زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

وبذلك يظهر ان المحقق الخراساني ليس له الجواب بما أفاده.

ولكن قد مر في ذلك المبحث ان مسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد ، يمكن ان تكون مبتنية على مسألة فلسفية وهي ان الأصل في التحقق هو الفرد أو الطبيعة والماهية ، والقائلون بأصالة الماهية يدعون ان متعلق الأمر هو الطبيعة والقائلون بأصالة الوجود يقولون ان المتعلق هو الفرد ، وأيضا يمكن ان تكون مبتنية على مسألة فلسفية أخرى ، وهي ان الكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده أم لا وجود له في الخارج.

فعلى الأول يكون متعلق الأوامر والنواهي وجودات الطبائع.

وعلى الثاني يكون المتعلق الأفراد.

وعلى هذين التقديرين عدم ابتناء النزاع في المقام على تلك المسألة في غاية الوضوح وما أفاده المحقق الخراساني يتم على هذين المبنيين فتدبر.

ضابط ما يكون داخلا في مورد هذا الباب

الأمر التاسع : قال صاحب الكفاية (١) : انه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق والاجتماع كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين أو بحكم آخر غير

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٤ (الثامن).

٤١

الحكمين فيما لم يكن أحدهما أقوى كما يأتي تفصيله واما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب ولا يكون محكوما إلا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد منهما قيل بالجواز أو الامتناع. هذا بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الدلالة والاثبات فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني فلا بد من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير وإلا فلا تعارض في البين بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين فربما كان الترجيح مع ما هو اضعف دليلا لكونه أقوى مناطا فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلاً بل لا بد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات كما يأتي الإشارة إليها نعم لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة انتهى.

وربما يورد عليه ، بالتنافي ، بين قوله في هذا الأمر ، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني.

وبين قوله في الأمر اللاحق وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض : إذ لازم الأول ، هو إجراء أحكام التزاحم عند الشك في ثبوت المقتضى للحكمين ، ولازم الثاني ، هو إجراء أحكام التعارض.

ولكن الظاهر عدم وجود صورة شك في ذلك كي يكون على الأول موردا لإجراء أحكام التزاحم وعلى الثاني موردا لإجراء أحكام التعارض.

٤٢

وذلك لان دليلي الحكمين ان لم يكن لهما إطلاق ، أو كان لاحدهما خاصة لم يكونا من المتعارضين ولا المتزاحمين ، وان كان لكل منهما إطلاق.

فان علم بكذب أحدهما كان من باب التعارض مطلقا على كلا المسلكين.

وان لم يعلم بكذب أحدهما : فعلى القول بالجواز يعمل بكلا الدليلين :

فإذا كان الدليلان ، أو أحدهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي يحكم بفعليتهما ، واما على الامتناع ، فان كان الدليلان في مقام بيان الحكم الاقتضائي ، أو كان أحدهما كذلك يكونان من باب التزاحم.

واما ان يكون الدليلان في مقام بيان الحكم الفعلي ، فالاطلاقان متعارضان إذ بعد فرض عدم إمكان فعليتهما معا.

اما ان يكون مرجح من المرجحات المذكورة في الأخبار العلاجية لاحدهما فيحكم بفعليته. وإلا فيتساقطان.

وعلى كل تقدير أي سواء كان الساقط أحدهما أو كليهما يكونان من باب التعارض ، إذ كما يمكن ان يكون السقوط والانتفاء لأجل المانع مع ثبوت المقتضى له يمكن ان يكون لأجل انتفائه.

اللهم إلا ان يقال ان قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما اظهر وإلا فخصوص الظاهر منهما.

بدعوى : ان الدليل المتكفل لبيان الحكم الفعلي ، يدل بالمطابقة على ثبوت الحكم وبالالتزام على ثبوت المقتضى له فإذا وقع التنافي والتعارض بين الحكمين وسقطت الدلالة المطابقية لهما أو لاحدهما عن الحجية ، لاوجه

٤٣

لالقائهما عن الحجية في الدلالة الالتزامية ، ولازم ذلك هو الحكم بوجود المقتضى لهما فيكونان من باب التزاحم.

ثم ان هذا كله في شرح كلمات المحقق الخراساني ، ودفع توهم التنافي بين كلماته.

واما تحقيق القول في المقام ، فملخص ما أفاده في هذا الأمر ، أمور ثلاثة :

أحدها : ان هذه المسألة تدور مدار أمر واحد ، وهو كون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، مشتملا على ملاك الحكمين معا.

ليكون على القول بالجواز محكوما بكلا الحكمين ، لفرض وجود الملاك ، وعدم المانع من ناحية أخرى.

وعلى القول بالامتناع ، يكون محكوما بأقوى الملاكين إذا كان أحدهما أقوى ، وبحكم آخر غير هذين الحكمين إذا كان الملاكان متساويين ، واما لو يكن المجمع مشتملا على الملاكين فلا يكون من هذا الباب ، كان مشتملا على ملاك أحدهما أم لا؟

ولكن يرد عليه ان هذه المسألة لا تكون مبتنية على نظر الإمامية القائلين بتبعية الأحكام للملاكات الواقعية بل تعم نظر جميع المذاهب حتى مذهب الاشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات.

مع انه قد مر ان القول بالامتناع يبتنى على سراية النهي من متعلقة إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، اما لوحدة المجمع وجودا وماهية ، أو لعدم تخلف اللازم عن الملزوم في الحكم ، والقول بالجواز يكون مبتنيا على عدم السراية ، وعليه

٤٤

فأجنبية مسألتنا هذه ، عن مسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية ، واضحة.

ثانيها : انه لو أحرز من الخارج ، ان المجمع للمتعلقين مشتمل على ملاك واحد غير المعلوم انه ملاك الأمر أو النهي ، يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي ، ولا بد من الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب ، وإلا بان لم يحرز ذلك ، كان من باب تزاحم المقتضيين ، ولا بد من إعمال قواعد باب التزاحم.

ويرد عليه ما تقدم في مبحث الضد من ان ملاك التعارض هو تنافى الحكمين في مقام الجعل ، اما من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى ، والملاك في التزاحم هو ما إذا لم يكونا متنافيين في مقام الجعل ، بل كان بينهما كمال الملاءمة ، وكان التضاد بين المتعلقين اتفاقيا وكان منشأه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال اتفاقا.

وعليه : فإذا فرض وجود المقتضيين ، وفرض ان المجمع واحد وجودا ، وماهية ، لا محالة يقع المعارضة بين الحكمين : إذ لا يمكن اجتماع المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة ، أو الغالبة عليها ، مع المفسدة كذلك ، وأيضا لا يمكن اجتماع الإرادة ، والكراهة ، وأيضا لا يمكن الامتثال ولا يكون ذلك من باب التزاحم ، ولا مورد لاعمال قواعده ، وقد مر ان باب تزاحم المقتضيين ، غير باب تزاحم الأحكام.

ثالثها : انه لو كان كل من الدليلين متكفلا للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما ، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، إلا إذا جمع بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي ، بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.

٤٥

وفيه : ان التوفيق العرفي إنما يكون بملاحظة مرجحات باب الدلالة والمعارضة ، لا بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، لوضوح الفرق بين البابين ، مع ان الحمل المزبور ، لا يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لما مر ان اجتماع المصلحة ، والمفسدة ، والمؤثرتين ، في المحبوبية والمبغوضية ، غير ممكن.

واما ما أورده المحقق النائيني (١) على ما أفاده المحقق الخراساني ضابطا في المقام ، بما حاصله ، ان لازم ذلك عدم تحقق مورد للتعارض أصلاً إذ انتفاء الملاك لا يمكن استكشافه من نفس الدليلين لعدم تكاذبهما في ذلك وإنما يكون تكاذبهما في الوجوب والحرمة ، ولو دل دليل من الخارج على انتفاء الملاك في أحدهما يكون ذلك من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

فيرد عليه : أولا : ما ذكره المحقق الخراساني بقوله ، فان انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن ان يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضى له ، يمكن ان يكون لأجل انتفائه ، فعلى الامتناع وكون الدليلين في مقام بيان الحكم الفعلي يكون الدليلان متعارضين.

وثانيا : انه لو علم من الخارج انتفاء الملاك في أحد الحكمين الموجب للعلم بكذب أحدهما بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد يكون ذلك من باب التعارض ، لا اشتباه الحجة باللاحجة كما حققناه في مبحث التعادل والترجيح.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٥٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٦٠ ـ ١٦١.

٤٦

ما به يحرز كون المورد من قبيل التعارض أو من هذا الباب

الأمر العاشر : ان المحقق الخراساني (ره) بعد ما بين في المقدمة الثامنة (١) ضابط ما به يدخل مورد الاجتماع في هذا الباب قد تعرض لمقدمة أخرى ، وغرضه من التعرض له بيان ما به يمكن ان يحرز به كون مورد من قبيل التعارض أو من هذا الباب.

وحاصل ما أفاده (٢) انه ان كان هناك ما دل من إجماع أو غيره على وجود المناط لكلا الحكمين في المجمع فلا إشكال في انه حينئذ من هذا الباب ، وإلا فان كان لكل من دليلي الحكمين إطلاق ، فإما ان يكون الاطلاقان في مقام بيان الحكمين الاقتضائيين أو يكون الاطلاقان في مقام بيان الحكمين الفعليين.

فعلى الأول يدل الاطلاقان على ثبوت المقتضى والمناط في مورد الاجتماع ، فيكون من هذا الباب.

وعلى الثاني فكذلك على القول بالجواز إلا إذا علم إجمالا بكذب أحدهما فيعامل معهما معاملة المتعارضين ، وعلى الامتناع فالاطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضى للحكمين ، لان انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن ان يكون لأجل المانع ، يمكن ان يكون لأجل انتفائه.

اللهم إلا ان يقال ان مقتضى التوفيق بينهما حمل كل منهما على الحكم

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٤.

(٢) كفاية الاصول ص ١٥٥ ـ ١٥٦ (التاسع) بتصرف يسير

٤٧

الاقتضائي لو لم يكن أحدهما اظهر وإلا فخصوص الظاهر منهما.

وفي كلامه مواقع للنظر ، مع قطع النظر عما أوردنا عليه من عدم كون المناط في هذا الباب وجود الملاكين.

الأول : ان المراد من الحكم الفعلي ان كان هو الحكم البالغ مرتبة الباعثية والزاجرية ، فهو ليس امرا جعليا ومجعولا للشارع ، بل هو يدور مدار فعلية ما اخذ موضوعا له في مقام الجعل والانشاء : لما مر غير مرة من ان الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، ولا يتوقف جعلها على وجود الموضوع وإنما يصير الحكم فعليا بعد فعلية موضوعه ، ولا يعقل تخلفه عنه.

وان كان المراد منه هو جعل الحكم وانشائه.

فيرد عليه ان اجتماع الحكمين كذلك في شيء واحد محال من غير فرق بين القول بالجواز ، والامتناع.

الثاني : فيما أفاده في الحكم الاقتضائي ، فانه يرد عليه انه :

ان كان مراده منه هو الإنشاء بداعي الكشف عن كون المتعلق ذا مصلحة أو مفسدة فهو ليس إلا حكما ارشاديا ولا يثبت به الوجوب أو الحرمة ، والكلام إنما هو في اجتماع الأمر والنهي الدالين على الوجوب والحرمة ، فيكون خارجا عن مسألة الاجتماع.

وان كان مراده منه هو الحكم الطبيعي بمعنى الحكم الذي ثبت على ذات الشيء من دون النظر إلى عوارضه وطوارئه ، غير المنافي لعروض عنوان على متعلقه واتصافه بحكم آخر.

٤٨

فيرد عليه ان الإهمال في مقام الإثبات وان كان معقولا ، إلا ان التعارض والتزاحم فرع الإطلاق كما تقدم فمع عدمه لا تمانع رأسا.

الثالث : ما أفاده من إمكان رفع المعارضة بالتوفيق المزبور.

فانه يرد عليه ما تقدم فراجع.

الامتثال بإتيان المجمع على القول بالجواز

الأمر الحادي عشر : المشهور بين الاصحاب انه على القول بالجواز وتعدد المجمع تكون العبادة صحيحة ولو كان عالما بالحرمة ، أي حرمة ما هو ملازم للواجب في مورد الاجتماع ، وانه يسقط الأمر ويحصل الامتثال بإتيان المجمع مطلقا ، وان كان معصية للنهى.

وكذلك الحال على الامتناع وترجيح جانب الأمر إلا انه لا معصية عليه حينئذ.

واما على الامتناع وتقديم جانب النهي فالامر يسقط بإتيان المجمع مطلقا في غير العبادات لحصول الغرض ، واما في العبادات فلا يسقط الأمر مع الالتفات إلى الحرام أو بدونه تقصيرا.

واما إذا لم يلتفت إليه قصورا فالامر يسقط باتيانه ووافقهم المحقق

٤٩

الخراساني في الكفاية (١).

ولكن خالفهم المحقق النائيني (ره) (٢) وذهب إلى بطلان العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالما بالحرمة لا فيما إذا كان جاهلا بها أو ناسيا لها.

وتنقيح القول في المقام على وجه يظهر مدرك ما أفاده الاعلام ، وما هو الحق منها يقتضي البحث في مقامين.

الأول ، في حكم الامتثال على الجواز وتعدد المجمع.

الثاني ، في حكمه على القول بالامتناع ووحدة المجمع.

اما المقام الأول : فالكلام فيه في موردين :

أحدهما : ما إذا فرض العلم بحرمة ما هو ملازم للواجب في مورد الاجتماع.

ثانيهما : ما إذا كان جاهلا بها أو ناسيا لها.

اما المورد الأول : فقد عرفت ان المحقق الخراساني (ره) وفاقا للمشهور ، ذهب إلى صحة العبادة وخالفهم المحقق النائيني (ره) وذهب إلى بطلانها.

والحق ان يقال انه ، تارة نقول بعدم اشتراط القدرة في متعلق التكليف ما

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٦ ـ ١٥٧ (العاشر).

(٢) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣٥٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٦٣ عند قوله «والسر في ذلك ما عرفته سابقا».

٥٠

لم يستلزم اللغوية كما اخترناه ، أو نقول بأنه لو اعتبرنا القدرة فهو مختص بالقدرة التكوينية دون التشريعية كما هو الصحيح ، فلا اشكال في صحة العبادة لفرض ان المأمور به منطبق على الفرد الماتي به في الخارج وهو المجمع ، وان استلزم المعصية للنهي ، لكن العبادة ليست متحدة مع الحرام ، فلا يكون ارتكابه موجبا للفساد بل يكون من قبيل النظر إلى الاجنبية في الصلاة.

وأخرى نقول باعتبارها ، فحينئذ ان قلنا بكفاية القدرة على بعض الأفراد في تعلق الأمر بالطبيعة اين ما سرت كما اختاره المحقق الثاني (ره) (١) لا كلام في الصحة كما لا يخفى.

واما بناء على اشتراطها وعدم كفاية ذلك ، واعتبار كون كل فرد مقدورا في نفسه في دخوله في حيز الأمر ، فيقع التزاحم بين الأمر والنهي لعدم قدرة العبد على امتثالهما معا فمع تقديم جانب النهي يسقط الأمر.

وما ذكره الأستاذ الأعظم (٢) من ان حرمة ما يكون مقارنا للمأمور به لا تجعل ذلك الفرد غير مقدور ليخرج عن حيز الأمر إذ عدم القدرة اما ان يكون تكوينيا أو يكون تشريعيا بتعلق النهي بذلك الشيء أو بمقدماته ، وفي غير هذين الموردين لا يكون الشيء غير مقدور.

وعليه : فبما ان الاتيان بفرد الطبيعة المأمور بها في ضمن المجمع لا يكون غير مقدور عقلا كما هو واضح ، ولا شرعا لعدم تعلق النهي به ولا بمقدماته

__________________

(١) راجع جامع المقاصد ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٣٦٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧٨.

٥١

لعدم سراية النهي عن ملازمه إليه فلا وجه لخروجه عن حيز الأمر ، فلا مانع من اتيان المأمور به في ضمن المجمع بقصد امره حتى على هذا المسلك.

غير تام إذ بناءً على اعتبار القدرة ، بما ان المكلف غير قادر على الاتيان بالمأمور به في ضمن المجمع وترك المنهي عنه ، فلا بد من سقوط النهي أو خروج هذا الفرد عن حيز الأمر ، ولا يمكن بقائهما معا فإذا فرضنا بقاء النهي ، فلا محيص عن خروج هذا الفرد عن حيز الأمر.

وبعبارة أخرى : لم يظهر لى وجه الفرق بين هذا المورد من موارد التزاحم وسائر موارده ، فان هذا البرهان بعينه يجرى في ساير الموارد كما لا يخفى ، والجواب عنه ما ذكرناه.

فالاظهر انه على هذا المبنى لا بد من سقوط الأمر ، ولكن يمكن تصحيح العبادة حينئذ والالتزام بحصول الامتثال بإتيان المجمع بالترتب ، أو بداعي الملاك بناءً على استكشاف وجوده مع سقوط التكليف كما هو المشهور غير المنصور.

ثم ان المحقق النائيني استدل لما ذهب إليه من بطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة : بان صحة العبادة حينئذ تتوقف على احد مسالك (١).

الأول : ثبوت الأمر بها في عرض النهي.

الثاني : ثبوت الأمر في طول النهي بنحو الترتب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٦٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧٩ ـ ١٨٠ قوله : «قلت : أما استلزام القول بالامتناع من الجهة الأولى ...» إلى أن قال : «لأن الموجب لصحة العبادة حينئذ إما .. الخ».

٥٢

الثالث : اتيانها بداعي الملاك ، وشيء منها لا يتم.

اما الأول : فلانه يعتبر في متعلق التكليف القدرة على المأمور به وقد بينا في محله ان مدرك اعتبار القدرة ليس هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل المدرك اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه حيث ان حقيقة الخطاب هو البعث على احد طرفي المقدور وترجيح احد طرفي الممكن وجعل الداعي للفعل ، ومعلوم ان جعل الداعي نحو الممتنع عقلا وشرعا محال ، فلازم ذلك كون متعلق الأمر هو الحصة المقدورة من الطبيعة وخروج الحصة غير المقدورة عنه.

وبعبارة أخرى : ان لازمه أيضاً اعتبار الزائد على قدرة الفاعل التي يحكم باعتبارها العقل ، وهو القدرة على الفعل والفرد المزاحم للحرام فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه لان المانع الشرعي كالمانع العقلي فلا تنطبق الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها عليه فلا تصح.

وفيه : ما عرفت في مبحث الضد مفصلا ، ان هذا الوجه لا يتم وانه يبتنى على ان يكون الأمر هو البعث نحو الفعل مع انه عبارة عن إبراز شوق المولى إلى الفعل ، أو اعتبار كون الفعل على عهدة المكلف ، وشيء منهما لا يقتضي اعتبار القدرة فراجع ما ذكرناه.

واما الثاني : وهو تصحيح العبادة في المجمع بالترتب فقد انكر جريان الترتب في مسألة الاجتماع.

ومحصل ما أفاده في وجه عدم جريان الترتب ، يظهر ببيان مقدمتين :

الأولى : ان الترتب إنما يمكن فيما إذا كان فعل المهم على فرض عصيان

٥٣

الأمر بالاهم مقدورا للمكلف ، واما لو فرضنا عدم القدرة عليه وصيرورة الفعل واجبا على تقدير ترك الاهم كما في الضدين الذين لا ثالث لهما فلا مورد للترتب كما تقدم.

الثانية : ان الترتب إنما نلتزم به فيما لم يلزم من الخطابين كذلك طلب الجمع بين الضدين ، وإلا فلا يمكن.

فبعد هاتين المقدمتين ، قال (١) : ان عصيان خطاب النهي الذي هو شرط الأمر حيث انه لا بد وان يكون اما بإتيان متعلق الأمر أو بضد آخر غيره ، وعلى الأول يلزم من الخطاب الترتبى طلب الحاصل ، وعلى الثاني يلزم منه طلب احد الضدين على تقدير وجود الضد الآخر ومرجعه إلى طلب الجمع بين الضدين وكلاهما محال فلا يعقل الخطاب الترتبى في المقام.

ويتوجه عليه ان : ما ذكره (ره) من المقدمتين تامتان.

ولكن لا يتم ما رتب عليهما ، إلا على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، إذ بناء على الجواز يكون وجود المنهي عنه مغايرا مع وجود المأمور به وسائر الأفعال ، فالامر بالصلاة مثلا على تقدير تحقق الغصب ليس طلبا للحاصل.

فان قلت ان وجود الغصب يلازم مع فعل من الأفعال ، فاما ان يؤخذ في الموضوع الحصة الملازمة للصلاة فيلزم طلب الحاصل ، أو يؤخذ فيه الحصة الملازمة لفعل آخر من النوم وغيره ، فيلزم طلب الجمع بين الضدين.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ ـ ١١٥ من مبحث الترتب.

٥٤

قلت : يرد عليه اولا : النقض بسائر المتزاحمين الذين صححنا الترتب فيها كالصلاة والازالة ، فنقول ان ترك الازالة الذي اخذ في موضوع الأمر بالصلاة ، اما ان يؤخذ الحصة منه الملازمة للصلاة ، فيلزم طلب الحاصل ، أو يؤخذ الحصة الملازمة لفعل آخر فيلزم طلب الجمع بين الضدين.

وثانيا : بالحل ، وهو انه لا يؤخذ قيد من القيود فيه ، فكما انه نقول في المثال ان الشرط هو ترك الازالة المعرى عن جميع القيود ، وعلى تقديره تكون الصلاة مقدورة كذلك في المقام نقول ان الشرط هو فعل المنهي عنه ولا يؤخذ فيه قيد من القيود ، وعلى فرض وجوده يكون وجود المأمور به مقدورا فيؤمر به على هذا التقدير ، وقد مر تفصيل القول في ذلك في مبحث الضد فراجع.

واما الثالث : وهو تصحيحها بالملاك فقد افاد (قدِّس سره) (١) في وجه عدم إمكان ذلك بان ملاك الأمر إنما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن مزاحما بالقبح الفاعلى وإلا فلا يكون صالحا للتقرب به إلى المولى : فان صحة العبادة كما يعتبر فيها الحسن الفعلي كذلك هي مشروطة بالحسن الفاعلى بان يكون زائدا على محبوبيته وحسنه ايجادها من الفاعل حسنا ، والملاك المفروض وجوده في المقام ليس كذلك لان الصلاة والغصب مثلا بما انهما ممتزجان في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة إلى أحدهما دون الآخر كانا متحدين في مقام الايجاد والتاثير فيكون موجدهما مرتكبا للقبيح في إيجاده ومعه يستحيل ان يكون الفعل الصادر منه مقربا له.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٧٠ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٨١.

٥٥

وفيه : انه بعد فرض تعدد وجود المأمور به والمنهى عنه كما هو المفروض في هذا المقام ، لا محالة يكون الايجاد متعددا : إذ الايجاد والوجود ، متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلكل من المأمور به والمنهى عنه ، إيجاد مستقل فليس في إيجاد المأمور به قبح فعلى ، ولا فاعلي ، نعم هو مقارن لما هو قبيح ولكن قد مر ان القبح لا يسرى من احد المقارنين إلى المقارن الآخر.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه على القول بالجواز وتعدد المجمع يكون حكم المقام حكم ساير موارد التزاحم ، فالاظهر صحة العبادة بالاتيان بالمجمع.

نعم ، بناء على ما تقدم من انه لا طريق لنا إلى احراز الملاك مع سقوط الأمر ، لا سبيل إلى تصحيح العبادة إلا بالطريقين الأولين.

واما المورد الثاني : وهو ما إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور أو ناسيا لها ، فعلى القول بالصحة في حال العلم فالصحة في فرض الجهل والنسيان اظهر.

واما على القول بعدم الصحة في صورة العلم ، فالظاهر هي الصحة أيضاً في صورة الجهل والنسيان.

اما مع الجهل ، فلانه في جميع موارد التزاحم إذا كان التكليف بالاهم غير منجز ، فبما انه لا يصلح ان يكون معجزا شرعيا عن امتثال الآخر لكونه معذورا في مخالفته لا يعقل مزاحمته معه فلا محالة يكون الأمر باقيا.

واما في فرض النسيان فالامر اوضح لان التكليف يكون مرفوعا رأسا.

فالمتحصّل ، مما ذكرناه صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع واقعا في جميع الصور من العلم والجهل والنسيان.

٥٦

واما ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) قال : انه لا اشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا ولو في العبادات وان كان معصية للنهى أيضاً انتهى.

فهو وان كان حقا كما مر إلا انه لا يتم على مسلكه من سقوط التكليف عن احد المتزاحمين فانه حينئذ ان قدم جانب الأمر لم يكن وجه لحكمه بالمعصية للنهى وان قدم جانب النهي لم يكن معنى للاتيان بداعي الأمر بعد أنه لا يلتزم بالترتب.

حكم الامتثال بإتيان المجمع على القول بالامتناع

المقام الثاني : في حكم الامتثال بإتيان المجمع على القول بالامتناع ووحدة المجمع واقعا فان قدمنا جانب الأمر فالصحة واضحة غير محتاجة إلى البحث.

وان قدمنا جانب النهي فالكلام فيه في موضعين :

الأول : في صورة العلم أو الجهل به عن تقصير.

الثاني : في صورة الجهل عن قصور والنسيان.

اما الموضع الأول : فالكلام فيه في موردين :

أحدهما : في التوصليات.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٦ (العاشر).

٥٧

ثانيهما : في العبادات.

اما المورد الأول : ففي الكفاية فيسقط به الأمر به مطلقا في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له انتهى.

وفيه : انه ان قدم جانب النهي وخرج المجمع عن حيز الأمر وتمحض في كونه منهيا عنه وقيد المأمور به بغير هذا الفرد لا معنى لصحته وحصول الغرض ، وان شئت قلت انه على الامتناع يقع التعارض بين دليلى الأمر والنهي ، فان قدمنا دليل النهي لقواعد ومرجحات باب التعارض ، يخرج المجمع عن كونه مامورا به ، ومعه لاوجه للاجزاء من غير فرق بين التعبدى والتوصلى.

نعم ، ربما يعلم من الخارج انه يحصل الغرض من الواجب ولو أتى به في ضمن محرم كازالة النجاسة عن البدن والثوب لو غسلا بالماء المغصوب ، واما مع عدم الدليل على ذلك كتكفين الميت بالمغصوب وتحنيطه به فلا يحكم بالصحة وسقوط الأمر وحصول الغرض.

وبالجملة على الامتناع ووحدة المجمع وجودا وماهية ، ووقوع التعارض بين دليل الأمر والنهي ، معنى تقديم جانب النهي تمحض المجمع في كونه مبغوضا ومحرما فحسب ، ومن الواضح ان الحرام لا يعقل ان يكون مصداقا للواجب.

وبما ذكرناه ظهر الحال في المورد الثاني : وهو العبادات وانه لا اشكال في الفساد.

واما الموضع الثاني : فالكلام فيه ، تارة في صورة الجهل عن قصور ، وأخرى

٥٨

في صورة النسيان.

اما في صورة الجهل ، فالاظهر هو الفساد إذ بعد ما خرج المجمع عن تحت دليل الأمر وتمحضه في كونه مبغوضا ومحرما وعدم معقولية ان يكون مصداقا للواجب لا فرق بين صورة العلم والجهل ، ولا بد من البناء على عدم سقوط الأمر باتيانه ، وان شئت فلاحظ المثال المعروف ـ اكرم عالما ـ ولا تكرم الفساق ، فعلى فرض تقديم النهي ، هل يتوهم احد سقوط الأمر باكرام العالم الفاسق ، فكذلك في المقام.

وقد استدل المحقق الخراساني (ره) (١) للصحة في العبادات بوجوه ثلاثة :

الأول : ان المجمع من حيث كونه مشتملا على المصلحة قابل لان يتقرب به وإنما لا يحكم بالصحة ، في صورة العلم ، وما يلحق به من الجهل إذا كان عن تقصير من جهة انه يقع الفعل في الحالين مبعدا والمبعد لا يقرب.

وبعبارة أخرى : لا يكون صدوره حسنا بل قبيحا من جهة كونه إيجادا للمبغوض ، وان شئت فقل انه يعتبر في صحة العبادة حسن الفعل والحسن الفاعلى ، وفي الحالين ، وان كان الفعل حسنا إلا انه يكون مقترنا بالقبح الفاعلى ، ولاجل ذلك لا يصح ولا يمكن ان يتقرب به ، وهذا بخلاف ما إذا كان الجهل عن قصور وعذر ، فانه لا يكون الفعل منه مبعدا ولا مقترنا بالقبح

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٦ ـ ١٥٧ بتصرف. والوجه الأول قوله : «وأما اذا لم يلتفت إليها قصورا ، وقد قصد القربة باتيانه ، فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به ، لاشتماله على المصلحة».

٥٩

الفاعلى فتصح العبادة.

هذا بناء على كفاية الاتيان بداعي الملاك بل يمكن تصحيح العبادة على القول باعتبار قصد الأمر فيها.

بدعوى كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة التي يندرج تحتها المجمع في الامتثال بإتيان المجمع ، وان لم يكن بنفسه داخلا في حيز الأمر.

وفيه : ان المصلحة المغلوبة للمفسدة ، لا تصلح ان تكون موجبة للقرب فلا يصح التقرب بما اشتمل عليها فاتيان المجمع في صورة الجهل عن قصور ، وان لم يكن مقترنا بالقبح الفاعلى ، إلا انه بنفسه لا يكون حسنا.

مع انه لو سلم ذلك لا يتم ما ذكره من كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة : إذ الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به فلا يصح الاتيان بالمجمع غير المأمور به بداعي الأمر المتعلق بغيره.

مضافا إلى انه بعد عدم إمكان كون المجمع محكوما بحكمين من غير فرق بين صورة العلم والجهل ، وتقديم جانب النهي وسقوط الأمر ، لا كاشف عن وجود المصلحة إذ سقوط الأمر ، كما يلائم مع وجود المصلحة وغلبة المفسدة عليها ، يلائم مع عدم المصلحة وتمحض المجمع في كونه ذا مفسدة ومع عدم احراز المصلحة كيف يمكن التقرب بالملاك.

٦٠