زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

الثاني (١) : ان فعلية كل حكم تابعة للحسن أو القبح المتوقف تحققهما على العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ لا ـ على المصلحة والمفسدة الواقعتين وعليه ففي صورة الجهل عن عذر وان كانت المفسدة الموجودة في المجمع أقوى من المصلحة إلا انها لا تكون منشئا لجعل الحرمة ، والمصلحة وان كانت اضعف ، إلا انه للعلم بها الموجب للحسن تكون منشئا لجعل الوجوب ، فيكون المجمع مامورا به في حال الجهل عن قصور ، لان قوة الملاك توجب جعل الحكم على طبق ما هو الاقوى في حال الالتفات والعلم بها أو ما هو في حكم الالتفات دون ما يكون عن غير التفات ، فان المجهول لا يصلح للمنشئية لجعل الحكم.

وفيه : ان المصلحة الواقعية موجبة لحسن الفعل ذاتا كما ان المفسدة الواقعية ، موجبة لقبحه كذلك نعم الحسن والقبح الفاعليان لا يدوران مدار المصلحة والمفسدة الواقعيتين ، إلا ان المنشأ لجعل الأحكام إنما هو الحسن والقبح الذاتيان دون الفاعليين المتأخرين عن جعل الأحكام ، فان ذلك غير معقول كما هو واضح.

مع انه على ذلك يخرج المجمع عن مورد البحث ، وهو كونه مجمعا للعنوانين الذين تعلق باحدهما الأمر وبالآخر النهي ، فان لازم ما ذكره عدم كونه محكوما بالحرمة رأسا.

__________________

(١) مما استدل به المحقق الآخوند على صحة العبادات في حال الجهل قصورا ، كفاية الاصول ص ١٥٧ ، قوله : «مع صدوره ـ الامتثال من المكلف ـ حسنا لأجل الجهل بحرمته قصورا فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعا ...» الخ.

٦١

واما ما اشتهر بين جماعة من كون الحكم تابعا للمصلحة أو المفسدة المعلومة. فإنما ارادوا بذلك المعلومة عند الحاكم ، لا المكلف ، وإلا فهو بيِّن الفساد ، إذ مضافا إلى انه لا طريق للمكلفين لاحراز مصالح الأحكام.

انه لا كلام في انه لا يسمع اعتذار العبد التارك لما امر به مولاه باني اعتقدت كون المأمور به خاليا عن المصلحة ، أو ما احرزت وجودها.

ولعمري ان فساد هذا الكلام اوضح من ان يبين.

الثالث : (١) ان الأحكام لا تضاد بينها في مقام الإنشاء كما لا تضاد بينها في مقام الاقتضاء ، وإنما التضاد بينها يكون في مقام الفعلية ، وعليه فبما ان المفروض وجود الملاكين في المجمع فلا محالة يكون الإنشاءان ثابتين ، وحيث ان المانع عن فعلية الأمر إنما هو فعلية النهي ، ففي صورة الجهل عن قصور يسقط النهي عن الفعلية فلا محالة يصير الأمر فعليا.

وفيه : ان التنافي والتضاد ثابت في مقام الاقتضاء والانشاء ، إذ المصلحة التي تكون ملاكا ومنشأً للأمر هي المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة أو الغالبة عليها ، والمفسدة التي تكون منشئا للنهى هي ما لا تكون مزاحمة للمصلحة أو تكون غالبة عليها ، وعليه فلا يعقل اجتماعهما في واحد.

__________________

(١) الوجه الثالث مما استدل به المحقق الآخوند على صحة العبادات في حال الجهل قصورا ص ١٥٧ قوله : «مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها ، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها ، لكن لوجود المانع لا لعدم المقتضي».

٦٢

واما الإنشاء فان اريد به استعمال اللفظ في المعنى ، فهو وان لم يكن مضادا مع حكم انشائي آخر إلا انه لا يكون منشئا للاثر أصلاً ، وان اريد به انشاء الحكم على طبق الملاك ، ويكون ناشئا عن الارادة والكراهة ، فهو وان كان لا تضاد بينه وبين حكم انشائي آخر كذلك إذ الجعل خفيف المئونة ، إلا انه يثبت التضاد بينهما بالعرض من جهة التضاد بين ملاكيهما ، ومن ناحية المنتهى أيضاً ، كما سيجيء تنقيح القول في ذلك.

ثم ان المحقق الخراساني (ره) قال : (١) وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلاً وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب النهي حيث يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان لموافقته للغرض بل للأمر انتهى.

وفيه : ما مر من انه على الامتناع الذي اساسه وحدة المجمع وجودا وماهية لا محالة يقع التعارض بين الدليلين وان باب تزاحم الملاكات غير باب تزاحم الأحكام والملاك للأمر ليس وجود المصلحة بل هي المصلحة غير المغلوبة للمفسدة فمع تقديم جانب النهي وغلبة المفسدة لا محالة لا تصلح المصلحة على فرض وجودها للملاكية والداعوية.

فالاظهر هو الفساد وعدم الصحة في صورة الجهل.

واما في صورة النسيان فالاظهر هي الصحة لسقوط النهي بالنسيان فإذا

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٧.

٦٣

كان المجمع جائزا واقعا فلا مانع من شمول إطلاق دليل الأمر له.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الاظهر هي الصحة على القول بالجواز وتعدد المجمع ، وعدم الصحة على القول بالامتناع مطلقا إلا في فرض النسيان.

دليل القول بالامتناع

وبعد ذلك نقول انه قد استدل لكل من القولين بوجوه :

فالكلام يقع اولا فيما استدل به القائلون بالامتناع.

ثم فيما استدل به للجواز.

اما ادلة القول بالامتناع فنذكر منها في المقام وجهين :

الوجه الأول : ما في الكفاية (١) وجعله مركبا من مقدمات أربع :

الأولى : ان الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها.

الثانية : ان متعلقات التكاليف هي المفاهيم بما هي فانية في الموجودات الخارجية.

الثالثة : ان تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٨.

٦٤

الرابعة : ان الموجود الواحد لا يمكن ان يكون له ماهيتان.

ورتب على هذه المقدمات" ان المجمع بما انه واحد وجودا وماهية" فلا يعقل اجتماع الأمر والنهي فيه.

اما المقدمة الثانية ، فقد تقدم الكلام فيها في مبحث تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد وعرفت انها صحيحة.

واما المقدمة الرابعة : فهي بديهية.

فالعمدة هو البحث في الأولى ، والثالثة.

الأحكام الخمسة متضادة

اما المقدمة الأولى : فقد اختار (قدِّس سره) (١) ان الأحكام الخمسة متضادة في مقام الفعلية ، ولا تضاد بينها ما لم تبلغ تلك المرتبة.

وفيه : ان هذا مبنى على مبناه من ثبوت المراتب للحكم ، من الاقتضاء ، والانشاء ، والفعلية ، والتنجز.

واما بناء على المختار من ان له مرتبتين مرتبة الإنشاء ، والجعل بداعي التحريك على الموضوع المقدر وجوده وبنحو القضية الحقيقية ، ومرتبة الفعلية والمجعول ، وخروجه من التقدير إلى الفعلية ، فلا يتم ذلك إذ لو كان بين

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٨ (احداها).

٦٥

الفعليين تضاد ، لا محالة يكون التضاد بين الانشائيين أيضاً إذ إمكان الجعل تابع لامكان الفعلية ، ومع عدم إمكان الفعليين لما كان يمكن إنشائيين.

والمحقق الأصفهاني (ره) (١) ذهب إلى انه لا تضاد بين الأحكام رأسا حتى في مقام الفعلية ، ومحصل ما أفاده (ره) ان التضاد كالتماثل من اوصاف الاحوال الخارجية ، للامور العينية وليس الحكم بالنسبة إلى متعلقه كذلك ، سواء كان المراد به البعث والزجر ، أو كان المراد به الارادة والكراهة.

اما إذا كان المراد به البعث والزجر الذين هما امران اعتباريان ينتزعان من الإنشاء ، فلان الإنشاء الذي هو مركب من كيف مسموع أي اللفظ ، ومن كيف نفساني وهو قصد ثبوت المعنى به ، قائم بالمنشإ لا بالفعل.

اما الاعتبار ، فهو أيضاً قائم بالمعتبر ومقومه الفعل ، بوجوده العنوانى الفرضى ، وليس هو الفعل الخارجي ، فانه يوجد سواء وجد الفعل أم لا؟ كما هو واضح.

واجتماع أحكام متعددة ولو من موالى متعددين بالنسبة إلى عبيد كذلك في واحد واضح لا يحتاج إلى بيان.

واما إذا كان المراد به الارادة والكراهة اللتين هما من الأمور الواقعية ، ويكون موضوعهما النفس ومتعلقهما الفعل ، فلانه لا مانع من اجتماع ارادات وكراهات كذلك في النفس في زمان واحد كما نشاهد بالعيان بالنسبة إلى أمور متعددة لبساطة النفس وتجردها ، واما من حيث المتعلق ، فلان المتعلق ليس هو

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٢٤ (تحقيق في تضاد الاحكام الخمسة).

٦٦

الوجود الخارجي كما حقق في محله بل طبيعي الفعل بما انه فان في الخارج ، واجتماع الاوصاف المتباينة في الواحد الطبيعي من الجنسى والنوعي ، واضح ، بداهة ان الطبيعي مورد لاحكام متعددة ولو من موالى متعددين بالنسبة إلى عبيد كذلك ولا يخرج طبيعي الفعل عن كونه طبيعيا باختلاف الموالى والعبيد ، وتعدد الفاعل ، والسبب الموجد لا دخل له في تحقق التضاد والتماثل وعدمه بل المناط وحدة الموضوع والمفروض إمكان الاجتماع في مثل هذا الواحد.

ثم انه التزم بعدم إمكان توجه البعث والزجر نحو شيء واحد لمحذور آخر وهو عدم قدرة العبد على ان ينبعث نحو شيء وينزجر عنه في ذلك الزمان (١).

أقول : اما انكار التضاد بين الأمر والنهي فهو حق وستعرف تحقيقه ، وما انكاره بين الارادة والكراهة ، فهو غير تام ، ويتضح بعد بيان مقدمة ، وهي : ان الصفات على قسمين :

الأول : الصفات غير ذات الاضافة.

الثاني : الصفات ذات الاضافة.

وفي الأول يكون التضاد ثابتا مع وحدة الموضوع.

__________________

(١) أي المحقق الاصفهاني التزم بذلك في نهاية الدراية ج ١ ص ٥٢٥ وقال : «وإن كان لازم توجه البعث والزجر ، أو توجه بعثين نحو عنوان واحد محذور آخر كما مرَّ في مقدمة الواجب وسيجيء» ثم ذكر تفصيل ذلك في الجزء ٢ ص ٣٣ عند قوله : «فلا يعقل من المولى حينئذ البعث والزجر لأنهما لجعل الداعي والمفروض استحالته ..» الخ.

٦٧

وفي الثاني إنما يكون التضاد مع وحدة الطرفين ، مثلا ، التقدم والتاخر ضدان ولكن التضاد إنما يكون مع وحدة المتقدم والمتقدم عليه ، والمتأخر والمتأخر عنه ، وإلا فمع تعدد احد الطرفين لا تضاد بينهما ، مثلا ، يصح قولنا : زيد متقدم على عمرو ، ومتاخر عن بكر ، وهذا بخلاف قولنا : زيد متقدم على عمرو ومتاخر عنه.

إذا عرفت هذه المقدمة.

فاعلم ، ان الارادة والكراهة من الصفات ذات الاضافة فالمضادة ليست بين مطلق الارادة والكراهة بل بين الارادة الخاصة والكراهة كذلك أي إرادة شخص واحد فعلا واحدا ، وكراهته عنه ، والتضاد بينهما ثابت.

وعليه فاجتماع إرادة وكراهة من الموالى المتعددين ، أو بالنسبة إلى عبيد كذلك أو مع تعدد المتعلق لا ينافي مع التضاد بينهما.

ودعوى : ان متعلقهما طبيعي الفعل لا الوجود الخارجي ، ولا مانع من اجتماع صفات متباينة في الواحد الطبيعي.

مندفعة : بان المتعلق وان كان هو الطبيعي ، إلا انه فانيا في الخارج ، فإذا كان الطبيعي الفاني في أفراد متعلقا للارادة ، والطبيعي الفاني في أفراد اخر متعلقا للكراهة ، لا كلام ، واما الطبيعي الفاني في جميع الأفراد ، فلا يمكن تعلق الارادة والكراهة من شخص واحد به بالنسبة إلى شخص واحد.

والتحقيق في هذا المقام ان الأحكام لا تضاد بينها ذاتا بل التضاد يكون بينها ، من ناحية المبدأ ، أي الشوق والكراهة ، والمصلحة والمفسدة ، أو من ناحية

٦٨

المنتهى ، أي الامتثال ، فالتضاد بينها ثابت ، لكنه تضاد بالعرض ، لا بالذات ، وتمام الكلام في محله ، وعلى أي تقدير لا يمكن اجتماعهما في واحد.

ضابط كون التركيب اتحاديا أو انضماميا

واما المقدمة الثالثة : وهي ان تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون التي هي اساس القول بالامتناع.

كما ان القول بان تعدده يوجب تعدد المعنون اساس القول بالجواز.

فقد افاد المحقق النائيني (ره) (١) في مقام الجواب عنها ، بعد فرضه كون محل الكلام ، ما إذا تعلق الأمر بطبيعة ، والنهي بطبيعة أخرى وكانت النسبة بين العنوانين عموم من وجه.

واما إذا كانت النسبة عموما مطلقا فلم يتوقف في الامتناع : لاتحاد العنوانين في الخارج ، وان وجود الخاص في الخارج بعينه وجود للعام.

وانه يخرج عن محل الكلام ما إذا كانت النسبة بين الموضوعين عموما من وجه ، دون المتعلقين ، كما في قضيتي اكرم العالم ، ولا تكرم الفاسق ، وانه في هذا المورد يمكن ان يكون التركيب اتحاديا : إذ المشتق إنما ينطبق على الذات باعتبار اتصافها بمبدإ خاص ولا مانع من عروض مبدءين على ذات واحدة واتصافها

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣٥١ (الرابع) ثم أشار لذلك ص ٣٥٢ (الخامس) ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

٦٩

بهما معا.

انه إذا كانت النسبة بين الطبيعتين التين تكون ، احداهما متعلقة للأمر ، والاخرى متعلقة للنهى عموما من وجه لا بد وان يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضماميا ولا يعقل ان يكون اتحاديا إذ المبدأ الموجود في محل الاجتماع متحد ماهية مع المبدإ الموجود في محل الافتراق.

وعليه : فحيث لا يعقل ان يكون لموجود واحد ماهيتان متغايرتان ، فلا بد وان يكون التركيب انضماميا ويكون لكل منهما وجود خاص.

وتحقيق القول في المقام ان المتعلق للأمر أو النهي ، تارة يكون من الماهيات المتأصلة كالضرب مثلا ، وأخرى يكون من المفاهيم الانتزاعية التي تنتزع من الماهيات المتأصلة المتعددة ، وثالثة ، يكون من الأمور الاعتبارية القابلة للانطباق على ماهيات مختلفة كعنوان التعظيم حيث انه ربما يصدق على القيام وأخرى على تحريك الرأس وثالثة على لبس العمامة وهكذا.

وعليه ، فان كان المتعلقان من المهيات المتأصلة وكانت النسبة بينهما عموما مطلقا لا محالة يكون التركيب اتحاديا ، وان كانت النسبة عموما من وجه ، لا بد وان يكون التركيب انضماميا ، إذ لو فرضنا ان لكل منهما في غير مورد الاجتماع وجود أو فعلية ، فكيف يعقل اجتماعهما في وجود واحد ، فان ذلك يستلزم كون الشيء الواحد متفصلا بفصلين ، وفعليا بفعليين ، وبالجملة المقولات باجمعها متباينة لا يعقل اجتماع اثنتين منها في شيء واحد ، وما يكون مصداقا لاحداها يمتنع كونه مصداقا للاخرى.

وان كان المتعلقان من المهيات الانتزاعية أو الاعتبارية ، فان كان منشأ

٧٠

انتزاعهما ، أو مورد اعتبارهما شيء واحد ، كما لو امر باكرام زيد ، ونهى عن اكرام عمرو ، فقام اكراما لهما لا محالة يكون التركيب اتحاديا ، وان كان لكل منهما منشأ انتزاع خاص ، أو مورد اعتبار كذلك غير مربوط بالآخر ، كما لو قام اكراما لزيد وتحرك رأسه اكراما لعمرو يكون التركيب انضماميا.

وان كان احد المتعلقين من المهيات المتأصلة والآخر من الماهيات الانتزاعية ، أو الاعتبارية ، وكان منشأ انتزاعه أو مورد اعتباره تلك الماهية المتأصلة يكون التركيب اتحاديا ، وان كان غيرها يكون انضماميا ، فيمكن ان تكون النسبة بين المتعلقين عموما من وجه ، ومع ذلك يكون التركيب بينهما اتحاديا في المجمع.

فما أفاده المحقق النائيني (١) من انه إذا كانت النسبة عموما من وجه لا محالة يكون التركيب انضماميا ، لا يتم.

كما ان ما أفاده المحقق الخراساني (٢) من ان تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون على اطلاقه غير تام ، فلا بد في تشخيص ذلك من ملاحظة كل مورد بخصوصه.

الصلاة في الدار المغصوبة

واما الصلاة في الدار المغصوبة ، فملخص القول فيها :

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٥٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٥٥.

(٢) كفاية الاصول ص ١٥٩ (ثالثتها).

٧١

ان الصلاة مركبة من مقولات متباينة ، وليس لها بنفسها ماهية خاصة وعدم صدق الغصب على جملة منها واضح ، فان النية إنما تكون من مقولة الكيف النفساني ، والاذكار من التكبيرة ، والقراءة ، والتشهد ، وغيرها من مقولة الكيف المسموع ، والافعال المعتبرة فيها جملة منها كالركوع ، والسجود والقيام ، والجلوس ، ونحوها ، من مقولة الوضع أي الهيئة الحاصلة من اضافة بعض الاجزاء إلى بعض ، أو الكيف الجسماني ، ولا مساس لشيء من ذلك بالغصب الذي هو من الماهيات غير المتأصلة المنتزعة من مهيات مختلفة.

حيث انه في المقام ينتزع من الكون في الدار الذي هو من مقولة الاين ، ولا ينتزع ، من الاذكار فانها تصرف في اللسان ، لا في مال الغير ، ولا من الأفعال ، ولا من النية كما هو واضح.

وقد برهن في محله ان المقولات العشر متباينة لا يعقل صدق اثنتين منها على موجود واحد فلا محالة يكون للغصب وجود غير ما لهذه الاجزاء من الوجود ، والتركيب يكون انضماميا.

واما الهوي إلى السجود والنهوض إلى القيام فان قلنا انهما ليسا من اجزاء الصلاة كما هو الحق فلا كلام ، واما ان قلنا بانهما منها ، فبناء على ان الحركة لها ماهية خاصة غير ما لغيرها من الماهيات ، كما ذهب إليه بعض ، فحالهما حال الاجزاء السابقة.

واما بناء على ما هو الحق من ان الحركة لا ماهية متأصلة لها ، بل هي تنتزع من تدريجية الوجود ، وكون الشيء في كل آن في حد غير ما كان فيه في الآن السابق ، كما عليه المحققون ، فهما في المقام ينتزعان من مقولة الاين التي تنتزع

٧٢

منها الغصبية ومن مقولة الوضع ، فان كان المأمور به الاوضاع المتعددة الحاصلة بالهوى والنهوض فلا مساس لهما بالغصب فيكون التركيب انضماميا ، واما ان قلنا ان المأمور به هو نفس الحركة الخاصة التي هي حركة في الاين فيلزم اجتماع المأمور به والمنهى عنه في واحد.

نعم ، بناء على اعتبار الاعتماد على الارض في السجود ، كما هو الظاهر ، أو في القيام كما ذهب إليه بعض لزم اتحاد المأمور به والمنهى عنه في هذا القيد : إذ الغصب إنما ينتزع من نفس الاعتماد على الارض المغصوبة لأنه تصرف فيها.

وكيف كان فإذا عرفت الضابط لكون التركيب اتحاديا ، أو انضماميا ، فاعلم انه على الأول لا مناص عن القول بالامتناع ، إذ لا يعقل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، لعدم اجتماع مبدأيهما في واحد ، وعلى الثاني لا مناص عن القول بالجواز : إذ بعد فرض تعدد الوجود وتمحض أحدهما في كونه ذا مصلحة ، والآخر في كونه ذا مفسدة ، فلا بد من الأمر باحدهما والنهي عن الآخر.

وللمحقق اليزدى في درره في المقام كلام لا بأس بالتعرض له قال (قدِّس سره) (١) : قد يتراءى التهافت بين الكلمات حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، ومثلوا له بالعامين من وجه واختار جمع منهم الجواز ، وانه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الأدلة جعلوا احد وجوه

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ١ ص ١٢١ (الامر الخامس).

٧٣

التعارض ، التعارض بالعموم من وجه وجعلوا علاج التعارض الاخذ بالاظهر ان كان في البين وإلا التوقف ، أو الرجوع إلى المرجحات السندية على الخلاف.

وأجاب عنه (١) بان هذه المسألة مبنية على احراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين وان المناطين ، هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في واحد كما يقوله المانع ، اولا كما يقوله المجوز ، ولا اشكال في ان الحاكم في هذا المقام هو العقل ، وباب تعارض الدليلين ، مبنى على وحدة الملاك ، ولا يعلم ان الملاك الموجود ، هل هو ملاك الأمر؟ أو ملاك النهي مثلا فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الاظهرية ان كان احد الدليلين اظهر ، وإلا التوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية انتهى.

ويتجه : على جوابه (قدِّس سره) انه لا طريق لنا إلى استكشاف وحدة المناط ، وتعدده من غير ناحية التكليف إلا نادرا.

وبعبارة أخرى : التعارض المدعى في ذلك الباب ، إنما هو بين نفسي الدليلين ، لا من جهة احراز وحدة الملاك ، فلا بد من رفع التهافت بوجه آخر.

والحق في الجواب يبتني على ما تقدم ، وهو ان النسبة بين الموضوعين ، وهما عنوانان اشتقاقيان ، كالعالم ، والفاسق ، إذا كانت عموما من وجه ، فبما انهما يصدقان على معروض واحد وذات واحدة ، فلا محالة يكون التركيب اتحاديا ، فلا مناص إلا عن التعارض.

واما إذا كانت النسبة بين المتعلقين وهما ، مبدأ الاشتقاق عموما من وجه ،

__________________

(١) نفس المصدر في الدرر.

٧٤

وكان كل واحد منهما من الماهيات المتأصلة ، أو كان كل منهما من الماهيات الانتزاعية أو الاعتبارية ، وكان منشأ انتزاع كل منهما أو مورد اعتباره مغايرا للآخر ، فلا محالة يكون التركيب انضماميا ، فلا مناص عن القول بالجواز ، وعليه ، فما هو المعنون في باب التعارض هو المورد الأول ، وما هو المعنون في المقام هو المورد الثاني فتدبر فان ذلك دقيق.

الوجه الثاني : مما استدل به للامتناع (١) على فرض كون التركيب انضماميا ، انه بما ان كلا من متعلقي الأمر والنهي في المجمع يكون من مشخصات الأخر فالتكليف بكل منهما يسرى إلى الآخر فيلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد.

والجواب عنه هو ما ذكرناه في مبحث الضد ، ومبحث تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد من ان التكليف المتعلق بشيء لا يسرى إلى مشخصاته التي لها وجودات مستقلة ، وملازماته.

ادلة القول بجواز الاجتماع

وقد استدل للجواز على فرض كون التركيب اتحاديا بوجوه :

الأول : ان الاجتماع في المقام بما انه مأموري لا آمرى لكونه من قبل نفس المكلف بسوء اختياره فلا مانع من الاجتماع.

__________________

(١) الظاهر أن المستدل هو المحقق الخوئي (قدِّس سره) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ (التحقيق في هذا المقام ...).

٧٥

وفيه : ان الاجتماع وان كان بسوء اختيار المكلف إلا انه لا يعقل كون شيء واحد محكوما بحكمين لعدم إمكان اجتماع المبدأين وقاعدة الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ، مضافا إلى ان المراد بها عدم منافاته له عقابا لا خطابا هي اجنبية عن المقام مما يستحيل اجتماع المبدأين كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره المحقق القمي (ره) (١) وحاصله : ان الفرد مقدمة لوجود الطبيعي ، وعليه فان قلنا بعدم وجوب المقدمة كان معروض الحرمة غير معروض الوجوب ، وان قلنا بوجوبها فاجتماعهما في واحد وان كان متحققا إلا ان أحدهما نفسي والآخر غيرى.

وفيه : ان الفرد ليس مقدمة لوجود الطبيعي بل الطبيعي موجود بوجود الفرد ، فلا مقدمية للفرد على وجود الطبيعي.

وبعبارة أخرى : قد تقدم ان متعلق الأمر هو الطبيعي الفاني في الوجودات الخارجية ، مع ان متعلق النهي أيضاً ، هو الطبيعي بالمعنى المزبور ، والفرق بينهما ان أحدهما انحلالي ، والآخر ليس كذلك. فيلزم اجتماعهما في واحد.

الثالث : ان متعلق التكليف إنما هو الطبيعي المتصف بالوجود ، ولكن الصفة خارجة عن حريم المتعلق ، وإنما الدخيل اتصاف الطبيعة بها.

وعلى ذلك ، فان تعلق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة أخرى وتحققتا في الخارج بوجود واحد ، فالوجود الخارجي وان كان واحدا إلا ان الطبيعة المتصفة بالوجود متعددة ، إذ اتصاف ، كل من الطبيعتين بالوجود ، غير اتصاف الاخرى

__________________

(١) راجع قوانين الاصول ج ١ ص ١٤١ بتصرف.

٧٦

به ، فمحل الأمر غير محل النهي ، ولازم ذلك اختلاف الاطاعة والعصيان ، وتعددهما أيضاً ، إذ الاتيان بالمجمع ليس بنفسه امتثالا ولا عصيانا ، بل هو يوجب حصول اتصاف كل من الطبيعتين بالوجود ، ويكون الامتثال باتصاف احداهما به. والعصيان باتصاف الاخرى به.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الوجه.

وبه يظهر عدم تمامية جواب المحقق الخراساني (١) من ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون إذ ليس مبنى الاستدلال تعدد المعنون بل مبناه كون المأمور به اتصاف العنوان بالوجود فوحدة الوجود ، لا تنافى هذه الدعوى.

ولكن يرد عليه ، مضافا إلى ما تقدم في مبحث تعلق الأوامر بالطبائع ، من ان متعلق التكليف ، الطبيعي الفاني في الموجود الخارجي ، ان الوجود إذا كان واحدا فلا محالة يكون الايجاد واحدا ، لانهما متحدان ذاتا ، متغايران اعتبارا ، والايجاد إذا كان واحدا ، والوجود واحدا ، كيف يعقل ان يكون مامورا به ، ومنهيا عنه ، وامتثالا ، وعصيانا.

العبادات المكروهة

الرابع : انه لو لم يجتمع الأمر والنهي لما وقع نظيره ، وقد وقع كما في العبادات المكروهة فمن وقوع نظيره يستكشف الجواز إذ الوجه لعدم الجواز إنما

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٥٩.

٧٧

هو تضاد الأحكام الخمسة وامتناع اجتماع اثنين منها في واحد ، وعليه ، فمن الدليل على اجتماع الاستحباب والكراهة في واحد يستكشف امكانه ، ومن امكانه يستكشف إمكان اجتماع الوجوب والحرمة في واحد.

ولهذا الوجه جوابان :

الجواب الأول : الجواب الاجمالي وهو ان الظهور لا يصادم البرهان فلو تم برهان الامتناع لا مناص عن التصرف فيما ظاهره خلاف ذلك ، مع انه في تلك الموارد أي العبادات المكروهة قد ادعى ظهور الأدلة في اجتماع الاستحباب والكراهة ، بعنوان واحد ، ولم يلتزم بجواز ذلك احد حتى القائل بالجواز.

الجواب الثاني : هو الجواب التفصيلي ، وحاصله ، ان العبادات المكروهة على اقسام ثلاثة :

الأول : ما تعلق النهي التنزيهي بشيء يكون نسبته مع المأمور به نسبة العموم والخصوص المطلق ، مع فرض عدم بدل للمنهى عنه في الخارج كصوم يوم عاشوراء.

الثاني : ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى هي العموم المطلق ، مع وجود بدل للمنهى عنه ، كالصلاة في الحمام.

الثالث : ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى هي العموم من وجه ، كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على ان النهي عنها إنما هو لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها أو ملازمتها له.

٧٨

اما في القسم الأول : فقد أجاب عنه المحقق النائيني (ره) (١) بما يبتنى على مقدمة ذكرها ، وهي.

ان النذر إذا تعلق بعبادة مستحبة ، فالامر الناشئ من النذر يتعلق بذات العبادة التي كانت متعلقة للأمر الاستحبابي في نفسها فيندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبى ويتحد به فيكتسب الأمر الوجوبى جهة التعبد من الأمر الاستحبابي والامر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبى فيتولد من ذلك امر وجوبي عبادي.

واما إذا تعلقت الاجارة بالعبادة المستحبة في موارد النيابة عن الغير ، فالامر الناشئ منها لا يتعلق بذات العبادة التي تعلق بها الأمر الاستحبابي ، بل يتعلق بإتيان العبادة بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، لعدم تعلق الغرض بذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه ، فلا يعقل في هذا المورد تداخل الامرين واندكاك أحدهما في الآخر ، إذ التداخل فرع وحدة المتعلق والمفروض عدمها في هذا المورد ، فلا يلزم اجتماع الضدين في هذا المقام.

ثم بعد هذه المقدمة افاد (٢) ان متعلق الأمر في هذا القسم من العبادات المكروهة هو ذات العبادة ، ومتعلق النهي التنزيهي هو التعبد بهذه العبادة لانفسها ، إذ لا مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها ، بل المفسدة في التعبد بها

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٦٥ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧٤ (والتحقيق في الجواب).

(٢) المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٣٦٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧٦ (إذا عرفت ذلك فنقول).

٧٩

لما فيه من المشابهة للاعداء. وحيث ، ان متعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يكون النهي منافيا للأمر وبما ان النهي تنزيهي لا يكون مانعا عن التعبد بمتعلقه.

وفي المقدمة التي ذكرها ، وما ابتنى عليها نظر.

اما في المقدمة فموردان للنظر :

اما الأول : فلان الأمر النذرى في التعبدية والتوصلية تابع لمتعلقه ، إذ اتصاف الأمر بالتعبدية والتوصلية إنما يكون من جهة انه ان كان يعتبر في حصول الغرض المترتب على متعلقه قصد القربة ، فهو تعبدي وإلا فتوصلي ، ولا يختلف حقيقة الأمر في الموردين وعلى ذلك فان تعلق النذر بالعبادة فالامر النذرى بما انه يعتبر في متعلقه قصد القربة تعبدي ، وان تعلق بغيرها فهو توصلي ، فاتصاف الأمر النذرى بالتعبدية ليس لأجل اكتسابه تلك من الأمر الاستحبابي.

واما الثاني : فلان الأمر الاجارى لم يتعلق بإتيان العبادة بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه : إذ لا يعقل ان يقصد النائب الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، لان الأمر المتوجه إلى شخص يكون محركا له خاصة فكيف يجعل غيره داعيا له ، بل متعلق الأمر إلا جارى هو ما تعلق به الأمر الاستحبابي العبادي المتوجه إلى جميع الناس للنيابة في العبادة عن الميت ، بل الحى في بعض الموارد من دون ان يكون له مساس بالامر العبادي المتوجه إلى المنوب عنه ، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله ، وقد اشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الأول من منهاج الفقاهة في مبحث اخذ الاجرة على الواجب وفي الجزء التاسع من فقه الصادق في مسألة النيابة في الحج.

٨٠