زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

يصلح للقرينية بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به ، إلا على القول باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا ، وهو غير ثابت ، فيحكم بالاجمال ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول العملية.

واما الدعوى الثانية : فافاد في وجهها ان اصالة عدم الاستخدام لا تجرى لما مر ، فلا معارض لاصالة الظهور في ناحية العام المنعقد ظهوره في العموم بعد عدم ما يصلح للقرينية في الكلام المتضمن له.

وأورد على ما أفاده في وجه عدم جريان اصالة عدم الاستخدام بوجهين :

الأول (١) : انه يتم ذلك بناء على دوران الأمر بين اصالة العموم واصالة عدم الاستخدام ، واما بناء على دورانه بين اصالة العموم والاسناد إلى من هوله ، فالمراد من الضمير هو البعض تارة ، والكل أخرى ، إذ لو كان العام مستعملا في الخصوص كان الاسناد إلى من هو له ، وكان المراد بالضمير هو الكل ، وإذا كان الاسناد إلى الكل توسعا كان المراد من الضمير هو البعض ، فالمراد من الضمير مختلف.

وفيه : ان العبرة في جريان الأصول التي بنى عليها العقلاء ، بالمراد الجدِّي الذي يختلف به العمل ، لا المراد الاستعمالى ، فمع الشك في مثل هذا المراد الذي لا يختلف به في مقام العمل لا تجرى هذه الأصول فتدبر.

__________________

(١) الظاهر ان هذا الإيراد للمحقق الاصفهاني ، راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٦٥٤ قوله : «لا يقال : المراد من الضمير بناء على الدوران بين اصالة العموم وعدم الاستخدام هو البعض قطعا ..».

٣٨١

الإيراد الثاني : ما ذكره الأستاذ الأعظم (١) ، وهو ان المدعى لجريان اصالة عدم الاستخدام لا يدعى ظهور نفس الضمير في شيء ، ليرد عليه ما ذكر ، بل إنما يدعى ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد من الضمير ومرجعه ، وبما ان المراد من الضمير في محل الكلام معلوم ، يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي المثبت لعدم إرادة العموم من العام ، ورفع اليد عن اصالة العموم المقتضية للالتزام بالاستخدام ، وعليه فيجرى هذا الاصل.

وما ذكره يتم ان رجع إلى ما سنشير إليه ، وهو ان المعتبر في جريان اصالة عدم الاستخدام كسائر الأصول العقلائية هو اختلاف العمل بالبناء عليها وعدمه :

فانه حينئذ يكون ذلك من تعيين المراد ، ولا يعتبر زائدا على ذلك كون ذلك بتعيين المراد المطابقي ، بل يكفي الاختلاف من ناحية تعيين المراد الالتزامى ، والمقام من هذا القبيل فان اللازم من جريان اصالة عدم الاستخدام وان الضمير مستعمل فيما وضع له كون المراد من العام بعض أفراده ، فيجرى هذا الاصل لهذه الجهة.

والإيراد على ذلك ، بان اثبات اللازم العقلي ، وهي إرادة الخاص من العام في المقام ، فرع اثبات الملزوم بالاصل فإذا لم يمكن اثبات الملزوم به ، لم يمكن

__________________

(١) آية الله الخوئي في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧١ / وايضا في المحاضرات ج ٥ ص ٢٨٧.

٣٨٢

اثبات لازمه به أيضاً لأنه فرعه وبتبعه كما عن المحقق النائيني (ره) (١).

غريب : إذ عدم إمكان اثبات الملزوم به ، إنما يكون لأجل عدم اختلاف العمل ، والاصول العقلائية ، إنما تكون جارية في مقام تعيين الوظيفة ، وإلا ، فمع فرض الاختلاف ولو من جهة اللازم فيجري الاصل بلا محذور ـ ولكن ستعرف بعيد هذا انه ليس لازم جريان اصالة عدم الاستخدام إرادة الخاص من العام فانتظر ـ وان لم يرجع إلى ذلك ، واراد منه ان ذلك من تعيين المراد المطابقي فهو كما ترى.

فالمتحصّل انه لا محذور في جريان اصالة عدم الاستخدام من ناحية ما ذكر.

واما ما أفاده في وجه عدم جريان اصالة العموم فسيأتي الكلام فيه.

ثم ان المحقق النائيني ذكر في وجه عدم جريان اصالة عدم الاستخدام وجهين آخرين غير ما ذكره المحقق الخراساني :

أحدهما (٢) : ان الاستخدام في الضمير ، إنما يلزم إذا كان العام بعد التخصيص مجازا ، فانه حينئذ يكون المراد من الضمير المعنى المجازى ، ومن العام المعنى الحقيقي ، واما بناء على الحقيقة وعدم كونه مجازا فلا يلزم الاستخدام إذ لا يكون للعام حينئذ إلا معنى واحد حقيقي وليس له معنى آخر حقيقي أو مجازى ليراد بالضمير الراجع إليه معنى مغاير لما اريد من نفسه ليلزم الاستخدام في الكلام.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧٢ (وهذا بخلاف المقام ..).

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧٠ (الأول).

٣٨٣

وفيه : ان العام المخصص لا يكون مجازا لو اريد به نفسه بالارادة الاستعمالية معناه الحقيقي ، وهو تمام الأفراد ، إذ المخصص يكشف عن عدم مطابقة المراد الجدِّي للمراد الاستعمالى فلا تلزم المجازية ، واما لو كان المراد بالضمير الراجع إليه بالارادة الاستعمالية بعض أفراد العام فهو الاستخدام ، إذ المراد بالمرجع حينئذ جميع الأفراد ، وبالضمير الراجع إليه هو البعض ، وليس الاستخدام إلا ذلك ، أي عدم اتحاد المراد من المرجع والضمير.

الثاني (١) : انه لو سلمنا جريان اصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد إلا انها إنما تجرى فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع كما إذا قال المتكلم ، رأيت اسداً وضربته ، وعلمنا ان مراده بالضمير هو الرجل الشجاع ، واحتملنا ان يكون المراد بلفظ الاسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع لئلا يلزم الاستخدام ، وان يكون المراد منه الحيوان المفترس ، ليلزم ذلك ، ففي مثل ذلك نسلم جريان اصالة عدم الاستخدام ، فيثبت بها ان المراد بلفظ الاسد في المثال ، هو الرجل الشجاع ، دون الحيوان المفترس.

واما فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير ، في الآية الكريمة هو خصوص الرجعيات ، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه ، يعنى كلمة المطلقات في الآية الكريمة ، فالمراد بالضمير فيها إنما هو مطلق المطلقات ، وإرادة خصوص الرجعيات منها ، إنما هي بدال آخر ، وهو عقد الحمل في الآية ، فانه يدل على كون الزوج احق برد زوجته فما استعمل فيه الضمير ، هو بعينه

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٧٣ (الثالث).

٣٨٤

ما استعمل فيه المرجع ، فاين الاستخدام لتجرى اصالة عدمه.

وفيه ان ما أفاده من ان الضمير في الآية الكريمة مستعمل في العموم متين جدا ، وقيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض اقسام المطلقات في اثناء العدة ، لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص ، لما مر مفصلا من ان التخصيص لا يستلزم كون العام مجازا.

ولكن ما أفاده من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل.

غير تام ، فان الآية الكريمة ، متعرضة لبيان حكمين للمطلقات :

١ ـ لزوم التربص والعدة

٢ ـ احقية الزوج برد زوجته ، ولو كان الدليل منحصرا بالآية لقلنا بعموم الحكمين لجميع اقسام المطلقات ، وإنما ثبت الاختصاص بدليل خارجي ، فانه دل دليل من الخارج على اختصاص الحكم الثاني بقسم من المطلقات كما انه دل دليل خارجي ، على اختصاص الحكم الأول بغير اليائسة ومن لم يدخل بها ، فكما ان المطلقات استعملت في العموم ، والتخصيص لا يوجب استعمالها في الخاص ، فكذلك الحال في الضمير.

فالمتحصّل انه لا مانع من إجراء اصالة عدم الاستخدام.

واما اصالة العموم ، فلم يورد على جريانها شيء سوى :

٣٨٥

ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من انه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية.

وهو غير تام ، فان اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية إنما هو فيما إذا ذكر في الكلام كلمة أو جملة مجملة ، من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده مثل اكرم العلماء إلا الفساق منهم إذا افترضنا ان لفظ الفاسق يدور امره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الاعم منه ومن المرتكب للصغيرة فلا محالة يسرى اجماله إلى العام.

واما فيما نحن فيه : وهو ما إذا كان الكلام متكفلا لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة ، حيث ان الجملة المشتملة على العام متكفلة لبيان حكم ، وهو لزوم التربص والعدة ، والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لبيان حكم آخر ، وهو احقية الزوج بالرجوع إلى الزوجة في اثناء العدة ، والحكم الأول ثابت لجميع أفراد العام ، والثاني ثابت لبعض أفراده ، ومن الواضح انه لا صلة للثاني بالأول كي يكون قرينة على اختصاص الحكم الأول أيضاً.

وعلى الجملة لا تمانع بين عموم الحكم الأول واختصاص الحكم الثاني ، حتى يكون الثاني قرينة على الأول ، فاصالة العموم أيضاً تكون جارية.

ثم انه بعد جريان كل من الاصلين في انفسهما.

يقع الكلام في انه ، هل يكون بينهما تعارض حتى يرفع اليد عن أحدهما ، أم لا؟

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٦ (السر ان الدوران في الحقيقة بين اصالة العموم ..).

٣٨٦

الظاهر هو الثاني ، إذ مقتضى اصالة عدم الاستخدام إرادة العموم ، لا الخصوص بالارادة الاستعمالية ، لا بالارادة الجدية كي يقال ان المراد معلوم فلا يجرى اصالة عدم الاستخدام.

وبعبارة أخرى : انه لا تمانع بين الاصلين ، فان اصالة العموم تقتضي كون المراد بالعام هو العموم ، واصالة عدم الاستخدام لا يقتضي إلا كون المراد من الضمير بالارادة الاستعمالية هو ما اريد من مرجعه ، لا ان المراد بالارادة الجدية هو ذلك.

نعم ، بعد جريانها في ساير الموارد يجرى اصل آخر وهو مطابقة المراد الاستعمالى مع المراد الجدِّي ، وعليه ، فهذا الاصل لا يجرى في المقام ، لا انه لا تجرى اصالة عدم الاستخدام نفسها ، فالاصلان الطوليان الجاريان في ناحية العام وهما ، اصالة العموم ، واصالة مطابقة المراد الجدِّي للمراد الاستعمالى ، لا معارض لهما ، إذ اصالة عدم الاستخدام المعينة لان المراد الاستعمالى في الضمير هو جميع الأفراد تجرى ولا تنافى شيئا منهما.

واما الاصل الطولى لهذا الاصل ، وهو اصالة مطابقة المرادين ، فهو لا يجرى لمعلومية المراد الجدِّي.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تعارض الاصلين ، أي اصالة العموم واصالة عدم الاستخدام ، لا بد من تقديم الثاني بحسب المتفاهم العرفي ، كما هو الشأن في جميع موارد تعارض ظهور القرينة مع ظهور ذى القرينة ، فان الأول يقدم مطلقا ، كما يظهر لمن راجع تلك الموارد ، مثل رأيت اسدا يرمى أو ضربته فتدبر.

٣٨٧

فتحصل ان الاقوى هو القول الخامس ، ثم الأول.

تعارض المفهوم مع العموم

الفصل الخامس : إذا تعارض العام مع المفهوم ، فهل يقدم المفهوم على العموم ، أو العكس ، اولا هذا ولا ذاك ، أم هناك تفصيل وجوه واقوال.

وقد استدل لتقديم العموم ، بان دلالة العام على العموم ذاتية اصلية ، ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية ، وطبيعي تقدم الاصلية على التبعية ، ولعله إلى ذلك نظر صاحب المعالم.

قال (١) : انه إنما يقدم الخاص على العام من جهة اقوائية دلالته ، وليس الأمر هاهنا كذلك فان المنطوق أقوى دلالة من المفهوم ، وان كان المفهوم خاصا فلا يصلح للمعارضة.

ويرد عليه ان دلالة اللفظ على المفهوم ، إنما هي من جهة دلالته على خصوصية مستتبعة له ، ودلالته عليها ، اما ان يكون بالوضع أو بمقدمات الحكمة ، والمفروض ان دلالة العام على العموم أيضاً لا تخلو من احد هذين الامرين ، أي الوضع ، أو مقدمات الحكمة فما معنى كون احدى الدلالتين ذاتية اصلية والاخرى تبعية.

واستدل (٢) لتقديم المفهوم مطلقا ، وان كانت النسبة عموما من وجه ، بان

__________________

(١) معالم الدين ص ١٤٠ (اصل : لا ريب في تخصيص العام بمفهوم الموافقة ..).

(٢) راجع محاضرات في الاصول ج ٥ ص ٢٩٣ حيث نسبه إلى قائل.

٣٨٨

دلالة القضية على المفهوم عقلية ، ودلالة العام على العموم لفظية ، فلا يمكن رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم.

وبعبارة أخرى : ان المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي تكون في المنطوق ، وبديهي انه لا يعقل رفع اليد عن المفهوم من دون ان يتصرف في تلك الخصوصية لاستحالة انفكاك الملزوم عن لازمه والعكس ، ورفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب لفرض انها ليست طرفا للمعارضة مع العام ، فما هو طرف للمعارضة لا يمكن رفع اليد عنه ، وما يمكن فيه ذلك ليس طرف المعارضة.

ويرده ، ان التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، لان القضية ذات مفهوم ، تدل على تلك الخصوصية بالمطابقة ، وعلى المفهوم بالالتزام فالعام المعارض إنما يعارض لكليهما لان انتفاء الملزوم ، كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، ولا يعقل انفكاك أحدهما عن الآخر ، فالعام المنافى للمفهوم يكون منافيا للمنطوق ، ويقع التعارض بينهما.

وقد فصل المحقق الخراساني (ره) (١) في المقام بما حاصله ، انه إذا ورد العام مع ما له المفهوم في كلام أو كلامين مرتبطين ، على نحو يصلح ان يكون كل منهما قرينة على الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو الغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما ان كانت بالإطلاق ، أو بالوضع فلا تكون هناك عموم ولا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٣ (فصل : قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف).

٣٨٩

مفهوم لعدم تمامية مقدمات الحكمة في شيء منهما وتزاحم ظهور أحدهما وضعا ، لظهور الآخر ، لاحتفاف كل منهما بما يصلح للقرينية وهو ظهور الآخر إلا إذا كان أحدهما اظهر فانه يقدم ذلك لكونه مانعا عن انعقاد ظهور الآخر ، أو استقراره.

وان كانا في كلامين ولم يرتبط أحدهما بالآخر بنحو يصلح ان يكون قرينة على التصرف في الآخر يعامل معهما معاملة المجمل ، إلا إذا كان أحدهما اظهر.

ويرد عليه مضافا إلى انه لم يبين حكم ما إذا كانت دلالة أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق ، ان ما أفاده يتم إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، كما في عموم ما دل على ان ، ماء البئر واسع لا يفسده شيء الشامل للقليل ، وما دل بمفهومه على ان القليل ينجس بملاقاة النجاسة كقوله (إذا بلغ الماء قدر كراً لا ينجسه شيء) (١) واما إذا كانت النسبة عموما مطلقا فلا يتم لتقدم ظهور القرينة على ظهور ذى القرينة وسيمر عليك تفصيل القول في ذلك.

وتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في المفهوم الموافق.

الثاني : في المفهوم المخالف.

اما الأول : فقبل بيان حكمه لا بد من تقديم مقدمة ، وهي :

__________________

(١) هذا المعنى متصيد من الروايات إلا انه ورد بدل «لم ينجسه شيء» «لم يحمل خبثا» كما في عوالي اللآلي ج ١ ص ٧٦ ح ١٥٦ ، وايضا ج ٢ ص ١٦ ح ٣٠.

٣٩٠

ان المفهوم الموافق ، وهو ما إذا توافق المفهوم والمنطوق في الإيجاب أو السلب :

تارة يكون على نحو الأولوية. وأخرى على نحو المساواة.

والأول : إنما يكون فيما إذا ادرك ان مناط الحكم موجود في مورد آخر بنحو اشد واكمل ، كما في الآية الشريفة (.. فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)(١) حيث ان مناط حرمة قول ـ افّ ـ موجود في الضرب والشتم بنحو اشد.

وبعبارة أخرى : إنما يتحقق فيما إذا كان الحكم في لسان الدليل مترتبا على فرد وكانت اولوية ثبوت الحكم في مورد آخر قطعية.

واما إذا فرضنا ان الدليل المتضمن لحكم فرد إنما يكون بحسب القرائن الداخلية والخارجية ، من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام كما احتمل ذلك في الآية الشريفة ، فهو خارج عن المفهوم ، بل هو من باب انطباق موضوع الحكم نفسه على فرده ومصداقه.

والظاهران هذا هو مراد المحقق النائيني (ره) (٢) بقوله :

واما إذا كانت الأولوية عرفية كما في الآية الشريفة ، فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللفظية العرفية.

__________________

(١) الآية ٢٣ من سورة الإسراء.

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧٩.

٣٩١

فلا يرد عليه ما اورده الأستاذ الأعظم (١) : بأنه قد تقدم اعترافه بان المفهوم داخل في المداليل اللفظية ، فلا وجه لما أفاده في المقام من خروج ما إذا كانت الأولوية عرفية من المفهوم الموافق.

واما الثاني : وهو ما إذا كان المفهوم على نحو المساواة :

فقد يتحقق فيما أحرز مناط الحكم من الخارج وكان ذلك المناط موجودا في مورد آخر ، فيحكم بسراية الحكم إلى ذلك المورد.

وقد يتحقق فيما إذا كانت علة الحكم منصوصة ، وهو إنما يكون فيما إذا كانت العلة المذكورة واسطة في الثبوت كما في قضية لا تشرب الخمر لاسكاره ، واما إذا كانت من قبيل العنوان المنطبق عليه كما في قضية لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، فهو خارج عن المفهوم.

توضيح ذلك ان العلة : تارة تكون عنوانا منطبقا على الموضوعالخاص المذكور في القضية ، فحينئذ يكون ظاهر القضية كون الموضوع ذلك العنوان المذكور في التعليل.

يكون ثبوته للموضوع المذكور في القضية من جهة انطباق ذلك العنوان عليه ، وهذا خارج عن المفهوم ، إذ ثبوت الحكم المترتب على العنوان الكلي على مصاديقه ومعنوناته ليس من المفهوم ، بل هو نظير ثبوت وجوب الاكرام لزيد العالم لو قال المولى اكرم كل عالم.

__________________

(١) في حاشيته على اجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧٩

٣٩٢

وأخرى تكون العلة من الحيثيات التعليلية للحكم كما في المثال الأول ، وفي مثل ذلك يكون ظاهر القضية كون المذكور في التعليل بنفسه علة للحكم مع قطع النظر عن أية خصوصية فرضت حتى خصوصية القيام بالموضوع المذكور في القضية.

وعليه فاحتمال ان يكون في خصوص العلة القائمة بالموضوع المذكور في القضية خصوصية داعية إلى جعل الحرمة.

مندفع بالظهور ، وعلى هذا فيحكم بثبوت الحكم في غير ذلك الموضوع مما يشترك معه في تلك العلة ، وهذا هو المفهوم الموافق بالتساوى الذي يعبر عنه بالمفهوم بالتساوى ، ولحن الخطاب ، ومنصوص العلة.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) في المقام حيث عد القسم الأول من المفهوم الموافق ، وانكر تسرية الحكم المذكور في القضية من الموضوع المذكور فيها في القسم الثاني وقد عرفت ما في كلا شقي كلامه (قدِّس سره).

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد يتوهم تقدم المفهوم الموافق على العام إذا كانت النسبة بينهما عموما مطلقا كما هو الشأن في جميع موارد العام والخاص.

وقد يتوهم تقدمه عليه ، وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، وذلك من جهة ان التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه مع ابقاء المنطوق على حاله غير ممكن لفرض كون الأولوية قطعية.

وبعبارة أخرى : يلزم التفكيك بين اللازم والملزوم ، وهو محال ، واما رفع اليد عن المنطوق مع عدم كونه معارضا فمما لاوجه له فيتعين التصرف في العام.

٣٩٣

ولكن الظاهر فساد كلا التوهمين : وذلك : لان التعارض بين المفهوم والعام ، يرجع إلى التعارض بين العام ، والمنطوق لأنه كما يستلزم ثبوت الملزوم لثبوت لازمه ولاجله يحكم بثبوت المفهوم الموافق كذلك يستلزم نفى اللازم ، نفى الملزوم ، لفرض التلازم.

فحينئذ دليل العام بعمومه يدل على عدم ثبوت المفهوم فيدل على عدم ثبوت المنطوق ، مثلا : لو قال (اضرب كل احد) ثم قال (ولا تقل لوالديك أفّ) فانه كما يدل الثاني على حرمة ضربهما ، كذلك يدل الأول على جواز قول الأف لهما بالأولوية.

وعليه ، فلا بد من علاج التعارض بينهما :

فان كان المنطوق اخص مطلقا من العام يقدم المنطوق والمفهوم.

وان كانت النسبة بين العام والمفهوم عموما من وجه ، كما في مثل (اكرم فساق خدام العلماء) الدال بالأولوية على وجوب اكرام العلماء عدولا كانوا ، أم فساقا ، و(لا تكرم الفساق) ، وان كانت النسبة بين المنطوق والعام عموما من وجه ، كما لو كان المنطوق في مفروض المثال (اكرم خدام العلماء) فلا بد من ملاحظة ما يرجع إليه في مثل هذا التعارض ، فان قدم المنطوق لكون دلالته بالوضع ودلالة العام بالإطلاق مثلا فيحكم بثبوت المفهوم وان قدم العام وخصص المنطوق فلا محالة تتضيق دائرة المفهوم أيضاً كما هو اوضح من ان يخفى فتدبر في اطراف ما ذكرناه.

واما المقام الثاني : فالنسبة بين العموم والمفهوم ان كانت عموما من وجه ، فان كانت دلالة العام على العموم وضعية :

٣٩٤

فان قلنا ان دلالة الكلام على المفهوم أيضاً وضعية كما تقدم ، فلا بد من الرجوع إلى الأخبار العلاجية بناء على المختار كما سيأتي تحقيقه.

وان قلنا بان دلالة الكلام على المفهوم بالإطلاق يقدم العام على المفهوم ، لان من جملة المرجحات لتقديم احد العامين من وجه كون دلالة أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق.

وان كانت دلالة العام على العموم غير وضعية ، فان كانت دلالة الكلام على المفهوم وضعية يقدم المفهوم على العام ، وإلا فيتساقط الاطلاقان ، ولا بد من الرجوع إلى دليل آخر من اصل لفظي أو عملي.

واما إذا كانت النسبة عموما مطلقا ، وكان المفهوم اخص من العام ، يقدم المفهوم مطلقا ، وذلك فيما إذا كان للمفهوم حكومة على العام ، كمفهوم آية النبأ الحاكم على عموم العلة فيها المستفاد منها المنع عن اتباع غير العلم ، واضح ، فان المفهوم حينئذ متكفل لعقد الوضع للعام ، ويوجب خروج مورده عن كونه فردا للعام ، والعام غير متعرض لذلك ، وإنما يثبت الحكم على ما تحققت فرديته له ، فهو لا يصلح لان يمنع عن انعقاد الظهور في المفهوم إلا على وجه دائر.

وبعبارة أخرى : كون المورد فردا للعام يتوقف على عدم المفهوم وهو يتوقف على شمول العام له ، المتوقف على كونه فردا له.

وان لم يكن له حكومة عليه ، فوجه تقديمه عليه هو ورود دليل حجيته على اصالة العموم ، من جهة ان الخاص في نفسه قرينة على العام فالتعبد به تعبد بعدم إرادة الظهور من العام ، وقد حقق في محله ان اصالة الظهور في القرينة

٣٩٥

مقدمة على اصالة الظهور في ذى القرينة ولو كان ظهور القرينة في نفسه اضعف من ظهور ذى القرينة وتمام الكلام في ذلك يأتي في مبحث التعادل والترجيح.

تعقب الاستثناء للجمل المتعددة

الفصل السادس : إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة :

فهل الظاهر هو رجوعه إلى الكل كما عن الشيخ (قدِّس سره) (١).

أو خصوص الأخيرة كما عن جماعة (٢).

أو لا ظهور له في واحد منهما ، اما لكونه مشتركا لفظيا كما عن السيد (٣).

أو معنويا كما يؤول إليه ما في المعالم (٤).

أو ان المستعمل فيه واحد سواء كان الاستثناء راجعا إلى الكل أو إلى خصوص الأخيرة كما في الكفاية (٥) وجوه :

__________________

(١) المراد به شيخ الطائفة الطوسي كما في كتابه العدة ج ١ ص ٣٢١ عند قوله : «ويقوى في نفسي المذهب الأول ..» وهو قول الشافعي كما حكاه عنه.

(٢) حكاه في الذريعة عن ابو حنيفة وأصحابه ج ١ ص ٢٤٩ / وحكاه الشيخ الطوسي في العدة ج ١ ص ٣٢١ عن ابو الحسن الكرخي وأكثر أصحاب ابي حنيفة.

(٣) أي السيد المرتضى كما في الذريعة ج ١ ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٤) معالم الدين ص ١٢٢ فراجع.

(٥) كفاية الاصول ص ٢٣٤.

٣٩٦

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

الأول : في إمكان رجوع الاستثناء إلى الكل وعدمه.

الثاني : في ان الظاهر هو الرجوع إلى الكل على فرض امكانه ، أو إلى الأخيرة ، أو لا ظهور له في شيء منهما.

اما المورد الأول : فافاد المحقق الخراساني (ره) (١) بأنه لا اشكال في صحة رجوعه إلى الكل ، وافاد في وجهه ما محصله :

ان اداة الاستثناء موضوعة للاخراج وهي تستعمل فيه دائما سواء اتحد طرفاها اعني المستثنى والمستثنى منه ، أم تعددا ، أم اختلفا بالتعدد في جانب والاتحاد في آخر ، وان قلنا بوضع الاداة بالوضع العام والموضوع له الخاص كما اختاره صاحب المعالم (ره) إذ الاخراج من المتعدد ، نظير اخراج المتعدد مصداق واحد لمفهوم الاخراج لا مصاديق متعددة ، فلو رجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة لم يكن فرق من ناحية استعمال الاداة في معنى واحد.

وبعبارة أخرى : ان نسبة الاخراج واحدة كانت قائمة بالمتحد ، أو المتعدد ، غاية الأمر إذا كانت قائمة بالمتعدد تنحل تلك النسبة إلى نسب ضمنية متعددة بتعدد اطراف النسبة.

وفيه : مضافا إلى ان قياس تعدد المستثنى منه ، بتعدد المستثنى ، مع الفارق فان تعدد المستثنى لا يصح إلا بالعطف ، وهو في حكم تعدد اداة الاستثناء ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

٣٩٧

وهذا بخلاف تعدد المستثنى منه ، ولذلك ترى انه استدل لعدم جواز الرجوع إلى الجميع ، بأنه ان اضمر مع كل جملة استثناء لزم مخالفة الاصل ، وان لم يضمر كان العامل فيما بعد الاستثناء اكثر من واحد ، ولا يجوز تعدد العامل على معمول واحد في اعراب واحد : لنص سيبويه عليه وقوله حجة :

انه إذا كان الدال على الاستثناء حرفا وكان الموضوع له في الحروف خاصا ، لا محالة يكون ذلك موضوعا للاخراجات الخاصة ، ولازم ذلك تعدد الاخراج بتعدد احد الطرفين كما هو الشأن في الأمور النسبية فيكون الاخراج متعددا إذا كان المستثنى ، أو المستثنى منه متعددا ، إلا ان يلاحظ الوحدة في الجمل المتعددة ، أو في المستثنيات المتعددة ، وعلى ذلك فارجاع الاستثناء إلى الجميع مع عدم لحاظ الوحدة مستلزم لاستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد.

ولكن الذي يسهل الخطب فساد المبنى ، وان الموضوع له في الحروف عام ، فلا كلام في إمكان الارجاع إلى الجميع.

نعم ، إذا كان المستثنى شخصا واحدا غير قابل الانطباق على المخرج من كل جملة ، كما إذا قال : (اكرم العلماء) و(اضف العدول إلا زيدا) ولم يكن زيد مجمع العنوانين لا يمكن الرجوع إلى الجميع ، إلا بتأويل زيد إلى مسماه ، أو باستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ولكنه غير مربوط بما هو محل الكلام.

واما المورد الثاني : ففي الكفاية (١) انه لا ظهور له في الرجوع إلى الجميع أو

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٥ قوله : «وبذلك يظهر ان لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع ، أو خصوص الاخير وان كان الرجوع اليها متيقنا على كل حال».

٣٩٨

خصوص الأخيرة ، وان كان الرجوع إليها متيقنا.

نعم ، غير الأخيرة من الجمل لا تكون ظاهرة في العموم ، لاكتنافها بما لا تكون معه ظاهرة فيه.

ثم قال اللهم إلا ان يقال بحجية اصالة الحقيقة تعبدا لا من باب الظهور ، فيكون المرجع عليه اصالة العموم إذا كان وضعيا ، واما إذا كان بالإطلاق فلا يكاد يتم ذلك لعدم تمامية مقدمات الحكمة ، والوجه في عدم جريان المقدمات صلوح الاستثناء لذلك ، لاحتمال الاعتماد حينئذ في التقييد عليه لاعتقاد انه كاف فيه ثم امر بالتأمل.

وافاد في وجهه في الهامش (١) ، ان مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، فاصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكمة لتمامية مقدمات الحكمة.

وفي كلماته مواقع للنظر :

١ ـ ما أفاده من انه لا ظهور له في الرجوع إلى الجميع.

فانه يرد عليه انه بعد كون الاستثناء والمستثنى صالحين للرجوع إلى الجميع باستعمالهما في الجامع وإرادة جميع أفراده يكون مقتضى الإطلاق هو الرجوع إلى الجميع ، وحينئذٍ لو كان ظهور العمومات الأخر غير الأخيرة وضعيا يقدم على ظهور الاستثناء والمستثنى في الإطلاق ، وإلا فيتعارض الاطلاقان ويتساقطان.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٢٣٥ هامش رقم ٢.

٣٩٩

اللهم إلا ان يقال ان ظهور القرينة مقدم على ظهور ذى القرينة مطلقا كما هو الصحيح ، وعليه بناء العرف في المحاورات ، وعليه فيقدم ظهور الاستثناء في كونه راجعا إلى الجميع وتخصص جميع العمومات به.

٢ ـ ما أفاده (قدِّس سره) من انه بناء على عدم ظهور الاستثناء في الرجوع إلى الكل أو خصوص الأخيرة يكون ذلك مانعا عن انعقاد الظهور لسائر الجمل غير الأخيرة ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

فانه يرد عليه ان كبرى احتفاف الكلام بذلك إنما هو ما إذا صح اعتماد المتكلم عليه وان كان مشتبه المراد عند المخاطب كلفظ الفاسق ، لو فرضنا كون الفسق مشتبه المراد عند المخاطب ، ودار امره بين كونه عبارة عن ارتكاب الكبيرة ، أو الاعم منه ومن ارتكاب الصغيرة ، فلو قال : (اكرم العلماء إلا الفساق منهم) فلا محالة يكون ذلك مانعا عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة ، حيث انه يصح للمتكلم ان يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي.

وهذا بخلاف المقام ، فان مجرد صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع بدون قرينة عليه لا يصلح للاعتماد عليه ، بل الاعتماد عليه يصح إذا كان بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، وعلى الجملة ، ان العمومات ظاهرة في الشمول لجميع الأفراد فلا بد في صرفها عن ظواهرها من الاكتناف بما هو اظهر منه ، أو المساوى معه الموجب ذلك لاجمالها ، والفرض ان الاستثناء ليس له ظهور في تخصيص تلك الجمل ، فلا يصح للمولى ان يتكل عليه فلا تكون العمومات من قبيل الكلام المحفوف بالقرينة.

٤٠٠