم المجتهد من الأدلة حجيته ، يفتى بحجية الخبر الموثق ، ويرجع المقلَّد إليه في ذلك من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، ويبين ان هذا الخبر ظاهر في الوجوب ولا معارض له ، ويرجع المقلد في ذلك أيضاً إليه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، فيعمل المقلد به.

وبذلك يظهر انه حاجة إلى ما ذكره (قدِّس سره) (١) في رد هذا المحذور بقوله ان أدلة الإفتاء والاستفتاء يوجب تنزيل المجتهد منزلة المقلد فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجيء الخبر إلى مقلده ويقينه وشكه بمنزلة يقين مقلده وشكه فالمجتهد هو المخاطب عنوانا والمقلد هو المخاطب لبا انتهى.

مع انه يرد عليه انه لا دلالة لأدلة الإفتاء على هذا التنزيل فتدبر.

الثالث : عدم قدرة المقلد على العمل بالخبر الواحد ، وعلى الفحص اللازم في العمل بالأصول.

وفيه : ان العمل بالخبر الواحد هو الإتيان بالفعل الذي دل الخبر على

__________________

(١) المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٧.

١٣

وجوبه ، وهذا مما يقدر عليه المقلد ، وإنما لا يقدر على الاستظهار من الدليل ، وقد عرفت انه له ان يرجع إلى المجتهد في ذلك من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، واما الفحص اللازم في العمل بالأصول فليس من باب كونه شرطا في الأخذ بالأحكام المتعلقة بالشك ، بل الحكم متعلق بالشك الذي لا يكون في مورده دليل ، والفحص إنما يكون لإحراز ذلك ، فيكون نظر المجتهد في تعيين ذلك متبعا للمقلد لكونه أهل الخبرة فالأظهر ان هذه الأحكام كالأحكام الأولية مشتركة بين المجتهد والمقلد لاطلاق أدلتها.

ونتيجة ما اخترناه ان للمجتهد ان يقر المقلد على الشك ويقول له لا تنقض اليقين السابق بالشك ، كما ان له ان يجري الاستصحاب عنه لليقين والشك ويفتى بما يستخرجه من الاستصحاب ، وهذا بخلاف القول بالاختصاص فانه ليس له ذلك.

ويترتب عليه انه إذا فرضنا في مورد كون حكم متيقنا سابقا ، ومشكوكا فيه لاحقا والمجتهد يرى ظهور رواية في خلاف الحكم السابق ، والمقلد يعلم بخطئه واشتباهه ، فان له ان يجري الاستصحاب ، ويعمل على طبقه وهذا بخلاف مبنى التخصيص ، فانه ليس له ذلك لعدم حجية الاستصحاب له فتدبر فان هذه ثمرة مهمة.

وربما يورد على القول بالاختصاص بوجهين :

أحدهما : ان لازمه عدم جواز رجوع المقلد إليه فيما استفاده من الأدلة ، فان الأحكام المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها لاحظ ، وجوب التصرف في مال الأيتام والقضاوة وما شاكل.

١٤

ويرده انه فرق بين الحكم المتعلق بالعمل الخاص والحكم الذي يكون واسطة في إثبات الحكم الكلي الأولى المشترك بين المجتهد والمقلد ، والذي لا يجوز العمل به هو الأول ، فانه حكم متعلق بعمل المجتهد ، والمقام من قبيل الثاني ، فانه يستفيد المجتهد من حجية الاستصحاب الحكم المشترك بينه وبين مقلده فتدبر.

ثانيهما : ان موضوع الأصول هو المكلف الشاك ، والمقلد الذي يكون التكليف متوجها إليه ، لا يكون شاكا في الحكم لعدم التفاته ، والمجتهد وان كان شاكا ، إلا ان التكليف غير متوجه إليه ، فمن توجه إليه التكليف غير شاك في الحكم ، والشاك فيه لم يتوجه إليه التكليف ، فلا مورد للرجوع إلى الأصل العملي.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) بان المجتهد نائب عن المقلد في إجراء الأصل ، فيكون الشك من المجتهد بمنزلة الشك من المقلد.

وفيه : انه لا دليل على هذه النيابة وأدلة الأصول غير شاملة للشك النيابي.

والحق في الجواب ان يقال ان موضوع الأصول هو الشك في الحكم فالمجتهد إذا التفت إلى حكم مقلده الذي ، هو مجعول بنحو القضية الحقيقية ، ووظيفة المجتهد كوظيفة الإمام (ع) ـ بيان ذلك وحصل له الشك مع يقينه سابقا بثبوته يجري الاستصحاب بلحاظ يقينه وشكه ، ولا يعتبر في جريان الاستصحاب

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤٥ من بحث الاستصحاب (الأمر الثالث).

١٥

كون الشك متعلقا بالحكم المتعلق بفعل نفسه ويفتي حينئذ ببقاء ذلك الحكم.

أضف إليه انه يمكن ان يجري المجتهد الاستصحاب بلحاظ يقين المقلد وشكه ، كما إذا كان الحكم مما يلتفت إليه المقلد أيضاً ، فيشك فيه كما شك فيه المجتهد فيجرى الاستصحاب في حقه ويفتي بمؤداه.

فالقول بالاختصاص وان كان لا محذور فيه ، إلا ان مقتضى إطلاق الأدلة هو البناء على التعميم.

تثليث الأقسام

الأمر الثالث : ذكر الشيخ الأعظم (١) ، ان المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإما ان يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشك ، ولذلك جعل كتابه مشتملا على مقاصد ثلاثة ، ومورد كلامه في التقسيم هو الحكم الواقعي.

وعدل المحقق الخراساني في الكفاية (٢) عن ذلك وجعل التقسيم ثنائيا ، ومحصل ما ذكره في وجه العدول أمور ثلاثة :

الأول : انه لا بد من ان يكون المراد من الحكم ، اعم من الواقعي والظاهري ، لعدم اختصاص أحكام القطع بما إذا تعلق بالحكم الواقعي ، وعليه

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨ بتصرف.

١٦

فلا بد من جعل التقسيم ثنائيا ، إذ المكلف إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري ، فإما ان يحصل له القطع به ، أو لا ويدخل بحث الحجج والأمارات الشرعية ، والأصول العملية الشرعية ، في القسم الأول ، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وان لم يحصل له الظن أو حصل ولم تتم مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة لا بد من الرجوع إلى الأصول العقلية ، من البراءة والاشتغال والتخيير على اختلاف الموارد.

الثاني : انه لا بد من تخصيص الحكم بالفعلي لان أحكام القطع مختصة بما إذا كان متعلقا به ، إذ الحكم الإنشائي غير البالغ مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر.

الثالث : انه لا بد من تبديل الظن بالطريق المعتبر لئلا يتداخل الأقسام ، إذ الظن غير المعتبر محكوم بحكم الشك ، وفي كلام الشيخ جعل قسيما له ، والأمارة المعتبرة ربما لا تفيد الظن الشخصي فهي قسيم الشك وقد جعلت في كلام الشيخ داخلة فيه.

وعليه فان كان لا بد من تثليث الأقسام ، فلا بد وان يقال : ان المكلف إما ، ان يحصل له القطع ، أو لا ، وعلى الثاني ، إما ان يقوم عنده طريق معتبر ، أو لا ، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق.

يرد على ما أفاده : ان المجعول في باب الأمارات والأصول الشرعية ليس هو الحكم الظاهري كما ستعرف فلا علم بالحكم في مواردها.

١٧

أضف إليه ان التقسيم في كلام الشيخ إنما هو في رتبة سابقة على الحكم ، ولبيان موضوعات المسائل الآتية بنحو الإجمال. باعتبار أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي :

إما ان يحصل له القطع الذي هو حجة ذاتا ولا تكون حجيته جعلية ، أو الشك الذي لا يكون قابلا للحجية إذ ليس فيه كاشفية أصلاً ولا معنى لجعله حجة.

واما ان يحصل له الظن وهو متوسط بينهما إذ له طريقية ناقصة ، فليس كالقطع ليكون حجة ذاتا ، ولا كالشك ليكون جعل الحجية له ممتنعا ، فان دل دليل على اعتباره يكون ملحقا بالقطع وإلا فهو ملحق بالشك ، ويجري في مورده الأصل العملي.

فالتقسيم إنما هو في مرتبة سابقة على الحكم ، وبعد البحث قد يلحق الظن بالقطع ، وقد يلحق بالشك ، فلا بد من جعل التقسيم ثلاثيا.

نعم لا بد من تبديل الظن في كلام الشيخ بالطريق الناقص الذي جعله الشارع حجة ، وتبديل الشك ، بعدم وجود إمارة معتبرة على الحكم ، وقد صرح الشيخ (ره) بذلك في أول بحث البراءة (١).

وبذلك يظهر الحال فيما أفاده ثالثا ، وانه هو الصحيح ، وان كان فيما أفاده

__________________

(١) وهو ظاهر كلامه في مقدمة المقصد الثالث من فرائد الاصول ج ١ ص ٣٠٨ حيث اعتبر أن الظن لا يصح العمل به دون الاعتماد على التعبد الشرعي لعدم تمامية كاشفيته ، والشك بحد نفسه ليس فيه كشف ليكون معتبرا ..

١٨

مسامحة يظهر لمن تدبر فيه.

فالمتحصّل ان التقسيم لا بد وان يكون ثلاثيا ، بالنحو الذي أفاده المحقق الخراساني (١) ولا يتم ما أفاده الشيخ الأعظم (ره).

وقد يقال كما عن المحقق العراقي (٢) ان الأولى ، ما أفاده الشيخ ، لان التقسيم إنما هو بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث ، الوجوب ، والإمكان ، والامتناع حيث ان القطع لكشفه التام مما وجب حجيته عقلا ، والظن لكونه كاشفا ناقصا أمكن حجيته شرعا ، والكشف لعدم الشك فيه لا يعقل حجيته.

وفيه : انه لو كان البحث في المباحث الآتية عن ، وجوب الحجية للقطع ، وامكانها للظن ، وامتناعها للشك كان ما ذكر من التقسيم حقا ، ولكن بما ان البحث في الظن إنما هو عن الأمارات المجعولة شرعا أفادت الظن أم لم تفد ، كما ان البحث في المقام الثالث عن الأصول المجعولة عند عدم وجود إمارة معتبرة ولو حصل الظن ، والتقسيم إنما يكون لتعيين عناوين المباحث الآتية إجمالا ، فلا يصح ما ذكر.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤.

١٩

الكلام في حجية القطع

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي البحث في مواضع :

الموضع الأول : قد طفحت كلمات الأصحاب بأنه يجب العمل على وفق القطع ، ولزوم الحركة على طبقه ، وانه يوجب تنجيز الحكم.

وتنقيح القول في هذا الموضع إنما هو بالبحث في مقامات :

الأول : في ان طريقية القطع بمعنى انكشاف المقطوع به ، قابلة للجعل ، أم لا؟

الثاني : في ان وجوب العمل على طبق القطع ، بمعنى منجزيته في صورة المطابقة للواقع ، ومعذريته في صورة المخالفة ، وان شئت فعبر عنه بالحجيَّة ، هل هو مجعول ، أم لا؟

الثالث : في انه هل يمكن عقلا النهي عن العمل به بمعنى عدم ترتب محذور عقلي عليه ، أم لا؟

الرابع : في انه هل يصح تعلق الأمر المولوي بالعمل على طبق القطع ، وان شئت فعبَّر عنه بالإطاعة ، أم لا؟ فيكون الأمر بالإطاعة إرشاديا ولا يمكن ان يكون مولويا.

أما المقام الأول : فالحق ان طريقيته لا تقبل الجعل ، لا التكويني منه ، ولا التشريعي ، إذ حقيقة القطع ، حقيقة مرآتية ، فالقطع عين الطريقية ، لا شيء لازمه تلك ، ومن الواضح انه لاجعل تأليفي يبن الشيء ونفسه.

٢٠