نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى : (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ). (الحاقة / ١٦)

كما ورد نفس هذا المعنى بشىء من الاختلاف في قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ). (الفرقان / ٢٥)

والمراد من السماء في هذه الآيات هي الأجرام السماوية حيث تشقق هذه الأجرام في نهاية العالم على أثر الانفجارات المتتابعة ، أمّا المقصود من تشقق السماء بالغمام فيحتمل أن يرافق انشقاق السماء حصول غمام كثيف بفعل الأتربة والغبار المتولد عنها ، والباء في قوله (.. بالغمام) كما يحتمل ذلك صاحب الميزان ، للملابسة أي تنفتح السماء متلبسة بالغمام (أي متغيمة) (١).

ولكن المرحوم العلّامة الطباطبائي لم يستبعد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي (فالباء في هذه الآية تكون بمعنى (عن) أي تذهب الغيوم جانباً ويظهر غيب العالم).

ولكن لما لم يكن هناك دليل على هذا التفسير الكنائي فيكون من الصعب قبوله.

ومن المناسب أن نذكر حديثاً للإمام علي عليه‌السلام في هذا الصدد حيث يقول : (إنّها تنشق من المجرّة) (٢).

إنّ هذا التعبيرالرائع ينطبق مع آخر الاكتشافات التي توصل إليها العلماء في مجال المجرّات ، حيث يقولون : إنّ المنظومة الشمسية والكواكب التي نشاهدها هي جزء من مجرّات عظيمة (درب التبانة) ويمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ويكون انشقاق الشمس والقمر والكواكب مصاحباً لانشقاق هذه المجرّات الكبيرة (تأمل ..).

وأحياناً يعبر القرآن بالانفطار : (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرِتْ). (الانفطار / ١)

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٢٠٢.

(٢). تفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ١٠٣.

٢١

ولقد ورد نظير هذا المعنى في قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ). (المزمل / ١٨)

وكما ذكرنا سابقاً فإنّ كلمة انفطار مشتقة من مادة (فطر) وهي بمعنى الانشقاق.

وأحياناً يقول تعالى : (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ). (التكوير / ١١)

فيمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ازالة الحجب المانعة عن رؤية ملكوت السموات والملائكة والجنّة والنّار في ذلك اليوم فتزال الحجب وتنكشف للإنسان حقائق عالم الوجود وفي هذه الحالة سوف لايكون للآية علاقة بتلاشي السموات.

ولقد فسّر بعض المفسرين أمثال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ، هذه الآية بقوله : «أُزيلت عن موضعها كالجلد عندما يزال عن الجزور ثم يطويها الله ، وقيل : معناها قُلعت كما يُقلع السقف» (١) ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ). (المرسلات / ٩)

إنّ كلمتي (فطر) و (فرج) تدلّان على نفس المعنى بشئ من الاختلاف ، فيطلق على حل عقدة المشاكل والمحن ، بالفرج وهو ما يقابل الشدّة والعسر.

وعبر أحياناً اخرى بـ (فتح) كما نقرأ : (وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ ابوَاباً). (النبأ / ١٩) ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى انشقاق السماء ، كما ذكر ذلك بعض المفسرين ، وفي هذه الحالة تكون هذه الآية منسجمة مع الآيات السالفة الذكر ، أي تحدث شقوق عديدة في السماء كأنّها أبواب ونوافذ عديدة.

ولكن بعض المفسرين حملوا ذلك على المعنى الكنائي وقالوا : إنّ المراد من فتح السماء هو انفتاح أبواب عالم الغيب وإزالة الحجب وارتباط عالم الملائكة بعالم الناس (٢).

وأحياناً اخرى يقول : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً). (الطور / ٩)

«مَوْر» : على وزن (دَوْر) وتأتي أحياناً بمعنى الحركة العنيفة وأحياناً اخرى بمعنى

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٤.

(٢). لقد اختار التفسير الأول ـ الطبرسي والفخر الرازي ومفسرون آخرون ، أمّا التفسير الثاني فقد اختاره صاحب الميزان.

٢٢

الحركة الدائرية واخرى بمعنى الذهاب والمجي المضطرب ، ويطلق على الغبار والأتربة التي تحملها الريح إلى كل جانب بـ (مَوْر).

على كل حال فإنّ هذا التعبير يعني اضطراب الأجرام السماوية واختلال نظمها وزوالها. وأحياناً اخرى يقول تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ). (المعارج / ٨)

ولقد فسّر المفسّرون كلمة (المَهْل) برديء الزيت أو الفضة إذا ذابت (١) ، والمعنى الأخير يناسب الآية أعلاه.

على أيّة حال إنّ حصول مثل هذه الحالة في الأجرام السماوية إنّما هو نتيجة لزوالها.

وفي النهاية عبر القرآن بتعبير آخر فقال : (يَومَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا اوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ). (الأنبياء / ١٠٤)

هذا التعبير يوضح ابعاد تغيير السموات والكواكب في نهاية هذا العالم ويدل أيضاً على أنّ جميع المنظومات والكواكب السيارة والثابتة تطوى كطي السجل للكتاب ويعاد الخلق كما خلقه أول مرّة ويضع الله سبحانه وتعالى نظاما جديداً لعالم الوجود وتقوم القيامة على هذا العالم الجديد.

فنستنتج من مجموع الآيات السالفة الذكر أنّ القيامة هي ليست استمراراً للحياة الدنيا بل إنّ هذا النظام يتغير تغيراً كاملاً وذلك لوقوع انفجارات عظيمة وزلازل مرعبة تدمّر كل شيء ثم يقوم نظام جديد بعد ذلك وتقوم القيامة فيه.

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٠٩.

٢٣
٢٤

الفصل الثالث : علامات بدء القيامة

عند قيام الساعة تقع حوادث عظيمة ، فكما أنّ الدنيا تنتهي بوقوع حوادث عظيمة ، كذلك تقترن بداية القيامة بحوادث عظيمة أيضاً ، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم.

١ ـ قال تعالى : في سورة إبراهيم : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). (إبراهيم / ٤٨)

هذا التبديل هو إشارة واضحة إلى المرحلة الثالثة وذلك لأنّه تعالى يقول في ذيل الآية (وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ).

وهذه النكتة جديرة بالاهتمام ، فليس المراد من تبديل الأرض بأرض اخرى هو تبديل لذات الأرض كما يتصور البعض بل إنّ المقصود هو تبدل صفاتها مثل ازالة الجبال أو استوائها وصيرورتها قاعاً صفصفاً كما يذكر القرآن الكريم أو زيادة مساحتها وغير ذلك من دون تبديل ذاتها.

ودليل هذا الكلام آيات عديدة عن نشور الأموات من قبورهم وبالخصوص منها : (مِنْهَا خَلَقنَاكُم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تارَةً اخَرَى). (طه / ٥٥)

على كل حال ذكر المفسرون آراء عديدة حول هذه الآية ولا يوجد لديهم أي دليل إلّا بعض الروايات المرسلة ، أو الاستناد إلى بعض أقوال الآخرين ، فاحياناً يقولون إنّ الأرض تبدل بالفضة والسماء بالذهب وأحياناً اخرى يقولون إنّ الأرض تبدل بالنار والسماء بالجنان أو كل قطعة من الأرض تبدل إمّا إلى فضة أو إلى نار حسب ما يناسب وضعها مع المؤمنين والكفّار.

وكل ما نستفيده من هذه الآية بشكل عام : إنّ هناك تغيرات عظيمة لم تتضح تفاصيلها لنا.

٢٥

٢ ـ قال تعالى في موضع آخر : (اذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَاخرَجَتِ الْأَرْضُ اثْقَالَهَا). (الزلزال / ١ ـ ٢)

وهنا يطرح هذا السؤال هل أنّ هذه الزلزلة هي نفس الزلزلة التي تعمّ جميع أنحاء الكرة الأرضية عند نهاية الكون وتؤدّي إلى تدمير العالم بأسره؟ أم أنّها هي التي تقع أثناء يوم القيامة؟ هناك اختلاف بين المفسرين بصدد هذه الآية ولقد نقل الفخر الرازي في تفسيره كلا التفسيرين (١) ولكن إذا تأملنا الآية الثانية من هذه السورة : (وَاخرَجَتِ الْأَرْضُ اثْقَالَهَا) لكان المعنى الثاني هو الأنسب مع سياق الآية ، وذلك لأنّ (الاثقال) جمع (ثَقَل) أي يخرج كل ما دفن في الأرض ، وهناك احتمال قوي أنّ المراد بالأثقال الموتى حيث يخرجون من قبورهم كما ورد في قوله تعالى : (وَالْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ). (الانشقاق / ٤)

وبهذا المعنى تحدث الزلزلة الثانية قبل إحياء الأموات وشروع القيامة ، وهذه الزلزلة تعمّ كل الكون على خلاف سائر الزلازل التي تتحدد بمنطقة صغيرة ، فإنّ تعبير : (اذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) يفيد الاطلاق وتعبير زلزالها يؤكد هذا المعنى.

ولقد ورد ما يشابه هذا التعبير بل وبصورة أوضح في قوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) (٢). (ق / ٤٤)

ويتضح من الآيات أعلاه أنّ انشقاق الأرض بأسرها وخروج الناس دفعة واحدة من قبورهم يكون متزامناً مع وقوع زلزلة عنيفة تشمل كل أرجاء العالم.

إنّ هذه الزلزلة تقع قبيل إحياء الأموات وليس في نهاية العالم خاصة ، وقد ورد في الآية تعبير (حشر) بدلاً من إحياء الأموات ، والحشر يعني (اجتماع الناس بعد إحيائهم أو جمع أجزاء الأبدان المتفرقة أو جمع الأرواح والأجساد).

إنّ هذه الزلزلة وعلى خلاف سائر أنواع الزلازل زلزلة بناء وإعمار ، فهي ليست مدمرة أو مميتة بل إنّها تاتي لإخراج الناس من قبورهم ليستأنفوا حياة جديدة.

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ٥٨.

(٢). «تُشقق» ، كانت في الأصل تتشقق فحذفت احدى التائين.

٢٦

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية : (يَومَ تَرجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ). (النازعات / ٦ ـ ٧)

ويرى الكثير من المفسرين أنّ الآية الاولى هي إشارة إلى نفخة الصور الاولى (وهي الصيحة العظمى التي تنهي العالم) أمّا الآية الثانية فهي إشارة إلى النفخة الثانية (صيحة الاحياء) وهي الصيحة التي تبدأ بها القيامة ، وهذا المعنى على خلاف ظاهر الآية وذلك لأنّ الراجفة مشتقة من رجف وهي على ما ذكره صاحب مقاييس اللغة ، تعني الاضطراب.

وقد ذكر الراغب في مفرداته (الرجفة) بمعنى الاضطراب الشديد ، ويقال للبحر الهائج (بحر رجاف) ، و (أراجيف) هي الأخبار التي تزلزل الأفكار العامة للمجتمع ، صحيح أنّ الصيحات العظيمة تقرن عادة مع الزلازل ولكن لا توجد هناك ضرورة لترك المعنى الحقيقي للزلزلة الاولى والثانية واختيار الكناية أو المعنى اللازم.

٣ ـ إِنّ تبدل سطح الكرة الأرضية من احدى علامات شروع القيامة فتصبح الأرض مسطحة ملساء تماماً ويبرز جميع الناس بوضوح على سطح الكرة الأرضية : (يَومَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأرضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ احَداً). (الكهف / ٤٧)

إنّ حركة الجبال هي مقدّمة لتدمير الأرض ، وعلى أثر هذا التدمير الذي ذكرته الآية التي نحن بصددها والآيات الاخرى أيضاً تصبح الأرض قاعاً صفصفاً : أي مسطحة ومستوية لا يعلوها شيء ويظهر جميع الناس عليها بشكل واضح.

ولو تأملنا في هذه الآيات : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسفاً* فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفصَفاً* لّا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً* يَومَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لَاعِوَجَ لَهُ). (طه / ١٠٥ ـ ١٠٨)

لاتّضح لنا أنّ هذه الآيات تعرض لنا مشاهد من حوادث نهاية العالم ومشاهد اخرى من حوادث قيام الساعة.

هذه خلاصة للبحوث المتعلقة بـ (أشراط الساعة) وإِمارات القيامة ولقد عرضناها في ثلاثة فصول وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية وكذلك عرضنا مشاهد من التغيرات العظيمة التي تقع في نهاية العالم وبداية القيامة.

٢٧
٢٨

٢ ـ النفخ في الصور

نفخة الموت ونفخة الحياة :

تمهيد :

لقد أشارت الكثير من الآيات القرآنية إلى النفخ في الصور ، ويستفاد ممّا ورد فيها أنّ هناك نفختين بالصور :

الاولى : وتقع في نهاية العالم وهي التي تسبب موت جميع الخلائق .. وتسمى بنفخة الموت.

أمّا النفخة الثانية : فتقع قبيل يوم القيامة وتعمل على إحياء جميع الأموات وتسمى نفخة الحياة.

وفي الحقيقة أنّ توقف هذا العالم وبدء حركة عالم آخر يشبه توقف وحركة القطعة العسكرية حيث يتوقف أفرادها عند سماعهم لصوت بوق خاص ويتحركون مرّة اخرى عند سماعهم لصوت بوق آخر.

وهنا يُطرح هذا السؤال : مامعنى الصور؟ وما المقصود بالنفخة ..؟

لقد خصصنا لهذا الموضوع بحثاً مفصلاً سنتطرق إليه فيما بعد ـ إن شاء الله ـ والجدير بالذكر أنّ القرآن ذكر ستة تعابير مختلفة حول هذا الموضوع.

فأحياناً عبر عنه بـ (نفخة الصور).

وأحياناً اخرى بـ (الصيحة).

وثالثة بـ (النقر في الناقور).

ورابعة بـ (الصاخة).

٢٩

وخامسة بـ (القارعة).

وسادسة (الزجرة).

وسوف نشرح هذه العناوين من خلال الآيات الآتية فلنتأمل فيها بخشوع :

١ ـ (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَواتِ وَمَن فِى الْأَرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ). (الزمر / ٦٨)

٢ ـ (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرضِ إِلّا مَن شَآءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ). (النمل / ٨٧)

٣ ـ (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ). (يس / ٥١)

٤ ـ (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ* وحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً). (الحاقة / ١٣ ـ ١٤)

٥ ـ (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُم يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ). (المؤمنون / ١٠١)

٦ ـ (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً). (الكهف / ٩٩)

٧ ـ (يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحشُرُ الُمجرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً). (طه / ١٠٢)

٨ ـ (يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأتُونَ أَفْوَاجاً). (النبأ / ١٨)

٩ ـ (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ). (الأنعام / ٧٣)

١٠ ـ (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ). (ق / ٢٠)

١١ ـ (ان كَانَتْ إِلّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَينَا مُحْضَرُونَ). (يس / ٥٣)

١٢ ـ (ما يَنْظُرُونَ إِلّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ). (يس / ٤٩)

١٣ ـ (وَمَا يَنْظُرُ هؤُلَآءِ إِلّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ). (ص / ١٥)

١٤ ـ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ). (ق / ٤٢)

١٥ ـ (فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ). (المدثر / ٨ ـ ٩)

١٦ ـ (فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ اخيِهِ). (عبس / ٣٣ ـ ٣٤)

١٧ ـ (الْقَارِعَةُ* مَاالْقَارِعَةُ* وَمآ ادْرَاكَ مَاالْقَارِعَةُ* يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ

٣٠

الْمَبْثُوثِ). (القارعة / ١ ـ ٤)

١٨ ـ (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ). (الصافات / ١٩)

جمع الآيات وتفسيرها

نفخة الموت ونفخة الحياة!

لقد عبّرت الثمان عشرة آية السالفة الذكر كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ عن نفخة الصور تحت ستة عناوين مختلفة ، وقد جمعنا هذه الآيات مع بعضها كي نسلط الأضواء على تفسيرها حتى يتّضح المفهوم الحقيقي لنفخة الصور من خلال المقارنة بينها.

لقد أشارت الآية الاولى إلى نفخة الصور الاولى وكذلك إلى نفخته الثانية وهذه هي الآية الوحيدة التي جمعت كلا النفختين (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمواتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) ويرى صاحب كتاب (مقاييس اللغة) أنّ مادة (صعق) على وزن (صُعْق) يعني الصوت الشديد ، ويرى أنّ الصاعقة مشتقة من نفس المعنى ، وهي سبب الموت والدمار ، وجاءت هذه المادة أيضاً بمعنى الموت .. وذكر صاحب كتاب لسان العرب أنّ المعنى الأول للصعق هو الإغماء ، وشل العقل على أثر سماع الصوت الشديد وذكر بأنّ (الموت) من المعاني الاخرى لهذه الكلمة ، حتى أنّه ذكر قول بعضهم إنّ الموت هو أحد معاني الصاعقة.

على أيّة حال فإنّ مفهوم الصعق في الآية يعني الموت المباغت الذي يعمّ جميع أهل السموات والأرض ، وذكرت الآية الكريمة : (إلَّامَنْ شاءَ اللهُ) فما المقصود من هذه العبارة؟ هناك كلام للمفسرين في هذا الصدد ، قال بعضهم : إنّ هذه العبارة هي إشارة إلى جمع من ملائكة الله الصالحين وهم (جبرائيل ، وميكائيل ، واسرافيل ، وعزرائيل) ، وقال بعض آخر : إنّهم الشهداء ، وقيل : إنّ الآية تشمل أيضاً إضافه إلى الملائكة الأربعة الذين سبق ذكرهم حملة العرش الإلهي ، ومع ذلك فالنتيجة أنّ جميع هؤلاء يذوقون الموت بحكم قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ). (آل عمران / ١٨٥)

٣١

ولم يبق إلّاوجه الله الذي هو حي لا يموت : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). (الرحمن / ٢٧)

ولقد أشار ذيل الآية إلى النفخة الثانية : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).

الصور في الأصل بمعنى البوق الذي يستخدم عادة لايقاف أو لتحريك الجند وأحياناً القوافل .. ولقد استخدم في هذه الآية بمعنى توقف الحياة بأسرها في عالم الوجود ومن ثم حركتها مرّة اخرى.

وهناك شرح مفصل لهذا الموضوع سنتعرض إليه ـ إن شاء الله ـ في فقرة (التوضيحات). وقد أشارت الآية الثانية إلى النفخة الثانية فقط : (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ).

ولم يستبعد البعض ومنهم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان أنّ المراد من هذه الآية كلا النفختين.

ولكن ذيل الآية يذكر : (وَكُلٌّ اتَوْهُ دَاخِرِينَ) وهذا يدل على أنّ المقصود هو النفخة الثانية ، وفي هذه الآية أيضاً نواجه الجملة الاستثنائية : (إِلَّا مَن شَآءَ اللهُ) حيث أشرنا إلى تفسيرها في ذيل الآية الاولى.

أمّا الآية الثالثة فتشير إلى النفخة الثانية (نفخة الإحياء) : (وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) (١).

ولقد ذكر المفسرون أَنَّ هذه الآية تختص بالنفخة الثانية ويشهد على هذا المعنى ذيل الآية ، وما بعدها من آيات.

وربّما يطرح البعض هذا السؤال : إذا كان الناس يهلعون في ذلك اليوم من الحساب الإلهي فكيف يفزعون إليه؟

__________________

(١). «أجداث» جمع «جَدَث» على وزن «حَدَث» وهو بمعنى القبر ، و «ينسلون» من مادة «نَسْل» على وزن «فَصْل» وهو بمعنى السير السريع ، ويقول الراغب إنّ المعنى الأصلي لها أخد من الفصل ويرى أنّه من هذه الجهة يطلق «نسل» على بني آدم.

٣٢

فقيل في جواب ذلك : إنّ هذه الحالة حالة لا إراديّة ، وبهذه الوسيلة يدعوهم الله تعالى إلى محكمة عدله.

والآية الرابعة ناظرة إلى النفخة الاولى وهي نفحة إماتة جميع المخلوقات وفناء العالم بأسره : (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ* وحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً* فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ).

إنّ تعبير (واحدة) الذي تكرر مرّتين في هذه الآية يدل على أنّ هذه الحوادث تتحقق بصورة مباغتة على شكل ضربة مميتة ، ومن جهة اخرى فإنّ هذه الآيات تبين القدرة اللامتناهية لله سبحانه وتعالى حيث تفنى جميع المخلوقات بنفخة صور واحدة ، بالضبط مثل نفخة البوق التي تحرك جيشاً عظيماً أو توقفه في مكانه.

بلا شك أنّ الآيات السابقة أشارت إلى النفخة الاولى ، أمّا الآيات اللاحقة فقد ورد فيها إضافة إلى ذلك كلام عن حوادث المحشر وصحيفة الأعمال وأوصاف الجنّة ، وبحكم كون الحوادث المذكورة تقع في نهاية العالم وبداية القيامة ولا توجد فاصلة كبيرة بينهما ، لهذا السبب نرى في كثير من الآيات القرآنية أنّ حوادث نهاية العالم وقيام القيامة جاءت مرادفة لبعضها البعض.

ويرى بعض المفسرين الكبار ، ومنهم صاحب الميزان أنّها النفخة الثانية ، قال : «والذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية التي تحيي الموتى» (١) ونحن نستبعد أن تكون هذه الآية قد أشارت إلى النفخة الثانية ، حيث إنّها لا تتوافق مع سياق الآية التي تليها والتي تخبر عن دك الأرض والجبال ، ولعل الآيات التي وردت (بفاصلة) عن هذه الآية هي التي ساقته إلى هذا المعنى ، في حين أنّ التأمل في الآيات المختلفة التي تتحدث عن القيامة يدلل على أنّ هذه الآيات تذكر أحياناً حوادث هاتين النفختين معاً وتميز بينهما بالقرائن.

أمّا الآية الخامسة فقد أشارت بوضوح إلى (النفخة الثانية) وذلك لأنّها تخبر عن عدم

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٣٩٧.

٣٣

تأثير روابط الأنساب بين الناس أثناء (نفخة الصور) : (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُم يَوْمَئِذٍ وَلَايَتَسَآءَلُونَ) فمن الواضح أنّ السؤال سواء كان بمعنى التساؤل عن أحوال بعضهم البعض أو بمعنى طلب العون والمساعدة فإنّ كل هذا يحدث في نفخة القيامة (نفخة الحياة).

ومن الغريب أن نرى بعض المفسرين يحتملون أنّ المراد في هذه الآية النفخة الاولى.

على أيّة حال ، فإنّ عدم سؤال بعضهم للبعض الآخر محمول على كلا الاحتمالين بحكم انشغال كل واحد بنفسه وبالاهوال التي يتعرض إليها فلا يفكر بالآخرين.

من هنا يطرح هذا السؤال وهو كيف تتوافق هذه الآية مع غيرها من الآيات التي تذكر : (فَأَقْبَلَ بَعضُهُمْ عَلَى بَعضٍ يَتَسَآءَلُونَ). (الصافات / ٥٠)

وكذلك قوله تعالى : (وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَآءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوآ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَل أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَىْءٍ). (إبراهيم / ٢١)

فيتضح الجواب عن هذا السؤال من خلال ملاحظة الآيات الكريمة بالنسبة إلى غيرها. فيستفاد من الآيات أنّ هناك مراحل ومواقف متعددة يوم القيامة ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها ، والشاهد على هذا الكلام حديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه عن هذا السؤال نفسه حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس : حين يرمى إلى كل إنسان كتابه ، وعند الموازين ، وعلى جسر جهنّم» (١).

أمّا الآية السادسة والسابعة فقد أشارتا أيضاً إلى النفخة الثانية ، قال تعالى : (وَتَركْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ). (الكهف / ٩٩)

فهل أنّ هذا المشهد العظيم يكون بسبب كثرة الناس أم بسبب حالة الخوف والهلع أم لسيادة الفوضى في نهاية العالم؟

يرى البعض أنّ هذه الآية هي إشارة إلى (قوم يأجوج ومأجوج) (٢) بعد بناء سد ذي

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ١٠٧.

(٢). راجع قصّة يأجوج ومأجوج ، تفسير الأمثل ذيل الآية ٩٨ ، من سورة الكهف.

٣٤

القرنين (حسب سياق ما قبلها من الآيات) ولكننا نستبعد هذا المعنى بقرينة الآيات التالية لها ، (تأمل).

على كل حال فإنّ الله تعالى يضيف في نهاية الآية : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) وقال في الآية التي تليها : (يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً).

«زرق» : جمع «ازرق» وفي الأصل بمعنى زرقاء اللون ، ومن الممكن أن يكون هذا اللون إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى يحشر المجرمين زرق الأبدان أو عمياً أو عطاشاً لشدّة العطش الذي تتعرض له أبدانهم.

إننا نرى أنّ المعنى الأول هو الأنسب وذلك لأنّه معنى حقيقي ، أمّا الثاني والثالث فله بعد كنائي (مجازي).

أمّا الآيتان التاسعة والعاشرة : فقد أشارتا أيضاً إلى النفخة الثانية أي نفخة الحياة والقيامة فقال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) وقال : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).

إنّ الإتيان أفواجاً في ذلك اليوم قد يكون لورود كل امة مع إمامها إلى المحشر (الأنبياء وغيرهم) أو أنّ كل زمرة من المجرمين الذين اقترفوا ذنباً معيناً يحشرون معاً.

على أيّة حال فهذه الآية لا تتنافى مع قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقيمَةِ فَرْداً). (مريم / ٩٥)

وذلك ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنّ هناك مواطن ومواقف مختلفة في يوم القيامة فمن الممكن أن يحشر الناس في البداية على شكل مجموعات ثم يحضرون في محكمة العدل الإلهي فرادى ، (فتأمل).

«الوعيد» : تستعمل هذه المفردة على قول الراغب الإصفهاني ومجموعة من المفسرين وأهل اللغة ، في الشرّ ، في حين كلمة «وعد» تستعمل في الخير والشر ، واستخدمت الآية الكريمة هذا اللفظ (الوعيد) لإنذار المجرمين من ذلك اليوم بالرغم من أنّ القيامة تشتمل على الوعد بالخير والوعيد بالشر.

الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة اللتان وردتا في سورة يس تنذران بوقوع صيحة

٣٥

شاملة تحدث في نهاية هذا العالم هي (صيحة الموت) أو (صيحة الحياة) التي تقع في بداية القيامة.

وفي موردٍ واحد أشارت الآية إلى صيحة نهاية العالم.

فقد كانوا يسألون دائماً متى يتحقق الوعد الإلهي ..؟ وكانوا يظنون أنّ هذا الأمر عسير على الله سبحانه وتعالى ، فيقول الله تبارك وتعالى : ليس الأمر كما يعتقد هؤلاء : (ما يَنْظُرُوْنَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

وأشار في المورد الثاني إلى الصيحة الثانية (صيحة الإحياء) : (ان كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ).

والصيحة كما يقول الراغب في مفرداته ، في الأصل تعني تشقق الخشب أو اللباس المصحوب بالصوت ، ويطلق هذا الاصطلاح أيضاً على كل الأصوات والصرخات المرتفعة ، وتأتي أحياناً بمعنى طول القامة ، وذلك لأنّ الشجرة المرتفعة كأنّما تصرخ وتدعو الناس إليها.

ولكن صاحب كتاب مقاييس اللغة ذكر أنّ المعنى الأصلي للصيحة هو الصوت العالي و (تصيح) بمعنى تشقيق الخشب وهي كلمة أصلها واوي ، ويقول إنّها كانت في الأصل (تصوح) (فتأمّل).

على أيّة حال ، فإنّ المفسرين يرون أنّ الصيحة الاولى هي نفخة الصور الاولى والصيحة الثانية هي نفخته الثانية في حين أنّ الآية ٥١ من نفس السورة والتي تقع بين هاتين الآيتين قد أشارت صراحة إلى نفخة الصور ونشور الأموات من قبورهم ، وقيل لا منافاة بين الآيتين حيث إنّ الآية الثانية جاءت موضحة ومفسرة للآية الاولى ويكون مفهومها أنّ نفخة الصور الثانية ما هي إلّاصيحة عظيمة (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ).

إنّ جميع هذه التعابير تدلل على حقيقة واحدة وهي أنّ نهاية الدنيا وبداية قيام الساعة أمر سهل يسير على الله القادر سبحانه وتعالى ولا مبرر لعجب المخالفين من وقوع هذا الأمر ، فالكل يموت بصيحة واحدة عظيمة ثم يصبحون رميماً وتراباً وبصيحة عظيمة اخرى يرجعون مرّة اخرى إلى الحياة ، ويحضرون جميعاً أمام الله تبارك وتعالى.

٣٦

الآيتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة : أشارتا مرّة اخرى إلى الصيحتين (صيحة الموت وصيحة الحياة).

تقول الآية الاولى : (مَا يَنظُرُ هؤُلَآءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّالَهَا مِنْ فَوَاقٍ) وهناك عدّة أقوال في تفسير هذه الآية ، فقيل إنّها تشير إلى عذاب الاستئصال (وهو العذاب الدنيوي الذي يستأصل جذور الكافرين والظالمين مثل عذاب قوم نوح ولوط وغيرهما).

وقيل : إنّ الآية أشارت إلى نفخة الصور والمعنى الأول يتفق مع سياق الآيات السابقة للآية التي تتحدث عن مجازاة قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم ، ولكن مع أخذ ذلك بنظر الاعتبار فإنّ هذه الآية جاءت تهديداً لكفّار مكة مع أنّ هؤلاء مستثنون من عذاب الاستئصال بحكم قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنْتَ فِيهِمْ). (الانفال / ٣٣)

وعلى هذا الأساس لا يمكن تفسير العذاب في الآية بعذاب الاستئصال فيكون الرأي الثاني هو الأنسب.

وبناء على ذلك فهل أنّ الآية أشارت إلى نفخة الصور الاولى أم الثانية؟ هناك اختلاف بين المفسرين ولكن وبلا شك أنّ لحن الآية يتوافق مع النفخة الاولى ، ذلك لأنّ ذيل الآية يقول : (مَالَهَا مِنْ فَوَاقٍ) وهذا التعبير يقال عادة لنفخة الموت ولقد استشهد بحديث نقل عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حول هذه الآية لبيان النفخة الاولى (١).

«فواق» : حسب قول الكثير من المفسرين وأهل اللغة ، هو مابين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع يقال ، آفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة.

وعلى أيّة حال فإنّ صيحة فناء العالم لا تعطي فرصة لأحد ، وينتهي كل شيء في وقت قصير ويصبح هشيماً تذروه الرياح ويقوم سد محكم يحول بين الإنسان وماضيه.

ولقد أشارت الآية اللاحقة إلى صيحة يوم القيامة : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُروْجِ).

ويعتقد المفسرون بأنّ هذه «الصيحة» هي نفس صيحة القيامة حيث إنّ ذيل الآية دليل

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٦٠١ ؛ تفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ١٨٣.

٣٧

واضح على ذلك ، والمراد من (الحق) كما يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والفخر الرازي في التفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني ، هو نفس البعث والنشور.

ولكن ظاهر الآية أنّ المراد بالحق الوارد في الآية الكريمة هو نفس معناه الأصلي ، وبتعبير (الميزان) يعني القضاء الحتمي ، والنشور هو مصداقه ، أمّا تعبير (يوم الخروج) فالمقصود منه يوم خروج الناس من قبورهم.

وهنا يطرح هذا السؤال : ومن الذي يسمع هذه الصيحة؟ هل تسمعها الأرواح قبل ورودها الأجساد؟ أم أنّ الأبدان تحيى وترجع إليها الأرواح عند الصيحة؟ وبهذا يستمر الناس في سماعهم للصيحة ، ومثل ذلك كمثل ساعة الجرس التي تدق قرب شخص نائم فتوقظه ، وهناك أقوال اخرى ، والمعنى الثاني هو الأنسب لسياق الآية.

في الآية الخامسة عشرة نجد تعبيراً جديداً وهو (نقر) قال تعالى : (فَإِذَا نُقِرَ في النَّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكَافِرِينَ غَيرُ يَسِيرٍ) و (نقر) كما يقول أرباب اللغة ، في الأصل يعني طرق شيء ، والمنقار هي وسيلة الطرق ، ومن هنا يكون الطرق ملازماً للصوت وتأتي هذه الكلمة أحياناً بمعنى إيجاد الصوت أو سببه وهو هنا النفخ في الصور ، ولذا نجد أنّ مجموعة من المفسرين فسروا الآية بشكل مباشر بالنفخ في الصور ، فالنقر بمعنى النفخ والناقور بمعنى الصور (١).

وهناك احتمال آخر وهو أنّ تعبير (النقر) جاء لأنّ الصوت الذي ينبعث من البوق من العظمة والشدّة وكأنّه ينقر الاذن نقراً ويغوص إلى المخ.

على أيّة حال ، فإنّ هذا التعبير هو إشارة إلى النفخة الثانية بشهادة الآيات التي بعد هذه الآية والتي تخبر عن الوضع العسير الذي يعيشه الكافرون في ذلك اليوم ، ويقول الفخر الرازي : «إذا كان المقصود هو النفخة الاولى (كما يحتمل المفسرون) فسوف لا يكون ذلك اليوم عسيراً على الكافرين لأنّهم يموتون في تلك الساعة ، إنّما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء ولذلك يقولون : ياليتها كانت القاضية» (٢).

__________________

(١) راجع تفاسير مجمع البيان ؛ وروح البيان ؛ والكبير في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) راجع تفاسير مجمع البيان ؛ روح المعاني ؛ روح البيان ؛ الفخر الكبير.

٣٨

وفي الآية السادسة عشرة نلاحظ تعبيراً جديداً هو الصاخة ، قال تعالى : (فَاذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ اخِيهِ).

«الصاخة» : مشتقة من مادة (صخ) ويقول الراغب هو الصوت الشديد الذي ينبعث من أصحاب النطق.

وقال صاحب مقاييس اللغة ، هي الصيحة التي تصم الآذان ، وفسّرها البعض : بمعنى طرق رأس الإنسان بالحجر (١) ، وقيل : الاستماع والانصات ، الصاخة هي التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمّها (٢) وتسمى بالصاكة لشدّة صوتها.

وفي كل الأحوال فهذا التعبير إشارة إلى (نفخ الصور) النفخة الثانية ، تلك الصيحة العظيمة التي هي صيحة الصحوة والحياة ، حيث يساق الجميع إلى عرصات المحشر ، وكل واحد مشغول بنفسه إلى الحد الذي يفرّ من أخيه وأبيه وامه وأصدقائه.

ونواجه في الآية السابعة عشرة تعبيراً آخر حول مسألة نفخ الصور ، يقول تعالى : (الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ* وَما ادْراكَ مَا الْقَارِعَةُ* يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ* فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضيَةٍ).

«القارعة» : من مادة (قَرْع) على وزن (فَرْع) وفي الأصل بمعنى الطرق الشديد الذي ينبعث منه صوت عال ، ومنها (المقرعة).

فما المقصود من القارعة في هذه الآيات :

قال بعض المفسرين : إنّ هذا التعبير هو أحد أسماء القيامة وذلك لأنّ الحوادث التي تقع فيها حوادث شديدة وتقرع القلوب لشدّتها وهولها ولقد صرّح البعض من المفسرين بأنّ هذا التعبير يطلق على مجموعة حوادث القيامة التي تبدأ من نفخة الصور الاولى وتنتهي بخاتمة المحكمة الإلهيّة (٣).

__________________

(١) راجع تفاسير روح المعاني ؛ روح البيان ؛ الكبير.

(٢) راجع تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٠ ؛ التفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٤٣ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ٣ ، ص ٤٨ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠١٥.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٩ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٢٢٠.

٣٩

يقول الفخر الرازي في تفسيره : واختلفوا في لمّية هذه التسمية على وجوه :

أحدها : إنّ سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق.

وثانيها : إنّ الأجرام العلوية والسفلية تصطدم مع بعضها بشدّة عند تخريب العالم ، فيحدث على أثر هذا الاصطدام تلك القرعة فسميت القيامة بالقارعة.

وثالثها : إنّ القارعة هي التي تقرع قلوب الناس بالأهوال والخوف.

ورابعها : إنّها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال. (١)

ولكن الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات تدلل على أنّ هذا التعبير ناظر إلى النفخة الاولى ، وهي النفخة التي ترعب جميع الناس ثم تهلكهم وتخرب الجبال ، ولقد ذكرت في تعقيب هذا الموضوع حوادث القيامة كتسلسل طبيعي.

على أيّة حال ، فإنّ التعبير أعلاه إمّا أنّه يشير إلى نفخة الصور الاولى أو أنّ النفخة الاولى جزء منها ، وإمّا أن يكون قد أشار إلى النفخة الثانية ، وهذا ما لا يتوافق مع سياق الآيات ، فمن المستبعد جدّاً أن تكون الآية : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) قد أشارت إلى النفخة الثانية والآية التي بعدها : (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أشارت إلى النفخة الاولى.

أمّا الآية الثامنة عشرة فنلاحظ فيها تعبيراً جديداً آخر ألا وهو (الزجرة) أو (الصيحة العظيمة) ، في جواب من يعجب من رجوع الحياة بعد الموت ، إذ تقول الآية لا تعجبوا فذلك ليس بالعسير : (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ).

«زجرة» : في الأصل بمعنى الطرد وبصوت مرتفع ، مثل طرد الإبل ، وتأتي بمعنى الصيحة من قولك زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها فريعت لصوته (٢).

وفي كشاف الزمخشري ، زجره يزجره ، إذا صاح بمنعه ثم استعملت بمعنى الطراد ، وترد أحياناً بمعنى الصوت.

وجملة (ينظرون) ربّما تعني النظر بحيرة من شدّة الخوف أو نظر أحدهم إلى الآخر أو انتظار الحكم النهائي.

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ٧٠.

(٢). راجع مقاييس اللغة والمفردات للراغب ، مادة (زجر).

٤٠