نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

ونواجه في الآية الخامسة تعبيراً جديداً أيضاً ، فبعد أن ذمّت الآية البخلاء وأخبرت بأنّ البخل ليس خيراً لهم وإنّما هو ضرر عليهم : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

يستفاد من هذا التعبير أنّ الأموال التي لم تدفع الحقوق المفروضة عليها ولم ينتفع بها أحد ستكون على شكل طوق تطوّق به رقاب البخلاء يوم القيامة ، فكما كان وزرها على عواتق أصحابها دون الانتفاع بها فكذلك الأمر في يوم القيامة.

ولقد ورد في تفسير العياشي نقلاً عن الإمام الباقر عليه‌السلام في توضيح معنى هذه الآية قال : «مامن عبد منع زكاة ماله إلّاجعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه» (١).

ولكن ما المقصود بالبخل في الآية الكريمة : ممّا آتاهم الله من فضله؟

يعتقد بعض المفسِّرين أنّ الآية ناظرة إلى البخل في العلم والمعرفة وحسب ما جاء في سبب نزولها حيث نقل عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في كتمان اليهود لعلامات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

في حين نجد أنّ هناك روايات عديدة ذكرت أنّ الآية تتعلق بمانعي الزكاة ولا يستبعد أن يكون للآية مفهومٌ واسعٌ بحيث تشمل كل الهبات الإلهيّة التي ذكرناها والتي لم نذكرها.

ويلاحظ أنّ جمعاً من المفسرين لم يأخذوا بظاهر الآية وفسّروها بجزاء الأعمال ، وقال البعض منهم : إنّ المراد بالآية الكريمة البخلاء فهم مكلّفون يوم القيامة بالإتيان بمثل هذه الأموال ولكنّهم لن يتمكنوا من ذلك (أي إنّ الذي سيطوقون به هو التكليف وليس نفس الأموال).

ولكنّ هذا النوع من التفاسير إضافة إلى كونه يفتقر إلى الدليل كذلك فهو مخالف لظاهر الآية ولا يتوافق مع الروايات الكثيرة المنقولة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام في تفسير هذه الآية.

وتتحدث الآية السادسة عن موضوع جديد وهو (حضور واحضار العمل) قال تعالى :

__________________

(١). تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٢٠٧ ، ح ١٥٨.

(٢). لقد وردت رواية ابن عباس في كثير من التفاسير من جملتها تفسير القرطبي ؛ تفسير روح المعاني ؛ تفسير المنار ، ذيل الآية مورد البحث.

٨١

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ).

قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : «ما احضرت بمعنى ما وجدت حاضراً من عملها ، والعجيب أنّه يقول على أثرها : إنّ لإحضار الأعمال معنى مجازياً لأنّ العمل ليس بالشيء الذي يبقى إذ إنّه يفنى بعد الأداء ، وقال البعض إنّ المقصود هو حضور صحيفة الأعمال» (١).

في حين ـ كما سنوضح ذلك في فقرة (التوضيحات) ـ أنّ الأعمال لا تفنى أبداً ولا مانع من تجسمها على شكل صور مناسبة في ذلك اليوم.

إنّ احضار العمل سواء كان بمعنى (الاحضار) أو (الحضور) (حيث فسّر بكلا المعنيين) يدلّ على ما نصبو إليه من هذا البحث.

* * *

استيفاء الأعمال يوم القيامة :

يلاحظ في الآيات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة تعبيراً آخراً في مسألة تجسّم وحضور الأعمال ، حيث ورد في هذه الآيات أنّ أعمال الإنسان الصالحة والسيئة (الخير والشرّ) ترجع إلى الإنسان يوم القيامة كاملة غير منقوصة ، والظاهر من كل هذه الآيات أنّ المراد هو استيفاء العمل نفسه وليس جزاء العمل أو كتاب العمل.

قال تعالى في الآية السابعة : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُم وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ).

وقال تعالى في الآية الثامنة بعد الإشارة إلى محكمة القيامة وكتاب الأعمال والشهود ونفي الظلم : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّاعَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَّ) ، فكأنّ هذه الآية تبيّن علّة الحكم بالحق وعدم ظلم الآخرين الذي ورد في الآية التي تسبقها فتقول : كيف يقع الظلم والجور على أحد في حين أنّ نفس أعماله توفى إليه؟! إضافة إلى ذلك أنّ هذه المحكمة

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٤.

٨٢

تدار من قبل من هو أعلم بما يفعلون.

ولقد جاء نفس هذا المعنى في الآية التاسعة : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتُظْلَمُونَ).

وكذلك ورد في الآية العاشرة نفس هذا المعنى أيضاً ولكن بعبارات أكثر عمومية وشمولية : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّاكَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ).

«ووفيت وتوفى ويوفى» كلّها مشتقّة من مادة (وفا) التي تعني الوصول إلى الكمال و «توفيه» : بمعنى دفع الشيء بصورة كاملة و (توفى) بمعنى أخذ الشيء كاملاً.

ويجب أن نذكر أَنَّ القرآن الكريم يشير في بعض الموارد بقوله : (انَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ). (الزمر / ١٠)

ولكنه يقول في الآيات السابقة وبعض الآيات الاخرى إنّهم يستوفون نفس أعمالهم ، ونحن نقول : إنّه لامنافاة بين الاثنين وذلك للاستفادة من مجموع الآيات الكريمة ، فبالإضافة إلى تعلّق الأجر والجزاء بالأعمال فإنّ أعمال الإنسان تستوفى في ذلك اليوم ، ويمكن أن نشبّه هذه المسألة بالسائق الذي يخالف مقررات المرور فكما أنّه يتعرض لخسارة الاصطدام كذلك يجب عليه دفع الغرامة.

ولقد فسَّر الكثير من المفسِّرين هذه الآيات بأنّها كناية عن أخذ جزاء الأعمال ، لكننا نقول : هذا كلام لا دليل عليه بل وكما لاحظنا أنّ هناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة (التي سنشير إليها لاحقاً) تدلّ على تجسّم وحضور أعمال الإنسان يوم القيامة ، لذا فنحن ندع الآيات ومعناها الظاهري.

وعلى هذا الأساس نتناول بحث تجسّم الأعمال كما فعل ذلك جمع من أهل التحقيق والتفسير والحديث.

وفي الآية الحادية عشرة إشارة إلى الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وكذلك إشار إلى العذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء ، فتذكر هذه الآية بوضوح الدراهم والدنانير التي اكتنزوها ولم ينفقوها في سبيل الله فسوف يؤتى بها يوم القيامة ويحمى عليها

٨٣

في نار جهنّم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.

من هنا يطرح هذا السؤال : لماذا خصت الآية هذه الأعضاء الثلاثة دون غيرها؟

قال البعض : لأنّها تشمل معظم البدن (وإنّما خصت هذه الاعضاء لأنّها تمثل معظم البدن) (١).

وقيل : لأنّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبضَ جبهته وزوى يمينه وطوى عنه كشحه وولاه ظهره.

وقيل : إنّ المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه ، وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان ، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلما طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة ، لا جرم أن حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور (٢).

صحيح أنّ هذه الآية لم تذكر صراحة تجسّم الأعمال ، ولكنّها دلّلت على حضور الأموال في عرصات يوم القيامة ، ويمكن أن نعتبر نفس هذا التعبير إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال ، وبالرغم من الزوال والفناء الظاهري لهذه الأموال ولكنها بحكم المعاد سوف تعود وتتجسّد هناك ويحمى عليها في نار جهنّم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

ثم يطرح هذا السؤال : ما المراد بالكنز هنا؟ هناك آراء عديدة في الإجابة عنه : فمما لا شكّ فيه أنّ للكنز مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأموال النفيسة التي تجمع وتدخر في مكان ما ، فهل يدلّ مفهوم الآية على أنّ حرمة ادّخار جميع الأموال الفائضة عن الحاجة والتي يترتب عليها ماورد في هذه الآية من عقوبات؟ أم أنّ الآية تخصّ الذين يمتنعون من أداء الحقوق الشرعية كالزكاة وغيرها؟ أمّا الذين يؤدّون الحقوق الواجبة فلم تشملهم هذه الآية وماورد فيها من عقوبات؟

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٦.

(٢). لقد ذكر الفخر الرازي ستة أوجه في تفسير هذه الآية ، تفسير الكبير ج ١٦ ص ٤٨ ، وأشار إلى هذا المعنى تفاسير روح البيان ؛ وروح المعاني ؛ والقرطبي.

٨٤

المشهور بين الفقهاء والمفسِّرين والمحدِّثين : هو المعنى الثاني ، ولقد وردت بهذا الخصوص أحاديث كثيرة منقولة عن الطرفين (السُنّة والشيعة) ومن جملتها الحديث المنقول عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أي مال أديت زكاته فليس بكنز» (١).

كما أنّ هناك احتمالاً آخر وهو أنّ المجتمع الإسلامى إذا تعرض نتيجة تجميد رؤوس الأموال إلى أزمة اقتصادية شديدة ، فيجب على أصحاب رؤوس الأموال اخراجها ، إمّا عن طريق الانفاق أو عن طريق استثمارها في مجالات العمل المختلفة من أجل تأمين المتطلبات الضرورية للمجتمع.

فاذا اكتنزوا أموالهم في مثل هذه الأوضاع ولم يخرجوها للتداول والاستثمار فسوف تشملهم الآية الكريمة ، ولعل مايؤكد هذا المعنى ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ قال :

«مازاد على أربعة الآف فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدها وما دونها فهي نفقة فبشرهم بعذاب اليم» (٢).

* * *

لا تجزون إلّاما كنتم تعملون :

يلاحظ في الآية الثانية عشرة تعبير جديد في هذا الصدد وخلاصته أنّ جزاءكم يوم القيامة هو نفس أعمالكم ونجد هذا التعبير في كثير من الآيات القرآنية فتارة يقول تعالى : (إِنَّمَا تُجْزَونَ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

ولقد ورد عين هذا التعبير في الآية ١٦ من سورة الطور والآية ٧ من سورة التحريم.

وقال تعالى : (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (يس / ٥٤)

وقال أيضاً : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (النمل / ٩٠)

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦ وفي صحيح البخاري هناك باب تحت عنوان (ما أدى زكاته فليس بكنز) ج ١ ، الجزء ٣ ، ص ١٣٢ ، وكذلك تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣ ، ح ١٣٢.

٨٥

وقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). (يونس / ٥٢)

وهناك تعابير اخرى من هذا القبيل بشيء من الاختلاف ، وبناءً على ما جاء في ظاهر هذه الآيات فإنّ جزاء الإنسان نفس عمله ، فأعماله ترجع إليه فتكون سبباً إمّا في شقائه ومعاناته وإمّا في سعادته وسروره ، وهذا دليل واضح على مسألة تجسّم الأعمال وعودتها إلى صاحبها وهذا من العدل الإلهي.

وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّ (الباء) هي باء السببية فيصبح المعنى : (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنّما تجزون بسبب الأعمال التي اقترفتموها (١).

في حين أنّ هذا التعبير على خلاف ظاهر الآية وهو غير جائز من غير دليل ولا علة للتقدير في الآيات السالفة الذكر ، فما المانع من أن تحضر هناك نفس أعمال الإنسان لتشكل القسم الأعظم من جزائه.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان في ذيل الآية ٧ من سورة التحريم : «أي إنّ العذاب الذي تعذبون به هو عملكم السيء الذي عملتموه وقد برزت لكم اليوم حقيقته» (٢).

* * *

يتضح من مجموع الآيات التي تعرضنا إلى تفسيرها أننا إذا لم نتلاعب بظواهرها ولم نؤولها أو نحملها على معنى آخر ولن نقدر لها أي تقدير كجملة أو كلمة ، وبتعبير أوضح إن فسّرنا ظواهر الآيات كما هي عليه اتّضح لنا أنّ أعمالنا تتجسد في يوم القيامة وفي محكمة العدل الإلهي أو المواقف الاخرى من ذلك اليوم ، فتتجسّم وتبرز أمامنا بأشكال تناسب تلك الأعمال فتظهر السيئة على صورة موجودات قبيحة مخيفة ومزعجة ، أمّا الصالحة فتتجسد على صورة موجودات لطيفة مؤنسة وتكون قرين الإنسان.

__________________

(١). قدر البعض كلمة (على) فيصبح المعنى (على ماكنتم تعملون).

(٢). تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٨٨.

٨٦

توضيحات

١ ـ رؤية الأعمال في الروايات الإسلامية

لقد وردت مسألة رؤية الأعمال بنطاق واسع في الروايات الإسلامية المنقولة عن الشيعة وأهل السُنّة ، وهذه الكثرة بلغت إلى حدّ جعل المرحوم الشيخ البهائي يقول في احدى محاضراته : «تجسم الأعمال في النشأة الأخروية قد ورد في أحاديث متكثرة من طرف المخالف والموالف» ، وسنتطرق هنا إلى بعض من هذه الأحاديث :

١ ـ ورد في حديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : روى أصحابنا «رضي الله عنهم» عن قيس بن عاصم قال : وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخلت عليه فقلت : يانبي الله عظنا موعظة ننتفع بها ، فإنّا قوم نعبر في البرية ، فقال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا قيس إنّ مع العزّ ذلاً ، وإنّ مع الحياة موتاً وإنّ مع الدنيا آخرة ، فإنّ لكل شيء حسيبا ، وإنّ لكل أجل كتاب وأنّه لابدّ لك ياقيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ثم لا يحشر إلّامعك ، ولا تحشر إلّامعه ، ولا تسأل إلّا عنه فلا تجعله إلّاصالحاً فانّه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلّامنه وهو فعلك».

وورد في ذيل الرواية أنّ قيس قال : يارسول الله أحب أن يكون هذا الكلام أبياتاً من الشعر نفتخر بها على من يلينا وندّخرها فأمر من يأتيه بحسّان ، فقال الصلصال (وكان حاضراً في المجلس) يارسول الله قد حضرتني أبيات أحسبها توافق ما أراد قيس ، فقال هاتها ، فقال :

تجنب خليطا من مقالك إنّما

قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولن يصحب الإنسان من قبل موته

ومن بعده إلّاالذي كان يعمل! (١)

__________________

(١) تفسير الميزان، ج ١٩، ص ٢٢٨ و ٢٢٩ ولكن يستفاد من رواية المرحوم الصدوق في كتاب الخصال أنّ هذين البيتين قالهما قيس بن عاصم بالبداهة. وكان البيت الأول وحسب ما نقله الشيخ الصدوق في الخصال، ج ١ ، باب ٣ ، ح ٩٣ :

تسخير خليطا من مقالك إنّما

قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

٨٧

٢ ـ في حديث آخر نقله أبو بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام أو الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ست صور ، فيهن صورة أحسنهن وجهاً وأبهاهن هيئة ، وأطيبهن ريحاً ، وانظفهن صورة ، قال : فتقف صورة عن يمينه ، واخرى عن يساره ، واخرى بين يديه ، واخرى خلفه ، واخرى عند رجليه وتقف التي أحسنهن فوق رأسه ، فإن أتى عن يمينه منعته التي عن يمينه ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست قال : فتقول التي أحسنهن صورة : ومن أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة ، وتقول التي عن يساره أنا الزكاة وتقول التي بين يديه أنا الصيام ، وتقول التي خلفه : أنا الحج والعمرة وتقول التي عند رجليه ، أنا بر من وصلت من اخواني ؛ ثم يقلن من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً ، وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيبة فتقول أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين» (١).

٣ ـ ورد في حديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه قال : «قال لي جبرائيل : يامحمد! عش ما شئت فانّك ميت ، واعمل ما شئت فانّك ملاقيه» (٢).

٤ ـ وفي حديث آخر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له من أنت؟ فوالله إنّي لأراك امرأ صدقٍ ، فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائدا إلى الجنّة» (٣).

٥ ـ وفي الختام نذكر حديثاً ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص وقال له ياهذا كنّا ثلاثة ، كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك ، وكنت عملك فبقيت معك ، أما أنّي كنت أهون الثلاثة عليك» (٤).

والأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة ومن جملتها أحاديث المعراج ، فلما عرج

__________________

(١) كتاب المحاسن طبق نقل بحارالأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٣٤ ، ح ٥٠.

(٢) كنز العمال ، ج ١٥ ، ص ٥٤٦.

(٣) المصدر السابق ، ج ١٤ ، ص ٣٦٦.

(٤) فروع الكافي ، ج ٣ ، (كتاب الجنائز) ، ص ٢٤٠ ، ح ١٤.

٨٨

بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ على الجنّة والنّار فرأى كل زمرة من العاصين تعذب بعذاب شبيه بأعمالهم ، كذلك شاهد أعمال الصالحين وهم منعمون برفقة أعمالهم.

وما الأخبار الواردة حول الغيبة وتجسمها على صورة قطعة لحم متعفنة يتناولها المغتاب إلّادليلا آخر على هذا المعنى.

ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات والآيات السابقة أنّ أعمال الإنسان تتجسد في عالم البرزخ والقيامة في صور متناسبة مع العمل ، وأن تعبير : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً). (النساء / ١٠)

يدل على أنّ باطن العمل يتمتع بنوع من الحضور ، فأكل مال اليتيم يكون في بطنه على شكل نار محرقة ومن لم تكن له عين باصرة لا يرى حقيقة هذا الأمر.

من هنا نقول إنّه ليس من الضروري حمل جميع هذه الآيات والروايات على المعنى المجازي والكنائي أو إيجاد تأويل أو تقدير لها مع العلم بأنّه لا يوجد أي مانع من العمل بظواهر مثل هذه الآيات وكما سنبيّن ذلك لاحقاً.

* * *

٢ ـ تجسد الأعمال في منطق العقل

الإشكال الأول الذي يرد على مسألة رؤية وحضور الأعمال ـ كما يتضح من بعض كلمات المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ـ هو أنّ العمل من جنس «العرض» لا «الجوهر» فلا يحمل خواص المادة ولا هو مادة بنفسه لذا فهو ينعدم بعد حدوثه.

والإشكال الثاني : هو أنّ العمل يمحى ويزول بعد وجوده ، لذا فإنّنا لا نجد آثاراً من أحاديثنا وأفعالنا الماضية إلّاما أحدثت تغييراً في بعض المواد الموجودة كتحول الحصى والخشب والجص إلى بيت معين ، وهذا ليس بتجسم وإنّما هو تحّول ناشيء من العمل (تأمل).

٨٩

ولكن إذا أخذنا النكتتين أدناه بنظر الاعتبار فسوف تتضح الإجابة عن الشبهتين السالفتين وكذلك تتضح مسألة تجسم الأعمال :

النكتة الاولى : لقد ثبت اليوم أنّ المادة لا تفنى ، وحتى الأعمال فانّها تتحول إلى صور مختلفة.

فإن تحدّثنا فستنتقل أصواتنا على شكل أمواج صوتية إلى الفضاء المحيط بنا وتصطدم بالأجسام التي تعترضها من جدران وأبنية وأجسام اخرى وتتحول إلى طاقة اخرى ، ومن الممكن أن يتغير شكل هذه الطاقة مرّات عديدة ولكنها لن تفنى ، وما حركات أيدينا وأرجلنا إلّانوعٌ من الطاقة وهذه الطاقة (الميكانيكية) لا تفنى أبداً وإنّما تتحول إلى طاقة حرارية أو طاقة اخرى.

والخلاصة : ليست المادة لا تفنى فقط بل وحتى طاقتها ثابتة ولا تفنى أيضاً بل تتحول من شكل إلى آخر.

النكتة الثانية : وقد تمّ إثباتها بشكل قاطع من خلال بحوث العلماء وتجاربهم وهي : إنّ هناك علاقة قريبة بين المادة والطاقة ، أي أنّ المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، فالمادة عبارة عن طاقة مخزونة أمّا الطاقة فهي مادة غير مخزونة (حرة) ، لذا يمكن أن تتحول أحداهما إلى الاخرى تحت شروط معينة ، فالطاقة الذرية هي تحول المادة إلى طاقة ، وبتعبير آخر أنّ الطاقة الذرية : هي انشطار نواة الذرة وتحرير طاقتها الكامنة ، ولقد أثبت العلماء أنّ الطاقة الحرارية للشمس تحصل نتيجة الانفجارات الذرية فيها ، ولهذا السبب تفقد مقداراً كبيراً من وزنها كل أربع وعشرين ساعة ولو أنّ هذا النقصان ضئيل قياساً بوزن وحجم الشمس.

بلا شكّ وكما أنّ المادة قابلة للتحول إلى طاقة كذلك الطاقة فانّها قابلة للتحول إلى مادة ، أي إذا تراكمت الطاقة المنتشرة فانّها تأخذ حالة الجسم المادي.

وعلى هذا الأساس لايوجد أي مانع من عدم فناء ومحو أعمالنا وأقوالنا التي هي طاقات مختلفة وارجاعها مرّة اخرى بأمر الله على صورة جسم.

٩٠

ومن المسلَّم به أنّ كل عمل سيكون جسماً بما يتناسب مع خواصه وصفاته ، فالطاقات التي تبذل في سبيل الإصلاح وخدمة الناس والتقوى تظهر على شكل صورة جميلة تتناسب مع ذلك العمل.

أمّا الطاقات التي تستعمل في مجال الظلم والجور والقبح والفساد فتتجسم على شكل صورة قبيحة مخيفة.

وعلى هذا الأساس تعتبر حالة تجسّم الأعمال احدى المعاجز العلمية للقرآن ، وكما اتّضح أنّ بقاء الطاقة وتحول المادة إليها وبالعكس لم تكن مطروحة آنذاك ، لكن الآيات والروايات تحدثت عن هذا الأمر بشكل واضح ، وبناءً على ذلك لم تكن هناك مشكلة لا من حيث كون الأعمال من جنس «العرض» ولا من حيث كونها ـ كما أشرنا ـ لا تفنى وأنّ العرض والجوهر وجهان لحقيقة واحدة ويتضح هذا المعنى أكثر بالالتفات إلى حركة الجوهر حيث إنّ القائلين بحركة الجوهر يستدلون بالحركات التي تقع في العرض ويرون أنّ العرض والجوهر لاينفكان عن بعضهما البعض.

ومن المناسب أن نشير إلى هذه النكتة في نهاية الموضوع.

إنّ العالم الفرنسي (لافوازيه) استطاع بعد جهود حثيثة أن يكتشف أصل بقاء المادة وأثبت أنّ مواد العالم لا تفنى أبداً بل تتحول من شكل إلى آخر.

ولم يمر طويلاً إلّاواكتشف (پيركوري وزوجته) ولأول مرّة العلاقة بين الطاقة والمادة من خلال تجاربه على المواد النشطة اشعاعياً (وهي أجسام تتكون من ذرات غير ثابتة وتتحول بعض أجزائها تدريجياً إلى طاقة) وبهذا الاكتشاف تبدل قانون بقاء المادة إلى قانون بقاء (المادة ـ الطاقة).

وبهذا تزلزل أصل بقاء المادة وحلّ محله أصل بقاء مجموعة (المادة ـ الطاقة) ، وأخذت عملية تحول المادة إلى طاقة عن طريق انشطار الذرة بعداً علمياً واسع النطاق.

ومن خلال هذا تبيّن أنّ هناك علاقة قريبة بين انشطار المادة والطاقة ، ويمكن أن تتحول إحداهما إلى الاخرى ، وبعبارة اخرى أنّ المادة والطاقة شكلان لحقيقة واحدة.

٩١

إنّ هذا الاكتشاف العلمي الكبير أحدث تحولاً واسعاً في مجال البحوث والتجارب العلمية التي أثبتت وحدة العالم أكثر فأكثر.

إنّ هذا المبدأ في مسألة المعاد وبحث تجسّم الأعمال ودفع الإشكالات التي كان الأقدمون يطرحونها حول هذه المسألة كان له أكبر الأثر في ازالة موانع إثبات تجسّم الأعمال.

* * *

٣ ـ تجسد اخلاق وسجايا الإنسان

يستفاد من الروايات الإسلامية إضافة إلى مسألة تجسّم الأعمال أنّ أخلاق الإنسان تتجسّد أيضاً في ذلك اليوم على صورة إنسان.

وعلى هذا الأساس فإنّ الناس يردون المحشر على صور مختلفة بما يتناسب مع أخلاقهم وطباعهم ، فالذين لهم قلوب مملوءة بنور الإيمان تظهر وجوههم بيضاء ونورانية منيرة ، وبعكس ذلك القلوب المظلمة الذين كانوا يعيشون في ظلمات الكفر فإنّ وجوههم سوف تكون مسووة وكالحة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بالقول : (يَومَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللهِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ). (آل عمران / ١٠٦ ـ ١٠٧)

وقال تعالى في موضع آخر فيما يتعلق بعاقبة المذنبين والظلمة : (كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوهُهُم قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظلِماً). (يونس / ٢٧)

نعم ، إنّ ذلك اليوم هو يوم ظهور وتجسد الأعمال ، فتبرز كل الأخلاق والطباع الداخلية والملكات النفسية ويصطبغ جميع جسد الإنسان بلونها الخاص كما قال الشاعر الفارسي :

كُلُّما يستوطنُ القَلبَ ، لهُ

هيئَةٌ يومَ انبعاث البَشَرِ

والذي كنتَ عليهِ عاكِفاً

فَيهِ تُحُشَرُ يومَ المَحشَرِ

٩٢

ونقل بعض المفسرين الكبار عند تفسيرهم قوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً). (النبأ / ١٨)

حديثاً عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخلاصته :

كان معاذ بن جبل جالساً بالقرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل أبي أيوب الأنصاري ، فقال : يارسول الله أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) ، فقال : يامعاذ سألت عن عظيم من الأمر ثم أرسل عينه ثم قال : عشرة أصناف من امّتي يحشرون أشتاتاً قد ميّزهم الله من المسلمين فبعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم عمي يترددون وبعضهم صم بكم لايعقلون وبعضهم يمضغون ألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً يتقززهم أهل الجمع ، وبعضهم أشد نتناً من الجيف) الحديث ، فأمّا الذين على صورة القردة ، فالقتات من الناس ، وأمّا الذين على صورة الخنازير ، فأهل السحت ، والعمى ، الجائرون في الحكم ، والصم البكم ، المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون السنتهم العلماء والقضاة الذين خالفت أعمالهم أقوالهم ، والذين أشد نتناً من الجيف ، الذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم (١).

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٣ ولقد نقل هذا الحديث الكثير من المفسرين مثل أبي الفتوح الرازي في روح الجنان ؛ والقرطبي ؛ وروح البيان ؛ وتفسير الصافي في ذيل الآية مورد البحث.

٩٣
٩٤

٥ ـ محكمة العدل الإلهي

الشهود والميزان والحساب :

تمهيد :

إنّ أهم منازل يوم القيامة هو مرحلة حساب الخلائق في محكمة العدل الإلهي بحضور مختلف الشهود ، فتوزن الأعمال هناك بميزان خاص.

نعم ، هي محكمة يتزلزل الجميع فيها ويغمرهم الخوف والوجل.

قاضيها وحاكمها هو الله جلّ جلاله ، وشهودها الملائكة المقرّبون.

محكمة كتابها لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها فيُسأل الإنسان فيها عن كل شيء حتى عن نيّاته.

وآيات المعاد في هذا المجال كثيرة فأحياناً تشير إلى أصل محكمة الآخرة وإلى قاضيها سبحانه وتعالى ، وأحياناً اخرى تشير إلى الشهود وثالثة إلى الميزان ورابعة إلى كيفية الحساب في ذلك اليوم.

إنّ الآيات القرآنية المتعلقة بهذا الموضوع إضافة إلى ماتطرحه من نكات ظريفة ودقيقة في كافة المجالات ، فانّها تحمل رسالة تربوية هامة لها أبلغ الأثر في تنوير القلوب بنور التقوى والهداية وتدفع الإنسان إلى القيام بمسؤولياته على أكمل وجه لتوصله إلى طريق السعادة والتكامل.

بعد هذه المقدمة نرجع إلى القرآن الكريم ولنقرأ هذه الطائفة من الآيات :

١ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ). (يس / ٣٢)

٢ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَومَ القِيَامَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). (الحج / ٦٩)

٩٥

٣ ـ (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِميِنَ). (التين / ٧ و ٨)

٤ ـ (فَإِلَيْنَا مَرجِعُهُم ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَايَفعَلُونَ). (يونس / ٤٦)

٥ ـ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَآءِشَهِيداً). (النساء / ٤١)

٦ ـ (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ). (ق / ٢١)

٧ ـ (يَومَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِم وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (النور / ٢٤)

٨ ـ (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَينَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ). (فصلت / ٢١)

٩ ـ (يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). (الزلزال / ٤ ـ ٥)

١٠ ـ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِّن خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). (الأنبياء / ٤٧)

١١ ـ (وَالْوَزْنُ يَومَئذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُؤلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُؤلئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم). (الأعراف / ٨ ـ ٩)

١٢ ـ (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَومِ الْحِسَابِ). (ص / ٥٣)

١٣ ـ (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). (آل عمران / ١٩٩) (المائدة / ٤) (إبراهيم / ٥١) (غافر / ١٧)

١٤ ـ (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ). (الانعام / ٦٢)

١٥ ـ (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم). (الغاشية / ٢٥ ـ ٢٦)

١٦ ـ (اقْرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَومَ عَلَيكَ حَسِيباً). (الاسراء / ١٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الجميع محضرون في تلك المحكمة العظمى :

الآية الاولى تتحدث عن حضور جميع الامم أمام الله تعالى في محكمة عدله ، فبعد أن أشارت إلى الأقوام السالفة وكيفية هلاكها بذنوبها ، قال تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (١).

__________________

(١). يرى جمع من المفسرين أنّ الآية تعرب على هذا النحو : إنْ : نافية ، ولمّا : بمعنى إلّا ، وجميعٌ : بمعنى ـ

٩٦

صحيح ، أنّ الناس وجميع المخلوقات في هذه الدنيا وفي كافة الأحوال حاضرون دائماً ، في محضر الله تبارك وتعالى ، فهو حاضر في كل مكان وهو معنا أينما كنّا ، وهو أقرب إلى أنفسنا منّا ، ولكن هذه المسألة تتخذ بعداً آخر يوم القيامة ، فمن جهة يكشف عن جميع حجب الغفلة والجهل فتصبح الأبصار حادة قوية والقلوب ذات بصيرة نافذة ومن جهة اخرى تتجلى في ذلك اليوم آثار الله أكثر من أي وقت آخر فتقام محكمة عدله وتوضع موازين القسط.

حقاً إنّه مشهد عظيم ، الجميع يحضر ليقف على ماقدم وعمل في الحياة الدنيا ، الكل في محضر الله تعالى.

* * *

وتتحدث الآية الثانية عن حكمه وقضائه تبارك وتعالى بين الناس في ذلك اليوم ، وعن الفصل بين جميع اختلافات ومنازعات الناس في دار الدنيا بمختلف أشكالها وألوانها (العقائدية ، أو اليومية) ، قال تعالى : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيمَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

من البديهي أنّ أنواع الحجب التي تحيط بفكر وقلب الإنسان في هذه الدنيا (حب الذات ، الأنانية ، المصالح الشخصية والطائفية ، العصبية وحجاب الذنوب) لا تسمح بحل اختلافات الأقوام والشعوب ، ولكن عندما ترفع جميع هذه الحجب ويصبح الحكم لله الواحد القهار عند ذلك تنتهي جميع الاختلافات والمنازعات.

إنّ المبطلين بعد ازالة هذه الحجب ينقادون ويرجعون إلى عقولهم بحيث يصبحون هم المحاسبين لأنفسهم ، وسنبيّن ذلك في البحوث المقبلة.

* * *

__________________

ـ مجموع خبر (كل) ، وتنوين كلٌ : بدل من المضاف إليه المحذوف ، وكانت في الأصل (كلهم) ، ومحضرون : إمّا هو خبر بعد الخبر أو صفة لجميع ، وعلى هذا المعنى تكون الجملة هكذا : (وما كلهم إلّامجموعون يوم القيمة محضرون لدينا) وهناك احتمالات اخرى في إعراب الآية.

٩٧

أمّا الآية الثالثة فقد أبرزت نفس هذا المعنى بنحو آخر فتحدثت عن الإنسان الجحود الذي خلقه الله سبحانه وتعالى : (فِى أحسَن تَقوِيم) ، وعلى أثر سوء أعماله سقط في (أسفل سافلين) فتقول الآية : (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (١) أيُّ شيء يكذبك أيّها الإنسان بعد كل هذه الحجج والدلائل بالدين الذي هو الجزاء والحساب (أو أيُّ شيء يُكذَّبُكَ أيها الإنسان بعد كل هذه الحجج والدلائل بالمعاد).

(أَلَيسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) ، أي (أليس الله بأقضى القاضين فيحكم بينك يامحمد وبين أهل التكذيب بك).

أجل فهو أحكم الحاكمين لعلمه المحيط بكل شيء فلا تخفى عليه خافية ، فالعلم هو الشرط الأول الذي يجب توفره في الحاكم ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، أنّه تعالى غير محتاج لأحد وليس له مصلحة في شيء حتى يقضي لأجله على خلاف الحق.

أمّا الناس فهم محتاجون فيقعون تحت تأثير المصالح الشخصية أو الجماعية وأحياناً العواطف والأحاسيس فيحكمون حكماً على خلاف الحق والعدل ، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن كل ذلك فهو أحكم الحاكمين وخير الفاصلين.

والجدير بالذكر أنّ كثيراً من التفاسير ذكرت هذه الرواية عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان يكمل هذه الآيات كان يقول : «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».

هذا الحديث هو دليل على التفسير الذي ذكرناه سابقاً (تأمل جيّداً).

* * *

شهود المحشر :

ورد في الآية الرابعة كلام عن شهود يوم القيامة فأشارت إلى الذات الإلهيّة المقدّسة فهو

__________________

(١) عد أغلب المفسرين الخطاب موجهاً إلى الذين سبق ذكرهم في السورة المباركة واحتمل البعض أنّه موجّه إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (تفاسير مجمع البيان ؛ الكبير ؛ والقرطبي ؛ وفي ظلال القرآن ـ وفي الصورة الاولى تفسير كلمة (يكذّبك) (يجعلك كاذباً) وفي الصورة الثانية يفسر على معناه الظاهر بمعنى ماينسبك إلى الكذب ، وعلى أية صورة كانت فإنّ المراد أن لا مجال لانكار المعاد وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكثرة الآيات والأدلة الواضحة.

٩٨

تعالى الشاهد الأول ، قال تعالى : (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مايَفْعَلُونَ) (١).

فالمحكمة التي يكون حاكمها الله جلّ جلاله وشاهدها الأول ذاته المقدّسة فهل من الممكن أن يغفل عن شيء ويفوته عند الحساب؟!

ومن البديهي أن تكون مثل هذه المحكمة محكمة مثيرة للقلق والوجل لا لاحتمال الحكم بغير الحق بل بسبب سوء أعمالنا.

لقد فسّر بعض المفسرين الشهادة هنا بمعنى الجزاء والمجازاة في حين أنّه لا ضرورة لمثل هذا التفسير الذي يخالف ظاهر الآية ، وذلك لعدم وجود أي مانع لشهادة الذات الإلهيّة المقدّسة على أعمال العباد في ذلك اليوم وتعيين شهادته تعالى عن طريق الهام الملائكة المأمورين بالحساب.

وقيل : إنّ شهادة الله تكون بإنطاق أعضاء جسم الإنسان فتجيب عمّا اقترفت من أعمال في الدنيا.

* * *

الآية الخامسة تحدّثت عن شهود المحشر أيضاً ولكن كان الكلام فيهايدور حول شهادة الأنبياء على أممهم وشهادة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله على سائر الأنبياء ، قال تعالى : (فَكَيفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئنَا بِكَ عَلَى هؤُلَآءِ شَهِيداً).

ومع أنّ هذه الآية لم تذكر صراحة أنّ شهداء كل امة هم أنبياؤها ، ولكن القرائن تؤكد هذه المسألة وذلك لأنّ نبي كل امة هو أكثر الناس صلاحية للشهادة على امته كما أنّ الآية الكريمة لم تذكر من المراد بكلمة (هؤلاء) أي من هم بالدقّة؟ ولذا فقد ذكر المفسرون احتمالات لذلك ، قال بعضهم : إنّها إشارة إلى قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الشاهد عليهم يوم القيامة (٢).

__________________

(١). جاء في تفسير الميزان : أنّ (ثم) الواردة في الآية أعلاه تُفيد التراخي في البيان لا التراخي في الزمان في حين أنّه يمكن تصور التراخي الزماني في مورد الآية أيضاً ، وذلك لأنّ الله تعالى يحشر الناس أولاً وبعدها يشهد على أعمالهم نظراً لأنّ المقصود هو الشهادة عند الحساب.

(٢). ورد هذا الاحتمال في تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ٥١٢ وكذلك في تفسير مجمع البيان ج ٣ ، ص ٤٩.

٩٩

ولكن الكثير من المفسرين قالوا : (هؤلاء) إشارة إلى الأنبياء الذين أشارت إليهم الجملة السابقة ، وبهذا سيكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الشاهد على جميع الشهود.

ويطرح هنا هذا السؤال : وهو كيف تكون شهادة الأنبياء عليهم‌السلام على اممهم أو شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأنبياء مع العلم أنّ معنى الشهود مقترن مع الحضور ، وأنّ كل نبي من الأنبياء وبضمنهم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله جاؤوا في مقطع زمني محدد من تاريخ اممهم؟

من الممكن أن يكون المعنى أنّ أرواحهم في عالم البرزخ ناظرة إلى أحوال اممهم وهذا ينافي قوله تعالى في الآية التي تتكلم عن لسان المسيح عليه‌السلام : (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّادُمتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى كُنْتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، (المائدة / ١١٧)

فيتضح من خلال هذه الآية الكريمة أنّ الشهادة تعني الحضور المقترن بالرقابة والتصدي للانحراف وليس بالحضور فقط ، أمّا فيما يتعلق بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن الممكن أن يكون حضور روحه المقدّسة على طول تاريخ البشرية هو السبب لهذه الشهادة كما ورد في الروايات أنّ أول ماخلق الله تعالى نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن علي عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يخلق السموات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنّة والنّار» (١).

وهناك احتمال آخر في معنى الشهادة وهو مقياس الوزن ، وذلك لأنّ الإنسان النموذجي يمكن أن يكون بعمله شاهداً على أعمال الصالحين (الأشخاص الذين تشبه أعمالهم أعمال القدوة) وكذلك شاهداً على أعمال الطالحين ، وبهذا المعنى لا ينحصر مفهوم الآية بشهود القيامة.

ومن المناسب أن نذكر حديثاً للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الصدد ، فقد روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابن مسعود : «اقرأ القرآن عليّ» قال : قلت : يارسول الله أنت الذي علمتنيه. قال : «أحبّ أن أسمعه من غيري». قال ابن مسعود : فافتتحت سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية فبكى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال ابن مسعود : فامسكت عن القراءة (٢).

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ١٥ ، ص ٤.

(٢) التفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ١٠٥.

١٠٠