نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

يقول القرآن الكريم : (وَوَيلٌ لِّلمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لَايُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ). (فصلت / ٦ ـ ٧)

اثارت هذه الآية جدلاً واسعاً بين المفسرين ، وطرحوا احتمالات متعددة في تفسيرها وكان الدافع لذلك كونها من فروع الدين فكيف يصبح تركها دلالة على الكفر والشرك؟

يبدو أنّ البعض قد جعل منها معياراً ، فقال : إنّ عدم ايتاء الزكاة حتّى وإن لم يقترن بانكار حكمها يعتبر مؤشراً ذاتياً على الكفر ، وقال البعض الآخر : إنَّ عدم ايتائها لايُعتبر كفراً لوحده ، وإنّما يكون كذلك إذا اقترن بانكارها لأنّ وجوب الزكاة من ضروريات الإسلام ومنكرها كافر.

والنقطة التي تُعيننا على توضيح تفسير الآية هي المكانة الخاصة التي تميّز الزكاة من بين التعاليم الإسلامية ، فأداؤها يعني الاعتراف بالحكومة الإسلامية ومنعها يدل على التمرد ومناهضة الحكومة ، وكما نعلم فإنّ القيام ضد الحكومة الإسلامية موجب للكفر. (١)

وقد سبقت الإشارة إلى الآية ٣٥ من سورة التوبة والتي تتحدث عن اكتناز الذهب والفضة وهي من الآيات الدالّة على أنّ ترك دفع الزكاة من أسباب دخول النّار.

* * *

١٧ ـ أكل مال اليتيم

أكل مال أيِّ شخص كان ، وبلا مجّوز شرعي ، حرام ، لكن هذا الحكم يتأكد أكثر بالنسبة لليتامى ، وذلك لحاجتهم الشديدة من جهة ، وفقدانهم الولي من جهة ثانية ، وعدم إمكانية الدفاع عن أنفسهم من جهة ثالثة ، وهذا مايخرج القضيّة عن وضعها الطبيعي ويعطيها بُعداً استثنائياً.

ولهذا السبب هناك آيات قرآنية كثيرة مليئة بالوعيد والعذاب الشديد لمن يأكل أموال اليتامى ظلماً ، فها هي الآية الشريفة تصرّح : (انَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ اموَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا

__________________

(١). ورد شرح هذه القضية بالتفصيل في التفسير الأمثل ، ذيل الآيات ٦ ـ ٨ من سورة فصلّت.

٢٨١

يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِم نَاراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً). (النساء / ١٠)

وورد في الروايات عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «شرّ المأكل أكل مال اليتيم ظلماً» (١). ولكن هل أنّ التعبير القرآني في عقوبة آكل مال اليتيم جوراً بأنّه يأكل ناراً ، هو تعبير مجازي؟ قال جماعة من المفسّرين بإمكانية حمله على المعنى الحقيقي لأنّ هذا التعبير يظهر أنّ لأعمالنا صورة باطنية إضافة إلى الصورة الظاهرية ، وأنّ تلك الصورة خافية عنّا في هذا العالم وتظهر في يوم القيامة ، ومسألة تجسد الأعمال نابعة من هذا الموضوع ، وعلى هذا فلا يُستبعد حمل الآية على معناها الحقيقي (فتأمل).

* * *

١٨ ـ أكل الربا

وهذا العمل أيضاً من الأعمال التي وعد القرآن مرتكبيها بعذاب جهنّم حيث يقول : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ الَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَاولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). (البقرة / ٢٧٥)

وجاء ما يُشبه هذا المعنى في الآيتين اللتين تهددان كذلك آكلي الربا بعذاب النّار وتصفانه بأنّ له نفس العذاب الذي ينتظر الكافرين : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا اضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفلِحُونَ* وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى اعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). (آل عمران / ١٣٠ ـ ١٣١)

فعندما يعلن المرابون العصيان على الله ، أو يعلن هو جلّ شأنه الحرب عليهم فمعنى هذا أنّهم قد تنزّلوا إلى مستوى الكافرين ، وهذا تعبير رهيب في وصف هذه المعصية الكبيرة.

نستشف من بعض الروايات أنّ الربا محّرم في جميع الكتب السماوية وفي جميع شرائع الأنبياء ، كما تنص هذه الرواية التي وردت في فقه الرضا عليه‌السلام : «وهو محرم على لسان كل نَبّي وفي كلِّ كِتابٍ» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٦ ، ص ٢٦٧ ، ح ١.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام ، طبقاً لنقل مستدرك الوسائل ، ج ١٣ ، ص ٣٣١ ، ح ٧.

٢٨٢

١٩ ـ كفران النعم الإلهيّة

وهذا أيضاً من الذنوب الكبيرة التي يُجازى عليها بعذاب النّار ، حيث قال تعالى : (الَم تَرَ الَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعمَتَ اللهِ كُفْراً وَاحَلُّوا قَومَهُم دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَونَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ). (إبراهيم / ٢٨ ـ ٢٩)

أمّا ماهو المقصود هنا بالنعم الإلهيّة؟ قال جماعة من المفسرين ـ وانطلاقاً من بعض الروايات الواردة في المصادر الإسلامية ـ إنّ النعمة هي وجود النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونقرأ في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده وبنا يفوز من فاز) (١).

كلمة «نحن» تشير إلى كل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كانت إشارة إلى المعصومين عليهم‌السلام فهي تشمل النبي من طريق أولى ، وتتضح مدى أهميّة هذه النعمة فيما لو التفتنا إلى حديث الثقلين وماله من مكانة ، وعلى أيّة حال فإنّ وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وإن كان يُعدّ من أكبر النعم الإلهيّة ، فلا يمكن حصر مفهوم هذه الآية في هذا النطاق ، والظاهر أنّها تضم جميع النعم الإلهيّة الكُبرى.

وقد أشار بعض المفسّرين إلى الكافرين بالنعمة الإلهيّة الكُبرى وقالوا : إنّهم بنو اميّة ، أو بنو اميّة وبنو المغيرة ، أو عموم الكفّار في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن هذا من قبيل ذكر المصداق أيضاً لا من باب الحصر.

وفي جميع الأحوال ينبغي شكر النعم الإلهيّة الكبرى والاستفادة منها ما أمكن وعلى أفضل وجه ، وإذا استبدل الشكر بالكفران استوجب عذاب جهنّم (٢).

٢٠ ـ المطففين

وقد أكّد القرآن على عذاب هؤلاء تأكيداً خاصاً ، وأولى هذه القضيّة أهمّية استثنائية،

__________________

(١). تفسير علي بن إبراهيم ، ج ١ ، ص ٣٧١.

(٢). جاء في تفسير الميزان ، هذه الآية فيها تقدير وهو كمايلي : بدّلوا شكر نعمة الله كفراً.

٢٨٣

حتى أنّ اسم احدى السور هو «المطففين» وقد جاء في مستهلّها : (وَيلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* أَلَا يَظُنُّ اولَئِكَ انَّهُمْ مَّبعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ .. كَلَّا انَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ). (المطففين / ١ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٧)

قال بعض المفسّرين : إنّ «الويل» يعني شدّة عذاب القيامة ، وقال آخرون : إنّها اسم وادٍ خاص في جهنّم (١).

وجاء أيضاً في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لم يجعل الله الويل لأحد حتّى يسمّيه كافراً ، قال عزوجل : فويل للذين كفروا ...» (٢).

وورد أيضاً في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ويل وادٍ في جهنّم يهوي فيه الكافر» (٣). ويفهم من هذه التعابير أنّ التطفيف ـ أي عدم ايفاء الميزان في البيع ـ يصل حدَّ الكفر أو هو نوع من الكفر.

وكلمة «ويل» لها معنىً لغوي واسع ، يرادف الشر والغم ، والهلاك أو العذاب الأليم ، وما ذكر آنفاً يمكن أن يكون مصداقاً لذلك.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ ألفاظ الآية وإن كانت تخصّ المطففين للمواد القابلة للوزن والكيل لغرض البيع والشراء ، إلّاأنّه لا يُستبعد أن تتسع الآية لما هو أبعد من ذلك لتشمل كل من يقصّر في تأدية واجباته الدينية والأخلاقية والاجتماعية وذلك لأنّ كل من يقصر في أداء واجبه وينتقص من عمله يُعتبر في الحقيقة مُطفّفاً.

ولهذا نُقل عن الصحابي المعروف «عبدالله بن مسعود» أنّه قال : «كل من طفف في صلاته ينطبق علية ماقاله الله تعالى بشأن المطففين» (٤).

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ص ٧٠٤١.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٢ ، ح ١.

(٣) تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٦٨.

(٤) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤٥٢.

٢٨٤

٢١ ـ الهمز واللمز والغيبة

وهذه أيضاً من الذنوب الكبيرة لأنّ فيها استهانة بكرامة وشخصية الناس المؤمنين ، والكرامة والشخصية من الاعتبارات التي توازي في الأهميّة دم الإنسان بل وتفوقه أحياناً ، ولذلك توعد القرآن الكريم بالويل والعذاب لكل من يجترىء على هذا الفعل ، فقال : (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحسَبُ انَّ مَالَهُ اخلَدَهُ* كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِى الحُطَمَةِ). (سورة الهمزة / ١ ـ ٤)

هنالك اختلاف في آراء المفّسرين بشأن معاني الهمزة واللمزة ، فهاتان الكلمتان وردتا على صيغة المبالغة من المصدرين «الهمز» «واللمز» قال البعض : كلاهما بمعنى واحد ، وهو البحث عن عيوب الآخرين واغتيابهم ، بينما قال آخرون ، إنّ الاولى تعني اقتفاء معايب الآخرين والتشهير بهم علناً والثانية بمعنى اقتفائها والتشهير بها خفية وعن طريق الإشارة بالعين والحاجب وأمثال ذلك ، وقال آخرون : إنّ الاولى تعني الغيبة ، والثانية تعني اظهار العيوب وجهاً لوجه.

ويبدو في جميع الأحوال أنّ كل من يحاول الاستهزاء بالآخرين أو يتعمّد الاساءة إليهم باللسان وحركات العين والحاجب في حال غيابه أو وجهاً لوجه ، ويحاول تقصّي عيوبهم أو يكشف العيوب المستورة وافشائها لغرض الاساءة إلى كرامتهم فهو مشمول بالآية المذكورة ، فكما أنّه يحطم شخصية وكرامة الآخرين فسيكون كذلك عرضة ـ في يوم القيامة ـ لنار جهنّم «الحطمة» لكي تحطّم كل وجوده.

إنّ الأشخاص من أمثال هؤلاء هم أكثر خلق الله شراً كما جاء ذلك في حديث منقول عن سيد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ألا أخبركم بشر الناس؟» قالوا بلى يارسول الله ، قال : «المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة ، الباغون للبرئاء المعايب» (١).

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب النميمة ، ح ١ ؛ تفسير القرطبي ج ٢ ، ص ٧١ ـ ٧٢.

٢٨٥

٢٢ ـ الاسراف والتبذير

الاسراف والتبذير بالمعنى الواسع للكلمة يعتبران من الكبائر أيضاً ، وقد ذكرهما وأكّد عليهما القرآن الكريم بشدّة ، فقال عن الاسراف : (وَانَّ المُسرِفِينَ هُمْ اصْحَابُ النَّارِ). (المؤمن / ٤٣)

ورغم أنّ هذا الكلام قد ورد في سورة المؤمن على لسان مؤمن آل فرعون ، لكن القرآن أطلقه على هذا المجال.

وقال أيضاً عن التبذير : (انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخْوَانَ الشَّيَاطِينَ) (الاسراء / ٢٧)

ومن الواضح أنّ مصير الشياطين واخوانهم ليس سوى الوقوع في بؤرة الغضب الإلهي ـ أي جهنّم ـ.

و «الاسراف» : و (السَرَف) وهي على وزن «الهدف» تعني كما يقول أهل اللغة تجاوز الحد في أي عمل ، وإن كانت تُطلق على الأغلب على تجاوز الحد في صرف الأموال (١).

ولهذا يُطلق القرآن الكريم كلمة المسرفين على المشركين والمجرمين الذين يتجاوزون الحدود الإلهيّة ، وحتّى قتل الناس الأبرياء يُعَدُّ نوعاً من الاسراف.

وكلمة «التبذير» مشتقة من مصدر «البذر» وتعني في الأصل النثر ، وتُطلق عادة على الحالات التي تُنثر فيها الأموال بلا هدف ، أو حين تُصرف هنا وهناك وتكون نتيجتها الاتلاف والتضييع (٢).

ولو فكّرنا في وضع العالم الحالي والتبذير والاسراف السائد فيه والذي لا يقتصر على المواد الغذائية والإمكانات المادّية فحسب ، بل ويتعداه إلى تجاوز الحدود في كل شيء ، لوجدنا أنّه وقبل أن يستحق الآخرة ، جعل من هذه الدنيا جهنّم لاهبة يحترق في نارها الصغير والكبير ولا مغيث لنداءاتهم ، حينذاك سنوقن أنّ عقوبة الاسراف والتبذير يجب أن تكون نار جهنّم.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادة (سرف).

(٢) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، مادة (بذر).

٢٨٦

٢٣ ـ الجرائم والذنوب

توجد في القرآن الكريم أوصاف عامّة وشاملة لأصحاب النّار ومن جملة ذلك الجريمة والذنب ، إذ قال تعالى بشأنهم : (وَنَسُوقُ الُمجْرِمِينَ الَى جَهَنَّمَ وِرْداً). (مريم / ٨٦)

«كلمة «مجرم» مأخوذة من المصدر (جُرْم) على وزن (ظُلْم) والذي يعني أساساً القطع ، لذلك تُطلق الكلمة على عملية قطع الثمار من الأشجار أو قطع الأشجار ذاتها ، ولمّا كان المجرمون يحرمون أنفسهم من السعادة والنجاة بسبب سوء عملهم ، لهذا صدقت عليهم هذه الكلمة.

هل يفهم من هذه الآية أنّ كل ذنب يستلزم دخول النّار ، أم أنّها تخص مجرمين معيّنين؟ إنّ ظاهر الآية يدلّ على الاطلاق ، إلّاأنّه يمكن أن يُستشف من خلال الآيات الاخرى أنّها تخص الجريمة التي يخالطها الكفر ، كما جاء في قوله تعالى : (إِنَّ الُمجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). (الزخرف / ٧٤)

ومن البديهي أنّ الخلود في النّار مقصور على الكفّار لا كل المجرمين ودلّت على هذا قوله تعالى : (يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الُمجْرِمِينَ* مَاسَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ). (المدثر / ٤٠ ـ ٤٢)

فيعدّون لهم في الجواب مجموعة من الذنوب منها التكذيب بيوم الدين وهو ما يساوي الكفر ، وقد ورد نظير هذا المعنى ـ وهو أنّ المقصود منه الجرم المقرون بالكفر ـ في آيات عديدة اخرى (١) ، ويحتمل أيضاً أنّ المراد من المجرمين الوارد في الآية موضع البحث هم المجرمون الذين انغمسوا تماماً في الذنوب وبالشكل الذي يجعلهم لا يستحقّون الشفاعة ولا عفو الله ، فهولاء عامّة يدخلون النّار.

* * *

__________________

(١) وردت في الآيات والسور التالية : الأعراف ، ٤٠ ، ٨٤ ، ١٣٣ ؛ سورة الحجر ، ١٢ ، ٥٨ ، سورة الفرقان ، ٣١ ، النمل ، ٦٩ ، وغيرها ، وتتحدث جميعها عن أقوام من أمثال قوم لوط وقوم فرعون وأعداء الأنبياء ، واستخدمت بشأنهم كلمة «المجرم».

٢٨٧

٢٤ ـ تعدّي حدود الله

وهذا أيضاً واحد من العناوين العامّة التي وعد القرآن بأنّ جزاءَها النّار : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذابٌ مُّهِينٌ). (النساء / ١٤)

إنّ المقصود من الحدود الإلهيّة قوانينه وأحكامه وتعاليمه ، وإن كان أهل اللغة قد نقلوا ثلاثة معانٍ مختلفة لكلمة «الحد» وهي : المنع ، ونهاية كل شيء ، والشدّة (١) ، ولكن يبدو أنّها تعود بأجمعها إلى معنى «المنع» لأنّ انتهاء الشيء يمنع اختلاطه بغيره كما أنّ حدود البيت والحقل والبلد تمنع اختلاطها مع غيرها من البيوت والحقول والبلدان ، وبما أنّ مفهوم المنع يخفي بين طيّاته نوعاً من الشدّة ، فقد استخدم أحياناً بمعناها أيضاً.

ولهذا اطلق على الأحكام الإلهيّة اسم «الحدود» التي تعيّن للإنسان «المناطق الممنوعة» التي لا يجوز له دخولها ، وهذا هو السبب في تسمية العقوبات الشرعية بالحد لأنّها تحول دون تكرارها.

وعلى أيّة حال فقد وردت عبارة «تلك حدود الله «في عدّة مواضع من القرآن الكريم وكلها جاءت بعد تبيان سلسلة من الأحكام الإلهيّة.

وقد جاءت في الآية التي نحن بصدد بحثها بعد بيانها لأحكام الإرث ، وفي الآيتين (٢٢٩ ، ٢٣٠) من سورة البقرة والآية الاولى من سورة الطلاق بعد تبيان قسم من أحكام الطلاق ، وجاءت في الآية ١٨٧ من سورة البقرة بعد تحريم الجماع خلال الاعتكاف وبعض أحكام الصوم ، ووردت في الآية ٤ من سورة المجادلة بعد بيان كفّارة الظهار ، ويفهم من مجموعها أنّ (حدود الله) كلمة ذات مدلول واسع يشمل كل حكم من هذا القبيل.

فنحن نعلم من جهة أنّ ارتكاب أي جرم كان لا يستدعي الخلود في النّار وعلى هذا قد يكون القصد من الآية أعلاه ، الأشخاص الذين يتعدّون حدود الله بالطغيان والعناد والتمّرد وانكار آيات الله ، أو كل من يتجاهل هذه الحدود وينغمس في المعاصي حتّى يذهب من هذه الدنيا من غير أن يدخل الإيمان قلبه ، وإلّا فنحن نعلم أنّ فريقاً من العاصين يشملهم

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ ومفردات الراغب ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ، مادة (حد).

٢٨٨

العفو الإلهي ، وفريقاً آخر تشملهم الشفاعة ، وفريقاً آخر تغفر لهم صغائر الذنوب ، وكذلك يغفر للتوابين (١).

وقد استدلت فئة من (الوعيدية) الذين يعتقدون بخلود مرتكب الكبيرة في النّار بهذه الآية وأمثالها ، إلّاأنّ جواب ذلك واضح من خلال ماذكرناه ، وسنتطرق إلى مزيد من التوضيح في المكان المناسب بإذن الله.

الخلاصة :

المجاميع الأربع والعشرين التي اشير إليها تعتبر أهم الفئات التي ترد النّار وفقاً لما صرّح به القرآن الكريم ، فبعضهم يخلد فيها والبعض الآخر يبقى إلى أمد معيّن ، ويُستخلص من مجموع هذه الآيات رؤية الإسلام للمسائل الاجتماعية والحقوقية وأنواع الانحرافات الأخلاقية ، والجوانب التي أعارها اهتماماً أكبر.

وتستبطن نظائر هذه الآيات نداءات تربوية فاعلة وتنبّه الناس وتحذّرهم من عواقب ومخاطر هذه الكبائر وهذا هو الغرض النهائي منها.

* * *

__________________

(١). أورد العلّامة المجلسي في بحارالأنوار بحثاً مفصلاً في هذا الصدد وهو أنّ أهل الإيمان لا يخلدون في النّار ، فمن أراد الاطلاع عليه فسيجده بحارالأنوار ، ج ٨ ، ص ٣٥١ ومابعدها (باب ٢٧ وهو باب من يخلد في النّار ومن يخرج منها).

٢٨٩
٢٩٠

٢ ـ ماهية جهنّم

تمهيد :

من البديهي أنّ «جهنّم» هي بؤرة الغضب الإلهي وتشتمل على العذاب الجسدي والروحي لمن يردها ، كما ورد في ظاهر أو صريح الآيات القرآنية ، أمّا الذين ذهبوا إلى أنّها تشتمل فقط على العذاب الروحي والمعنوي فقد تجاهلوا وأنكروا قسم كبير من الآيات القرآنية أو حملوها على معانٍ مجازية بلا دليل معقول.

ولكن ما هي جهنّم؟ وما هي كيفية عذابها؟

إنّ أفضل الطرق لمعرفة ماهيتها هي الاستعانة بالأسماء والأوصاف الواردة بشأنها في الآيات القرآنية المختلفة من أجل ازاحة الستار عن خفايا بؤرة الغضب الإلهي هذه ، وكما قلنا مراراً : مهما كانت معرفتنا بالقضايا المتعلقة بالعالم الآخر واسعة فهي تبقى محدودة وكأنّها شبح يترائى لنا عن بعد ، أمّا التفاصيل والخصوصيات فهي مبهمة لأنّ عالم الآخرة بشكل عام أرقى من هذا العالم وهو تماماً كعالم الجنين بالنسبة إلى العالم خارج بطن امّه. وعلى هذا فمن غير المتيسّر للبشر في هذا العالم الاحاطة الكاملة بأسرار ذلك العالم ، لكن هذا لا يحول بتاتاً دون الحصول على المعرفة الإجمالية بشأنه أبداً.

وعلى أيّة حال ينبغي متابعة الأسماء والصفات والإشارات الواردة في القرآن الكريم في هذا المجال لغرض التعرّف على ماهية جهنّم ، لنقرأ فيما يلي الآيات التالية وهي تعكس بعضاً من أسماء وأوصاف جهنّم :

١ ـ (وَانَّ جَهَنَّمَ لَمَوعِدُهُمْ اجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ ابوَابٍ). (الحجر / ٤٣ ـ ٤٤)

٢ ـ (سَاصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَاادْرَاكَ مَا سَقَرُ* لَاتُبقِى وَلَا تَذَرُ* لَوَّاحَةٌ لِّلبَشَرِ). (المدثر / ٢٦ ـ ٢٩)

٢٩١

٣ ـ (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ). (البقرة / ٢٤)

٤ ـ (فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ). (الشورى / ٧)

٥ ـ (فَامَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا* فَإِنَّ الجَحِيمَ هِىَ المَأْوَى). (النازعات / ٣٧ ـ ٣٩)

٦ ـ (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِى الحُطَمَةِ* وَمَاادرَاكَ مَاالحُطَمَةُ* نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ). (الهمزة / ٤ ـ ٧)

٧ ـ (وَامَّا مَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَامُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَاأَدْرَاكَ مَاهِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةُ). (القارعة / ٨ ـ ١١)

٨ ـ (كَلَّا انَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدعُوا مَنْ ادبَرَ وَتَوَلَّى). (المعارج / ١٥ ـ ١٧)

جمع الآيات وتفسيرها

تعابير القرآن بشأن جهنّم :

في الآية الأولى نلاحظ أشهر أسماء النّار الذي تكرر ذكرها في القرآن الكريم سبعاً وسبعين مرّة ألا وهو (جهنّم) ، وتشير هذه الآية إلى أتباع ابليس وتقول : (وَانَّ جَهَنَّمَ لَمَوعِدُهُمْ اجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ ابوَابٍ).

اختلف اللغويون والمفسرون في معنى كلمة «جهنّم» ، فقال البعض منهم أنّها تعني «النّار» ، وقال آخرون أنّها تعني «العميق والبعيد القعر».

جاء في «لسان العرب» أنّ «جِهِنّام» بمعنى العمق الشديد ولهذا يقال : «بئر جهنّم وجهنّام) ويراد به البئر العميقة القعر.

ونقل عن بعضهم في نفس الكتاب أنّ أصل هذه الكلمة عبراني وهو «گهنّام» وورد اسمها في العربية «جهنّم» (ولهذا فهي تعتبر اسماً ممنوعاً من الصرف لأنّها اسم علم أولاً ، وأعجمي ثانياً).

٢٩٢

واعتبرها بعض اللغويين مشتّقة من الكلمة العبرية «جهنّيون» (١) ، بينما أكّد آخرون أنّها عربية (وسبب عدم صرفها هو العَلَمية والتأنيث) ، واعتبرها جماعة آخرون مشتقة من أصل فارسي

ويقال للحفرة تحت الأرض التي تنفخ فيها الحرارة لتدفئة أرضية الحمّام «جهنّم» أيضاً (٢).

وعلى أيّة حال فمهما كان أصلها ، سواء كان عربياً أو فارسياً أو عبرانياً فهي في القرآن الكريم اسم لمكان مليء بالعذاب وهو بؤرة غضب الله وله دركات ومراتب متفاوتة.

وقد ورد أيضاً في الآية أنّ لجهنّم سبعة أبواب وهذا ما سنتحدث عنه ـ إن شاء الله ـ لاحقاً.

ونواجه في الآية الثانية اسماً آخر من أسماء جهنّم وهو «سقر» ، فبعد الإشارة إلى أحد المشركين المعاندين (وهو الوليد بن المغيرة) ـ تقول : (سَاصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَاادْرَاكَ مَا سَقَرُ* لَا تُبقِى وَلَا تَذَرُ* لَوَّاحَةٌ لِّلبَشَرِ).

ومهما يكن من أمر فكلمة «سقر» هي من أسماء جهنّم ومأخوذة في الأصل من كلمة «سَقْر» على وزن «فَقْر» وتعني التغيير والذوبان والانصهار أثر حرارة الشمس (٣).

واعتبرها البعض اسماً لأحد طبقات جهنّم المفزعة كما وردت في حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ في جهنّم لوادياً للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى الله شدّة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفس فأحرق جهنّم» (٤).

ونقرأ في كتاب صحاح اللغة أنّ «سقرات الشمس» تعني شدة حرارتها ، و «يوم مسقر» بمعنى شديد الحرارة ولاهب.

وجاء في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) أنّ هذه الكلمة تعني في الأساس

__________________

(١). قاموس دهخدا ، مادّة (جهنّم).

(٢). قاموس دهخدا ، مادة (جهنّم) ؛ التحقيق ؛ لسان العرب ؛ المنجد ؛ واقرب الموارد.

(٣). مقاييس اللغة ؛ ومفردات الراغب.

(٤). تفسير الصافي ، في ذيل الآية ٤٨ من سورة القمر.

٢٩٣

الحرارة الشديدة التي تغير لون الأشياء وصفاتها ، لكنّها تحوّلت بالتدريج إلى اسم من أسماء النّار وتعني النّار الشديدة المحرقة التي تغيّر كل شيء.

ويدعم هذا الادّعاء الصفات الواردة في هذه الآيات ، لأنّها تؤكد أنّها تغير الجلود تماماً من جهة ، ومن جهة اخرى ، أنّها لا تبقي شيئاً على حاله ولا تذر.

* * *

ومن الأسماء الاخرى التي استخدمها القرآن لجهنّم بشكل واسع هي كلمة «النّار» ، فقد تكرر ذكرها ١٤٥ مرّة والتي تعني في أغلب الموارد نار جهنّم ، وإن جاءت أيضاً في بعض المواضع بمعنى نار الدنيا ، ومن جملة ذلك ، الخطاب الموجّه إلى المشككين بالقرآن إذ جاء فيه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (أي لم تأتوا بسورة من مثله) (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّت لِلكَافِرِينَ). (البقرة / ٢٤)

يقول الراغب : إنّ كلمة «النّار» تعني الشعلة التي تظهر أمام حس الإنسان ، ويقال : للحرارة وحدها نار أيضاً ، ورأى البعض أنّ كلمتي «النّار» و «النور» مشتّقتان من مصدر واحد ومتقاربتان في الوجود.

وعلى أيّة حال فقد كثر استخدام هذه الكلمة في القرآن الكريم بشأن جهنّم إلى حد جعلها تصبح واحدة من أسمائها.

أشار القرآن الكريم إلى فئة من المجرمين قائلاً : (اولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ). (آل عمران / ١٠)

وجاءت كلمة «أصحاب النّار» في العديد من الآيات لتدل على الأشخاص الذين يردون جهنّم ولهذا أصبح هذا التعبير مقابلاً لتعبير أصحاب الجنّة (١).

ومن نافلة القول : إنّ من ضمن المواصفات التي ذكرت للنار هي أنّ وقودها من الناس والحجارة (أي الأصنام) وعلى هذا فهي لا تشبه نار الدنيا في هذا الجانب.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٤ ؛ الحشر ، ٢٠.

٢٩٤

ونرى في الآية الرابعة اسماً وصفة اخرى لهذا المكان الذي يتجسد فيه الغضب الرباني ، وهذا الاسم هو «السعير».

فبعد أن يشير القرآن إلى الغاية من نزوله وينذر الناس من يوم القيامة ، يقسم الناس يومذاك إلى فريقين ويقول : (فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ).

وقد وردت كلمة «سعير» في القرآن ١٦ مرّة وورد جمعها أي كلمة «سُعُر» مرّتين ، وهذه الكلمة مشتقة من المصدر «سَعْر» وهو على وزن «قَعْر» ويعني اذكاء النّار وتأجيجها ، وجاء أيضاً بمعنى شدّة الاضطرام ، ولهذا «فالسعير» يعني النّار الشديدة الاشتعال واللهب والاحراق ، وجاءت أحياناً بمعنى «الجنون» أيضاً لأنّ الشخص في هذه الحالة يلتهب ويغلب عليه الهيجان ، ويقال كذلك للناقة المجنونة : ناقة مسعورة (١).

ونظراً لاستخدام كلمة «السعير» في الآية المذكورة في قبالة كلمة «الجنّة» يفهم بأنّها أيضاً أحد أسماء النّار ، واستخدام تعبير «أصحاب السعير» في عدد من الآيات يعتبر أيضاً قرينة أخرى على هذه التسمية (٢).

إلّا أنّه لايمكن انكار مجيئها في بعض الآيات القرآنية بنفس ذلك المعنى الوصفي لتشير إلى اضطرام نار جهنّم.

* * *

التعبير الخامس الذي تكرر في القرآن في ٢٥ موضعاً ، هو الجحيم ، فتقول الآية المطروحة لبحثنا : (فَامَّا مَنْ طَغَى * وَآثَر الحَيَاةَ الدُّنيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ المَأْوَى).

وكلمة «الجحيم» على وزن (لَحْم) كما يفهم من عبارات القرآن هي واحدة من أسماء جهنّم ، ومشتقة من مادة «جَحْم» على وزن (لحْم) التي تعني «شدّة نورية النّار» كما يقول الراغب في مفرداته.

وتأكّد نفس هذا المعنى في «مقاييس اللغة» أيضاً ، لكن صاحب صحاح اللغة فسّره

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ وصحاح اللغة ؛ والتحقيق ؛ ومفردات الراغب.

(٢) الملك ، ١٠ ـ ١١ ؛ فاطر ، ٦.

٢٩٥

بالنار العظيمة المصحوبة بالحرارة واللهب.

إلّا أنّ كلمة (الجحيم) استخدمت في موضع واحد في القرآن الكريم بمعنى النيران المحرقة في الدنيا عندما قال المشركون في زمن النبي إبراهيم عليه‌السلام : (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلقُوهُ فِى الجَحِيمِ). (الصافات / ٩٧)

إلّا أنّ هذا الاستعمال لا يمنع من كون الكلمة المذكورة من أسماء جهنّم.

* * *

وفي الآية السادسة نلاحظ كلمة «الحطمة» التي تكررت في موضعين في سورة الهمزة» فالآية قد تحدثت عن الذين يبحثون عن عيوب الآخرين ويغتابونهم ويحرصون على جمع المال فقد هددهم الله بقوله : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِى الحُطَمَةِ* وَمَا ادرَاكَ مَاالحُطَمَةُ* نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفئِدَةِ).

وكلمة «الحطمة» على حد قول صاحب «صحاح اللغة» وصاحب «مجمع اللغة» : اسم من أسماء جهنّم ، وهي صيغة مبالغة من كلمة «حطم» بمعنى الكسر والتهشيم ، واعتبرها البعض بمعنى تكسير الأشياء اليابسة ، ولهذا يطلق على سنوات القحط اسم «الحُطمة» لأنّها تحطّم كل شيء وتكسّره وتقضي على الناس ، ويُطلق اسم «الحطيم» على موضع في الكعبة يقع بين بابها والحجر الأسود لأنّ الناس يزدحمون هناك حتى أنّ عظامهم على وشك أن تتكسر من شدّة الضغط.

وعلى هذا الأساس تعود تسمية جهنّم بالحطمة لأنّ نارها المحرقة تدّمر كل شيء وتقضي عليه ، وقد أوضح القرآن نفسُه معناها من خلال الآيات الواردة في هذا الباب : فقال إنّها : (نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفئِدَةِ) ، وهذه الآية بذاتها دليل على المعنى الذي ذكرناه.

ولكن يستفاد من بعض الروايات : أنّ كل اسم من أسماء جهنّم ومن ضمنها الحطمة يشير إلى قسم معين من أقسام النّار (١).

__________________

(١). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٧ ـ ١٩ ، ح ٦٠ ، ٦٤.

٢٩٦

ذكرت الآية السابعة كلمة «الهاوية» التي وردت في القرآن الكريم مرّة واحدة حيث تقول الآية : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا ادْرَاكَ مَاهِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةُ). (القارعة / ٨ ـ ١١)

قال ابن منظور في «لسان العرب» : «إنَ «الهاوية» أحد أسماء جهنّم ، وعلى هذا يكون معنى «امه هاوية» أي إنّ مقرّه ومسكنه جهنّم» (١).

وأشار صاحب «مقاييس اللغة» والراغب في «المفردات» إلى هذه التسمية وأنّ الكلمة مأخوذة في الأصل من مادة «هُوِي» بمعنى السقوط لأنّ الكفار والمجرمين يسقطون فيها ، ويتضمن أيضاً إشارة إلى عمق جهنّم.

وفسّرت كلمة «ام» هنا بمعنى المستقر والمكان ، وأحياناً بمعنى الأم أي كما تحتضن الأم ابنها تحتضن جهنّم من يرد فيها.

وفسرها بعضهم بمعنى الدماغ ، قال : إنّ الهاوية وصف لأصحاب النّار لأنّهم يسقطون فيها على أُم رؤوسهم إلّاأنّ التفسير الأول أصحّ على مايبدو.

* * *

ونرى في الآية الثامنة والأخيرة كلمة «لظى» وهي الاخرى قد ذكرت في القرآن مَرّة واحدة ، فقد جاء في سورة المعارج بعد الإشارة إلى وضع المجرمين الذين يرغبون في يوم القيامة التضحية بأزواجهم واخوانهم وأبنائهم لِانقاذ أنفسهم : (كَلَّا انَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدعُوا مَنْ ادْبَرَ وَتَوَلَّى). (المعارج / ١٥ ـ ١٧)

وكلمة «لظى» تعني في الأصل النّار أو شعلة النّار الخالصة ، ولكن هذه الكلمة اسم من أسماء جهنّم حسب ماجاء في «لسان العرب» و «مفردات الراغب» (ولهذا فهو ممنوع من الصرف بسبب عَلَميّته وتأنيثه).

وتعني كلمة «النزاعة» الشيء الذي ينزع ويفصل بشكل متواصل ، وتعني كلمة «شوى»

__________________

(١). لسان العرب ، مادة (هوى).

٢٩٧

اليد والرجل والأطراف ، (وإن كانت تأتي بمعنى الاحراق في النّار لكن الأنسب هنا هو المعنى الأول ، لأنّ الشيء عندما يسقط في النّار ، أول ما يحترق منه أطرافه وأغصانه).

وقال آخرون : إنّ «الشوى» هو جلد البدن أو فروة الرأس ، ومن عجائب هذه النّار المحرقة أنّها تدعو أصحاب جهنّم إليها ، فهل أنّها حقاً ذات شعور وإدراك فتفعل هكذا؟ أم أنّ في جهنّم جاذبية خفية تستقطب نحوها كل من حق عليه العذاب؟

كلا الاحتمالين ممكن ، ولكن الظاهر هو المعنى الأول.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الروايات لم تذكر النّار كاسم من أسماء جهنّم ، بل ذكرت سبعة أسماء اخرى واعتبرت كل واحد منها طبقة من طبقاتها ، وليس كل واحد من هذه الأسماء السبعة يشمل جهنّم بأكملها.

ومن جملة ذلك حديث منقول عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيه : «إنّ جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ، ووضع احدى يديه على الاخرى فقال : هكذا ، وأنّ الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض فاسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية» (١).

ولا مانع من اطلاق الأسماء السبعة المذكورة على كل جهنّم أحياناً أو على قسم منها أحياناً اخرى ، كما يلاحظ ذلك في أسماء الدنيا حيث يطلق أحياناً اسم معين على محافظة من المحافظات بأكملها ، ويطلق أحياناً على مدينة معيّنة من مدن تلك المحافظة.

* * *

أوصاف جهنّم :

يفهم من مجموع الآيات المتعلقة بجهنّم وأوصافها أنّها مركز جزائي رهيب مليء

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ٦ ص ٣٣٨ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩ ، ح ٦٤ ، وجاء أيضاً في هذا الموضوع حديث مطوّل منقول عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

٢٩٨

بالنيران اللاهبة وله أبواب ودرجات مختلفة ، ولكن نارها ليست كنيران الدنيا بل تتميز بالخصائص الاتية :

١ ـ وقودها الناس والحجارة.

٢ ـ تطّلع على الأفئدة ، وتنفذ أولى شراراتها إلى القلوب.

٣ ـ حطمة تسحقُ كل شيء وتقضي عليه.

٤ ـ فيها درك يدعو المجرمين إليه!

٥ ـ توصف بأنّها إذا رأت من يُحشرون فيها : (اذَا رَأَتهُمْ مِّن مَّكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً). (الفرقان / ١٢)

٦ ـ متحرّكة كما يقول تعالى : (وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذكَّرُ الْإِنْسَانُ وَانّى لَهُ الذِّكْرَى). (الفجر / ٢٣)

٧ ـ محيطة الآن بالكافرين رغم أنّها محجوبة عن الأبصار : (وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ). (التوبة / ٤٩)

قد تكون هذه الأبعاد جميعها سبباً دفع بالكثيرين إلى تفسير جهنّم تفسيراً روحياً فاعتبروا نارها ناراً معنوية ، لكن هذا التفسير ـ بلا شك ـ يتعارض مع ظاهر آيات القرآن الكريم ، ولا ينسجم مع الروايات التي وردت في تفسيرها.

وعلى هذا ينبغي القول : إنّ جهنّم بؤرة نار مستعرة وتختلف اختلافاً جذرياً عن نيران عالمنا هذا كما تختلف نِعم الجنّة مع نِعم هذه الدنيا.

* * *

توضيح

فلسفة وجود النّار :

يسأل الكثير عن مدى ضرورة وجود النّار ، فالله تعالى لا يحب الانتقام وأنّ العقوبات توضع لكي لايرتكب الناس الاخطاء ثانية أو حتى تكون عبرة للآخرين ، بينما نعلم أن لا

٢٩٩

عودة لهذا العالم بعد هذه الحياة ، ولا وجود هناك للتكليف والطاعة والذنب ، وعلى هذا ، ما المفهوم الذي ستحمله عقوبة باهضة كدخول النّار؟ هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الهدف من جميع التعاليم الدينية هو تربية وتهذيب وتكامل الإنسان ، وإن لم يقبل بذلك بعض الناس فستكون عقوبتهم الحرمان من بلوغ الدرجات الرفيعة.

فما هي الضرورة لوجود جهنّم ، ومركز الغضب والعقاب الصارم؟

وللاجابة عن هذه التساؤلات ينبغي الالتفات إلى نقطتين :

١ ـ قلنا مراراً إنّ العقوبات الإلهيّة سواء في هذا العالم أوفي عالم الآخرة هي نتيجة لأعمال الناس أنفسهم ، وإنّما تنسب إلى الله جلّ شأنه باعتباره مسبب الأسباب ، فالكثير من نعم الجنّة هي تجسيد لأعمال الإنسان الصالحة ، والكثير من عذاب جهنّم تجسيد لأعماله السيّئة ، ونحن نعلم أنّ نتائج العمل وآثاره ليست بالأمر الهيّن الذي يمكن التساهل فيه.

فمثلاً ، الشخص الذي يتناول المشروبات الروحية والمخدّرات ، ليقضي فترات من الراحة وهدوء البال ـ حسبَ تصوره ـ في ظل هاتين المادّتين المخدّرتين ، ولينتشي باللذة المتأتّية من نسيان الدنيا ، يُحذَّر بأنّ هاتين المادتين المخدّرتين هما من عوامل الافساد والتحلل وستؤدّيان في النهاية إلى القضاء عليه ، فالمشروبات الكحولية تسبب له أمراض القلب والشرايين والاعصاب والكبد ، والمخدّرات تدمر أعصابه بل وتُنهي كل كياته.

فاذا لم يُصغ إلى هذا الانذار وتمادى في ممارسته الخاطئة فانّه سيواجه عقوبته وجزاءه وهذا لا يحتاج إلى فلسفة ودليل سوى قانون العلّية ، وهي النتيجة الطبيعية لعمل كل إنسان وغالباً ماتكون الذنوب على هذه الشاكلة ، وتعقبها نتائج في هذه الدنيا ، وفي الآخرة فهي تتجسد على صورة العذاب في جهنّم.

ولهذا يُلحظ هذا التعبير الذي يتكرر كثيراً في الآيات الشريفة والذي يقول : إنّكم تجزون ما كنتم تعملون فنقرأ في قوله تعالى : (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّت وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَل تُجزَونَ إِلَّا مَاكُنْتُمْ تَعمَلُونَ). (النمل / ٩٠)

٣٠٠