نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

وفي نقل آخر وفي امتداد هذه الرواية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ياربّ هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم» (١).

والظاهر أنّ بكاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان للمواقف المرعبة في يوم المحشر ولثقل المسؤولية التي وضعت على كاهله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا وهي مسؤولية الشهادة على الحاضرين والأهم منها الشهادة على الغائبين والتي سوف يقدر عليها بالتأييد الإلهي.

* * *

ولقد جاء في الآية السادسة حديث عن شهادة الملائكة في تلك المحكمة العظيمة ، قال تعالى : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).

«السائق» : هو الذي يسوق النفوس إلى محكمة العدل الإلهي.

«الشهيد» : هو الذي يشهد على أعمالها.

ومع أنّ الآية الكريمة لم تصرّح بأنّ هذا (السائق) و (الشهيد) هو من الملائكة أو من غيرهم؟ وفي حال كونه من الملائكة فأي ملك منهم؟

ولكن القرائن تؤكد أنّه من الملائكة حتماً نظراً لكونهم الأنسب لتحمل مثل هذه المسؤولية الثقيلة وأنّ هذا العمل يناسب نفس الملكين المأمورين بتسجيل «الحسنات» و «السيئات» حيث إنّهما أكثر الملائكة اطّلاعاً على أعمال بني آدم.

وقيل : إنّ السائق هو ملك الموت الذي يسوق الإنسان نحو الموت ، والشاهد هو عمل الإنسان أو جوارحه أو صحيفة أعماله.

وفسّر البعض ، السائق (بالشيطان) والشاهد بالملك.

ويلاحظ أنّ جميع هذه التفاسير لا تنسجم مع ظاهر الآية باستثناء التفسير الأول ، على أيّة حال فإنّ الملك الأول هو المانع من الفرار ، أمّا الملك الثاني فهو المانع من الانكار فيومئذ لامحيص للفرار ولا حيلة لانكار الأعمال.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٧٦٧. ولقد نقل هذا الحديث الآخرون بشيء من الاختلاف.

١٠١

ويمكن أنّ نشبه حال هؤلاء كمثل حال المجرمين الذين يساقون في هذه الدنيا إلى المحكمة ، فهناك مأمور يسوقهم من ورائهم وآخر يتقدمهم بصحيفة أعمالهم.

وجاء في نهج البلاغة : أنّ الإمام امير المؤمنين علي عليه‌السلام قال بعد هذه الآية : سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها (١).

* * *

ولقد ورد في الآية السابعة كلام عن (شهادة الجوارح) في تلك المحكمة المرعبة ، قال تعالى : (يَوْمَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلْسِنَتُهُم وَأَيدِيهِم وَأَرجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ).

وقال في موضع آخر : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ). (نور / ٢٥)

* * *

أمّا الآية الثامنة فهي تشبه الآية السابقة مع شيء من الاختلاف ألا وهو حديثها عن شهادة الجلود ، قال تعالى : (حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيهِمْ سَمْعُهُم وَأَبصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ).

يظهر من الآيات أعلاه أنّ الله سبحانه وتعالى يعطي لأعضاء البدن وحتى الجلد ، القدرة على التكلم والنطق ، فكل عضو من الأعضاء يجيب عمّا فعله ، فالأذن تجيب عمّا سمعت ، والعين عمّا رأت ، والجلد عمّا لمس ، واللسان عمّا قال ، واليد عمّا انجزت ، والقدم عن الطريق الذي سلكته ، فيعترف كل من الأعضاء الستة بالأعمال التي اكتسبها.

ويقول بعض المفسرين ، إنّ بعض هذه الأعضاء يشهد على جميع أعمال الإنسان كشهادة الزمان وليس على أعمال ذلك العضو فقط ، وهذا لا يتناسب مع ظاهر الآيات ، ومن هنا يتضح أنّه إذا لم تذكر بعض الأعضاء (كالقلب والمخ والشفتين والأسنان بالنسبة للنيات والأغذية والأقوال) فلا يعني ذلك أنّ الشهادة تنحصر بهذه الأعضاء الستة ، وعلى ما يبدو أنّ

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ٨٥.

١٠٢

كل عضو يجيب عن أعماله ، وأي شاهد أصدق من هذا!

ومن الواضح أنّ هذه الشهادة (شهادة الجوارح) ولو أنّها تنطق بقدرة الله سبحانه وتعالى إلّا أنّها ليست شهادة الله مباشرة ولقد نقل ذلك الفخر الرازي في تفسيره (١) كأحد التفاسير التي قيلت بشأن هذه الآية.

ومن الطريف ، طبق هذه الآيات أنّ المذنبين يعاتبون جلودهم : (لِمَ شَهِدتُّم عَلَينَا) أو ـ كيف شهدتم ضدنا ـ (السؤال الأول سؤال عن السبب أمّا السؤال الثاني فهو سؤال عن الكيفية).

أمّا بقية الأعضاء الخمسة فلا تسأل مثل هذا السؤال ، ولعل السبب في ذلك هو أنّ شهادة الجلود أكثر عجباً من سائر الشهادات وأنّها شهادة غير متوقعة تماماً ، إضافة إلى ذلك أنّ الجلود تلمس بشكل من الأشكال جميع الأفعال ولا تختص بعضو معين لا كما قال بعض المفسرين إنّ هذه إشارة إلى «الفرج» فقط.

ونختم كلامنا في هذا البحث بالإشارة إلى أنّه يستفاد من بعض الآيات الكريمة أنّ سائر أعضاء الجسم ماعدا «اللسان» تشهد على الإنسان أولاً ، وبعد أن تتضح المسائل يعترف اللسان أيضاً بالحقيقة كما ورد ذلك قوله تعالى : (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (يس / ٦٥)

* * *

الآية التاسعة تتحدث عن (شهادة الأرض) على الإنسان بما عمل ، قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا).

وبهذا تعتبر الأرض التي نؤدّي عليها أعمالنا من أهم الشهود في ذلك اليوم ، كما ورد ذلك في حديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : «أخبارها أن تشهد على كل عبد وامة بما عمل

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٣ ، ص ١٩٤.

١٠٣

على ظهرها تقول عمل كذا وكذا ، ويوم كذا وكذا ، وهذا أخبارها» (١).

وقال أبو سعيد الخدري : إذا كنت بالبوادي فارفع صوتك بالاذان فانّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يسمعه جنّ ولا انس ولا حجر ولا شجر إلّايشهد له (٢).

وأعطى بعض المفسرين احتمالات اخرى في تفسير الآية : من جملتها أنّ الأرض تخبر عن قيام الساعة في هذه الأثناء وعندما يشاهد الإنسان زلزلة الساعة يقول : ما لها : «وَقالَ الإنِسان ما لَها» (٣).

وورد هذا الاحتمال أيضاً وهو أنّ الأرض تُحدِّث أخبارها بما أخرجت من أثقالها فتقول (هذا جسد فلان وهذا جسد فلان) ، مشيرة إلى الأبدان التي تلفظها.

ولكن التفسير الأول إضافة إلى أنّه ينسجم مع سياق آيات السورة كذلك يتوافق مع الأحاديث الكثيرة المنقولة عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولقد وردت أحاديث كثيرة عن الإمام علي عليه‌السلام بخصوص شهادة الأرض على الصلاة وعلى تقسيم بيت المال : حيث قال : «صلّوا في المساجد في بقاع مختلفة فإنّ كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة» (٤).

وهنا يطرح هذا السؤال : كيف تتحدث الأرض عن أخبارها؟ لقد أخذ بعض المفسرين بظاهر الآية فقالو : إنّ الأرض ستكون في ذلك اليوم وبقدرة الله ذات إدراك وشعور وقدرة على النطق فهي تجيب عن الحوادث التي جرت على ظهرها ولا عجب من هذا الأمر ، حيث : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ). (العنكبوت / ٦٤)

فحياة القيامة هي الحياة الحقيقية وكل شيء يصبح حيّا وحتى الأرض فمن الممكن أن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٦ ، ولقد ورد نفس هذا المعنى في تفسير القرطبي ؛ وتفسير روح المعاني ؛ وتفسير الكبير ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٦ ، العبارة الموضوعة بين الأقواس هي مطابقة لرواية تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٣.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٢٠ ، ص ١٤٩ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٤) لئالئ الأخبار ، ج ٥ ، ص ٧٩.

١٠٤

يكون لها نوع من الإدراك والشعور.

وقيل إنّ المراد : هو أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها أمواجاً صوتية ، ففي الواقع أنّ المتحدث هو الله سبحانه وتعالى : (ويمكن أن نشبه هذا المعنى بأشرطة التسجيل ، حيث إنّ المتكلم ليس جهاز التسجيل وإنّما هو الإنسان الذي سجّل الكلام على الشريط).

وهناك احتمال آخر : هو أنّ المقصود من (حديث الأرض) هو اظهار آثار الأعمال التي اكتسبها الإنسان على ظهرها حيث إنّ لكل عمل آثاراً.

وانسب هذه التفاسير هو التفسير الأول :

نستنتج من مجموع الآيات السالفة الذكر أنّ في يوم القيامة بالإضافة إلى شهادة الله تبارك وتعالى بالنسبة لأعمال العباد ، كذلك تشهد الأنبياء والملائكة والجوارح والأرض.

* * *

ميزان الأعمال :

الآية العاشرة ناظرة إلى مسألة «ميزان الأعمال» ، قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ...).

فكل شيء يوزن بهذا الميزان كبيراً كان أو صغيراً حتى وإن كان بمقدار حبة من خردل فسوف يأتي به الله تعالى للحساب.

و «حبّة الخردل» : حبة صغيرة جدّاً خفيفة الوزن وتضرب بها الأمثال لصغر حجمها وخفتها ، وهي إشارة إلى أصغر الأعمال أي كل شيء في ميزان حتى صغائر الأعمال.

«موازين» : جمع ميزان وهو الوسيلة لقياس الأشياء ، وهذا التعبير يدل على أنّ في ذلك اليوم لا يوجد ميزان واحد للأعمال بل هناك عدّة موازين ، قيل : من الممكن أن يكون لكل إنسان ، أو امة أو عمل ، ميزانٌ ، فالصلاة مثلاً توزن بميزان وكذلك الصيام والحج والجهاد أي لكل واحد منها ميزان خاص.

١٠٥

وقيل : إنّ الميزان هو واحد لا أكثر (١) ، والدليل على هذا القول بعض الروايات في هذا المجال (وسنعرض لها لاحقاً) وما صيغة الجمع (موازين) إلّالبيان عظمة الميزان حيث يعادل آلاف الموازين ، ولكن ـ وكما سنتطرق إلى ذلك ـ لا يوجد أي دليل على هذا التفسير الذي يخالف ظاهر الآية بل هناك عدّة أدّلة على تعدد الموازين.

وما يجب معرفته هنا ، هو أنّ ميزان القيامة هو كالموازين الدنيوية ، فلكل ميزان كفتان ولكن يختلف عنها بكبره وعظمته؟

وإذا كان الأمر كذلك فكيف توزن الأعمال وهي لا وزن لها؟

هناك عدّة آراء في هذا المجال :

فقيل : إنّ ما يوزن هو صحيفة الأعمال ، وقيل : إنّ الأعمال تتجسّم يوم القيامة. ويصبح لها وزن.

والخلاصة أنّ الذين يعتقدون بأن موازين القيامة تشبه موازين هذه الدنيا قد اجبروا على القول إنّ هناك نوعاً من الأوزان والاثقال حتى يمكن وزنها بمثل هذه الموازين.

ولكن القرآن يدلّل على أنّ المقصود بالميزان هو وسيلة لقياس الأوزان بمعناها العام وذلك لأننا نعلم أنّ لكل شيء وسيلة وزن تناسبه ، فمثلاً وسيلة قياس الحرارة يقال لها ميزان الحرارة أو المحرار ، ووسيلة قياس الهواء «ميزان الهواء» أو المحرار أيضاً.

وبناءً على ذلك فإنّ المراد ب (موازين الأعمال) الوسائل التي بها تقاس أعمال الأخيار والأشرار. وكما ينقل المرحوم العلّامة المجلسي عن الشيخ المفيد رحمهما‌الله : «أنّ أمير المؤمنين والائمّة من ذرّيته عليهم‌السلام هم الموازين» (٢).

وقد نقل في (اصول الكافي ومعاني الأخبار) عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن معنى هذه الآية ، فقال : «هم الأنبياء والأوصياء» (٣).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٧ ، ص ٥٠ ـ ٥١.

(٢) بحارالأنوار ، ج ٧ ، ص ٢٥٢.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٦١ ؛ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٤١٩ وقد ورد نظير هذا الحديث في تفاسير اخرى.

١٠٦

ونقرأ في احدى الزيارات المطلقة لأمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «السلام على ميزان الأعمال» (١).

فهذه الشخصيات العظيمة هي موازين الأعمال ، فالأعمال التي تشابه أعمال هذه الشخصيات تعتبر ثقيلة في الميزان والأعمال التي لا تشابه أعمالهم تعتبر خفيفة أو لا وزن لها أصلاً ، فأولياء الله هم موازين الأعمال في هذه الدنيا ولكن تبرز وتتجسد هذه المسألة في العالم الآخر.

ومن هنا اتضح الجواب عن سبب ورود (الموازين) بصيغة الجمع لكون هؤلاء العظماء متعددين.

وهناك روايات ومسائل اخرى في مجال (ميزان الأعمال) وسوف نتعرض لها في فقرة التوضيحات.

* * *

الآية الحادية عشرة جاءت مكملة ومفسرة لموضوع ميزان الأعمال :

(وَالْوَزْنُ يَومَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظلِمُونَ).

والجدير بالذكر أنّ الله سبحانه وتعالى جعل لكل إنسان عدداً من الموازين ، وهذا التعبير يؤيد التفسير الذي يقول : إنّ لكل عمل ميزاناً ، وهناك احتمال : أنّ لكلٍّ من الروح والجسم والأقوال والأفعال ميزاناً خاصاً وهذا المعنى على فرض أنّ الموازين جمع ميزان ، في حين يرى البعض أنّ موازين جمع موزون (يعني الشيء الذي يوزن وهي نفس أعمال الإنسان) ، فمن المسلم أن يكون لكل إنسان والحالة هذه موازين ، أي أنّ له أعمال متنوعة توزن في ذلك اليوم ، لكن هذا المعنى يبدو بعيداً نظراً لذهاب أغلب أرباب اللغة والمفسرين إلى أنّ الموازين جمع ميزان ، وقد دلّت الروايات السالفة الذكر على أنّ الموازين بمعنى وسائل

__________________

(١) المرحوم المحدِّث القمي في كتابه (مفاتيح الجنان) ولقد أورد هذه الزيارة. كزيارة أولى من الزيارة المطلقة.

١٠٧

لقياس الوزن ، وبناءً على هذا يكون ثقل الموازين بسبب ثقل الأعمال التي توضع فيها.

وهناك بحث آخر حول ميزان العدل في يوم القيامة سنتطرق إليه في فقرة التوضيحات.

* * *

السرعة في الحساب :

تحدّثت الآية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة عن يوم الحساب وسرعة الأعمال في ذلك اليوم من قبل الله تعالى.

ولقد تحدّثت الآية الاولى بعد أن أشارت إلى الآيات التي قبلها إلى جنّات عدن وما فيها من نعم كثيرة من أطعمة وأشربة ، وحور عين. فقالت : (هَذَا ما تُوعَدُونَ لِيَومِ الحِسَابِ).

إنّ مسألة الحساب يوم القيامة مسألة واضحة جلية بحيث إنّ ذلك اليوم يسمى بيوم الحساب (١). ولقد ورد في الآية التي بعدها حديث عن سرعة الحساب (إِنَّ الله سَرِيعُ الحِسَابِ) وكذلك ورد هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم (٢) ، وهذا التكرار يدلّل على أهميّة وعظمة هذه المسألة ، فمن جهة أنّها بشرى للصالحين. حيث تخبرهم هذه الآيات بأنّهم ينالون جزاءهم بسرعة ، ومن جهة اخرى أنّ هذه المسألة هي وعيد للكافرين والأشرار بأنّ مجازاتهم لن تتأخر أبداً وسوف ينالون مصيرهم بسرعة.

ولقد وردت حول هذا الموضوع (سرعة الحساب) روايات مثيرة نذكر منها :

ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «إنّه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة» (٣).

هذا التشبيه في الحقيقة يدلّ على قصر فترة الحساب ، لذا جاء في رواية اخرى :«إنّ الله

__________________

(١). اللام في (ليوم الحساب) لام الاختصاص. وقيل : إنّها لام التعليل وهذا غير صحيح.

(٢). بالإضافة إلى الآية أعلاه ورد نفس هذا المعنى في الآية ٤ ، المائدة ؛ ٥١ إبراهيم ؛ و ١٧ غافر.

(٣). تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣١٣.

١٠٨

يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر» (١).

إنّ سبب هذه السرعة واضح. حيث إنّ الحساب منوط بالعلم والاطّلاع الكامل ومنوط أيضاً بالقدرة الخارقة. ورعاية العدالة.

وبما أنّ الله سبحانه وتعالى يمتلك الحدّ الأكمل من هذه الصفات لذا فانّه تعالى له القدرة على محاسبة جميع الناس في لمحة بصر.

إنّ وضع أعمال الإنسان والآثار التي تتركها في روحه وجسمه تذكّره دائماً ، فهي تحتفظ بنفسها بحساب جميع الأعمال ، ويمكن تشبيهها من هذه الجهة بالسيارات أو الطائرات أو السفن. حيث من الممكن حساب جميع ما قطعته السيارة أو الطائرة طيلة عمرها من خلال العدّاد (جهاز الكيلومتر) فكذلك حساب أعمالنا فلا تحتاج إلّاإلى نظرة واحدة لترى وتقرأ هذا المقياس في وجود الإنسان وعينه وأذنه ويده ورجله وروحه.

إنّ كل هذه التعابير لها أهداف تربوية هامة ، ويتضح هذا بشيء من التأمل والتدبّر في هذه الآيات.

* * *

لقد تحدّثت الآية الخامسة عشرة عن حساب أعمال العباد من قبل الله تبارك وتعالى فقالت صراحة : (إِنَّ إِلَيْنَا ايابَهُم* ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم).

في حين أنّ الآية السادسة عشرة تقول : (اقرأ كِتابَك كَفَى بِنَفسِكَ اليَوْمَ عَلَيكَ حَسِيباً) ، ولكن لا يوجد أي تضاد أو منافاة بين الاثنتين.

فالحسيب الأصل هو الله تبارك وتعالى ولكنّه يقول للإنسان أيضاً ، أنت تستطيع أن تُحاسب نفسك بنفسك ، وفي النتيجة تكون جميع المحاسبات واحدة ، لا تحيد عن الحق والعدل ، لماذا؟

لأنّ أدلة الحساب في غاية الوضوح والجزاء معين ، والقوانين الإلهيّة في ذلك اليوم

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ١ و ٢ ، ص ٢٩٨.

١٠٩

صريحة جليّة فلا مجال للاستنباطات النظرية التي هي منشأ الاختلافات في أحكام القضاء.

ومن الجدير بالذكر أنّ كلمتي «إلينا» و «علينا» اللتين وردتا في : (انَّ الَينَا ايابَهُم) (ثُمَّ انَّ عَلَينَا حِسَابَهُم) ، خبر مقدّم تفيدان الحصر ، أي رجوعهم إلينا وحدنا ، وسيكون حسابهم علينا فقط ، وبهذا الترتيب فإنّ هذا ينفي جميع الاحتمالات والإشكالات الاخرى ، على أيّة حال فإنّ هذا وعيد للكفّار والمجرمين الذين أعرضوا عن آيات الحق ، وقد أشارت إلى هذا المعنى الآيات التي تسبق هذه الآية.

ويمكن أن تكون هذه الآيات بشرى لأولياء الله الذين يعلمون بأنّ حسابهم على الله وسوف يرجعون إلى محبوب قلوبهم فيجزيهم الجزاء الأوفى ، وإن كان عندهم زلل أو خطأ فهو يغفره لهم بلطفه وكرمه ، وهناك نكتة اخرى جديرة بالاهتمام حيث ورد في بعض الروايات والزيارات أنّ إياب الخلق وحسابهم على علي عليه‌السلام والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ولقد انتقد هذا الاعتقاد بعض مفسّري أهل السنّة مثل الآلوسي في روح البيان حيث قال إنّ هذا الكلام يتنافى مع ما ورد في الآيات أعلاه.

في حين نحن نعلم بأنّ الإمام علياً والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كلّهم مطبّقون لأوامر الله وأحكامه ، وبناءً على ذلك يصبح حسابهم هو حساب الله تعالى وحكمهم كحكم الأعمال التي تقوم بها الملائكة في عالم «التكوين» و «التشريع» وتُنسب جميع هذه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى لحكم حصولها بأمره ، وفي نفس الوقت تُنسب إلى الملائكة أيضاً.

وهناك شبهة اخرى مشهورة طرحها هؤلاء في هذا الصدد وهذه الشبهة هي «مابالعرض» و «ما بالذات» ، وبتعبير أوضح أنّه لا أحد يزعم بأنّ حساب الخلائق وإيابها ينسب إلى علي والأئمّة عليهم‌السلام بصورة مستقلة ، بل إنّ الكل يقول إنّ هذا الفعل بذاته يختص بالله وينسب بالواسطة إلى علي عليه‌السلام والأئمّة عليهم‌السلام ، وهذه المسألة لا تختلف عن مسألة الشفاعة وعلم الغيب وغيرها من المسائل ، فجميع هذه الامور تُنسب بالذات إلى الله تعالى وتُنسب بالعرض للأنبياء والأوصياء والملائكة.

١١٠

ومن العجب أنّ الآلوسي قد التفت في آخر كلامه بشكل عابر إلى هذه النكتة ، ولكنه عاد وأدار مسير الحديث معترضاً بقوله : «إن كان المقصود هذا فلماذا يختار علياً عليه‌السلام لأداء هذا العمل من بين الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين» (١).

إنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة : وهي أنّ الإمام علي عليه‌السلام رجل شامخ وذو درجة رفيعة وكان مجهول القدر في الامة الإسلامية ، فشاء الله تعالى وعن هذا الطريق أن يبرز مقامه الرفيع لكافة الناس.

والشاهد على هذا الكلام أنّ هناك روايات كثيرة رويت عن طرق أهل السنّة تدلّل على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بحق الإمام علي عليه‌السلام : «يا علي أنت قسيم النّار والجنّة».

ومن جملة هذه الأحاديث :

١ ـ ينقل «ابن المغازلي» في كتاب «مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّك قسيم الجنّة والنّار» (٢).

٢ ـ ورد نفس هذا المعنى أيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مناقب الخوارزمي (٣).

٣ ـ ينقل ابن حجر في الصواعق المحرقة عن (الدار قطني) ، قال الإمام علي عليه‌السلام ضمن خطاب طويل في الشورى التي أوصى بتشكيلها عمر (الستة أشخاص) : هل فيكم رجل غيري ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّه : «ياعلي أنت قسيم الجنّة والنّار؟!» فأجاب الجميع : كلا (٤).

٤ ـ لقد خصص «الحافظ سليمان القندوزي الحنفي في كتابه «ينابيع المودة» باباً تحت هذا العنوان (في بيان كون علي عليه‌السلام قسيم الجنّة والنّار) ونقل في هذا الباب الكثير من الروايات (٥).

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١١٨ و ١١٩.

(٢). احقاق الحق ، ج ٤ ، ص ٢٥٩.

(٣). المناقب ، ص ٢٣٤.

(٤). الصواعق المحرقة ، ص ١٢٤.

(٥). ينابيع المودة ، ص ٨٣.

١١١

٥ ـ لقد نقل (ابن الأثير) في كتابه «النهاية» هذا الحديث.

٦ ـ يلاحظ هذا المعنى صراحة في الشعر المنسوب للإمام الشافعي :

علي حبه جُنّة

قسيم النّار والجنّة

وصي المصطفى حقّاً

إمام الانس والجِنّة(١)

وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال.

مع كل هذه الأدلة فكيف يجرؤ الآلوسي في روح المعاني ويقول إنّ هذا الحديث كذب وافتراء على علي عليه‌السلام؟ لماذا نسمح للتعصب بأن يحول بيننا وبين التحقيق العلمي؟

توضيحات

١ ـ وصف للمحكمة الكبرى

من البديهي أننا (سجناء هذه الدنيا) لا نستطيع أن ندرك الحقائق المتعلقة بيوم القيامة بشكل تفصيلي ، وذلك لأنّ عالم القيامة من العلو والرفعة بحيث لا يمكننا حتى تصور المفاهيم الحاكمة على ذلك العالم ، ويعدُ هذا الأمر من المشاكل العويصة ، ومثل ذلك مثل تصور العلوم والدراسات الجامعية بالنسبة لطفل في المرحلة الابتدائية.

ومع هذا يمكننا أن نتصور صورة اجمالية عن هذه المحكمة على ضوء الآيات والروايات الواردة في هذا المجال.

إنّ عالم الآخرة عالم يكشف عن جميع الحقائق المستورة ، عالم تعمّ الحياة فيه كل شيء ، وكل مكان ، وحتى الجمادات ، اليد ، الرجل ، العين ، الاذن ، وحتى الجلد وسائر أعضاء البدن كلها تصبح ناطقة وتجيب عن الأعمال التي اكتسبها الإنسان في الدنيا ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى تتجسم أمام الإنسان جميع أعماله ، وتعرض صحف الأعمال بخطوط غير قابلة للانكار ويؤتى بالشهود من الملائكة والأنبياء والأوصياء ، والأهم من هذا كلّه شهادة الذات الإلهيّة المقدّسة على أعمال الإنسان.

__________________

(١). ينابيع المودة ، ص ٨٦.

١١٢

نعم ، إنّها عرصات مرعبة مخيفة فيحاسب الإنسان على كل شيء وحتى عن الأعمال التي بمقدار حبّة خردل أو مثقال ذرة فتبدو في صحف الأعمال حتى النيات ، وفي لحظة واحدة يتمّ حساب جميع الخلائق وتُظلل راية الحق والعدل جميع أرجاء هذه المحكمة العظيمة ، فيحضر فيها الصغير والكبير حتى الأنبياء والمرسلون فتطوى جميع الخلافات وينهى كل جدل ويحق حق جميع مظلومي العالم ويرى الناس بأعينهم الكثير من الحقائق التي ما كانوا يصدقون بها من قبل.

إنّ الإيمان والاعتقاد بهذه الحقائق له آثار تربوية عميقة في الإنسان فتنقذه من الضياع والحيرة وتخمد الشهوات وتقضي على المفاسد وتصنع من هذا الإنسان ـ المادي ـ ملاكاً طاهراً. وفي الحقيقة أنّ الهدف من عرض هذه الآيات هو نفس هدف القرآن الكريم في بناء الإنسان وتزكيته.

* * *

٢ ـ شهود يوم القيامة

كما قرأنا في الآيات السالفة الذكر أنّ شهداء تلك المحكمة كثيرون وعلى رأسهم الذات الإلهيّة المقدّسة.

ثم الأنبياء والمرسلون.

وبعدهم الملائكة المقربون.

وبعدهم أعضاء وجوارح الإنسان.

ثم الأرض التي نعيش على ظهرها.

إضافة إلى ذلك فقد أشارت الروايات الإسلامية إلى شهداء آخرين ومن جملتهم :

الأوصياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام :

نقرأ حديثاً ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام حول قوله تعالى : (فَكَيفَ اذَا جِئنَا مِن كُلِّ امَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيداً). (النساء / ٤١)

١١٣

قال : «نزلت في امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة! في كل قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم ، ومحمّد شاهد علينا!» (١).

من الممكن أن يكون ذكر امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة للتأكيد ، على أنّ هذه الامة خاصة يوجد فيها في كل قرن إمام معصوم يشهد عليها.

وبناءً على ذلك فإنّ هذا لايتنافى مع شهادة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأنبياء السابقين. والشاهد السابع من شهود المحشر كما تنقل بعض الروايات هو «الزمان» فقد ورد في رواية عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام قال : «ما من يوم يمر على ابن آدم إلّاقال له ذلك اليوم يابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فقل فيّ خيراً ، أو اعمل فيّ خيراً أشهد لك به في يوم القيامة ، فانّك لن تراني بعده أبداً» (٢).

ومن هنا يطرح هذا السؤال : لماذا كل هذه الشهود؟

الأرض والزمان والملائكة والرسل وجوارح الإنسان والأهم من هذا كلّه شهادة الله تبارك وتعالى ، ألا تكفي شهادة الله وحدها؟

نعم ، إنّها كافية لأنّه (أحسن الناظرين) و (أحكم الحاكمين) (وعالم السر والخفيات).

ولكن الهدف من كل هذه الشهادات هو تربية الإنسان وتزكيته ، فكلما كان عدد الشهود والمراقبين للإنسان أكثر زاد من تأثيرها التربوي على الإنسان ، من هنا نرى أنّ الله سبحانه وتعالى زاد عدد الشهود وجعلهم يحيطون بالإنسان ويقفون على أعماله بشكل تام.

بلا شك أنّه يكفي للمؤمن الالتفات إلى أحد هؤلاء الشهود ليكون مراقباً لأعماله ، فكيف وكل هذه الشهود؟

إنّ عمل الشهود ليس له بعد تكليفي (إداري) حتى نقول لماذا نصب هذا العدد من الشهود لعمل واحد؟ وإنّما هي سلسلة حقائق غيبية خارجية ، حيث إنّ أعمالنا تترك أثراً على أعضاء جسمنا وجلودنا ، وجوارحنا ، والمحيط الذي يحيط بنا والأرض التي نمشي عليها والزمان الذي نعيش فيه كمثل الشريط يحفظ ويسجّل آثار عمرنا بأكمله ، إنّ حضور

__________________

(١). اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٩٠.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٨١ ، ح ٣٥.

١١٤

الملائكة أو شهادة الأرواح الطاهرة للأنبياء والأوصياء هي احدى الحقائق التي تنبع من قدرة أرواحهم وعظمتها ، وإنّ حضور الله تبارك وتعالى أيضاً في كل مكان وكل زمان حقيقة غير قابلة للانكار.

لقد تمكن العلماء اليوم من خلال التجارب والبحوث التي أجروها على الطبقات الأرضية والحيوانات المطمورة في باطنها ، والآثار الباقية من الإنسان القديم من اكتشاف حقائق عن هذه الحيوانات ، فقد وقفوا على كيفية معيشتها وطراز حياتها في تلك العصور السحيقة وكتبوا عنها الكثير من الكتب والمقالات.

فاذا تمكن الإنسان بعلمه المحدود أن يتكلم عن مثل تلك الحوادث ويكتشف الكثير من حقائق الحيوانات ، والإنسان القديم من خلال آثارها الباقية ، في حين أنّ الدنيا دار الخفيات والآخرة دار الظهور ويوم البروز ، اذن فكيف ستكون القيامة؟

من هنا عندما يتأمل الإنسان بدقّة في هذه المسائل ويفكر في عمقها وعظمتها حقّاً حقّاً فانها تهزّه ولعله يصرخ : واغفلتاه ، أهكذا عملت مع كل هذه الشهود؟!

* * *

٣ ـ ماهو ميزان العمل؟

يقول المرحوم الشيخ المفيد رحمه‌الله : «ليس الأمر في معنى ذلك على ماذهب إليه أهل الحشو من أنّ في القيامة موازين كموازين الدنيا لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيهما ، فالخبر الوارد أنّ أميرالمؤمنين والأئمّة من ذرّيته هم الموازين فالمراد أنّهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها والحاكمون فيها بالواجب والعدل» (١).

ولكن بعض المفسّرين ردوا هذا الكلام. وقالوا : إنّ الميزان في الآخرة كموازين الدنيا فتوضع الأعمال فيها ، حيث تصبح الأعمال ذات وزن أو توزن صحف الأعمال التي لها وزن.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٢٥٢ (مع التلخيص).

١١٥

ويقول البعض كالعلّامة المجلسي رحمه‌الله : نحن نؤمن إجمالاً بالميزان أمّا فيما يتعلق بجزئياته وكيفيته فلا نقول شيئاً من عندنا.

روي أنّ داود عليه‌السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه ، كل كفّة كما بين المشرق والمغرب ، فغشي عليه ، ثم أفاق فقال : «الهي! من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال : يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» (١).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّه سئل عن الميزان ، فقال : الميزان العدل» (٢).

من هنا يطرح هذا السؤال : كيف يكون الجمع بين كل هذه الأحاديث؟ فقد ورد في بعضها : أنّ الميزان بمعنى الوجود المقدّس للأئمة المعصومين عليهم‌السلام وفي حديث آخر بمعنى العدل وفي حديث داود : (كل كفة كما بين المشرق والمغرب) ، وفي الظاهر أنّ هذه الأحاديث الثلاثة متضادة ، ولكن إذا أخذنا هذه النكتة بنظر الاعتبار فسوف يزول هذا الاختلاف الصوري ، أنّ حقيقة الميزان هي العدل الإلهي وأنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام هم مظهر عدله تعالى ، ومن جهة اخرى أننا نعلم أنّه (بالعدل قامت السموات والأرض) (٣).

ومن هنا يتّضح سبب دهشة داود عليه‌السلام عند مشاهدته لعظمة الميزان وذلك لأنّه رأى عظمة مقام العدل ، ومقامات محمّد وآله عليهم‌السلام بحيث وجد أعماله لا شيء قبالها.

ومن الطريف أنّ هذا الميزان وبهذه العظمة يمتلئ بتمرة واحدة إذا كان فيها روح الإخلاص فتوجب رضا الله تبارك وتعالى.

ويعتقد بعض المحققين : أنّ الأئمّة المعصومين وأولياء الله بمنزلة كفّة الميزان الاولى ،

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ٤٨٦ ذيل الآية ٤٧ الأنبياء ، ولقد ورد نفس المضمون مع شيء من الاختلاف في تفسير الكبير ذيل الآية مورد البحث ، وكذلك في تفسير روح المعاني الآية نفسها.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥.

(٣). الفيض الكاشاني ، ورد هذا الحديث في تفسير الصافي ذيل الآية ٧ من سورة الرحمن.

١١٦

وأعمال الإنسان وعقائده ونيّاته بمنزلة الكفّة الاخرى فيوازن بينهما يوم القيامة.

ويمكن أن نستفيد من هذا الكلام من خلال الآيات القرآنية التي تذكر : (ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أو (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ...) أو التعبير الذي ورد في قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ وَزناً). (الكهف / ١٠٥)

إنّ خفة موازين هذه الطائفة ناشئة من عدم امتلاك الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة وأمّا ثقل موازين الطائفة الاخرى فهي ناتجة عن امتلاك الرصيد الثقيل من الأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة ، وعلى أيّة حال ، تقام الموازنة بين الناس من جهة وأولياء الله من جهة اخرى. فكلما كانت أعمالنا وعقائدنا شبيه ومقاربة لأعمال أولياء الله فسيكون ميزان عملنا ثقيلاً (تأمل).

* * *

٤ ـ ماهي الأعمال الثقيلة في الميزان؟

تلاحظ في الروايات الإسلامية تعابير مختلفة حول الأعمال الثقيلة في ميزان العدل الإلهي ، وهذه الأعمال هي موجبات النجاة ونيل الكرامة في يوم القيامة ، وتجسد هذه الأعمال نظرية الإسلام في المسائل المختلفة ومن جملة هذه الأعمال مايأتي :

١ ـ ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مامن شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وأنّ صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» (١).

٢ ـ وجاء في حديث آخر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في باب الشهادة بوحدانية الله ونبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «خَف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الباقر أو الصادق عليهما‌السلام قال : «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد وأنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرحج به» (٣).

__________________

(١). سنن الترمذي ، ج ٤ ، ص ٣٦٣ ، ح ٢٠٠٣.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٥٩ ، ح ٨.

(٣). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٩٤ باب الصلاة على النبي ، ح ١٥ ورد هذا المعنى نفسه في كتاب بحار الأنوار ـ

١١٧

٤ ـ ورد في بعض الروايات : «أنّ بعض الأذكار مثل الحمد لله وسبحان الله والله أكبر وكذلك لا إله إلّاالله تملأ ميزان العمل يوم القيامة» (١).

ويستفاد من الأحاديث السابقة أنّ العمل قد يكون صغيراً ولكن له أهميّة كبيرة يجعل ميزان العمل ثقيلاً ويملأ كفتيه وهذا بسبب الأهميّة العظيمة التي يوليها الإسلام لمثل هذه الحقائق (حقيقة التوحيد) (حقيقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) (حقيقة التسبيح) وكذلك الإرتباط المعنوي بمحمد وآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو (حسن الخلق) وغيرها.

ولقد قرأنا في بعض الأحاديث السابقة أنّ تمرة واحدة تنفق بإخلاص لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته تملأ كفّة ميزان العدل الإلهي الذي يملأ مابين المشرق والمغرب.

٥ ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ الناس يوضعون في الميزان ويوزنون ، فذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية ١٠٥ من سورة الكهف قال : ورد في رواية صحيحة أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (٢).

والسبب واضح وهو أنّ هؤلاء وعلى الرغم من حسن ظاهرهم لكن أعمالهم وأفكارهم وشخصياتهم كانت في هذا العالم فارغة جوفاء.

٥ ـ المسائل التي يسأل عنها يوم القيامة

هناك روايات كثيرة تتعلق بالامور التي يُسأل عنها يوم القيامة وكل واحدة من هذه الروايات تحتوي على تعابير عميقة المعنى ، وأنّ دراسة هذه الروايات له أبلغ الأثر في تربية الإنسان وابراز معالم القيم الإسلامية.

ومن هذه الروايات ما يأتي :

١ ـ جاء في حديث للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى

__________________

ـ في ج ٩ ، ص ٥٦ ، ح ٣١.

(١). اصول الكافي ، ص ٥٤٧ ، ح ٥.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٩٧.

١١٨

يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وشبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت» (١).

٢ ـ وجاء في حديث آخر عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّه تفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيّام عمره أربعة وعشرون خزانة ـ عدد ساعات الليل والنهار ـ فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النّار لأدهشهم عن الاحساس بألم النّار ، وهي الساعة التي فيها اطاع ربّه ـ ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنّة لنغص عليهم نعيمها وهي الساعة التي عصى فيها ربّه ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا مايسوؤه وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشي من مباحات الدنيا فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف ومن هذا قوله (ذلك يوم التغابن» (٢).

٣ ـ وجاء في حديث آخر للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أول قادم على الله ثم يقدم عليَّ كتاب الله ثم يقدم عليَّ أهل بيتي ، ثم يقدم عليَّ امتي فيقفون ، فيسألهُم ما فعلتم في كتابي وأهل بيت نبيّكم» (٣).

٤ ـ وجاء في حديث آخر : «أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ماسواها» (٤).

٥ ـ وجاء في حديث آخر : «ان أول مايسأل عنه العبد يوم القيامة عن جلسائه» (٥).

فمن الممكن أن يشعر القاري بأنّ هناك تضادا فيما يتعلق بأول مايسأل عنه الإنسان يوم القيامة فاذا كان أحدهما هو الأول فكيف يكون غيره الأول أيضاً ، ولكن يظهر أنّ المراد بأنّ هناك مجموعة من الأعمال يسأل عنها ضمن المرحلة الاولى ، وكل الذي ورد في هذه

__________________

(١). خصال الصدوق ، (مطابق لماورد في بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٢٥٨ ، ح ١).

(٢). بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٢٦٣ ، ح ١٥.

(٣). المصدر السابق ، ح ٢٢.

(٤). المصدر السابق ، ص ٢٦٧ ، ح ٣٣.

(٥). تفسير درّ المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٧٣.

١١٩

الأحاديث إنّما من أجزاء هذه المجموعة ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحاديث توضح أهميّة الموضوعات المذكورة في المنظور القرآني ، أي توضح أهميّة (التوحيد ، والنبوة ، وحب أهل البيت ، والصلاة ، والجلساء).

ويوجد احتمال آخر وهو أنّ هناك مواقف عديدة يوم القيامة وأول ما يسأل عنه في كل موقف من هذه المواقف هو أحد هذه الأمور.

٦ ـ وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «اتقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم» (١).

يخبر هذا الحديث بأنّ الإنسان مسؤول حتى عن البيئة والحيوانات وسوف يسأل عنها يوم القيامة.

* * *

٦ ـ اليسر والعسر في حساب المحشر

نستفيد من مجموع الروايات وحتى الإشارات الواردة في بعض الآيات القرآنية أنّ حساب يوم القيامة حساب دقيق للغاية ، وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال لرجل : «يا فلان مالك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي ، قال أبو عبدالله : أخبرني عن قول الله : (وَتَخافُون سُوء الحِساب) «أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله خافوا الاستقصاء والمداقة» (٢).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «إنّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» (٣).

ونستفيد من هذا التعبير أنّ هناك علاقة متينة بين «مستوى الفهم والإدراك» و «التكليف» فالحساب يكون على قدر العقول.

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ١٦٧.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ، ح ٢٧.

(٣). اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١١ ، ح ٧.

١٢٠