نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

أو (جنتان) ، فنقرأ قوله تعالى : (وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ). (النساء / ١٣)

وفي قوله تعالى : (واللهُ يَدْعُوَا إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِاذنِهِ). (البقرة / ٢٢١)

وفي قوله تعالى : (وَلِمَن خَافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). (الرحمن / ٤٦)

فهذه الكلمات (جنات ، جنتان ، جنة) مشتقة من مادة (جنّ) على وزن (فَنّ) وهو الستر والتستر ، ويقول الراغب في مفرداته ستر شي من الحس ، وعلى هذا الأساس له مشتقات كثيرة.

«والجنّة» : بمعنى البستان وذلك لأنّ أرضها مستورة بأغصان الأشجار ولكن صاحب كتاب مقاييس اللغة يقول : الجنّة مايصير إليه المسلمون في الآخرة وهو ثواب مستور عنهم اليوم ، ولكن نحن نستبعد هذا المعنى وذلك لأنّ بساتين الدنيا يقال لها أيضاً جنّة وهذا لا يكون إلّالسبب ستر أرضها بواسطة أغصانها ، (تأمل).

و «الجنين» : الولد في بطن امّه ، والجَنان : القلب لأنّه مستور في الصدر والمِجَن : الترسُ ، وكل ما استتر به من السلاح فهو جنة (على قول صاحب مقاييس اللغة) و (الجِن) و (الجان) يطلق على الموجودات الحيّة المستورة عن أعين الخلق ، وكذلك على الثعابين العظيمة تشبيها لها ب «الجن» (الذي هو موجود خطر خفي) ، ويطلق على عظام الصدر ـ جناجن ـ ولعل السبب في هذه التسمية كونها درعا لحفظ القلب.

«جنون» : بمعنى ذهاب العقل واصل الجنون هو الستر ، جنون الليل : سواده وستره للاشياء ، على أيّة حال فإنّ المهم في هذا الموضوع هو أنّ بساتين الجنّة كثيفة الأشجار إلى درجة سترت أرضها بأغصانها المتدلية.

ولقد وردت في عشرات الآيات بعد ذكر (جنات) جملة (تجري من تحتها الأنهار) وهذا يدل على أنّ الماء يجري دائماً تحت الأشجار وبتعبير آخر أنّ أغصان أشجارها تظل على المياه التي تجري تحتها ، فيكون الماء تحتها (تأمل جيداً) ، وهذا يعود إلى :

أولاً : أنّ الماء والشجر يشكلان مع بعضهما البعض منظراً جميلاً في منتهى الروعة والجمال ، وكأنّ كل واحدٍ منهما ناقص ويحتاج إلى اكمال من الآخر.

١٦١

وثانياً : أنّ الأنهار تؤَمِّن طراوة دائمية للأشجار ، فالتي تجري من تحتها المياه تكون خضراء زاهية ، إمّا الأشجار التي لا تتوفر لها مياه دائمة أو يؤتى به من الخارج فلا تتمتع بمثل هذه الطراوة والاخضرار ، فالماء هو أساس حياة النباتات ولابدّ من توفر هذا العنصر الأساس للحياة بجانبها دائماً ، وجاء في احدى الروايات : «إنّ أنهار الجنّة ليست في اخاديد إنّما تجري على سطح الجنّة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها» (١)! والأعجب من هذا أنّه ليس فقط الأشجار تجري من تحتها الأنهار بل ـ وكما جاء في بعض الآيات ـ إنّ (الغرف) بنيت على الأنهار أيضاً فالأنهار تجري من تحتها كما ورد في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجَنَّةِ غُرَفاً تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ). (٢) (العنكبوت / ٥٨)

* * *

٢ ـ ظلال الجنّة

لقد أشارت آيات عديدة إلى ظلال الجنّة ومن جملتها : (وَاصحَابُ الَيمِينِ مَااصحَابُ الَيمِينِ* فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ* وَظِلٍّ مَّمدُودٍ* وَمآءٍ مَّسكُوبٍ). (الواقعة / ٢٧ ـ ٣١)

من المعلوم أنّ ظلال الأغصان هي أجمل وأروع من أي ظلال ، فظلال الأشجار ليست كمثل ظلال الخيام والغرف المظلمة الفاقدة للتهوية ، حيث تعمل الرطوبة الملائمة للأوراق على تلطيف الظل ويضيف لها عطر الأشجار وتفتح الأزهار جمالاً آخر إلى جمالها ، وظلال الجنّة ظلال دائمة لذا فلا تختل سكينة الإنسان وراحة باله أبداً : (اكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا). (الرعد / ٣٥)

وعبر عنه أحياناً ب (ظل ظليل) ، قال تعالى : (وَنُدخِلُهُم ظِلّاً ظَلِيلاً) (٣). (النساء / ٥٧)

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٢٤٠.

(٢). ورد نفس هذا المضمون في الآية ٢٠ الزمر أيضاً.

(٣). «الظل الظليل» كناية عن الظل الكامل والدائم والعالي ، ولقد أشارت آيات عديدة إلى مسألة الظل في سورة الرعد ، ٣٥ ؛ يس ، ٥٦ ؛ المرسلات ، ٤١.

١٦٢

اتّضح من خلال ما مرّ : أنّ أجواء الجنّة لا مثيل لها ولا نظير فهي في منتهى اللطافة والجمال والاعتدال ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : (لايَروْنَ فِيهَا شَمساً وَلَا زَمهَرِيراً). (١) (٢) (الإنسان / ١٣)

أي أنّهم لا يرون شمساً يتأذون بحرها ولا زمهريراً يتأذون ببرده.

* * *

٣ ـ قصور أهل الجنّة

لقد أشارت آيات عديدة من القرآن إلى مساكن أهل الجنّة وبتعابير مختلفة ، قال تعالى : (ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ). (التوبة / ٧٢)

ولقد ورد نفس هذا التعبير في سورة الصف الآية ١٢.

«طيبة» : لها معنى واسع جدّاً يشمل جميع المزايا ، ومعناها في الأصل : الشيء الذي ترتضيه النفس الإنسانية ويبعث عند الإنسان (طيب النفس) ، أو أنّ السكن فيها مطهر وصالح في كل الأحوال ، وهذه الكلمة جمعت كل خواص السكن الجيد ، وقد عبرت سورة الفرقان عن المساكن بتعبير (غرفة) وتعني : البناء فوق البناء.

قال تعالى : (أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرفَةَ بِمَا صَبَرُوا). (الفرقان / ٧٥)

«غرفة» : من مادة (غَرف) على وزن (فعل) : وتأتي بمعنى رفع شي وتناوله ، ويقال (غرفة) للشيء الذي يرفع ويتناول ، ثم اطلق ذلك على القسم العلوي للبناء (الغرفة كما قيل : البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت وهي كناية عن الدرجة العالية في الجنّة).

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الغرف تتمتع بعدة خصائص فأجواؤها ألطف وأجمل الأجواء ومناظرها أحسن المناظر ، ومحلها يؤمن أفضل سكن لساكنيها ، وماتعبير «غرفة» إلّا إشارة إلى هذه الخيرات ، ولذا نقرأ في قوله تعالى : (وَهُم فِى الغُرُفاتِ آمِنُونَ). (سبأ / ٣٧)

__________________

(١). «زمهرير» مشتقة من مادة «زمهر» بمعنى شدة البرد أو شدة الغضب والمراد هنا المعنى الأول.

(٢). ورد نفس المعنى في سورة الواقعة ، ٣٠ ؛ ويس ، ٥٦ ؛ والمرسلات ، ٤١.

١٦٣

وهناك تعبير آخر في هذا المجال قال تعالى : (لَهُم غُرَفٌ مِّن فَوقِهَا غُرَفٌ مَّبنِيَّةٌ تَجرِى مِن تَحتِهَاالْأَنْهَارُ). (الزمر / ٢٠)

وعندما أشار إلى محل إقامة أهل الجنّة قال تعالى : (انَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ امِينٍ* فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). (الدخان / ٥١ ـ ٥٢)

ومن هنا يجب الإشارة إلى هاتين النكتتين :

١ ـ لقد أشارت بعض الآيات الكريمة (مثل الآية ١٢ من سورة الصف) من بين جميع النعم في الجنّة إلى (المساكن الطيبة) ويعود في ذلك إلى أنّ (السكن) يعتبر أحد أهم عوامل راحة الإنسان وسكينته ، وهذا المسكن هو مسكن طاهر ومطهر من جميع القذارات الظاهرية والباطنية فهو يُؤمن كل أسباب الأمن والأمان والاستقرار وراحة البال للإنسان ، وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ (السكن) أخذ من مادة (سكون) وتعني الهدوء.

٢ ـ لقد ذكر القرآن الكريم عدة امور واعتبرها من موجبات السكينة والاطمئنان وهي :

١ ـ البيوت السكنية المناسبة سواء في الدنيا أو في الآخرة : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً) (النحل / ٨٠)

٢ ـ الازواج الصالحة : (وَمِن آيَاتِهِ ان خَلَقَ لَكُم مِّن انفُسِكُم أَزوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيهَا). (الروم / ٢١)

٣ ـ الليل من موجبات السكينة والهدوء : (وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً). (الانعام / ٩٦)

٤ ـ دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للذين يؤتون الزكاة : (انَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُم). (١) (التوبة / ١٠٣)

٥ ـ السكينة الناتجة عن الإيمان : (هُوَ الَّذِى انزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ المُؤمِنِينَ) (الفتح / ٤)

ولا شك أنّ لبعض هذه الامور بعداً مادياً ، وللآخر بعداً معنوياً.

* * *

__________________

(١). ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٥٩٤.

١٦٤

٤ ـ الفرش والأرائك

من النعم الإلهيّة الاخرى في الجنّة الفرش والأرائك المختلفة وهي في منتهى الروعة والجمال والجذابية.

قال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ اسْتَبْرَقٍ). (الرحمن / ٥٤)

ومن الطريف أنّ بطانة هذه الفرش من أفخر الأقمشة في الدنيا أمّا ظاهرها فهو من اللطافة والجمال والقيمة بحيث يعجز عنها الوصف ، وعلى قول بعض المفسرين هي من الامور التي يقول القرآن بصددها : (فَلَا تَعلَمُ نَفسٌ مَّا اخفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ اعيُنٍ). (السجدة / ١٧)

ولقد ورد حديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ظواهرها نور يتلألأ» (١).

وفي سورة الغاشية نجد تعبيراً آخر ضمن توصيف النعم المختلفة في الجنّة : (وَزَرَابِىُّ مَبثُوثَةٌ). (الغاشية / ١٦)

«زرابيّ» : جمع (زَرْبيّة) على وزن (شَرْقية) وهي على قول بعض أرباب اللغة مشتقة في الأصل من الكلمة الفارسية «زربفت» وهو القماش الذي يستعمل في نسيجه الذهب بدلاً من القطن والصوف ، وتأتي أحياناً بمعنى القماش الغالي الثمن (٢) (البسط الفاخرة) ، وقال بعض أرباب اللغة والمفسرين أنّ (زِربي) جمع ازربي بكسر الزاء و (زربية) في الأصل بمعنى أنواع النباتات التي اختلطت فيها الألوان الصفراء والحمراء الخضراء ، ولهذا السبب يطلق على الفرش التي تحمل ألواناً زاهية متنوعة ، (٣) وقد وصفت هذه الفرش بـ (مبثوثة) ، وهي (المبسوطة المنشورة أو المفرقة في المجالس).

ونجد في نفس هذه السورة في الآية السابقة عبارةاخرى تصف الوسائد وتقول : «وَنَمارِقُ مصفُوفةٌ».

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٤٩.

(٢). التحقيق في كلمات القرآن الكريم مادة (زرب).

(٣). تفسير المراغي ، ج ٣٠ ، ص ١٣٣ قاموس اللغة مادة (زرب).

١٦٥

«نمارق» : جمع (نُمرقة) على وزن (غُلْغُلة) ويقول صاحب (صحاح اللغة) هي وسائد صغيرة يُتكأ عليها (وقد توضع أثناء الاستراحة والجلوس على الرجلين ويُتكأ عليها).

وفي سورة الرحمن نجد تعبيراً آخر فيما يتعلق بالفُرش في الجنّة قال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ). (الرحمن / ٧٦)

«رفرف» : على قول الراغب في المفردات الأوراق والمناشف ، ثم اطلق على الأقمشة الزاهية الألوان ، وقال بعض أرباب اللغة أنّ الرفرف : بمعنى أطراف الخيمة التي تهتز بحركة الريح ، ورفرفة : بسط جناحي الطائر (١) (تحريك الطائر جناحيه).

وقيل : ثياب خضر تبسط على السرير ، ويوجد هذا الاحتمال أيضاً وهو البساتين التي ترف من نضارتها ، لأنّ رفرف تعني كسر الخباء ونحوه حيث تتحرك حين هبوب الريح ، ويقول أبو الفتوح الرازي في تفسير (الرفرف) : المروج الخضراء.

أمّا «عبقرىّ» : فهو مشتق من «عَبْقر» (على وزن جعفر) ويقول (صحاح اللغة) و (المفردات) : موضع كانت العرب تزعم أنّه كثير الجن ثم اطلق على كل ما يتعجب من كماله وقوته وحذقه ، ويطلق على كل شخص عالم ماهر عبقري ، وجمعه عباقرة (٢).

على أيّة حال ، فإنّه يطلق على الأشخاص الذين ليس فوقهم شيء وعلى الأشياء الفاخرة النفيسة ، وفي الآية هو وصف للاقمشة الفاخرة وقيل هو الديباج ، وقيل البسط.

وقيل : (عبقر) اسم مدينة مشهورة بحياكة أحسن أنواع الأقمشة (٣).

أمّا فيما يتعلق بالسُرُر التي يجلس عليها أصحاب الجنّة وقد عبّر بـ (السرر) جمع (سرير) كما في قوله تعالى : (عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ* مُّتَّكِئِينَ عَلَيهَا مُتَقابِلِينَ). (الواقعة / ١٥ ـ ١٦)

ولقد تكرر هذا التعبير في خمسة مواضع من القرآن الكريم ، فقد وصف هذه السرر في

__________________

(١). مقاييس اللغة.

(٢). اعترض بعض أرباب اللغة وبعض المفسرين على هذا الجمع وذلك لأنّه منسوب إلى شيء لا يجمع إلّافي حالة مجي الكلمة على صيغة الجمع كأن يقال (عباقر) ثم تنسب (عباقرى) ومن المعلوم أنّ الجمع بين النسبة وصيغة الجمع غير وارد عند الادباء.

(٣). تفسير روح الجنان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٦٦

الآية السالفة بـ (موضونة) وهي مشتقة من مادة (وَضْن) على وزن (وَزْن) وفي الأصل بمعنى (النسج) واطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجه.

ومن هنا يمكن أن يكون هذا المعنى إشارة إلى أنّ الأسرّة منسوجة بنسج خاص من اللؤلؤ والياقوت والجواهر أو منسوجة من خيوط الذهب والفضة (أو منسوجة بقضبان الذهب مشبكة الدرر والجواهر) أو لأنّها مرتبة بترتيب خاص ، على اختلاف آراء المفسرين ، وقد وصفت في آيات اخرى بـ (مصفوفة) مثل : (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصفُوفَةٍ). (الطور / ٢٠)

وقال في آيات اخرى «مرفوعة» : (فِيهَا سُرُرٌ مَّرفُوعَةٌ). (الغاشية / ١٣)

فلقد أشارت الآية الاولى إلى ترتيبها وتقاربها ، والثانية إلى علوها وارتفاعها.

ويشير ارتفاع سُرُر أهل الجنّة إلى علو مكانتهم وطهارتهم وقربهم أو أنّهم يشرفون من فوقها على مناظر الجنّة المحيطة بهم من كل جانب.

على أيّة حال ، فإنّ هذه السرر تكون بهيئة مجاميع حتى يبلغ أصحابها أنسهم وحسن عشرتهم وصفاء باطنهم ، كما جاء ذلك في موضعين من القرآن حيث ورد تعبير : (على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). (الحجر / ٤٧) (الصافات / ٤٤)

أي (يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض ولا يرى بعضهم قفا بعض).

والجدير بالذكر هو أنّ (سُرُراً) جمع (سرير) من مادة (سُرور) وكأن الجلوس على الأسرة عموماً وعلى أسرة الجنّة خصوصاً من عوامل النشاط والارتياح والسرور ، إضافة إلى أنّها متعلقة بمجالس الانس والسرور.

وفي مواضع اخرى عبر القرآن الكريم بتعبير آخر وهو (الأرائك) ، وورد هذا التعبير خمس مرات في القرآن فقال في موضع : (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَآئِكِ). (الكهف / ٣١)

ولقد ورد نفس هذا التعبير بشي من الاختلاف في الآية : (فِى ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ). (يس / ٥٦)

وورد نفس هذا التعبير أيضاً في سورة الإنسان ، وقال تعالى في آيتين من سورة

١٦٧

المطففين : (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ). (الانسان / ١٣) (المطففين / ٢٣ ـ ٣٥)

«أرائك» : جمع أريكة ، وعلى قول الكثير من المفسرين (مثل صاحب مجمع البيان ، والقرطبي ، والفخر الرازي ، وصاحب روح المعاني) بمعنى الحجلة إذا كان فيها سرير ، وفسّرها البعض بالسرير الذي فيه مظلة ، فالأريكة السرير وهي (البيت المزين للعروس).

ويقول الراغب في المفردات : مأخوذة من (اراك) وهي اسم شجرة معروفة.

ويقول أبو الفتوح الرازي في ذيل الآية ١٣ من سورة الإنسان : إنّ «السرير» و «الأريكة» معنيان مختلفان أحدهما فيه مظلة والآخر بدونها.

وتدل تعابير القرآن على هذا المعنى ، لأنّ الكلام عن السرر طرح في موارد مجالس انس أهل الجنّة حيث يتقابلون ويتسامرون ، في حين أنّ الأرائك تختص بجلساتهم الخاصة أي عندما يختلون مع ازواجهم كما ورد في قوله تعالى : (هُم وَازوَاجُهُم في ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ). (يس / ٥٦)

ومن هنا يمكن أن نستنتج : أنّه عندما يقول القرآن : (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَونَ فِيهَا شَمساً وَلَا زَمْهَرِيْراً). (الإنسان / ١٣)

ومن الممكن أن تكون الآية قد أشارت إلى هذا المعنى ، وهو أنّ الشمس تشرق عليهم عندما يجلسون على هذه الأَسِرّة الخاصة ، ولو أنّ هناك تفسيراً آخر قد اشير إليه في حينه.

ومن الطريف أنّه وردت في القرآن خمس آيات حول الأَسِرّة وخمس آيات حول الأرائك ، ولقد وردت إشارات متساوية عن الحياة العامة والخاصة لأهل الجنّة.

وهناك كلام طويل حول أوصاف هذه الأَسِرّة والأرائك ورد في الأخبار والروايات اعرضنا عن ذكره لأجل الاختصار.

* * *

٥ ـ الأغذية والأواني

إنّ الأغذية المادية لأهل الجنّة ـ كما يستفاد من القرآن الكريم ـ متنوعة للغاية ، ويستفاد

١٦٨

من مجموع آيات القرآن الكريم أنّ الغذاء الرئيسي لأهل الجنّة هو من جنس الفواكه ، وورد هذا المعنى تحت عناوين مختلفة مثل «فاكهة» «وفواكه» «وثمره» و «ثمرات» و «أُكُل» في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد ورد في قوله تعالى : (فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ). (الرحمن / ٥٢)

و «فاكهة» : حسب قول صاحب كتاب مقاييس اللغة مشتقة في الأصل من «فكه» ، والتي تعني طيب الخاطر ، وعلى هذا الأساس سميت الفاكهة ، فاكهة ، حيث إنّ أكلها يطيب الخاطر.

و «المفاكهة» : تعني الممازحة بالكلام اللطيف.

و «الفاكه» : يطلق على الشخص المزّاح ذي المعشر الطيب.

ويعتقد الكثير من المفسرين أنّ الفاكهة تشمل جميع أقسام الفواكه ، ويؤكد الراغب في مفرداته هذا المعنى ، في حين أنّ البعض يقول : (الفاكهة) تشمل جميع الفواكه ماعدا العنب والرمان (أو ماعدا الرطب والرمان) ، وذلك لأنّ سورة الرحمن ، الآية ٦٨ عطفت هذين الجنسين على الفواكه ، من هنا فانّهم يعتقدون أنّها لن تدخل في مفهوم الفاكهة ، في حين أنّ هذه الآية لا تدلّ على هذا المعنى وإنّما نجد في كثير من المواطن يذكر الخاص بعد العام لأهميّة الخاص.

وفي اعتقاد جمع من المفسرين أنّ تعبير «زوجان» إشارة إلى أنّ لكل ثمرة نوعان وضربان متشاكلان : نوع في هذه الدنيا ، ونوع من شكله غريب لم يعرفوه في الدنيا ، وقيل : إنّ هذا التعبير هو إشارة إلى تنوع فواكه الجنّة كل نوع أكثر لذة من الآخر ، ولقد بيّن القرآن الكريم تنوع اغذية أهل الجنّة بهذا الشكل : (وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ). (الواقعة / ٢٠)

وقال في موضع آخر : (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ). (المرسلات / ٤٢)

ولقد أكدت بعض الآيات على فواكه خاصة باعتبارها فاكهة الجنّة : (فِيهِما فَاكِهَةٌ وَنَخلٌ وَرُمَّانٌ). (الرحمن / ٦٨)

وقال الفخر الرازي في تفسيره : «إنّه تعالى ذكر نوعين من الفواكه الشجرية وهما الرمان والرطب لأنّهما متقابلان فأحدهما حلو والآخر غير حلو وكذلك أحدهما حار والآخر بارد

١٦٩

وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة ، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة ، وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لايؤكل كامن والآخر بالعكس فهما في الضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى مابينهما» (١).

وقال تعالى في موضع آخر : (حَدَائِقَ وَاعْناباً). (النبأ / ٣٢)

وجاء في آية اخرى : (فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ). (الواقعة / ٢٨ ـ ٢٩)

لقد فسّر أغلب المفسرين (الطلح) بمعنى شجرة الموز التي لها أوراق عريضة خضراء جميلة ، وثمرتها حلوة ولذيذة الطعم.

و «منضود» : من مادة (نضد) ، وتعني «المتراكم» ، أي إذا جعل بعضه على بعض ، وهذه إشارة إلى عذق الموز وشجرة الموز ذات الأوراق العريضة الخضراء الجميلة وثمرتها حلوة المذاق.

وقيل : المنضود (المراد الورق لأنّ شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقاً بعد ورق) (٢).

ويجمعهما (السدر ، والطلح) نوعان : أوراق صغيرة ، وأوراق كبيرة ، والسدر في غاية الصغر والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر فقوله تعالى : (في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ* وطَلْحٍ مَّنْضُودٍ) إشارة جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها (٣).

وإضافة إلى ذكر الفاكهة أشار القرآن الكريم إشارة عابرة مختصرة إلى «الطلح» بشكل عام وإلى «لحم الطير» بشكل خاص ، فقال في أحد المواضع بعد ذكر مجموعة مهمّة من النعم الموجودة في الجنّة : (وَامْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحمٍ مِّمَّا يَشتَهُونَ) (٤). (الطور / ٢٢)

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٣٤.

(٢). المصدر السابق ، ج ٢٩ ، ص ١٦٢.

(٣). المصدر السابق.

(٤). «أمددناهم» من مادة «إمداد» وهو العطاء المتتابع أو المستمر ، وقال بعض أرباب اللغة مثل صاحب القاموس : إنّ الامداد بمعنى تأخير الأجل وإدامة الحياة ، وهو لا يختلف كثيراً عن المعنى الأول.

١٧٠

جملة : (مِّمَّا يَشتَهُونَ) لها معنى واسع جدّاً حيث تشمل كل أنواع الأغذية بكافة أقسامها وأشكالها وكيفياتها.

وقال في موضع آخر بعد ذكر أنواع النعم وأنواع الفواكه في الجنّة : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشتَهُونَ). (الواقِعَة / ٢١)

ولعل السبب في تقديم الفواكه في كلا الآيتين : هو أنّ الفواكه تعد الغذاء الأفضل والأحسن والألذ ، ويعتقد البعض أنّ الغذاء الطبيعي للإنسان هو الفواكه ، ويرونه موجوداً «آكلاً للفواكه» ولهذا السبب لا يستطيع الإنسان الانتفاع من اللحوم أبداً على وضعها الطبيعي ، بل لابدّ من إجراء تغييرات عليها ، ومزجها مع أشياء اخرى حتى يمكن الاستفادة منها.

في حين أنّ الفواكه مألوفة لديه على شكلها الطبيعي ومن دون إجراء أي تغييرات عليها. فضلاً عن أنّ أكل الفاكهة قبل اللحوم فيه لطف خاص.

* * *

٦ ـ الشراب الطهور

إنّ الأشربة في الجنّة كالفواكه وسائر الأغذية متنوعة ومنعشة للغاية ، ولقد عبّر القرآن الكريم عنها بتعابير مختلفة ، والغريب أنّ الكثير من هذه الأشربة تكون على شكل أنهار ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى أربعة أقسام منها.

قال تعالى : (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا انْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِءَاسِنٍ وَانهَارٌ مِّنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ وَانهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وانهَارٌ مِّن عَسَلٍ مُّصَفّىً). (محمد / ١٥)

هذه الأشربة الأربعة والتي تجري في أنهار الجنّة الأربعة (لا يجري كل واحد منها في نهر خاص بل في كل الأنهار) تبين مجموعة من أنواع الأشربة المختلفة ، فالماء لرفع العطش ، واللبن للتغذية ، والعسل للذة والقوة ، والخمر للذّة والنشاط وهو شراب طهور.

إنّ هذه الأشربة مخلوقة بشكل لا يعتريها الفساد وإن طال الزمن ولا يتغير طعمها أبداً ،

١٧١

وتحتفظ دائماً بحداثتها ، فالجنّة محيط منزه من كل كدر ، فلا وجود فيها حتى لميكروب واحد يفسد أطعمة أهلها وأشربتهم.

والجدير بالذكر أنّ ماء هذه الدنيا يتغير لونه وطعمه بمرور الزمان ، أمّا مياه أنهار الجنّة فهي تبقى على حالها ووضعها الأول صافية ، زلال مطهرة ، وكذلك الحال بالنسبة للبن ، ففي الدنيا يفسد سريعاً بعد برهة من الزمن فيتبدل طعمه إلى طعم حامض وهذه مقدمة لفساده وتلفه ، أمّا لبن الآخرة فهو لبن سائغ شرابه لذيذ لا يتغير طعمه ولا يعتريه عارض كالذي يصيب الألبان في الدنيا.

الخمر والشراب ، شراب غير مستساغ ولا لذّة فيه ويوصف بمرارة المذاق ورداءة الطعم فهو مذهب للعقل ، ومفسد للروح.

أمّا خمر أهل الجنّة فهو شراب لذيذ منعش يبعث في النفس النشاط والحيوية الرحمانية لا الشيطانية.

وعسل الدنيا تشوبه في الغالب الكثير من الكدورات والشوائب ، أمّا عسل الآخرة فهو عسل مصفى خالص بمعنى الكلمة ، ومن الجدير بالذكر : أنّ القرآن الكريم اعتبر العسل جزءً من المشروبات وحتى في سورة النحل والتي تتحدث عن (النحل) ذكره كشراب : (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ الوَانُهُ). (النحل / ٦٩)

ولعل السبب في ذلك هو أنّ العسل إذا شرب كمشروب (شربت العسل) فيكون أكثر لذّة ومنفعة وحيوية.

ولقد أشارت آيات سورة الدهر والتي تعرضت لأنواع النعم التي وعدها الله سبحانه للأبرار من عباده إلى مجموعة اخرى من الاشربة قال تعالى : (انَّ الأَبرَارَ يَشرَبُونَ مِن كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشرَبُ بِهَا عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً). (الدهر / ٥ ـ ٦)

وقال تعالى في نفس السورة : (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً* عَيناً فِيهَا تُسَمَّى سَلسَبِيلاً). (الدهر / ١٧ ـ ١٨)

وقال تعالى في السورة ذاتها : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً). (الدهر / ٢١)

١٧٢

فهذه الآيات أشارت إلى عدد من الأشربة «الطهور» في الجنّة :

الأول : الكافور ، وهو شراب خاص مهدىء ، حيث إنّ الكافور في اللغة له عدة معان :

منها الرائحة الطيبة ، ومنها مادة بيضاء اللون يضرب المثل في برودتها وبياضها ولها رائحة قوية خاصة مهدئة ، وهي تقابل الزنجبيل الحار وهو عبارة عن جذور بنية لها طعم ونكهة طيبة تضاف أحياناً إلى الأطعمة والأشربة.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ العرب يستخدمون نوعين من الشراب ولحالتين مختلفتين ، تارة : منشط ومقوي ، والاخرى : مضعف ومهدئ ، الأول يمزجونه مع الزنجبيل ، والثاني : مع الكافور.

ومن المعلوم أنّ حقائق العالم الآخر لا تستوعبها عقولنا ، لذا فلا حيلة لبيان هذه الحقائق إلّا أن نستخدم هذه الألفاظ بمفاهيم أوسع وأعلى.

وقال جمع من المفسرين أيضاً : إنّ الكافور : اسم عين ماء في الجنّة تشبه الكافور في صفارها وبياضها ورائحتها الطيبة وبرودتهاولكن ليس بطعمها ، (ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الكافور المألوف هو نوع من الصمغ يستخرج من شجرة في جنوب الصين أو بلاد الهند وله استخدامات طبية).

إنّ التفسير الذي أشرنا إليه هو الأنسب وذلك لا نّ شراب الكافور يقابل شراب (الزنجبيل).

والجدير بالذكر أنّ القرآن يقول : إنّ هذا الشراب الزنجبيلي ينبع من عين في الجنّة اسمها (سلسبيل) ويعتقد الكثير أنّ هذه الكلمة مشتقة من (سَلاسَة) بمعنى الجُريان ، ويرى البعض أنّها مشتقة من (تسلسل) بمعنى الحركة المتتابعة والمستمرة وهي إشارة إلى أنّها سلسلة تتسلسل في الحلق.

وقيل : إنّ هذه الكلمة مركبة من كلمتين «سال» و «سبيل» بمعنى طلب الطريق وهذه إشارة إلى غاية سلاسته وعذوبته.

على أيّة حال ، يستفاد من مجموع التعابير أنّ عين السلسبيل فيها شراب في غاية اللذة والسلاسة.

١٧٣

الشراب (الثالث) الذي أشارت إليه الآية الكريمة هو «الشراب الطهور» وساقيه هو الله تبارك وتعالى ، وهو يبعث على تطهير الجسم والروح من كافة الأدران والكدورات (وهذا شراب خاص للأبرار والمحسنين كالنوعين السابقين) بعكس خمر الدنيا الذي هو نجس وينجس الروح والبدن.

ويعتقد بعض المفسرين أنّ هذا الشراب يسقى بعد تناول الأغذية (فاذا أكل [الإنسان] ماشاء سقي شراباً طهوراً فيطهر بطنه ويصير ماأكل رشحاً يخرج من جلده أطيب ريحاً من المسك) ، لقد ذكر الفخر الرازي هذا التفسير كرواية.

وقال صاحب تفسير الميزان : «(وسقاهم ..) أي بالغاً في التطهير لا يدع قذارة إلّاأزالها ومن القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه وتعالى والاحتجاب عن التوجُّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم» (١).

وورد في تفسير «منهج الصادقين» نقلا عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا شرب المؤمن الشراب الطهور نسي ما سوى الله وانقطع إليه بالكامل» (٢).

وذكرت سورة المطففين ضمن عرضها للنعم الإلهيّة التي وعدها الله سبحانه وتعالى للأبرار : (يُسقَونَ مِن رَّحِيقٍ مَّختُومٍ) ثم قال : (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) وفي الختام قال : (وَمِزَاجُهُ مِن تَسنِيمٍ* عَيناً يَشرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ). (المطففين / ٢٥ ـ ٢٨)

كلمة (رحيق) على قول أغلب المفسرين هو الشراب الخالص من الغش والقذى (أي خمر صافية خالصة من كل غش).

«مختوم» : ممنوع من أن تمسّه يد حتى يفك ختمه للأبرار ، وهذا تأكيد آخر على خلوصه وصفائه.

«ختامه مسك» : إشارة إلى الذي خُتم إناؤه بالمسك ، ويستخدم الختم عادة للتأكد والاطمئنان من عدم لمسه أو فتحه حيث يوضع الشي في إناء معين ويغلق غلقاً محكماً من

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

(٢). منهج الصادقين ، ج ١٠ ، ص ١١٠. (طبقاً لنقل التفسير الاثني عشري ، ذيل الآية مورد البحث).

١٧٤

جميع الجوانب ثم يختم ويوضع على (الختم) مقدار من الطين أو العجين أو الشمع الأحمر أو النحاس أو أيّة مادة اخرى تفي بالغرض ، وبهذا (لا يمكن فتح أو كسر هذا الإناء) فلا سبيل إلى مافي الإناء إلّابكسر ذلك الختم ، وكان العرب ينظرون إلى ختم الإناء قبل كل شي ليعرفوا أنّه لم تصل إليه يد. ويسمونه (المختوم).

وهناك تفاسير عديدة في هذا المجال لا نراها تتناسب وظاهر الآية.

«تسنيم» : من مادة (سَنَم) على وزن (صَنَم) وفي الأصل على رأي صاحب (مقاييس اللغة) بمعنى (العلو والارتفاع) ومنه (سنام البعير) ، واطلق على ألسنة النّار ، والغيوم المرتفعة والدخان وسنابل النباتات أيضاً.

لذا «عين التسنيم» عين في الجنّة تكون سبباً في الارتفاع والعلو ، يقال : سنمه أي رفعه ومنه سنام الابل ، ولذلك إذا شربها المقربون يتقربون من المقام الإلهي والفناء في نور الحق أكثر فأكثر.

وقيل : «تسنيم» : عين تقع في الطبقات العليا في الجنّة يَنصبُّ شرابها عليهم من عُلوٍّ انصباباً .. وقيل هو نهر يجري في الهواء فيصب في أواني أهل الجنّة وهو خالص للمقربين ويمزج بمقدار من الرحيق المختوم للأبرار وهو نوع آخر من شراب الجنّة.

ويظهر من خلال الجمع بين هذه المعاني : أنّ هذه العين لها مكانة عالية رفيعة من ناحية المكان وكذلك من حيث التأثير المعنوي فهي توصل الروح وتجذبها إلى مقام القرب الإلهي.

* * *

٧ ـ أفضل شراب أهل الجنّة

لقد ذكرت الآيات السالفة الذكر سبعة أنواع من الأشربة ، ونستنتج من مجموع هذه الآيات أنّ مشروبات الجنّة على أنواع وأقسام مختلفة ، فمنها يجري في الأنهار (أنهار من لبن وعسل وماء وخمر) ، ومنها : مختومة ، ومنها ينبع من عيون من سماء الجنّة أو طبقاتها

١٧٥

العليا ، ومن الواضح أنّ أشرف شراب أهل الجنّة هو الشراب الذي يسمى «تسنيم» وهو خاص بالمقربين.

وورد في تفسير علي بن إبراهيم : «إنّ أشرف شراب أهل الجنّة يأتيهم من أعالي تسنيم وهي عين يشرب بها المقربون ، والمقربون آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمقربون يشربون من تسنيم بحتاً صرفاً وسائر المؤمنين ممزوجاً!» (١).

ويأتي (الشراب الطهور) في الدرجة الثانية ، ولقد أشارت إليه سورة الإنسان ، الآية ٢١ ، بقرينة ، أنّه الشراب الوحيد في القرآن الكريم الذي يكون ساقيه هو الله تعالى.

ومن المعلوم أنّ جميع هذه الأوصاف التي نسمعها ونقرأُها ماهي إلّاصورة غير واضحة تتجسم في أذهاننا عن ذلك العالم الكبير ، وإلّا فلا يمكن توصيف هذه النعم وهذا الشراب الطهور من قبل سجناء عالم المادة : (فَلا تَعْلَمُ نَفسٌ مَّا اخفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ اعيُنٍ). (السجدّة / ١٧)

والطريف أنّ القرآن الكريم عبر بتعابير مختلفة لرفع أي ابهام في مجال الاختلاف الواضح بين الأشربة الدنيوية المكدرة بأنواع الكدورات ، والشراب الطهور في الجنّة قال تعالى : (بَيضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ). (الصافات / ٤٦)

لا كمثل شراب الدنيا المر الطعم غير المستساغ الشرب حتى أنّ شاربيه يتجرعونه في بادئ الأمر بكراهة ، أمّا شراب الجنّة فهو شراب لذيذ منعش تعقبه نشوة معنوية وروحية غير قابلة للوصف.

ثم يضيف تعالى بقوله : (لَافِيهَا غَولٌ وَلَا هُم عَنهَا يُنزَفُونَ). (الصافات / ٤٧)

إنّ شراب الدنيا يفسد العقل ويسكر الأبدان بحيث يصبح الجسم من الضعف والوهن فلا يقدر على الحركة وحفظ التوازن .. أمّا أشربة الجنّة فتعمل على تأجيج شعلة العقل والذكاء ، وتشد من جاذبية العشق ، وتهّي الجسم والروح للتمتع باللذات المعنوية والمادية بشكل أفضل (٢).

__________________

(١). تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٤١٢.

(٢). «غَوْل» على وزن «قَوْل» في الأصل بمعنى غالَ : أهلكه وأخذه من حيث لا يدري ، وتطلق هذه الكلمة على الفساد الخفي الذي ينفذ في الشيء.

١٧٦

وقال تعالى في مكان آخر بعد الإشارة إلى بعض من أشربة الجنّة : (لَّايُصَدَّعُونَ عَنهَا وَلَا يُنزِفُونَ) (١). (الواقعة / ١٩)

«يُصَدَّعون» : من مادة (صداع) على وزن (رُباع) وهو الصداع المعروف (أي لا يأخذهم من شربها صداع) ، وأصله (صَدْع).

فعندما يتعرض الإنسان إلى صداع شديد فكأنّ رأسه يريد أن يتصدع من شدّة الألم ، فتستعمل هذه الكلمة للتعبير عن آلام الرأس الشديدة.

الخلاصة : أنّ خمر الدنيا رديء الطعم .. كريه الرائحة .. يجلب الصداع ويسبّب فقدان الوعي وضعف العقل .. ويسبب الكثير من الأمراض الجسمية والروحية ، وقد يعقبه حالة التهوع .. والتقي والآلام المعوية ، في حين أنّ خمر الآخرة شراب لذيذ منعش يزيد العقل ويعمل على تربية الجسم والروح وله نشوة روحية ومعنوية غير قابلة للوصف.

* * *

٨ ـ الأكواب والصحاف والكؤوس

ممّا لا شك فيه أنّ المطلوب الرئيس من الأغذية والأشربة هو نفسها لا الأواني ، ولكن بلا ريب أنّ لكيفية عرض الغذاء والأواني المستعملة فيها تأثير عميق في جذابية الأطعمة والأشربة وصفائها ومضاعفة اللذّة الناتجة منها ، لهذا السبب رسم القرآن الكريم وفي آيات عديدة صورة إجمالية عن هذه الأواني التي هي في منتهى الروعة والجمال في عبارات قصيرة عميقة المحتوى.

إنّ جميع هذه الألفاظ والمعاني لا تمثل إلّاصورة باهتة عن الوضع هناك ، وإلّا فكل شيء هناك فوق حد التصور.

قال تعالى : (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ). (الزخرف / ٧١)

__________________

(١). «ينزفون» من مادة «نَزْف» على وزن «حَذْف» بمعنى ذهاب الشي بصورة تدريجية ومنه نزف الدم .. وهذا ما يفعله الشراب الدنيوي في وجود الإنسان ، إذ يحطمه تدريجياً.

١٧٧

«صحاف» : جمع (صَحفة) على وزن (صفحة) وتعني : الأواني الكبيرة والواسعة (لأنّ هذه المادة في الأصل بمعنى الاتساع).

«اكواب» : جمع (كَوْب) وهو القدح الذي لا عروة له (وهناك معان اخرى ولكن المشهور هو هذا القول).

والجدير بالذكر أنّ وصف (من ذهب) ذكر بخصوص الصحاف ولكن عطفها على الأكواب يدلل على أنّها من ذهب أيضاً (١).

وقال تعالى في موضع آخر : (بِاكْوَابٍ وَّابَارِيقَ وَكَأْسٍ مّنْ مَّعِينٍ). (الواقعة / ١٨)

«أباريق» : جمع (ابريق) وحسب ماصرح به أرباب اللغة أنّها مشتقة من الكلمة الفارسية (آبريز) بمعنى القدح الذي له عروة وخرطوم لسكب السوائل.

يقول : «الجواليقي» في «المعرب من الكلام الأعجمي» إنّ هذه الكلمة تعني في الفارسية ، إمّا طريق العبور من الماء ، أو سكب الماء ، وقيل : إنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادة «برق» والتي هي كلمة عربية (٢) ، وبناءً على ذلك فإنّ ما جاء في تفسير مجمع البيان والقرطبي (في ذيل الآية) غيرصحيح.

«كأس» : القدح الممتلي بالشراب وقال بعض المفسرين : وعلى عادة العرب في شرابهم تكون لديهم أوان كبيرة فيها الخمر معدة ثم يغرفون منها بالأباريق ثم يصبونه في الأقداح ويلاحظ هذا الترتيب أيضاً في (الشراب الطهور).

حيث تكون في البداية في الأكواب ثم الأباريق وأخيراً الكأس (٣) ، وعُبِّر في الشعر القديم عن هذا الموضوع بتعبير (القدح) (الكأس).

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ جنس أواني الجنّة حسب مايستفاد من الآيات الكريمة ،

__________________

(١). في الحقيقة : كانت الجملة في الأصل (اكواب من ذهب) وحذفت عبارة (من ذهب) تجنباً للتكرار مثل قوله تعالى (الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

(٢). التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(٣). تفسير الكبير ، ذيل الآية مورد في البحث.

١٧٨

مختلف ، فبعضها من الذهب كما أشرنا إلى ذلك وبعضها من «الفضة» وبعضها من «البلور».

قال تعالى : (وَيُطَافُ عَلَيهِمْ بانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكوَابٍ كَانَتْ قَوارِيرَاْ). (الدهر / ١٥)

والعجب أنّه يقول بعدها مباشرة : (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً). (الدهر / ١٦)

«قوارير» : زجاجات لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهذه من خواص الجنّة ، وذلك لأنّ القوارير في الدنيا لا تصنع من الفضة وإنّما تصنع من الزجاج ، في حين أنّ الفضة احدى الفلزات ، ولكن ليس ببعيد أن يخلق الله نوعاً من الفضة الشفافة تصنع منها هذه القوارير كما ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ينفذ البصر في فضة الجنّة كما ينفذ في الزجاج» (١).

وهذا دليل على أنّ كل شي في الآخرة هو أعلى وأفضل وأكمل من هذا العالم.

وعلى أيّة حال وكما أشرنا سابقاً فإنّ أواني أهل الجنّة من اللطافة والرونق والجمال .. بما يضاعف لذة المأكول والمشروب لأهل الجنّة.

* * *

٩ ـ ألبسة الجنّة

اللباس له أهميّة كبيرة في الحياة الدنيا فهو أولاً : يحفظ الجسم ويقيه الحر والبرد والاضرار المختلفة ، وثانياً : يعتبر اللباس زينة مهمة للإنسان فكم نجد أنّ لطراز الألبسة ابتداء من جنس القماش وحتى نوع خياطته ولونه يحكي عن طرز تفكير المرء وشخصيته ، ونجد على طول التاريخ أنّ للملابس دوراً مهماً في زينة الإنسان وبهائه.

ممّا لا شك فيه أنّ اللباس في الجنّة لا يهدف إلى دفع البرد والحر أو حفظ الجسم من أنواع الآفات والأمراض والعوارض ، حيث إنّ كل شي هناك في حد الكمال فلا أمراض ولا آفات و.. من هنا تكون الملابس مظهراً من مظاهر الزينة ، ولعل لهذا السبب ركزت الآيات القرآنية على إبراز مظهر زينة اللباس وجاء ذلك ضمن تعابير مختلفة ، ولكنّها تحكي جمال

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١٠.

١٧٩

وبهاء وجذابية ملابس أهل الجنّة.

قال تعالى : (وَيَلبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ). (الكهف / ٣١)

وورد نفس هذا المعنى بشي من الاختلاف في قوله تعالى في آيتين الاولى : (يَلبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ) وفي الآية الثانية : (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضرٌ وَإِسْتَبرَقٌ) (١). (الدخان / ٥٣) (الدهر / ٢١)

ونقرأ في تعبير آخر : (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (الحج / ٢٣)

ولقد ورد نفس هذا التعبير في الآية ٢٣ من سورة فاطر ، وشبيهه في سورة الدهر ، الآية ١٢.

وكلمة «سندس» حسب اجماع أهل اللغة والمفسرين (ما رقَّ من الثياب) وهي ثياب حريرية فاخرة. وأصل هذه الكلمة غير عربي فلقد ورد في بعض كتب اللغة أنّ أصلها فارسي أو رومي (٢) ، ولو أننا لم نعثر على هذا المعنى في اللغة الفارسية.

وقال البعض : إنّ أصلها يوناني (٣).

وقال آخرون : السندس : قماش من الحرير يستعمل في نسجه خيوط من الذهب.

وأمّا (استبرق) على قول أرباب اللغة والمفسرين (ما غلظ من الملابس الحريرية ولا يراد به الغلظة في الخيوط إنّما يراد به المتانة في النسيج).

وقيل : إنّ (الاستبرق) فارسي معرب اصله «استبر» أو (ستبر) والذي يعني السميك ، وقيل هو الديباج المنسوج بالذهب ، وقيل السندس : الديباج الرقيق الفاخر الحسن ، والاستبرق : الديباج الغليظ الذي له بريق. وهذا يدل على أنّ ثياب أهل الجنّة من الحرير الخالص وبأشكال مختلفة.

__________________

(١). «عاليهم» من مادة «علوّ» أي من فوقهم. وقيل : في اعرابها احتمالان ، الأول : أنّها «ظرف» لأنّها تحمل معنى «فوق» ، والآخر : «حال» للضمير «هم» الذي جاء في الآيات السابقة.

(٢). التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(٣). معجم اللغة ل (دهخدا).

١٨٠