نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

١
٢

٣

الاهداء :

إلى الذين أحبّوا القرآن

إلى الذين يريدون أن ينهلوا المزيد من معين

الحياة الصافي

إلى الذين يتوقون إلى معرفة القرآن وفهمه

أكثر فأكثر.

بمساعدة العلماء الأفاضل وحجج الإسلام السادة :

محمّد رضا الآشتياني

محمّد جعفر الإمامي

عبدالرسول الحسني

محمّد الأسدي

حسين الطوسي

سيّد شمس الدين الروحاني

محمّد محمّدي الاشتهاردي

٤

الرسول لأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وظهور الإسلام

٥
٦

الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهور الإسلام

قبل كل شيء يجب التمعن في دراسة حقيقة الإسلام ومنزلة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن الكريم ، والتحقيق في النقاط الظريفة وال دقيقة الواردة في مختلف آيات القرآن الكريم ، وحيث إنّ التعرف على هذه النقاط يقتضي معرفة تاريخ الإسلام بشكل إجمالي فعلى هذا الأساس يجب أن نتوفر على دراسة مختصرة ومركزة للتاريخ الإسلامي كي يتسنى لنا معرفة عوامل انتشار وتقدم الدين الإسلامي الحنيف ، الأمر الذي يساعدنا على تمهيد الطريق للبحوث الآتية.

* * *

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهور الإسلام وسرعة انتشاره :

ظهر الإسلام قبل أربعة عشر قرناً في مكة المعظمة ، وفي مدة ٢٣ سنة (وهي فترة دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد أخضع لنفوذه أقصى منطقة في جنوبِ الحجاز ، أي اليمن ، وإلى شمال شبه الجزيرة العربية ، أي الشام والعراق ، بل إنّ قسماً من أفريقيا أي الحبشة قد تأثرت بأنواره ، واليوم نرى أكثر من ميليارد إنسان يدين به في كل بقاع العالم.

وهنا نستعرض ـ ولو باختصار لحياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسرعة انتشار الإسلام ، والعوامل التي ساعدت على ذلك.

من الطبيعي أنّ هذا العمل ليس بالأمر اليسير ، لأنّ الظروف التي أدّت إلى وصول الإسلام إلى هذا الحد ، أوسع بكثير ممّا جاء في التاريخ بحيث يمكن القول : إنّ ما ذكره التاريخ قطرة من بحر ، والذي نذكره هنا هو لمحات من ذلك التاريخ الذي لم يذكر لنا إلّاالقليل.

٧

بدأ الإسلام بشخصية الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد بعثهُ الله سبحانه وتعالى بالرسالة وهو في الأربعين من عمره الشريف ، ثم آمنت به السيدة خديجة عليها‌السلام ، وبعدها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث كانت دعوة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في المرحلة السرية ، وكان قبل ذلك في السنين الثلاث لم يعلن دعوته إلّالمن يثق به.

أمّا بعد تلك السنوات الثلاث ، وعندما نزلت الآية الكريمة : (وَأَنْذِرِ عَشيرَتَكَ الأقرَبين). (الشعراء / ٢١٤)

أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوته أمام الناس ، فصَعدَ على جبل الصفا ودعا أقرباءه وأعدّ لهم وليمة ، وفي ذلك اليوم كان المسلمون يعدون بالأصابع (١).

وقد اقيمت الوليمة مرّتين ، إذ في المرة الاولى لم يُعطِ أبو لهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرصة للكلام ، وفي المرة الثانية سخروا من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله والتفتوا لأبي طالب قائلين له : «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».

وفي هذه المأدبة كان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى بعين الغيب انتشار الإسلام الأكيد ، حتى أنّه عيّن خليفة ووارثاً له فيها (٢).

ولم تمضِ مدّة طويلة حتى أدرك رؤساء مكة أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أضاء أفكار الناس وأيقظهم وأثبت عدم صحة عبادة الأوثان ولزوم الإيمان بخالق الكون ، فأحسّوا بالخطر عندما ترسخت دعوته ، لأنّ منزلتهم الاجتماعية وعائداتهم المالية كانت مرتبطة إلى حد ما بتلك الأفكار والأعراف الجاهلية ، حتى أنّهم ذهبوا إلى أبي طالب راجين منه رفع اليد عن حماية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المصالحة بينهم وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إصلاحه ، وقالوا : «يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سَبَّ آلهتنا وعابَ ديننا وسفّهَ أحلامنا وضلل آباءنا فإمّا أن تكفَّهُ عنّا وإمّا أن تخلّي بيننا وبينهُ» (٣).

ولكنَّ أبا طالب عليه‌السلام قال لهم قولاً جميلاً وردهم ردّاً رقيقاً ، وأخذ الإسلام يشق طريق

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ١ ، ص ٤٨٦ ، طبع دار احياء التراث العربي ؛ وتاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٦١.

(٢) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٦٣.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٨٣ ، ط مصر ؛ الكامل لابن الأثير ، ج ١ ، ص ٤٨٨ ؛ والطبري ، ج ٢ ، ص ٦٥.

٨

الرشد والتكامل وأحس رؤوس الكفر بالخطر الذي يهدد عقائدهم الوثنية وثقافتهم الجاهلية ، فعادوا مرّة اخرى إلى أبي طالب فقالوا : «يا أبا طالب إنّ لك سناً وشرفاً وإنا قد أستنهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل وإنّا واللهِ لا نصبر على شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيهِ أحلامِنا حتى تكفّه عنّا أو نُنازلهُ وإيّاك حتى يهلكَ أحدُ الفريقين».

في هذه المرّة أخبر أبو طالب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جرى بينه وبين أقطاب قريش وأنّهم مصرون على مخالفته ، عندها أحسّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ عمهُ أبا طالب قد تباطأ قليلاً في حمايته ، فقال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمهِ تلك المقولة المشهورة : «ياعَماهُ لو وضَعوا الشمسَ في يميني والقَمرَ في شمالي على أن أتركَ هذا الأمر ، حتى يُظهرَهُ اللهُ أو أهلكَ فيهِ ما تركتُهُ». ثم بكى وقام ، فلما ولّى ناداهُ أبو طالب ، فاقبلَ عليه وقال : إذهب يابن أخي فقل ما أحببتَ فوالله لا اسلِّمكَ لشيء أبداً» (١).

عندما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمايةَ عمّه ثانية ، انطلق بعزيمة كبيرة وثقة عالية ، ولما عرف رؤساء قريش ذلك عادوا إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يساومَ في ابن أخيهِ مقابل أجمل شاب من قريش على أن يتخذه ابناً له! وجاء الرفض القاطع (٢) كصاعقةٍ دمرت ما يمكرون ، فعمدوا إلى ايذاء المسلمين من كل طائفة.

ومرّة اخرى طلبوا من أبي طالب أن يبلغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكفّ عن هذا الأمر ، وجاء الردّ المحمدي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عم أَو لا أدعوهم إلى ما هو خيرٌ لهم منها ، كلمة يقولونها تَدينُ لهم بها العرب ، ويملكون رقاب العَجَم» فقال أبو جهل : ما هي ، وأبيك لنُعطِيَنَّكها وعَشرَ أمثالها ، قال : «تقولونَ لا إله إلّاالله ....» وقالوا : سَلْ غيرها ، فقال : «لو جئتموني بالشمسِ حتى تضعوها في يدي ما سألتُكم غيرَها» (٣).

وفي هذا الوقت دخل في الإسلام أُناس كانوا يرزحون تحت ظُلم جبابرة مكة ، وآخرون واعون ليسوا بالأغنياء المغرورين ، ممّا حدا برؤوساء قريش إلى تغيير اسلوبهم

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ١ ، ص ٤٨٩ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ؛ والطبري ، ج ٢ ، ص ٦٥.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٢٨٥ ، والكامل ، ج ١ ، ص ٤٨٩ ، والطبري ، ج ٢ ، ص ٦٦.

(٣) الكامل لابن الأثير ، ج ١ ، ص ٤٩٠ ؛ والطبري ، ج ٢ ، ص ٦٦.

٩

في الصراع مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غير الرجوع إلى أبي طالب ـ لكي ينجوا من هذا الخطر الداهم ، وقد اتخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من بيت الأرقم مركزاً للإشعاع الفكري ونشر الدعوة.

ممارسة الضغط على المسلمين الجدد :

بعد أن يئس زُعماءُ مكة من التأثير على أبي طالب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، التجأوا إلى تعذيب وايذاء المسلمين المستضعفين ليردوهم عن الإسلام فتضعف قدرة الرسول ومن ثم يترك الدعوة إلى الإسلام ، ومن بين أولئك المسلمين بلال ، وعمار ، وياسر ، وسمية ، والخباب بن الارت ، وصهيب ، وعامر بن فهيرة ، وأبو فكيهة ، ولبيبة ، وزبيدة ، ونهدية ، وأُم عبيس وأمثالهم ، إذ صَبّوا عليهم ألوان العذاب حتى استشهد ياسر وسمية ، ومر عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطبهم قائلاً : «صبراً آلَ ياسر فإنّ مَوعِدكُم الجنَّةُ» (١).

ويحكي التاريخ عن كيفية تعذيبهم وصمودهم ما يستحق العجب.

التهمةُ والاستهزاء :

اتخذ المشركون اسلوباً آخر في محاربتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كالتهمة والسخرية والاستهزاء ، فأتهموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه ساحر ، وكاهن ، وشاعر ، ومجنون (٢) ، وكذبوه وآذوه ، ولم يتوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نشر دعوته لإظهار أمر الله سبحانه ، ولم تأخذه في اللهِ لومةُ لائم.

ومن الذين كذّبوا واستهزأوا وآذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو لهب ، والاسود بن عبد يغوث ، والحارث بن قيس ، والوليد بن المغيرة ، وابي ، وامية بن خلف ، وأبو قيس ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث ، وعدة آخرون حيث ذكر ابن هشام في سيرتهِ. «إنّه خَرَجَ يوماً فلم يَلقهُ أحدٌ من النّاس إلّاكذّبهُ وآذاهُ لا حرٌ ولا عبدٌ فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى منزله فتدثَّر من شدّة ما أصابه» (٣).

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٤٩١.

(٢) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧١ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ١ ص ٣٠٨ ؛ والكامل ، ج ١ ، ص ٤٩٣.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣١٠.

١٠

وذكر التاريخ أيضاً : إنّ أبا لهب كان شديداً عليه وعلى المسلمين ، عظيم التكذيب له ، دائم الأذى ، فكان يطرح العَذَرةَ والنتن على باب النبي وكان جارَهُ فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أيُّ جوارٍ هذا يا بني عبد المطلب». وكان الأسود عندما يمرّ عليه فقراءُ المسلمين يستهزيء بهم ويقول : «هؤلاء ملوك الأرض» وكذلك كان العاص بن وائل يقول : «إنَّ مُحمداً أبتر لا يعيش له ولدٌ ذكر ...» (١).

الهجرةُ إلى الحبشة :

إزداد ضغط المشركين وتعذيبهم ، ففكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنقاذ ضعفاء المسلمين وتخليصهم من أذى المشركين فدعاهم للهجرة إلى الحبشة ، وبالفعل هاجر إليها عدد منهم في السنة الخامسة للبعثة النبوية بعد سنتين من اعلان الدعوة الإسلامية وفي شهر رجب (٢).

وبهذه الهجرة أخذ الإسلام يتحرك وينتشر بصورة جديدة لذلك قررت قريش اعادة المسلمين من الحبشة واخضاعهم لها ، فأرسلوا هدايا ثمينة للنجاشي ملك الحبشة طالبين منه تسليم المسلمين لهم ، وبالرغم من اعطاء هدايا اخرى لبطانة النجاشي للتعاطف معهم ولكن النجاشي قال لهم : إنّ هؤلاء قد لجأوا إلينا ولا يمكن تسليمهم مالم نسمع حديثهم ، واحضر النجاشي المسلمين وأخذ يسألهم عن سبب لجوئهم إليه.

وانتخبوا جعفر بن أبي طالب ناطقاً عنهم للجواب عن استفسارات النجاشي الذي طلب منه أن يتلو عليه آيات من سورة مريم كانت تتضمن نظر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسيح وامّه مريم عليهما‌السلام ، بعدها أعلن النجاشي إبقاء المسلمين عنده ، وأرجع مبعوثي قريش.

ثم سأل النجاشي : «أي دين تدينون»؟ فقال جعفر : «أيّها الملك كنّا أهل جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجِوار ، ويأكل القوي منّا الضعيف حتى بعثَ الله إلينا رسولاً منّا نَعرفُ نَسَبَهُ ، وصدقَهُ وأمانتهُ وعفافهُ فدعانا لتوحيد

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٤٩٣ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٠.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٤٤ ؛ الكامل ، ج ١ ، ص ٤٩٨.

١١

الله وأن لا نُشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداءِ الأمانة وصلة الرحم وحسنِ الجوار والكفّ عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام .... فآمنّا به وصدّقناهُ وحرَّمنا ما حرّمَ علينا وحللنا ما أحلَّ لنا فتعدى علينا قومُنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادِك واخترناكَ على من سواك ورَجَونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك» فقال النجاشي بعد أن سمع آيات من القرآن حول مريم والمسيح عليهما‌السلام : «اذهبوا فأنتم آمنون ما احبُّ أنّ لي جبلاً من ذهبٍ وأنني آذيتُ رجلاً منكم» (١).

ورجع سفراء قريش خائبين منكسين رؤوسهم.

وقد اقترن بتلك الأيّام إسلام رجل قوي من بني هاشم وهو الحمزة بن عبد المطلب (٢) فزاد المسلمون قوة فوق قوتهم وصمموا على تلاوة القرآن بشكل جماعي وسط الملأ من قريش ، وأول من قام بهذا العمل هو ابن مسعود فتعرض للضرب والشتم.

ويذكر التأريخ : «فغدا عليهم في الضحى حتى اتى المقام وقريش في انديتها ثمَ رفعَ صوتَهُ وقرأ سورة «الرحمن» فلما علمت قريش أنّه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ ثم انصرف إلى أصحابهِ وقد اثّروا في وجههِ ، فقالوا : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : ما كان أعداءُ الله أهون عليَّ منهم اليوم ولئن شئتم لأغادينَّهم ، قالوا : حسبُك» (٣).

ومن هنا نفهم أنّ المسلمين كانوا يؤدون عباداتهم إلى جانب الكعبة حيث كان عددهم يزيدُ على الستين شخصاً وكانوا يتزاورون في بيوتهم لتعلّم القرآن.

الحصار الاقتصادي :

ولما أدركت قريش عدم تأثير جميع الأساليب التي اتخذتها وظل الإسلام يشق طريقه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٥٨ ؛ والكامل ، ج ١ ، ص ٤٩٩ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣١١ ؛ والكامل ، ج ١ ، ص ٥٠١ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٤.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ١ ؛ ص ٣٣٦ ؛ الكامل ، ج ١ ، ص ٥٠٢ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٣.

١٢

بثبات قررت كتابة وثيقة تمنع فيها العلاقات الاقتصادية والاجتماعية مع بني هاشم حتى تشكل ضغوطاً على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمنع نشر الدعوة : «ولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد وان المسلمين قووا وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي امية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وآمنهم عنده ، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا من بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً ، فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علّقوا الصحيفة في جَوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم» (١).

وهكذا قد ضيَّقوا الخناق على بني هاشم وبني المطلب ليقع الخلاف بينهم ويُسلِّموا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واستمر الحصار على مدى ثلاث سنوات (٢) وكانوا محرومين من كل شيء ما عدا القليل الذي يهيؤنه سراً ، غير أنّ مؤامراتهم فشلت مرّة اخرى فأكلت الارضة لائحتهم المعلّقة داخل الكعبة وملَّ بعض الأشخاص هذا العمل الوحشي غير الإنساني فاصبحوا بصدد إلغاء اللائحة ، وقد الغيت بالفعل وانتهى الحصار (٣). ورجع الرسول وعشيرتهُ إلى مكة المكرمة.

واستمر الإسلام بتقدمه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوتهِ ، وهنا وقعت حادثتان مؤلمتان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) قبل الهجرة بثلاث سنوات ، وهما : وفاة أبي طالب وخديجة عليهما‌السلام وكان للحادثتين أثر بالغٌ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، وضيقوا الخناق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله «حتى ينثر بعضهم التراب على رأسهِ وحتى أن بعضهم يطرَحُ عليه رحم الشاة وهو يصلي ....».

بعدها صمم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يستمد العون من مجموعة من قبيلة ثقيف الساكنة في الطائف لحمايته ونشر الإسلام ، ولكنهم كذبوه وطردوه فكان ذلك ثقيلاً على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ يدعو بهذا الدعاء المعروف ، يقول التأريخ : «فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد يئس

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٠٤ ؛ وابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٤.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٧٩.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٠٥ ؛ وابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٤ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٨.

(٤) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٠٧ ، وابن هشام ، ج ٢ ، ص ٥٧ ، وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨٠.

١٣

من خير ثقيف ... واغروا به سفاءهم فاجتمعوا إليه وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ... ورَجعَ السفهاءُ عنه وجلس إلى ظلّ حبلة من عنب ... وقال : اللهم إليك اشكو ضعف قوتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناس ، اللهم ياأرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي إلى مَن تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عَدُوٍ ملكتَه أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي ولكن عافيتك هي أوسع ، إنّي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلماتُ وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تنزلَ بي غضبك أو تحل بي سخطك» (١).

فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه «عداس» فقالا له : خذ هذا العنب إلى ذلك الرجل ، ففعل فلما وضعه بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضع يده عليه وقال «بسم الله» وثمّ أكل ، فقال عداس : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أي بلاد أنت وما دينك؟

قال : أنا نصراني من أهل نينوى

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متي؟ قال له : وما يُدريك ما يونس؟

قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك أخي كان نبيّاً وأنا نبي.

فأكب عداس على يدي رسول الله ورجليه يقبلهما ، وأسلم (٢).

فلم يرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خائباً من سفره هذا.

بداية جديدة في ابلاغ الرسالة :

رغم هذه المشاكل الجمة لم يَنْثَنِ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ابلاغ رسالته ، فاتصل في موسم الحج بالقبائل مُبتدئاً بقبيلة (كندة) حتى قبيلة (كلب) و (بني حنيفة) وكل من جاء لزيارة بيت الله كان يدعوهم إلى الإسلام ، وأبو لهب يلاحقه في كل مكان ليُكذبه ويتهمهُ بخلق الأقاويل (٣).

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٠٨ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨١.

(٢) الكامل ، ص ٥٠٨ ، وابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦١ و ٦٢ ، وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨١.

(٣) الكامل ، ص ٥٠٩ ؛ وابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦٣ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨٣ و ٨٤.

١٤

الرسول يلتقي أهل المدينة :

التقى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (سويد بن صامت) أحد أفراد قبيلة الأوس في المدينة الذي جاء حاجّاً إلى مكة المعظمة فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه بعض آيات القرآن الكريم فصدقه وآمن به وعاد إلى المدينة ومات مسلماً.

وعندما قدم (أبو الحيسر) أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم : «هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟ قالوا : وما ذاك؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد ادعوهم إلى الله أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن» ، فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خير ممّا جئتم له.

قال : فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه أياس بن معاذ وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، قال : فصمت أياس ، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، قال : ثم لم يلبث أياس بن معاذ أن هلك ، قال محمود بن لبيد : فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنّه قد مات مسلماً لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما سمع (١).

بيعة العقبة الاولى :

وفي السنة الاخرى من موسم الحج التقى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من أهل المدينة ـ عُرفوا بعد ذلك بالأنصار ـ وهم ينتسبون إلى قبيلة الخزرج ودعاهم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام وكانوا قد سمعوا آنفاً من اليهود قولهم : سيُبعَثُ رسول في هذه الأيّام ونحنُ نحميه ونُساعده للقضاء عليكم فَنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : «هذا النبي الذي توعدكم به اليهود ، فأجابوه وصدقوه ،

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥١٠ ؛ سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦٩ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨٥.

١٥

وقالوا له : إن بين قومنا شرّاً ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعزّ منك». ثم انصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر سبعة نفر من الخزرج من بني عبد النجار هم : أسعد بن زرارة ، عوف بن الحارث ، رافع بن مالك ، عامر بن عبد حادثة ، قطبة بن عامر ، عقبة بن عامر ، جابر بن عبد الله (١).

وبعد انتهاء موسم الحج رجعوا إلى المدينة حاملين معهم مشعل الحرية للناس ونشروا الإسلام بين أهل المدينة.

وبعد مرور سنة وفي أيّام موسم الحج أيضاً جاء إثنا عشر رجلاً إلى العقبة وبايعوا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فسُميت هذه ببيعة العقبة الاولى ، وعند رجوعهم إلى المدينة أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مصعب بن عمير لتعليمهم القرآن والإسلام وقد استقر في بيت (أسعد بن زرارة) والتفوا حول (مصعب) فبدأ يدعوهم إلى الإسلام باسلوب خاص فلم يبقَ بيتٌ من بيوت بني عبد الأشهل إلّاودخله الإسلام ، ولم يقتصر على هذه القبيلة فحسب ، بل دعا أهل المدينة الآخرين إلى الإسلام فدخل الإسلام جمعٌ كثير (٢).

بيعة العقبة الثانية :

اتسع نطاق الإسلام في المدينة بين الأنصار حتى إزداد عدد المسلمين كثيراً فقرروا السفرَ إلى الحج والالتقاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سرّاً ودعوته للقدوم إلى المدينة ، وقد أرسلوا ممثلين عنهم يبلغ عددهم (٧٢) شخصاً ، (٧٠) رجلاً وأمرأتين ، وبدأوا عملهم سرّاً ، بعد منتصف الليل وهم ينحدرون آحاداً إلى مكان معين فحضرَ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصَحبهُ عمُّهُ العباس ، فبايعوه على أن يبذلوا أرواحهم (٣) دونه ، وأن يكونوا أوفياء له وللاسلام ، وواعدهم الرسول على الوفاء أيضاً ، وقد أورد التاريخ مقاطع ممّا قيل في ذلك اللقاء حيث بدأ العباس الكلام قائلا :

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥١٠ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٧٠ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٨٦ ـ ٨٨.

(٢) الكامل ، ج ١ ، ص ٥١١ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٥١٣ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٨٤ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٩١.

١٦

«إِن محمداً منّا حيثُ قد علمتم ، في عزٍ ومنعةٍ وإنّه قد أَبى إلّاالانقطاع إليكم فإنّ كنتم ترونَ أنّكم وافون له بما دعوتموهُ إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم تَرونَ أنّكم مسلموهُ وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدَعُوه فانّه في عزٍّ ومنعةٍ من قومه وبلده» ، فقالت الأنصار :

تكلّم يارسول الله وخذ لنفسك وربّك ما أحببت «فتكلّم وتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال : ابايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» ، فأخذ (البراء بن معرور) بيده ثم قال : «والذي بعثك بالحقِ لنمنعنك ممّا نمنع منه أزرنا فبايعنا يارسول الله فنحن والله أهل الحرب ...».

وقال الآخر ويدعى أبو الهيثم بن تيهان : يارسول الله إنّ بيننا وبين الناس حبالاً وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومِك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

«بل الدَّم الدَّم والهدمَ الهدمَ أنتم منّي وأنا منكم اسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم» فاخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهنا قال العباس بن عبادة صاحب الفكر العميق والنظرة الثاقبة : يا معشر الخزرج هل تَدرون عَلامَ تُبايعون هذا الرجل ... تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإنّ كنتم تَرون أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموهُ فمن الآن ، فهو واللهِ خُزي الدنيا والآخرة إن فعلتم ، وإن كنتم تَرون أنّكم وافون لهُ بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوهُ فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنّا نأخُذَه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فمالنا بذلك يارسول الله إن نحن وفينا؟ قال : الجنَّة ، قالوا : أبسط يدكَ فبسط يده فبايعوهُ» (١).

إنّ هذا النصر الكبير أدّى إلى ازدياد حقد وعداء أهل مكة للمسلمين فازدادوا ظلماً وتعذيباً لهم ، فأمرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالهجرة (٢) إلى المدينة.

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥١٣ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٨٨.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١١٢ ؛ والكامل ، ج ١ ، ص ٥١٥ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٩٧.

١٧

الهجرة انعطافٌ جديدٌ في تاريخ الإسلام :

بعد هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ظل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة منتظراً أوامر الله تعالى وأحسَّ رؤساء قريش بالخطر الشديد لإسلام أهل المدينة وهجرة مسلمي مكة فقرروا قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمعوا لذلك وبعد مشاورات طويلة قرروا إشراك القبائل كافة مع قريش في قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في ذلك الوقت نفسه أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالهجرة (١).

وفي بداية شهر ربيع الأول تخلص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من محاصرة الأعداء بمعجزة عجيبة وهاجر إلى المدينة في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ووصل إلى (قباء) (٢) وبقي فيها حتى الخميس وقد بنى هناك مسجداً سُمي (بمسجد قباء) وأقام أول صلاة للجمعة وخطبَ في الناس أول خطبتين للصلاة في تاريخ الإسلام ، بالقرب من قباء في (قبيلة بني سالم).

بعدها دخل المدينة واستقبله أهلها استقبالاً عظيماً ، وأول عمل قام به صلى‌الله‌عليه‌وآله هو بناء مسجد فيها اعتبره منطلقاً للرسالة وتعاليم الإسلام ، ولتجمع (٣) المسلمين ، غير أنّ الرسول والمسلمين تعرضوا إلى ألوان المؤامرات فاضطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إشهار السلاح والاستفادة من القوة العظيمة لمسلمي المدينة لإبطال تلك المؤامرات.

وبعد سبعة أشهر من دخولهِ المدينة أرسل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أول كتيبة بقيادة عمّه (الحمزة بن عبد المطلب) للتعرض لقافلةِ قريش ، ثم جهز سرية اخرى بقيادة (سعد بن أبي وقاص) وارسله إلى (الابواء) ، بعدها غزوة (البواط) التي كان هدفها ضرب قافلة قريش ، ثم غزوة (العشيرة) لملاحقة قافلة لقريش أيضاً وفي السنة الثانية أعدّ سرية (عبد الله بن جحش) للتعرض إلى قريش بين مكة والطائف.

وفي السنة نفسها وقعت معركة بدر الكبرى التي نكست بها رؤوس الشرك والضلالة من

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٢٣ ؛ والكامل ، ج ١ ، ص ٥١٥.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٣٨ ؛ والكامل ، ج ٢ ، ص ٥١٨ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٤٣ ؛ والكامل ، ج ٢ ، ص ٥٢١ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ١٠٦ ـ ١١٦.

١٨

قريش وأرسلوا إلى جهنم ووقع كثير من أهل مكة في الأسر ، بعد هذا الانتصار ازداد المسلمون قوة وعزيمة وأوقعوا الرُعب في قلوب اعدائهم ، ثم أعقبتها غزوة (بني قينقاع) بسبب نقض يهود المدينة عهدهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعدها (غزوة كدر) ضد بني سليم ثم غزوة (السويق) ضد هجوم أبي سفيان.

وفي السنة الثالثة للهجرة وقعت حرب (غطفان) ضد (بني ثعلبة) الذين أرادوا الهجوم على المسلمين ثم غزوة (بني سليم) التي قُتل فيها اثنان من شياطين الكفر هما (كعب بن أشرف) و (أبو رافع) على أيدي المسلمين ، وبعدها معركة (احد) ثم تبعتها غزوة (حمراء الاسد) وقد مُني المسلمون بالهزيمة في معركة أحد لكن ذلك كان باعثاً لهم على التهيؤ للحروب القادمة وليعلموا أنّ الغفلة والغرور والتعلق بالماديات هي من أسباب الهزيمة.

وفي السنة الرابعة للهجرة وقعت غزوة (رجيع) ضد قبيلة (عضل وقارة) حيث سلَّموا مبلغي الإسلام إلى الأعداء ، بعدها حادثة (بئر معونة) فقد دعوا (٧٠) شخصاً لتعليمهم الإسلام ثم قتلوهم ، وحادثة (إجلاء بني النضير) إذ صمموا على قتل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أخرجهم من المدينة بأجمعهم.

بعدها وقعت غزوة (ذات الرقاع) ضد طائفة (بني محارب) و (بني ثعلبة) من قبيلة (غطفان).

وفي هذه السنة وقعت (بدر الثانية) التي كان هدفها ملاحقة أبي سفيان. وقد كان لهذه الغزوات أثر بالغٌ في تقدم وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية.

وفي السنة الخامسة للهجرة أحسّت قبائل العرب بخطر هذه القوة الجديدة فقرروا الاتحاد والتنسيق فيما بينهم للقضاء عليها وعدم فسح المجال لها بتأصيل جذورها كقوة ضد الظلم والشرك في المنطقة فحدثت (معركة الأحزاب) التي انتصر فيها المسلمون ورجع منها المشركون خائبين مندحرين وأصبحت فكرة القضاء على المسلمين وقلع جذورهم من المحال.

وفي السنة نفسها وقعت غزوة (بني قريظة) وحاصر المسلمون قلعتهم للتخلص من شر

١٩

اليهود الذين كانوا يحيكون الدسائس ضد المسلمين.

ثم في السنة السادسة للهجرة وقعت غزوة (ذي قرد) حيث أغار الكفّار على أموال المسلمين وأموال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واجتمع كذلك (بنو المصطلق) ضد الإسلام ولكنهم اندحروا في غزوة (بني المصطلق) ، إنّ هذه الحوادث كلها كانت دليلاً واضحاً على قدرة وعظمة الإسلام.

صلحُ الحديبية فتحٌ كبيرٌ وتقدمٌ للإسلام :

في السنة السادسة للهجرة أمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بالتهيؤ إلى حج العمرةِ مصطحبين معهم الإبل لذبحها قرابين إلى الله سبحانه وتعالى ومعلنين لأهل مكة بأنّهم لم يأتوا للحرب ، وكان لهذه الحادثة أثران واضحان :

الأول : أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذهابه إلى مكة اعلان عدم خوف المسلمين من أي عدو في الجزيرة العربية.

الثاني : مع دخولهم مكة تظهر قدرة الإسلام في مقابل مركز عبادة الأوثان وهذا مؤشر واضح على قوة وانتصار الإسلام لأنّ مكة كانت من المراكز المهمّة والقوية في مقاومة الإسلام ، وأدرك أهل مكة ذلك فقرروا منع دخول المسلمين من مكة وعندها أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بمبايعته فكانت بيعة شديدة المواثيق والعهود سُميت بـ «بيعة الرضوان».

ولما سمع المشركون بخبر البيعة قرروا عقد صلح مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء فيه : أن يخرج المشركون من مكة السنة القادمة ويدخلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأداء حج العمرة (١). وبعد أن تمّ الاتفاق على هذا الصلح توفرت أرضية سهلة للقضاء على أعداء الإسلام الكبار والصغار الذين كانوا بين الحين والآخر يحوكون المؤامرات ضد المسلمين أو يتعرضون لهم ، فبمجرد أن عاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبية أعدّ العدّة لحرب هؤلاء الأعداء فارسل سرية (عكاشة)

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٨٢ ؛ سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٣٢١ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٧٠.

٢٠