زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

والمحقق الخراساني (١) بنى الصحة في سعة الوقت على هذا المسلك ، لو بنى على إجراء حكم المعصية على الخروج ، على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

واستدل له ، بان الصلاة في الدار المغصوبة ، وان كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة إلا انه لا شبهة في ان الصلاة في غيرها تضادها ، إذ لا يبقى مجال لاحداهما مع الاخرى ، وهي اهم لخلوها عن المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب ، فلا محالة تكون هي مامورا بها ، ولازمه كون الصلاة فيها منهيا عنها.

وفيه : ان الصلاة الواقعة في الدار لا تكون مصلحتها اقل من مصلحة الصلاة في خارج الدار ، ومقارنتها مع المفسدة لا توجب نقصا فيها ، وعليه فلا وجه لتقييد الأمر بالطبيعة بما تقع في خارج الدار المغصوبة ، بل يشمل الواقعة فيها ، فالامر لا يكون مختصا بالصلاة الواقعة في خارج الدار حتى يلازم مع النهي عن الصلاة فيها.

مع ان مجرد الاقوائية ما لم تصل إلى حد الالزام لا توجب التقييد.

واما على الامتناع وتقديم جانب النهي ، فان بنينا على وجوب الخروج وعدم إجراء حكم المعصية عليه ، فالصحة واضحة.

وان بنينا على انه منهي عنه بالنهي الفعلي ، ففي حال السعة لا اشكال في الفساد.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٤ (ثم انه لا يخفى ...)

١٢١

واما في حال الضيق فربما يقال. ان مقتضى قوله (ع) ـ الصلاة لا تسقط بحال ـ (١) صحة الصلاة في تلك الحالة.

ولكن الظاهر عدم شموله لامثال المقام إذ معنى عدم سقوط الصلاة بحال ، إنما هو ، ان كل مكلف في أي حال من الحالات كان ، مكلف بالصلاة بحسب وظيفته حتى الغرقى ، لا ان التكليف بها يكون باقيا بعد ان عصى المكلف وصير ايجادها على النحو المعتبر شرعا في حقه ممتنعا.

وان بنينا على عدم كون الخروج منهيا عنه ولكن يجرى عليه حكم المعصية ، فالاظهر هي صحة الصلاة حتى في حال السعة إذ لاوجه للفساد سوى :

دعوى ان حديث رفع الاضطرار إنما يرفع الحكم لا المفسدة ، والمبغوضية الذاتية ، ومن المفروض اقوائية المفسدة من مصلحة الصلاة ، وعليه فهما مانعتان عن صحة الصلاة.

وهي فاسدة : إذ المفسدة التي لا تصلح لان تكون منشئا لجعل الحرمة ، لا تصلح ان تكون مانعة عن تعلق الأمر بالصلاة ، هذا كله لو لم تكن الصلاة في حال الخروج فاقدة لبعض ما يعتبر في صلاته من الاجزاء والشروط كالركوع ونحوه.

وإلا فالاقوى هو الفساد مطلقا ، اما في حال السعة فواضح ، واما في حال الضيق ، فلما عرفت من عدم شمول قوله (ع) الصلاة لا تدع بحال لامثال المقام

__________________

(١) راجع ما حكاه شيخ الطائفة في كتابيه التهذيب ج ١ ص ٣٣١ بعد حديث ١٣٦ وفي الاستبصار ج ١ ص ٢١٤ بعد الحديث ٢ ، وكليهما في موارد الصلاة على الميت.

١٢٢

كما عرفت آنفا.

قال المحقق النائيني (١) ، انه بناء على كون الخروج داخلا في موضوع قاعدة ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، واجراء حكم المعصية عليه ، تكون الصحة والفساد في ضيق الوقت مبتنيا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من الجهة الأولى ، وعدمه.

لأنه على الأول لا اشكال في صحة الصلاة : إذ القبح الفاعلى المانع عن التقرب في ساير الموارد لا يتحقق ، في ما نحن فيه قطعا لان ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، يستفاد منه ، بالدلالة الالتزامية ارتفاع القبح الفاعلى عند مزاحمته لترك الصلاة رأسا.

واما على القول بالامتناع فكون الخروج مبغوضا فعلا ، يستلزم خروج الفرد المتحد معه عن تحت الأمر بالصلاة واقعا ، فلا يصح الامتثال به قطعا وذلك يستلزم سقوط الأمر بالصلاة حينئذ لعدم القدرة على امتثاله.

ويرد عليه (قدِّس سره) مضافا إلى ما عرفت من ان القبح الفاعلى مما لا اساس له أصلاً سوى ، القبح الفعلي ، والتجرى ، غير المتحققين في المقام.

ومضافا إلى ان ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال لا يشمل امثال المقام كما عرفت آنفا.

ومضافا إلى ان المبغوضية الذاتية لا تمنع عن كون الفرد المتصف بها باقيا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٩٧.

١٢٣

تحت الأمر بالصلاة.

انه لو كان القبح الفاعلى مرتفعا ، بما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال.

لا بد من القول بالصحة على الامتناع أيضاً لذلك الدليل.

فانه على هذا يدل على عدم كون الخروج مبغوضا للمولى عند تضيق وقت الصلاة.

دليل تقديم النهي

الأمر الثاني : قد عرفت مما قدمناه (١) ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع حقيقة من صغريات كبرى باب التعارض ، كما انها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات باب التزاحم.

إنما الكلام في هذا الأمر في انه على القول بالامتناع في المسألة ، هل هناك مرجح لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، أو بالعكس ، أو لا يكون مرجح لشيء منهما.

وقد ذكروا لتقديم جانب النهي على جانب الأمر وجوها :

منها : ان النهي أقوى دلالة ، ووجه اقوائيته في الدلالة ، على ما عن التقريرات ان دلالة الأمر على الوجوب في مورد الاجتماع تكون بالإطلاق ،

__________________

(١) في الامر الأول من تنبيهات مسألة : «الاضطرار إلى ارتكاب الحرام».

١٢٤

ودلالة النهي على حرمته إنما تكون بالعموم ، والعموم أقوى دلالة ، فيقدم النهي.

ووجهها على ما في الكفاية (١) ، ان دلالة النهي على حرمة المجمع وان لم تكن بالوضع ولكنها ليست بالإطلاق فحسب كما في الأمر ، بل الدلالة عليها إنما هي بحكم العقل نظرا إلى ان وقوع الطبيعة في حيز النهي أو النفى ، يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الأفراد فالدلالة عليها عقلية ، ولا يتوقف ذلك على جريان مقدمات الحكمة في المتعلق ، بل كما ان لفظة كل تدل على استيعاب جميع أفراد المدخول من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب ، كذلك وقوع الطبيعة في حيز النفى أو النهي يقتضي عقلا استيعاب جميع أفراد الطبيعة من دون ملاحظة الإطلاق في المتعلق.

ويرد عليهما ما تقدم في أول مبحث النواهي من ان دلالة النهي على انتفاء جميع الأفراد إنما تكون بالإطلاق.

ثم انه لو سلم كون دلالة النهي على الاستيعاب ما أفاده المحقق الخراساني ، لاوجه لقياسه على لفظة كل التي بنفسها تدل على إرادة العموم من مدخولها : فانه في المقام السلب بنفسه لا يدل على ذلك ، بل يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله ، فانه وضع للدلالة على سلب المدخول ، وهذا بخلاف لفظ (كل) فانها بنفسها تدل على إرادة العموم من مدخولها بلا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٦ (وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها).

١٢٥

احتياج إلى إجراء مقدمات الحكمة في مدخولها كما سيأتي تنقيح القول في ذلك في أول مبحث العام والخاص.

ولكن الظاهر ان مراد المستدل ليس شيئا من الوجهين المتقدمين.

بل الظاهر ان مراد المستدل ما أفاده الأستاذ (١) من ان الإطلاق ، في طرف دليل النهي شمولي ضرورة ان حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه لا تختص بمال دون آخر ، فهي تنحل بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج ، وهذا بخلاف الإطلاق في طرف دليل الأمر ، فانه بدلي لان الأمر المتعلق بصرف الطبيعة يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج.

وقد ثبت في محله ان الإطلاق الشمولي يقدم على الإطلاق البدلي في مقام المعارضة ، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم ، وتبعه المحقق النائيني (٢) ، وقد اشبعنا الكلام في ذلك في مبحث الواجب المشروط ، وعليه فهذا الوجه تام.

ومنها : ان الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه ، وقد اشتهر في الالسن ان ، دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ، فلا بد من ترجيح جانب الحرمة.

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٤ ص ٤٠٤ (بقي هنا أمور) الثاني .. منها : ان دليل النهي أقوى من دليل الأمر.

(٢) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٠ ـ ١٦١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣٤ (وتوضيح المقام) ثم بعد حكايته لما التزم به الشيخ الاعظم قال : ص ٢٣٦ «ان ما ذهب اليه .. هو الاقوى».

١٢٦

وأجاب عنه المحقق القمي (١) بأنه في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعين.

وفيه : انه لا مفسدة في ترك الواجب ولو كان معينا بل فيه فوت المصلحة وهي غير درك المفسدة ، مع ان ما هو مورد البحث وهو الصلاة في الدار المغصوبة مع وجود المندوحة خارج عما ذكره : فانه لا يتعين الواجب في المجمع وقد ذكر انه في ترك الواجب مفسدة إذا تعين.

وأجاب عن هذا الوجه المحقق الخراساني بامرين :

١ ـ ما ذكره في الكفاية واوضحه في الهامش (٢) ، وافاد في وجه ذلك ان الترجيح به إنما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك ، بما هو اوفق بغرضه لا المقام ، وهو مقام جعل الأحكام ، فان المرجح هناك ليس إلا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الاغراض ومخالفتها.

وفيه انه : بناء على كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية لاوجه لدعوى انه ليس مقام الجعل مقام جلب المنفعة ودفع المفسدة ، بل المرجح هو حسن الفعل أو قبحه ، إذ بناء على ذلك يدور امر الشارع بين ايصال المنفعة إلى العبيد ، ودفع المفسدة عنهم وحيث انه لا فرق في هذه القاعدة العقلائية بين الفاعل ، وجاعل الأحكام : فانه لكونه رئيس العقلاء لدى التزاحم بين دفع المفسدة وايصال المنفعة يقدم الأول ، لو تمت القاعدة كما لا يخفى.

__________________

(١) قوانين الاصول ج ١ ص ١٥٣ (ثم إن هاهنا تنبيهين : الأول).

(٢) كفاية الاصول ص ١٧٧ هامش رقم ٢.

١٢٧

٢ ـ انه لو سلم (١) ان القاعدة تامة ، فإنما هي فيما لا يكون مجال لاصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين ، لا فيما يجرى كما في محل الاجتماع لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته ، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء والشرائط فانه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة باصالة البراءة عنها عقلا ونقلا.

نعم لو قيل بان المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة ، فاصالة البراءة غير جارية ، بل كانت اصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ، ولو قيل باصالة البراءة في الاجزاء والشرائط لعدم تأتى قصد القربة مع الشك في المبغوضية.

وفيه : انه مع وجود القاعدة العقلائية التي يستكشف بها الحكم الشرعي لا يبقى مورد لقاعدة الاشتغال أو البراءة ، مع ان المانع عن صحة الصلاة والموجب لتقييد الأمر بالصلاة ، إنما هو الحرمة الواقعية ، وهي لا ترتفع بالبراءة ، وعليه فحيث يحتمل عدم الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة ، فلا محالة يشك في ان الاتيان بها ، هل يجزى عن الصلاة المأمور بها في هذا اليوم قطعا التي يمكن امتثال امرها بالصلاة في خارج الدار أم لا؟ والاصل يقتضي عدمه.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه بامور :

الأول : انه بناء على ما ذكرناه سابقا من انه على الامتناع يقع التعارض بين دليل الأمر والنهي ، ولا بد من سقوط أحدهما ، لا مورد لهذه القاعدة

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٨.

١٢٨

أصلاً ، إذ كل منهما سقط ، لا كاشف عن وجود ملاكه.

وبعبارة أخرى : ليس هناك ملا كان للأمر والنهي كي يقع التزاحم بينهما في مقام الاستيفاء فيرجع إلى هذه القاعدة.

الثاني : ان دفع المفسدة مطلقا ليس اولى من جلب المنفعة فانه ربما يقدم العقلاء على فعل فيه المفسدة والمضرة ، لأجل ما يترتب عليه من المنافع.

الثالث : انه لا دوران في المقام ، فانه يمكن في المقام دفع المفسدة مع جلب المنفعة بالصلاة في خارج الدار المغصوبة.

ومنها : الاستقراء بدعوى انه إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها ، نجدان الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، ومن جملة تلك الموارد ان الشارع المقدس حكم بترك العبادة ايام الاستظهار فان امر المرأة في تلك الايام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها ، ومنها الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين ، إذ الأمر حينئذ يدور بين حرمة الوضوء أو الغسل من كل منهما ووجوبه ، وقد قدم الشارع جانب الوجوب وأمر باهراق الماءين والتيمم للصلاة.

ويرد عليه : اولا : ان الاستقراء وهو تتبع الجزئيات والافراد وتفحصها ليفيد العلم بثبوت كبرى كلية ، لا يثبت بهذا المقدار ، بل الاستقراء الناقص وهو تتبع اكثر الجزئيات ليفيد الظن بثبوتها لا يثبت بذلك.

وثانيا : ان الأمر في هذين الموردين ليس كذلك وان الحكم فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة.

١٢٩

ترك العبادة ايام الاستظهار

وتمام الكلام بالبحث في موردين :

الأول : في ترك العبادة ايام الاستظهار.

الثاني : في الوضوء أو الغسل بالماءين المشتبهين :

اما في الأول : ففي الكفاية (١) ، ان حرمة الصلاة فيها ، إنما تكون لقاعدة الامكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا فيحكم بجميع أحكامه ومنها حرمة الصلاة عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى انتهى.

ويرد عليه ان الاظهر عدم ثبوت قاعدة الامكان ، لعدم الدليل عليها كما عن جماعة من المحققين كالمحقق الثاني (٢) والمقدس الأردبيلي (٣) وصاحب المدارك (٤)

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٩.

(٢) راجع جامع المقاصد ج ١ ص ٣٠٢ (قوله : لو رأت العدة والطرفين) إلى ان قال : «واتفاقهم على ان كل دم يمكن ان يكون حيضا فهو حيض يقتضي ضميمته. قلنا : لما كانت العادة ملحقة بالامور الجبلة اقتصر في مخالفتها على ما اذا كان».

(٣) وهو ظاهر كلامه في مجمع الفائدة والبرهان ج ١ ص ١٤٦ حيث قال : «وكلام المصنف يقتضي كون الحكم ذلك مطلقا بمجرد امكان كونه حيضا ، وفيه تأمل ...» الخ.

(٤) راجع مدارك الاحكام ج ٢ ص ٩ ، بعد ذكر المسألة قال : «وضابطه ما أمكن كونه حيضا ، وربما فسرت بأيام العادة .. أقول : ان هذا التفسير أولى ...» إلى ان قال : «وان المستفاد من

١٣٠

وغيرهم ، والغاء الشارع الاستصحاب في الحيض كالغائه اياه في ركعات الصلاة ، وقد اشبعنا الكلام فيهما في الجزء الثاني من فقه الصادق.

والتحقيق ان يقال ان الروايات الواردة في الاستظهار مختلفة ، كما ان الأقوال فيها كذلك ، فقد ذهب جماعة إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه ، نسب ذلك إلى عامة المتأخرين ، وعن مجمع الفائدة والمعتبر والذخيرة الاباحة.

ثم ان القائلين بالوجوب اختلفوا على اقوال (١) :

واختار جماعة وجوبه في يوم واحد ، وآخرون وجوبه ثلاثة ايام.

وبديهي ان شيئا من هذه الأقوال لا يوافق مع القاعدة المزبورة. إذ لو كان الحكم مستندا إلى القاعدة كان المتعين هو لزوم الاستظهار إلى عشرة ايام.

نعم للتوهم المزبور مجال بالنسبة إلى القول بوجوبه إلى عشرة ايام.

ولكنه أيضاً فاسد ، لان الحكم حينئذ إنما يكون مستندا إلى الروايات ، وبديهي ان مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لا تكشف عن ثبوتها وابتناء وجوب الاستظهار عليها فلعله بملاك آخر.

__________________

الاخبار ان ما تجده المرأة بعد العادة وأيام الاستظهار فهو استحاضة مطلقا». وبهذه المسألة وغيرها يظهر مخالفته لقاعد الامكان.

(١) قد ذكر العلماء كثرة اختلاف الآراء في هذه المسألة ، وتشعب جهة الاختلاف أيضا ، وبما انه لا حاجة إلى ذكرها هنا ، وان موردها الفقه فاكتفينا بتخريج ما عليه المعول في الكلام.

١٣١

اضف إلى ذلك كله ان الاستظهار ، يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض ذاتا إذ لو كانت الحرمة تشريعية كما هو الصحيح لم يكن الأمر في ايام الاستظهار مرددا بين الوجوب والحرمة فايجاب الاستظهار في تلك الايام على المرأة اجنبي عن تلك القاعدة.

الوضوء بماءين مشتبهين

واما المورد الثاني : وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين فقد ظهر حاله مما مر ، فان عدم جواز الوضوء بهما لو كان ، فإنما هو عدم الجواز تشريعا ، لا الحرمة الذاتية ، مع ان مقتضى القاعدة هو الوضوء بهما كما ستعرف ، فعدم الجواز لنص خاص ، غير مربوط بالقاعدة المشار إليها.

ولا باس بالاشارة الاجمالية إلى الحكم في تلك المسألة.

فملخص القول فيها : انه يدل على عدم جواز الوضوء :

موثق سماعة عن الامام الصادق (ع) : عن رجل معه اناءان وقع في أحدهما قذر ، ولا يدرى ايهما وليس يقدر على ماء غيرهما قال (ع) " يهريقهما ويتيمم" (١) ، ومثله حديث عمار (٢) ، وقد عمل بهما الاصحاب كما

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ١٠ / الوسائل ج ١ باب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥١ ح ٣٧٦.

(٢) تهذيب الاحكام ج ١ ص ٤٠٨ ح ١٩ / والوسائل ج ١ من ط الجديدة ص ١٥٥ ح ٣٨٨.

١٣٢

في المعتبر (١).

ثم ان ظاهر الخبرين من جهة ظهورهما في نجاسة ما في الاناء بمجرد ملاقاة النجاسة ولفظ الاناء الاختصاص بالقليل ، ففي الكرين لا مناص عن الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة.

وفي الكفاية (٢) انها تقتضي التفصيل بين الكر ، والقليل ، ففي الثاني مقتضاها كالنص تعين التيمم ، وفي الأول مقتضى القاعدة صحة الوضوء أو الغسل لو توضأ أو اغتسل بهما وصحة الصلاة بعد ذلك ، اما في القليل فللابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب ، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضأ من الاناء الثانية ، اما بملاقاتها ، أو بملاقاة الأولى ، وعدم استعمال مطهر بعده ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى ، واما في الكر فمن جهة عدم الحاجة في حصول الطهارة به إلى التعدد وانفصال الغسالة لا يحصل في زمان علم بالنجاسة تفصيلا ، وان علم بالنجاسة اجمالا حين ملاقاة الأولى أو الثانية ، فلا مجال لاستصحاب النجاسة ولا استصحاب الطهارة ، للجهل بالتاريخ.

وفيه ، اولا : انه بعد تطهير بعض الاعضاء بالثانية ، يحصل له علم اجمالي

__________________

(١) المعتبر للمحقق الحلي ج ١ ص ١٠٤ قال : «وعمار هذا وان كان فطحيا ، وسماعة وان كان واقفيا ، لا يوجب رد روايتهما هذه ، اما أولاً : فلشهادة أهل الحديث لهما بالثقة ، وأما ثانياً : فلعمل الأصحاب بالحديث ، وسلامتهما من المعارض.

(٢) كفاية الاصول ص ١٧٩ بتصرف.

١٣٣

بنجاسة احد العضوين اما العضو الذي طهر لنجاسة ما طهر به ، أو الباقي لنجاسة الأولى ، فيستصحب النجاسة المعلوم تاريخها إلى ما بعد تطهير الباقي فلا وجه للتفصيل.

وثانيا : ان المبنى ضعيف ، إذ المختار جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ كجريانه في معلومه ، فيتعارض استصحاب الطهارة الثابتة بعد استعمال الطاهر منهما المرددة بين بقاء الطهارة قبل الاستعمال وحدوث غيرها ، وهي ثبوتها معلوم وبقائها مشكوك فيه ، مع استصحاب النجاسة في الفرضين فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة ، ففي كليهما لو توضأ أو اغتسل بهما بالنحو المزبور أي توضأ باحدهما ، ثم طهر بالثانية مواضع الوضوء ثم توضأ بها يحصل له الطهارة المائية مع عدم الابتلاء بالنجاسة الخبثية ظاهرا ، فلا مجال معه للتيمم.

مضافا إلى انه لو كرر الصلاة عقيب كل وضوء تحرز الصلاة الصحيحة واجدة للطهارة الحدثية والخبثية ، فالامر بالتيمم إنما يكون على خلاف القاعدة ، وحيث ان النص مختص بالقليل فلا يتعدى عنه إلى الكر.

ودعوى عدم الفصل بينهما على ما ذكر.

مندفعة : باحتماله إذ تطهير الاعضاء وتطهير ما يترشح عليه ماء الوضوء من مواضع البدن أو الثوب بالقليل ، متعسر غالبا بخلاف الكثير.

ما يقتضيه الاصل في المقام

الأمر الثالث : إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب النهي أو العكس ، فقد

١٣٤

افاد المحقق الخراساني (١) انه يجرى حينئذ اصالة البراءة عن الحرمة ، ومعه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة إذ المانع ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاصل وبعد ارتفاع الحرمة فهي قابلة للتقرب بها فتقع صحيحة ولا يتوقف جريان هذا الاصل على جريانها في موارد الشك في الاجزاء والشرائط لان المانعية في المقام أي وقوع الصلاة في المكان المخصوص ليست مانعية شرعية ليكون عدم حرمة المكان الخاص قيدا للصلاة بل مانعيتها عقلية ومن ناحية ان صحتها لا تجتمع مع الحرمة فالشك فيها لا يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر فلا يكون شكا مقرونا بالعلم بل شك بدوى.

ثم قال (٢) نعم لو قلنا بان المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة محرزة فاصالة البراءة غير جارية بل كانت اصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ولو قيل باصالة البراءة في الاجزاء والشرائط لعدم تأتى قصد القربة مع الشك في المبغوضية.

وفي كلامه مواقع للنظر :

الأول : انه في مورد تعارض العامين من وجه مع عدم الجمع العرفي بينهما ، مسلكان :

أحدهما : الرجوع إلى المرجحات السندية.

ثانيهما : تساقط الاطلاقين والرجوع إلى العام الفوق أو الاصل ، وما أفاده

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٨ بتصرف.

(٢) كفاية الاصول ص ١٧٨.

١٣٥

من تصحيح الصلاة باصالة البراءة لا يتم على شيء من المسلكين.

اما على الأول : فلانه في المثال يقدم دليل الصلاة ، لان دليل وجوبها الكتاب فيقدم على دليل الغصب وهو السنة ، فالصلاة صحيحة للكتاب ، لا لاصالة البراءة.

واما على الثاني : فلانه بعد تساقط الاطلاقين وان لم يكن مانع عن صحة الصلاة إلا انه لا مقتضى لها أيضاً إذ المفروض ان مقتضيها إطلاق دليل الأمر الساقط في الفرض.

وبعبارة أخرى : انه باصالة البراءة لا ترتفع الحرمة الواقعية ، والمفروض ان المعارض للوجوب هو الحرمة الواقعية ، والاصل لا يكون حجة في لوازمه فلا يدل على الأمر بالصلاة في المجمع فلا محرز لكونها مامورا بها فلا وجه للحكم بصحتها.

الثاني : انه على فرض ثبوت إطلاق دليل الأمر وشموله للمجمع ، ما أفاده من عدم ابتناء جريان الاصل في المقام على جريان الاصل في الأقل والأكثر الارتباطيين فانه وان تم من حيث جريان اصالة البراءة عن الحرمة ، إلا انه لاثبات صحة الصلاة لا مناص من البناء عليه ، لان اصل وجوب الصلاة معلوم وتقييده بغير هذا المكان مشكوك فيه فان جرى الاصل وارتفع التقييد صحت ، وإلا فلا تصح.

الثالث : ما أفاده (١) من ان المؤثر في المبغوضية هي المفسدة الواقعية الغالبة

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٨.

١٣٦

ولو لم تكن الغلبة بمحرزة فلا مجال للبراءة.

فيرد عليه انه لا علم لنا بوجود المفسدة في هذه الحالة كي يقال ان العلم بها وبالحرمة الذاتية كاف في تأثيرها بمالها من المرتبة للشك في اصل وجودها ، وانه هل يكون المجمع مشتملا على مفسدة ، أم لا؟

لان مسألة الاجتماع على الامتناع داخل في كبرى باب التعارض لا التزاحم ، وفي ذلك الباب إنما يكون الثابت احد الحكمين ، وعليه فحيث ان ثبوت الحرمة مشكوك فيه ، فلا طريق لنا إلى احراز وجود المفسدة.

مع انه لو سلم ان المجمع مشتمل على كلا الملاكين كما هو مختاره ، فحيث ان الموجب للحرمة هو المفسدة الغالبة على المصلحة ، فالحرمة والمبغوضية مجهولة فلا محالة تجرى اصالة البراءة فيها.

حكم ما لو تعدد الاضافات

الأمر الرابع : قال في الكفاية (١) الظاهر لحوق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات والجهات في انه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع كان تعدد الاضافات مجديا انتهى.

أقول : لا ريب في ان تعدد الاضافات يوجب اختلاف الطبيعة المضافة ، حسنا ، وقبحا ، ومصلحة ، ومفسدة ، وجوبا ، وحرمة ، مثلا السجود لله ذو

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٧٩ (الامر الثالث).

١٣٧

مصلحة وحسن عقلا ومحبوب شرعا ، وللصنم ذو مفسدة وقبيح عقلا ، وحرام شرعا مع ان السجود واحد ، واكرام العادل حسن ، واكرام الفاسق قبيح ، والصلاة إلى القبلة ذات مصلحة ، وإلى غيرها ذات مفسدة ، فهذا امر بديهي لا يقبل للترديد والاشكال.

فما عن بعض المحققين من انكار ذلك دعوى بينة الفساد.

ومترتبا على ذلك أورد المحقق الخراساني (١) على القوم ، بانهم كيف اتفقوا على معاملة المتعارضين ، مع مثل اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، مع انهم اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، مع ان لازم المقدمة المزبورة كفاية تعدد الاضافة في جواز الاجتماع على القول بكفاية تعدد العنوان.

وأجاب عنه انتصارا للقوم بأنه إنما يكون بنائهم على معاملة تعارض العموم من وجه في موارد تعدد الاضافات ، مبنيا على الامتناع ، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

وقد تقدم عند ذكر المختار في جواز الاجتماع وامتناعه ، نقل هذا الإيراد وجوابه ، عن المحقق اليزدي ، وقد ذكرنا ما كان يخطر بالبال في الجواب عنه وعن اصل الإيراد فراجع (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٨٠ (الامر الثالث) بتصرف.

(٢) راجع ص ٧٣ من هذا الجزء (الثالث) ، وفي الطبعة الاولى من زبدة الاصول ج ٢ ص ١٦٦.

١٣٨

الفصل الثاني

اقتضاء النهي في العبادات للفساد وعدمه

ان النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟

وقبل الدخول في البحث في ذلك ، لا بد من البحث في جهات :

الجهة الأولى : قد تقدم في مبحث اجتماع الأمر والنهي ما به يمتاز هذه المسألة عن تلك المسألة وان النزاع هناك صغروى ، فانه يبحث في تلك المسألة في انه لو تعلق الأمر بعنوان وتعلق النهي بعنوان آخر وتصادقا في الخارج على مورد ، فهل النهي يسرى عن متعلقه في مورد الاجتماع والتطابق إلى متعلق الأمر وما ينطبق عليه أم لا؟

وفي المقام يكون النزاع كبرويا ، فانه يبحث عن تلازم النهي عن شيء مع فساده على فرض تعلقه بنفس ما تعلق الأمر به.

هذه المسألة من المسائل الأصول اللفظية

الجهة الثانية : هل هذه المسألة من المسائل الأصول العقلية ، أو اللفظية ، أم هناك تفصيل بين العبادات ، والمعاملات؟ والبحث في الأولى عقلي ، وفي الثانية لفظي.

وملخص القول فيها ان البحث في دلالة النهي عن المعاملة على الفساد ،

١٣٩

إنما يكون لفظيا ، لعدم التنافي بين ترتب الاثر والحرمة والمبغوضية فلا بد وان يكون البحث لفظيا فتأمل.

واما النهي في العبادات ، فقد يقال انه يمكن عقد المسألة لفظية ، سواء بنينا على كفاية الاتيان بداعي الملاك في صحة العبادة ، أم بنينا على لزوم الأمر.

اما على الثاني فبان ينعقد البحث هكذا ، هل النهي يدل بالالتزام على عدم الأمر أم لا؟.

واما على الأول ، فبان يعنون المسألة ، ان النهي هل يدل على عدم الملاك للأمر من جهة ان ملاك الأمر المصلحة غير المزاحمة أو الغالبة على المفسدة واما المغلوبة فليست ملاكا له ، أم لا؟

وعلى هذا فقد يقال انه بما ان البحث في المعاملات لفظي محض ، وفي العبادات قابل لان يكون لفظيا ولان يكون عقليا.

فالأولى عقد بحث واحد لهما وهو إنما يكون لفظيا.

ولكن يرد على عقد المسألة هكذا ، ما ذكره المحقق الخراساني (١) في مبحث مقدمة الواجب ، من انه إذا كانت الملازمة ثبوتا محل الكلام ، لا مورد للنزاع في دلالة اللفظ.

وبعبارة أخرى : انه على القول بثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد فإنما يكون الحاكم به العقل ، ولا صلة له بباب الألفاظ ولذا لا يختص النزاع بما إذا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٨٩ (فصل في مقدمة الواجب .. الأول).

١٤٠