زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

٣ ـ ان ما أفاده في الهامش من ان مجرد الصلوح لذلك بلا قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، وان كان تاما.

وبه يندفع ما أفاده في الإطلاق ، إلا انه لم يظهر وجه الفرق بين العموم والاطلاق ، وانه كيف لا يكون صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع مانعا عن انعقاد الإطلاق ، ويكون مانعا عن ظهور العام في العموم.

ثم ان للمحقق النائيني (١) في المقام تفصيلا.

قال ان من الواضح انه لا بد من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة.

وعليه فان لم يكن عقد الوضع مذكورا إلا في صدر الكلام كما إذا : (قيل اكرم العلماء واضفهم واطعمهم إلا فساقهم) لا مناص من رجوع الاستثناء إلى الجميع ، لفرض ان عقد الوضع لم يذكر إلا في صدر الكلام ، وعرفت انه لا بد من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع ، وان كان عقد الوضع مكررا في الجملة الأخيرة كما في الآية الكريمة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(٢) فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، لان تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب اخذ الاستثناء محله من الكلام ، فيحتاج تخصيص الجملة

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦ (والتحقيق في ذلك).

(٢) الآية ٤ ٥ من سورة النور.

٤٠١

السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض.

ويرد عليه امران :

١ ـ ما أفاده في صورة عدم تكرر عقد الوضع.

فانه يرد عليه ان الاستثناء كما يصح من الاسم الظاهر ، يصح من الضمير وليس الضمير كالتوصيف ، وعليه فحكم هذه الصورة حكم الصورة الثانية.

٢ ـ ما أفاده في صورة تكرر عقد الوضع من اخذ الاستثناء محله من الكلام.

فانه يرد عليه انه مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ما معنى اخذ الاستثناء محله من الكلام؟

وللاستاذ تفصيل آخر (١) ، وحاصله ان الصور ثلاث :

الأولى : ان يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب كما لو قيل : (اكرم العلماء والسادة إلا الفساق منهم).

الثانية : ان يكون تعددها بتعدد المحمول كما لو قال المولى لعبده : (بع كتبي وأعرها واجرها إلا ما كان مكتوبا على ظهره انه مخصوص لي).

الثالثة : ان يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معا ، كما لو قال : (اكرم السادة وانظر إلى العلماء إلا الفساق منهم).

اما في الصورة الأولى فان لم يتكرر عقد الحمل كما في المثال فلا شبهة في

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٥ ص ٣٠٦.

٤٠٢

رجوع الاستثناء إلى الجميع ، حيث ان ثبوت الحكم الواحد لهم جميعا قرينة عرفا على ان الجميع موضوع واحد في مقام الجعل واللحاظ ، واما إذا كرر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : (اكرم العلماء واكرم الشيوخ إلا الفساق منهم) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لان تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على انه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات ، وبذلك يأخذ الاستثناء محله من الكلام.

واما الصورة الثانية ، فان كان الموضوع فيها غير متكرر كما في الآية الكريمة والمثال ، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع ، والوجه فيه هو رجوع الاستثناء إلى الموضوع فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع.

وان كان الموضوع فيها متكررا كما في مثل قولنا : (اكرم العلماء واضفهم وجالس العلماء إلا الفساق منهم) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل لو كانت ، فان تكرار عقد الوضع قرينة عرفا على قطع الكلام عما قبله ، وبذلك يأخذ الاستثناء محله.

واما الصورة الثالثة : فيظهر حالها مما تقدم وهو رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة.

والظاهر : ان اساس ما أفاده من التفصيل أمور :

احدها : ان تكرار عقد الوضع قرينة عرفية على انفصال الكلام عما قبله فيأخذ الاستثناء محله.

٤٠٣

ثانيها : انه مع عدم تكراره يكون الكلام ظاهرا في الرجوع إلى الجميع لرجوع الاستثناء إلى الموضوع ، والمفروض انه ذكر في صدر الكلام.

ثالثها : ان ثبوت الحكم الواحد للموضوعات المتعددة قرينة عرفا على ان الجميع موضوع واحد.

ويرد على ما أفاده :

اولا : ان تكرار عقد الوضع لو سلم كونه قرينة على انفصال الكلام عما قبله ، لا يكون سببا لرجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة بعد كونه صالحا للرجوع إلى الجميع ، ولم افهم معنى اخذ الاستثناء محله.

وثانيا : ما اوردناه على المحقق النائيني (ره) من ان الاستثناء يصح ان يرجع إلى الضمير.

نعم ما أفاده من الأمر الثالث تام.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، هو ظهور القضية مطلقا ، في الرجوع إلى الجميع.

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الفصل السابع : ذهب جماعة إلى جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر

٤٠٤

الواحد ، وحكى المحقق (١) عن الشيخ (٢) وجماعة انكاره مطلقا ، وقال صاحب المعالم (٣) وهو مذهب السيد (٤) ، وفصل بعضهم فاجازه ان كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلا كان أو منفصلا ، وتوقف بعض وإليه يميل المحقق (٥).

ويمكن ان يستدل للجواز بوجوه :

١ ـ انه حيث لا تعارض بين سند الكتاب وسند الخبر ، بل التنافي إنما هو من جهة الدلالة ، أي دلالة الكتاب عموما أو اطلاقا وسند الخبر ، أو دلالته ، فلا ريب في تقديم الخبر ، لان دليل اعتبار سند الخبر يكون حاكما عليها ، ورافعا

__________________

(١) معارج الاصول ص ٩٦ (المسألة الثالثة) قوله : «يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد وأنكر ذلك الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله سواءً كان العموم مخصوصاً أو لم يكن ، وهو اختيار جماعة من المتكلمين».

(٢) العدّة ج ١ ص ٣٤٤ ، فإنه بعد ان استعرض الاقوال قال : «والّذي أذهب إليه : أنّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، سواء خصّ أو لم يخصّ ، بدليل متّصل أو منفصل ، وكيف كان ، والّذي يدلّ على ذلك : أنّ عموم القرآن يوجب العلم ، وخبر الواحد يوجب غلبة الظّن ، ولا يجوز أن يترك العلم للظنّ على حال ، فوجب لذلك أن لايخصّص العموم به»

(٣) معالم الدين ص ١٤٠.

(٤) في الذريعة ج ١ ص ٢٨٠ ـ ٢٨١ قوله بعد استعراض جملة من الأقوال : «والّذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، وقد كان جائزا أن يتعبّد الله تعالى بذلك ، فيكون واجبا ، غير أنّه ما تعبّدنا به ، والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه ..».

(٥) معارج الاصول ص ٩٦ بعد استعراض الاقوال قال : «والأولى التوقف ..».

٤٠٥

لموضوعها ، وهو الشك في إرادة العموم ، حيث انه بعد اعتبار الخبر سندا وحجيته يكون مبينا لما هو المراد من الكتاب في الواقع فيقدم عليه ، واما دلالة الخبر فهي قطعية لكونه نصا في مدلوله ، وبديهي ان الظاهر يرفع اليد عنه بالنص.

٢ ـ الأخبار العلاجية حيث انهم (ع) قدموا فيها عند بيان المرجحات الشهرة وصفات الراوى على موافقة الكتاب ، فتدل على ان الخبر المخالف للكتاب ، بنحو العام والخاص ، لا التباين إذا كان مشهورا يكون حجة ، ومقدما على معارضه ، فلا محالة يخصص العموم به.

اضف إلى ذلك ما سيأتي في محله ، من ان الأمور المذكورة فيها : منها موافقة الكتاب من مرجحات احدى الحجتين على الاخرى ، لا من مميزات الحجة عن اللاحجة ، فجعل موافقة الكتاب من تلكم بنفسه دليل حجية المخالف.

٣ ـ انه لو لا ذلك لزم الغاء الخبر بالمرة ، ضرورة انه لا خبر إلا ويخالفه عموم الكتاب ، فادلة حجية الخبر تدل على جواز تخصيص الكتاب به.

واما ما استدل به صاحب التقريرات (١) والمحقق الخراساني ، قال في الكفاية (٢) لما هو الواضح من سيرة الاصحاب على العمل باخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الائمة عليهم‌السلام.

فيرد عليه : ان المتيقن من ذلك في زمن الائمة ، هو ما لو كان الخبر قطعي

__________________

(١) مطارح الانظار ص ٢١٠ (هداية).

(٢) كفاية الاصول ص ٢٣٥.

٤٠٦

السند ، فانه لا ريب في حصول القطع بالصدور كثيرا ، مع قلة الواسطة وكون الواسطة مورد الوثوق والاطمينان.

واستدل لعدم الجواز بوجوه :

احدها : ان الكتاب قطعي السند ، والخبر ظنى السند ، فكيف يرفع اليد عن القطعي بالظني.

ويرد عليه ما مر من : ان القطعي إنما هو سند الكتاب وصدور الفاظه الخاصة عن الشارع الاقدس ، والخبر لا ينافي ذلك ، واما دلالته على العموم أو الإطلاق فهي ليست قطعية ، لاحتمال عدم ارادته تعالى العموم أو الإطلاق من العمومات والمطلقات ، وإنما يكون حجية اصالة الظهور فيها ببناء العقلاء ، وبديهي ان بنائهم عليها إنما هو ما لم يقم على خلافها قرينة وإلا فلا بناء منهم على العمل بها ، والفرض ان خبر الواحد بعد قيام الدليل على حجيته يصلح قرينة على الخلاف.

وعلى الجملة ان طرف معارضة الخبر هو دلالة الكتاب وهي غير قطعية.

ثانيها : ما ذكره المحقق (ره) (١) المائل إلى التوقف وهو انه ، لا دليل على حجية الخبر غير الإجماع والمتيقن منه ما لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو اطلاقه.

__________________

(١) في معارج الاصول ص ٩٦ قوله : «لا نسلم أن خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأن الدلالة على العمل به الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به».

٤٠٧

ويرده ما سيأتي من ان مدرك حجية الخبر هو ، السيرة العقلائية ، والآيات ، والاخبار كما سيمر عليك مفصلا ان شاء الله تعالى.

ثالثها : ما عن الشيخ في العدة (١) وهو الأخبار الدالة على المنع عن العمل بما خالف كتاب الله ، وان ما خالفه زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم اقله أو ما شاكل ذلك (٢) ، وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضاً فتدل على عدم حجيتها.

وفيه : ان المخالفة بالعموم والخصوص لا تكون مخالفة عرفا ، بل العرف يرى كون الخاص قرينة على العام ، وشارحا له ، ومع وجوده لا بناء من العقلاء على حجية اصالة الظهور ، فالمراد من المخالفة فيها اما خصوص المخالفة بالتباين ، أو الاعم منه ومن العموم من وجه.

اضف إليه انه بعد العلم بصدور الأخبار المخالفة للكتاب بالعموم المطلق ، فلو سلم شمول المخالفة له لا بد من تخصيص تلك الأخبار بغير تلك

__________________

(١) قال في العدة ج ١ ص ٣٥٠ : «ما دلّ على عمل الطّائفة المحقّة بهذه الأخبار من إجماعهم على ذلك لم يدلّ على العمل بما يخصّ القرآن ، ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة ، بل قد ورد عنهم عليهم‌السلام ما لا خلاف فيه من قولهم : «إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فخذوه ، وإن خالفه فردوه أو فاضربوا به عرض الحائط» على حسب اختلاف الألفاظ فيه ، وذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القرآن». ثم شرع في رد بعض الاشكالات المحتملة.

(٢) راجع الوسائل ج ١٨ أو ج ٢٧ من ط مؤسسة أهل البيت (ع) باب ٩ «وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة وكيفية العمل بها».

٤٠٨

المخالفة.

فان قيل ان الأخبار الآمرة برد المخالف آبية عن التخصيص.

اجبنا عنه انها آبية عن التخصيص الافرادى ولكنها غير آبية عن التخصيص الانواعى بان يقال كل خبر خالف كتاب الله فهو زخرف إلا المخالف له بنحو العموم والخصوص المطلق.

واما ما في الكفاية (١) من قوله مع قوة احتمال ان يكون المراد انهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا ، وان كان على خلافه ظاهرا شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه.

فيرد عليه : ان الأخبار الآمرة بطرح المخالف صريحة في كون المراد هو ما بين الدفتين لا الحكم الله الواقعي ، فانه لا يعلمه إلا هو ونبيه وأوصياؤه ، فلا معنى لارجاع الناس إليه ، وجعله معيارا لهم في تشخيص الخبر الصحيح عن غيره.

مع انه لو تم ما افاده فإنما هو فيما كان لسانه ، لم نقله أو ما شاكل ، ولا يتم فيما كان لسانه اضربه على الجدار كما لا يخفى.

رابعها (٢) : انه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به ، حيث انه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الازمان ولا فرق بينهما إلا في كون التخصيص المصطلح تخصيصا بحسب الأفراد العرضية ، والنسخ تخصيصا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٧.

(٢) حكى هذا الوجه آية الله الخوئي في المحاضرات ج ٥ ص ٣١٤.

٤٠٩

بحسب الأفراد الطولية فلو جاز الأول جاز الثاني مع انه ممتنع جزما ، فيمتنع الأول.

ويرد عليه : انه قد دلت الأدلة القطعية على ان الشريعة المقدسة قد كملت في زمان النبي (ص) وانه لا يتبدل شيء من الأحكام بعد موته ، وان حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام كذلك ، وهذه تدل على ان الخبر الدال على النسخ باطل وغير موافق للواقع وليس كذلك التخصيص.

نعم إذا تضمن خبر الواحد نسخ حكم في زمان النبي (ص) نلتزم به ولا محذور فيه.

فالمتحصّل هو جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

الفصل الثامن : إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين النسخ والتخصيص ففيه صور :

الأولى : ان يكون الخاص متصلا بالعام ومقارنا معه.

الثانية : ان يكون الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

الثالثة : ان يكون الخاص بعد العام وبعد حضور وقت العمل به.

الرابعة : ان يكون العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به.

الخامسة : ان يكون العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به.

٤١٠

اما الصورة الأولى : فلا ريب في كونه مخصصا لعدم معقولية النسخ لأنه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة ، والمفروض ان الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعا له ، وبالجملة لا معنى معقول لجعل الحكم ورفعه في آن واحد.

واما الصورة الثانية : فقد يقال بعدم جواز التخصيص ، فانه يلزم منه تأخير البيان عن وقت الخطاب.

ويرده ما سيأتي من جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلا عن تأخيره عن وقت الخطاب.

وفي الكفاية (١) وعن المحقق القمي (٢) وصاحب المعالم (٣) وغيرهم من الاساطين ، انه لا محيص من كونه مخصصا له وبيانا ، واستدل له بوجهين :

أحدهما : ان المتعلق في ظرف العمل ان كان فيه مصلحة فلما ذا ينسخ الحكم ، وإلا فلما ذا يجعله.

ويرده ان هذا ايراد أورد على جواز النسخ مطلقا وسيأتي الجواب عنه انه يمكن ان يكون مصلحة في البعث إليه في زمان أو يكون مفسدة في اخراج هذا الفرد في أول الأمر.

ثانيهما : انه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم فعليته في

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٧.

(٢) قوانين الاصول ج ١ ص ٣١٩ (القسم الثالث : وهو ما علم تقدم الخاص).

(٣) معالم الدين ص ١٤٣ (الثاني ان يتقدم العام ..).

٤١١

الخارج بفعلية موضوعه فان اثر الحكم الايجابي منحصر في إمكان داعويته في ظرف العمل.

والالتزام بأنه يمكن ان يكون مصلحة في جعل الحكم ، ونسخه قبل زمان العمل ، التزام بعدم إمكان النسخ ، إذ مثل ذلك الجعل ليس جعلا للحكم الحقيقي ، بل هو حكم صوري امتحاني ، أو نحوه ، وهو خلف الفرض.

ولا فرق في ذلك بين القضية الخارجية ، والحقيقية ، إذ في القضية الحقيقية ، وان كان المجعول هو الحكم على موضوع مقدر الوجود ، وليس منوطا بوجود الموضوع خارجا ، ويصح الجعل مع عدم تحقق الموضوع في الخارج ، فيما إذا صار الجعل سببا لعدم تحققه ، كما في بعض الأحكام الجزائية ، كجعل القصاص ، إلا انه لأجل كون الحكم البعثي ، إنشاء بداعي جعل الداعي ، ومع نسخه لا يترقب منه ذلك ، فلا يصح.

وبعبارة أخرى : اثر جعل الحكم ، ولو كان بنحو القضية الحقيقية ، هو إمكان داعويته في حين فعليته فلا يصح نسخ مثل ذلك قبل فعلية الموضوع المستلزم للغوية الجعل.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) (١) حيث انه التزم بامكان النسخ قبل حضور وقت العمل في القضايا الحقيقية غير الموقتة بوقت مخصوص ، مستدلا بأنه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له في العالم أصلاً ، إذ المفروض انه حكم على موضوع مقدر الوجود :

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٥٠٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٩٥.

٤١٢

فانه قد عرفت ان المانع هو لغوية جعل الحكم ثم نسخه ، مع ، انه في مورد علم الحاكم بعدم تحقق الموضوع خارجا وعدم استناد ذلك إلى الجعل نلتزم بعدم معقولية الجعل للغويته.

وما يرى من صحة جعل الحكم الموجب لعدم تحقق موضوعه في الخارج الموجب لعدم فعليته في الخارج كما في القصاص وبعض الحدود فإنما هو من جهة خروج ذلك الجعل عن اللغوية ولا ربط لذلك بما هو محل الكلام الذي لا اثر عملي له سوى إمكان الداعوية.

فالمتحصّل انه ، يمكن ان يكون ذلك ناسخا ، ويمكن ان يكون مخصصا ، ولكن الاظهر كونه مخصصا لما سيأتي في الصورة الثالثة.

الصورة الثالثة : وهي ما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، فقد يقال : بتعين النسخ ، وقد يقال بتعين التخصيص.

واستدل للاول ، بعدم معقولية التخصيص لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بان العام إذا كان واردا في مقام بيان الحكم الواقعي تم ما ذكر ، واما إذا كان واردا في مقام بيان جعل القانون والقاعدة ، بمعنى ان المتكلم اراد بالارادة التصديقية فيما قال ، جعل الحكم على جميع الأفراد ، وان استعمال العام في معناه إنما هو لكونه بيانا للمراد ما لم يجئ قرينة على التخصيص ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٧.

٤١٣

والروايات ، فلا مانع من ورود التخصيص بعد حضور وقت العمل به ، إذ لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لعدم كون المولى في مقام بيان المراد الجدِّي حين جعله الحكم على نحو العموم ، وإنما يكون في مقام بيان ضرب القاعدة وهو على الفرض لم يتاخر بيانه عن وقت الحاجة.

ويرد عليه ان ما ذكر من كون عمومات الكتاب والسنة واردة في مقام ضرب القاعدة ، وان كان تاما كما مر في مبحث عدم استلزام تخصيص العام للمجازية.

ولا يرد عليه ما اورده المحقق النائيني (ره) كما عرفت في ذلك المبحث.

إلا انه لا يفيد في المقام إذ لا يخلو الأمر من كون العمومات ظاهرة في إرادة العموم واقعا وجدا في مقام الإثبات والدلالة ، أو لا تكون ظاهرة فيها ، فعلى الأول يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إذ العام حينئذ ظاهر في العموم والخاص المتأخر كاشف عن عدم إرادة العموم ، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وعلى الثاني لا ظهور لها في العموم كي يتمسك به في مقام الإثبات وفي ظرف الشك في المراد ، وبالجملة المحذور في ذلك المبحث ثبوتى يرتفع بما أفيد ، وفي المقام اثباتي لا يرتفع به فتدبر.

فالأولى في مقام الجواب ان يقال ان قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما هو بمناط انه يوجب ايقاع المكلف في المشقة من دون مقتض لها واقعا ، وذلك فيما إذا افترضنا ان العام مشتمل على حكم الزامي في الظاهر ، ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملا على حكم ترخيصي ، وهو قبيح ، أو انه يوجب القاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة كما إذا كان العام مشتملا

٤١٤

على حكم ترخيصي في الظاهر ، وكان بعض أفراده في الواقع واجبا أو حراما ، وهو أيضاً قبيح ، وأيا ما كان إنما يكون هذا القبح قابلا للرفع وذلك فيما إذا اقتضت المصلحة الاقوى ذلك ، فانه لا يكون هذا القبح كقبح الظلم غير ممكن التخلف عنه بل هو اقتضائي ومن قبيل قبح الكذب.

وعليه فإذا اقتضت المصلحة الاقوى من مفسدة التاخير ، أو كان في التقديم مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره لا محذور فيه ولا مانع عنه (كما كان كذلك في صدر الاسلام).

واستدل للثاني : بوجوه يأتي الإشارة إليها في الصورة الخامسة ، وستعرف وجه تعين التخصيص في جميع الصور.

الصورة الرابعة : ما لو ورد العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به.

ففي هذه الصورة يتعين الالتزام بالتخصيص ، لما مر في الصورة الثانية من ان البناء على النسخ يوجب لغوية جعل الحكم.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به.

ففي هذه الصورة يقع الكلام في ان الخاص المتقدم ، هل يكون مخصصا فيكون الحكم المجعول بعد ورود العام هو حكم الخاص دون العام ، أو ان العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم فيكون الحكم المجعول بعد وروده هو حكم العام ، فيه وجهان.

وقد استدل لتعين التخصيص بوجوه :

٤١٥

الأول : ما في الكفاية (١) قال : وان كان الاظهر ان يكون الخاص مخصصا لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام إلا وقد خص مع قلة النسخ في الأحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ولو كان بالإطلاق أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع كما لا يخفى انتهى.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) تبعا للشيخ الأعظم (٣) ، بامتناع كون دليل الحكم متكفلا لبيان استمرار ذلك الحكم ودوامه ، لان الحكم باستمرار أي حكم إنما هو في مرتبة متاخرة عن نفس ذلك الحكم ، ضرورة انه لا بد من ان يكون نفس الحكم مفروض الوجود حين الحكم عليه بالاستمرار فكيف يعقل ان يكون دليل واحد متكفلا باثبات نفس الحكم وباثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج.

ولكن يمكن رد ذلك بان معنى استمرار الحكم ودوامه ، هو ثبوت الحكم في جميع الأزمنة وبلحاظ الأفراد الطولية للمتعلق ، وعليه فكما ان الدليل بالاضافة إلى الأفراد العرضية قد يكون مقيدا ، وقد يكون مطلقا كذلك بالاضافة إلى الأفراد الطولية وليس معناه ، ثبوت حكم واحد ، واستمرار ذلك الحكم ، بل لا محالة ينحل الحكم إلى أحكام عديدة بعدد ما لموضوعه من الأفراد.

وعليه فإذا كان الدليل في مقام البيان ولم يقيده بزمان خاص يكون الحكم

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٥١١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٠١ (اما الدعوى الولى).

(٣) راجع مطارح الانظار ص ٢١٣ (الثالثة) حيث اختار التخصيص لارجحيته.

٤١٦

مطلقا بالاضافة إلى جميع الأزمنة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له.

فما أفاده المحقق الخراساني من ان الخاص يدل على الدوام والاستمرار بالإطلاق ، متين.

ولكن ما أفاده من تقديم الخاص على العام ، وان كانت دلالة الخاص بالإطلاق ودلالة العام على العموم بالوضع.

غير تام ، فان دلالة العام على العموم تنجيزية غير متوقفة على شيء وتصلح ان تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في الخاص.

غلبة التخصيص لا تكون بحد توجب الاطمينان بذلك ، ومجرد الظن لا يغنى عن الحق شيئا ، مع انه لا يدور الأمر في المقام بين التخصيص والنسخ ، فان الخاص صلاحيته لكونه مخصصا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، وهي غير جارية على الفرض.

الثاني : التمسك بقولهم عليهم‌السلام (حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (١) فان ذلك ظاهر في ان كل حكم ثابت في الشريعة المقدسة مستمر إلى يوم القيامة فيتمسك في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم الثابت فيه بعموم هذا الدليل.

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٤٨ باب آخر فيه امر الكتب ح ٧ / الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس .. ح ١٩ وزاد فيه «ابداً» «.. حلال أبداً .. وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة».

٤١٧

وفيه : اولا : ان المراد به ان شريعة محمد (ص) باقية إلى يوم القيامة وانه لا ينالها يد النسخ بشريعة أخرى ، ولا نظر له إلى استمرار كل حكم منه إلى يوم القيامة.

مع ، انه لو سلم ظهوره في استمرار كل حكم منها ، يقع التعارض بينه وبين عموم العام المقتضى للشمول لجميع الأفراد منها هذا الخاص المستلزم ذلك للنسخ.

الثالث : ان الأمر في محل الكلام دائر بين رفع اليد عن اصالة العموم ، وبين رفع اليد عن اصالة عدم النسخ وفي مثل ذلك يتعين رفع اليد عن اصالة العموم ، لقلة النسخ ، وكثرة التخصيص.

وفيه : انه لو جرت اصالة العموم لكانت حاكمة على اصالة عدم النسخ ، لان مدرك الأولى بناء العقلاء ، ومدرك الثانية الاستصحاب ، ولا كلام في حكومة الاصل اللفظي على الاصل العملي.

مع ان اصالة العموم في نفسها لا تجرى ، إذ الخاص المتأخر يصلح أن يكون بيانا للمراد من العام ، وان ورد بعد حضور وقت العمل به إذا كانت هناك مصلحة تقتضيه ، وعليه فلا تجرى اصالة العموم التي مدركها بناء العقلاء ، لعدم كون بنائهم على ذلك في مثل الفرض.

اضف إلى ذلك كله ، ان اصالة عدم النسخ لا تجرى في الثورة الثالثة لوجهين :

أحدهما : انه يجب على المكلف ، بعد ورود الخاص تطبيق عمله على طبق

٤١٨

الخاص ، كان هو ناسخا أو مخصصا فلا اثر لجريان اصالة عدم النسخ.

فان قيل انه يترتب عليها الاثر بلحاظ ثبوت الحكم العام إلى زمان ورود الخاص.

اجبنا عنه بأنه يعتبر في الاستصحاب ترتب الاثر بلحاظ البقاء لا الحدوث فتدبر.

ثانيهما : ان المعتبر في الاستصحاب كون الحدوث متيقنا والبقاء مشكوكا فيه ، وفي المقام يكون بالعكس ، فانه في المقام لا شك في حكم الخاص بعد وروده ، وإنما الشك في ان حكمه قبل ذلك كان هو هذا الحكم بعينه ليكون الخاص مخصصا لدليل العام ، أو ان حكمه كان على طبق العموم فيكون ناسخا ، فلا معنى لجريان الاستصحاب.

فالصحيح في وجه تعين التخصيص ان يقال مضافا إلى ما مر من عدم جريان اصالة العموم في نفسها ان الأحكام الشرعية باجمعها ثابتة في الاسلام في زمان النبي (ص) ولا نسخ بعده.

وعليه فالاحكام التي بيَّنها الائمة المعصومين (ع) هي الأحكام الثابتة من الأول لا من حين صدورها ، فتكون العمومات والخصوصات باجمعها كاشفة عن ثبوت مضامينها من الأول.

وعليه فلا مناص من جعل الخاص مخصصا في جميع الصور لا ناسخا.

٤١٩

النسخ

ثم انه لا بأس بصرف الكلام إلى ما هو الحق في النسخ ، تبعا للاساطين.

فأقول : ان النسخ في اللغة رفع شيء واثبات غيره مكانه ، وتحويل شيء إلى غيره وفي الاصطلاح هو رفع امر ثابت في الشريعة بارتفاع امده وانتهائه ، وان شئت قلت انه البداء في التشريعيات.

وبذلك يظهر ان ارتفاع الحكم الفعلي بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، ليس من النسخ بشيء ، بل النسخ هو رفع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.

والمشهور بين المسلمين امكانه ، وخالفهم اليهود والنصارى.

وقد استدلوا له : بان النسخ يستلزم احد محذورين ، اما عدم حكمة الناسخ ، أو جهله ، وكلاهما مستحيل في حقه تعالى.

والوجه فيه ان الله تعالى حين ما جعل المنسوخ ان كان عالما بوجود المصلحة إلى الابد فيلزم كون نسخه جزافا وعلى خلاف الحكمة ، وان لم يكن عالما به بل كان جاهلا مركبا يعتقد وجود المصلحة ثم انكشف له عدمها كان جاهلا ولا ثالث.

والجواب : عن ذلك :

اولا : النقض بالتخصيص ، فانه يجرى فيه هذا البرهان فان الشارع الجاعل للحكم على نحو العموم ، ان كان عالما بوجود المصلحة في جميع الأفراد

٤٢٠