نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

على أيّة حال فظاهر الآية الكريمة يشير بوضوح إلى نفخة الحياة ونشور الناس من قبورهم وتهيئتهم للحساب ، وإنّ أغلب المفسرين قد أشاروا إلى هذا المعنى.

يستفاد من مجموع الآيات أنّ نهاية وبداية العالم الآخر إنّما تحدثان بصورة مباغتة وتتزامنان عند وقوع صيحة عظيمة ، ولقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك تعابير مختلفة ، فأحياناً استخدم الصيحة وأحياناً الزجرة والصاخة والتي هي بمعنى الصيحة واخرى النقر ، كما عبّر عنها في كثير من الموارد بنفخة الصور.

وفي الظاهر لم يلاحظ في هذه الآيات شرحاً أو توضيحاً لكيفية النفخ ، وحكم هذه الحادثة في الواقع كحكم سائر الحوادث المتعلقة بمشاهد يوم القيامة التي لم ترسم لنا صورة تفصيلية عنها ، إلّاأنّ الأحاديث التي سنوردها بهذا الصدد قد تعرضت إلى هذه الحوادث وفصلتها إلى حدّ ما ، ولكنّها لم ترفع الابهامات بشكل كلي وبعبارة اخرى لم تستطع أن ترفع هذه الإشكالات وذلك لأنّ هذه الامور من أسرار العالم الآخر من جهة ، ومن جهة اخرى أنّ عقولنا المحدودة بحدود هذه الدنيا وعاجزة عن إدراك هذه الحوادث على حقيقتها.

* * *

توضيحات

١ ـ ما المراد بـ (نفخة الصور) أو صرخة الموت والحياة

علمنا أنّ الصور وحسب قول الكثير من أرباب اللغة يعني البوق أو القرن العظيم (كانوا يصنعون البوق من قرن الحيوان).

فكانوا ينفخون فيه من جهة فيخرج الصوت عالياً من الجهة الاخرى.

فهل أنّ هذا التعبير تعبيرٌ مجازيٌّ كناية عن الأمر الصادر من قبل الله تبارك وتعالى ينذر بنهاية العالم المباغتة وبداية القيامة؟ هو تشبيه لما اعتاد عليه الناس في ايقاف القطعات العسكرية أو إيقافها أو لدعوتها للتجمع ، فهي وسيلة تستعمل لإعلام الجميع بالوقوف أو

٤١

الحركة أو التجمع؟ (حيث إنّ لحن بوق الوقوف يختلف عن لحن بوق الحركة) ولا زال هذا الأسلوب معمولاً به في بعض الثكنات والقطعات العسكرية ، فهناك بوق النوم وبوق النهوض وبوق التجمع (١)؟ أم أنّ هذا التعبير ليس له بعد كنائي وإنّما هي نفخة حقيقية؟ ولكن من الواضح أنّ هذا البوق ليس بوقاً عادياً وإنّما هو صاعقة وصيحة عظيمة تعمّ أرجاء السموات والأرض وتسبب موت جميع الموجودات الحية أو إحيائها وبعث الحياة والحركة فيها.

إنّ هذا الاحتمال هو الأرجح ، ويتناسب مع ظاهر الآيات : ونقرأ في هذا الصدد حديثاً ورد عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : «إنَّ الصُّورَ قَرْنٌ عَظيمٌ لَهُ رَأَسٌ واحدٌ وَطَرفانِ ، وَبيْنَ الطَّرفِ الأَسْفَل الَّذي يلي الأرضَ إلى الطَّرف الأعلى الَّذي يَلي السَّماءَ مِثْلُ ما بَيْنَ تَخُومِ الأَرضينَ السّبع إلى فوقِ السَّماء السّابعةِ ، فيه اثْقابٌ بعَدَدِ أرْواحِ الخلائقِ ، وَسِعَ فَمُهُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأَرضِ» (٢).

ولقد ورد في حديث آخر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصُّور قَرْنُ مِن نورٍ فيهِ اثْقابٌ على عَدَدِ أرْواح العِبادِ» (٣).

وهذان الحديثان يؤكّدان أنّ هذا التفسير هو كناية عن موضوع هام بيّن في هذا المجال.

ولكن نلاحظ في أقوال بعض المفسرين أنّ (الصور) مأخوذ من جمع (صورة) وقالوا : إنّ المراد النفخ في صُوَر وأبدان الناس فتدب الحياة فيهم.

إنّ هذا التفسير يتناسب مع النفخة الثانية أي نفخة الاحياء وليس النفخة الأُولى ، ولقد رُفض هذا التفسير من قبل بعض أرباب اللغة حيث ورد هذا المعنى في (لسان العرب) عن بعض علماء اللغة قال : هذا خطأ فاحش ونوع من التحريف في كلام الله تعالى وذلك لأنّه ورد جمع (الصورة) في آيات قرآنية أُخرى على (صُوَر) على وزن فُعَل وليس (صُوْر) وإذا

__________________

(١). ورد هذا الكلام في تفسير روح الجنان ، ج ٩ ، ص ٤٢١.

(٢). لئالىء الأخبار ، ج ٥ ، ص ٥٣.

(٣). علم اليقين ، ص ٨٩٢.

٤٢

قرأَ أحد جملة «ونُفِخَ في الصُّوْر» «الصُّوَرِ» بفتح الواو فقد إفترى على الله وحرَّف كتابه ، فكما أنّ هذا التفسير لا يتوافق مع الروايات السالفة الذكر كذلك لا يتوافق مع الآيات التي وردت فيها تعابير (صعقة) (وزجرة) و (ناقور) وغيرها.

ولا يستبعد أنْ يكون هذا ناتجاً عن عدم هضم معنى (نفخ في الصور) ، في حين أنّ الصور ليس بوقاً عادياً وليست النفخة شبيهة بنفخاتنا.

وعلى أيّة حال فإِن التفسير الثاني هو الأنسب من بين التفاسير الثلاثة التي قيلت بهذا الصدد ، حيث إنّه ينسجم وسياق ظاهر الآيات ولابدَّ لنا من الاعتراف بعجزنا عن اعطاء توضيح كامل عن نفخة الصور.

* * *

٢ ـ تأثير الأمواج الصوتية على الإنسان وسائر الموجودات

من المعلوم أنّ الصوت نوع من الأمواج التي تتحرك في الهواء وفي السوائل أو الجمادات والأصوات التي تسمعها اذن الإنسان يجب أن لا تقل ذبذباتها عن ٢٠ ولا تزيد عن ٢٠٠٠٠ في الثانية .. وهناك مخلوقات تسمع الأصوات التي تزيد ذبذباتها عن ذلك ، ومن بينها طائر الخفاش حيث إنّ لهذا الحيوان القابلية على سماع الأصوات التي يبلغ مقدار ذبذباتها ١٤٥ ألف ذبذبة (١) في الثانية ، ومن المعروف أنّ الحيوانات تدرك الهزة الأرضية قبل الإنسان ولعل السبب في ذلك يعود إلى هذا العامل حيث إنّها تسمع الأمواج الصوتية المنبعثة منها والتي لا يتمكن الإنسان من إدراكها ، وكما هو معلوم فإنّ الأمواج الصوتية الشديدة تسبب أحياناً تدمير كل شيء ، وما تأثير القنابل والمواد المنفجرة على الإنسان والأبنية إلّابفعل هذه الأمواج الشديدة التي يُعبّر عنها بـ (أمواج الانفجار) فهي قادرة في لحظة واحدة على تحطيم أي مقاومة تواجهها ، فتحول الإنسان والأبنية إلى حطام متناثر.

على هذا الأساس ليس من العجب أن تكون صيحة القيامة هي السبب في إماتة الناس

__________________

(١). يراجع كتاب الصوت ، ص ٥٧ ؛ والنجوم للجميع ، ص ٩٠.

٤٣

وجميع المخلوقات وازالة الجبال في مدّة قصيرة ، ويُحبذ أن ننقل كلاماً للإمام علي عليه‌السلام ورد في نهج البلاغة : «ويُنفَخُ في الصُّوْرِ فتزهَقُ كُلُّ مُهْجةٍ وتبكُم كُلُّ لَهْجَةٍ وَتذلُّ الشُّمُّ الشوامخ والصُّمُّ الرَّواسخُ فَيَصيرُ صَلْدُها سَراباً رقرَقاً وَمَعْهَدُها قاعاًسَمْلَقاً» (١).

فحَريٌّ بنا أن نُدرك أنّ هذه الأشياء تخص (نفخة الإماتة) ومن البديهي أنّ (نفخة الإحياء) شيء آخر فهي صرخة النهوض والحياة والحركة والنشاط.

وتبقى معرفتنا بهذه النفخة وسائر المسائل المتعلقة بيوم القيامة محدودة جدّاً.

* * *

٣ ـ إجابات حول نفخة الصور

١ ـ هل أَن نفخة الصور تقع مرتين فقط؟

من المعلوم أنّ الآيات القرآنية تشير إلى وجود نفختين (نفخة الإِماتة ونفخة الإِحياء) وقد لاحظنا ذلك في الآيات السالفة الذكر.

ولكن يستفاد من بعض الروايات أنّ نفخة الصور تتحقق ثلاث مرات حتى أنّ بعض الروايات تستدل بالقرآن على ذلك ولقد نُقل في كتاب لئالئ الأخبار عن المرحوم (الديلمي) في كتاب إرشاد القلوب هذا الحديث : «وله أي «اسرافيل» ثلاث نفخات «نفخة القرع» و «نفخة الموت» و «نفخة البعث» فاذا فنيت الدنيا أمر الله اسرافيل أن يهبط إلى الأرض وينفخ نفخة الفزع كما قال تعالى : (وَيَومَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ). (النمل / ٨٧)

... وتزلزلت الأرض وتذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها ويميد الناس ويقع بعضهم على بعض كأنّهم سكارى وما هم بسكارى ، وأمّا نفخة الإحياء فقال تعالى : (وَنُفِخَ في الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ). (الزمر / ٦٨)

(وكما قال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢). (الزمر / ٦٨)

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ١٩٥.

(٢). لئالىء الأخبار ، ج ٥ ، ص ٥٤ (مع التلخيص).

٤٤

ولقد أضاف البعض نفخة رابعة إلى هذه النفخات الثلاث وهي نفخة الجمع والحضور ، والظاهر أنّ هذه النفخة أخذت من قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَميْعٌ لَّدَيْنَا مُحضَرُونَ) (يس / ٥٣)

ولكن في الواقع أنّها نفس هاتين النفختين ، اتسعتا وتبدلتا إلى أربع نفخات ، وذلك لأنّ الفزغ الأكبر ماهو إلّامقدمة لموت الناس الذي يحدث على أَثر إدامة واستمرار نفخة الحياة ، ويمكن أَن نُؤكد هذا المعنى بالرجوع إلى قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (تأمل). (النازعات / ٦ ـ ٧)

* * *

٢ ـ مَن الملك المأمور بنفخة الصور

ورد في الأحاديث الشريفة أنّ هذا الملك هو اسرافيل ، ويعتقد البعض أنّ هذه الكلمة تعني في اللغة السريانية (عبدالله) ، ولقد ورد في حديث عن الإمام السجاد عليه‌السلام : «أنّ الله يأمر اسرافيل فيهبط إلى الدنيا ومعه صور ...» (١).

ويستفاد من بعض الروايات أنّ اسرافيل هو أقرب الملائكة لله (٢) وهو أول من سجد لآدم من الملائكة (٣).

وما كون نفخة الموت والحياة بيده إلّادليلاً على عظمة منزلة هذا الملك ، ويستفاد من الرواية الواردة عن الإمام السجاد عليه‌السلام : «أنّ نفخة الموت تكون من قبل اسرافيل ، وبعدها يقول الله لاسرافيل : مت فيموت اسرافيل وتنفخ نفخة الحياة من قبل الخالق نفسه تبارك وتعالى» (٤).

* * *

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٣٢٤ ، ح ٢.

(٢). لغتنامه دهخدا ، مادة (اسرافيل).

(٣). سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤١٤ مادة (سرف).

(٤). تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٥٠٢ ، ح ١١٦.

٤٥

٣ ـ ما هي الفترة الزمنية بين النفختين

يستفاد من آيات القرآن الكريم بشكل عام أنّ هناك فترة زمنية بين نفختي الإماتة والإحياء وأنّ تعبير (ثم) الذي ورد في الآية ٦٨ من سورة الزمر يؤكد هذا المعنى ولكن ورد في بعض الروايات أنّ أمد هذه الفترة أي (أنّ ما بين النفختين أربعون سنة) ولا أحد يعلم هل أنّ هذه السنين من سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة التي يعادل كل يوم منها خمسين الف سنة.

وعلى أيّة حال فإنّ هناك حوادث عظيمة تقع مابين النفختين يتشكل خلالها عالم جديد وحياة جديدة للناس ، فلا يبقى في هذه الفترة أيُّ مخلوق حيّ في العالم بأسره إلّاوجهُ الله الحيّ القيوم ، وأمّا ما جاء في الآيتين ٦٨ من سورة الزمر و ٨٧ من سورة النمل اللتين ذكرتا جملة (إِلَّا مَنْ شَآءَ اللهُ) لا يعني أنّ هؤلاء لا يشملهم الموت بل إنّ موتهم موكول إلى زمان لاحق ، أي أنّ أجلهم يتأخر ، والشاهد على ذلك هذه الآية التي وردت في ثلاث آيات من القرآن الكريم : (كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ). (١) (آل عمران / ١٨٥)

والجدير بالذكر هنا أنّ (النفس) لها مفهوم واسع يشمل جميع الموجودات الحية ، أمّا من هم الذين استثنتهم الآية؟ فقد ذكر المفسرون احتمالات عديدة في ذلك ، فقال البعض : إنّهم مجموعة من ملائكة الله المقربين أمثال (اسرافيل وجبرائيل وميكائيل وعزرائيل) ، ولقد أضاف بعضهم جملة العرش. ، وقيل أرواح الشهداء (في الأبدان المثالية) وقيل : خزنة الجنّة ومالكو النّار.

ويستفاد من رواية الإمام السجاد عليه‌السلام أنّ جميع الكائنات تموت عند الصيحة الاولى ماعدا اسرافيل الذي ينفخ في الصور ثم يموت بعد ذلك بأمر الله تعالى.

* * *

٤ ـ فلسفة نفخة الصور؟

إذا كانت حقيقة نفخة الصور غير واضحة لنا بشكل تام ، فلم تكن فلسفته التربوية خافية

__________________

(١) راجع الأنبياء ، ٣٥ ؛ العنكبوت ، ٥٧.

٤٦

علينا .. والمهم لنا هو الآثار التربوية لهذه العقائد الحقّة.

فنفخة الصور تبيّن لنا :

١ ـ إماتة واحياء جميع المخلوقات ليست حالة عسيرة على الله تبارك وتعالى ، فهو تعالى قادر على إماتة جميع الخلائق بأسرها بصيحة واحدة تصعقها جميعاً ، وكذلك هو قادر على أن يحيي جميع الخلائق بصيحةٍ عظيمة اخرى وكأنّ المخلوقات كانت في سبات فتبعث هذه الصيحة على ايقاظهم من نومهم العميق ، وهذا جواب لمن يشك في المعاد أو لمن يعتقد بأنّ المعاد من الامور المستحيلة الوقوع كما كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً.

٢ ـ نفخة الصور انذار لجميع الناس بعدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها لكي لايقعوا في الغرور والغفلة ، وأن يؤمنوا بأنّ صيحة القيامة ونفخة الموت ممكنة الوقوع في كل حين وأنّهم سائرون إلى ديار العدم إلى الموت الذي يطوي جميع آمالهم وأمانيهم.

٣ ـ تعتبر نفخة الصور وايعازها بنهاية هذا العالم وبداية عالم آخر من الدروس التربوية العميقة للناس ، فالإيمان بذلك يجعلهم مُهيّأون لاستقبال مثل هذه الحادثة العظيمة وإذا آمنوا بذلك فانّهم لن يتواكلوا بتأخير الأعمال إلى الغد ، فليس هناك تاريخ معين لوقوع هذه الحادثة المباغتة التي تقع من غير مقدّمات.

ونذكر حديثاً للإمام السجاد عليه‌السلام في هذا المعنى ينقله الراوي بعد شرح موجز حول نفخة الصور فيقول : عندما يصل الإمام عليه‌السلام إلى هنا : (رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك بكاءً شديداً) (فالإمام في غاية الوجل من مسألة النهاية المباغتة للدنيا وحلول الآخرة والحضور أمام الله تبارك وتعالى) (١).

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر ؛ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٣٢٤.

٤٧
٤٨

٣ ـ صحيفة الأعمال

ملاحظة : نجد في الكثيرمن الآيات القرآنية بحوثاً واسعة حول صحيفة الأعمال وقد ذُكرت بتعابير مختلفة ، فقد ورد في أكثر الآيات تعبير (الكتاب) الذي يحمل مفهوماً واسعاً فهو يشمل الصحيفة ويشمل الكتاب أيضاً.

ولقد ورد في البعض الآخر تعبير (زُبر) جمع (زبور) وهذا التعبير له مفهوم قريب من الكتاب.

وقد جاء في البعض الآخر منها تعبير (طائر) وهو الطير الذي كان العرب يتفاءلون به ، وكانوا يعتقدون بأنّ مصيرهم مرتبط به ، فيقول القرآن لهم إنّ طائر الخير والشر هو نفس صحيفة أعمالكم.

وقد وردت في بعض الآيات أشارة إلى كلام محرري صحف الأعمال وعبرت عنهم بتعابير مختلفة كالرقيب والعتيد أو رسل الله أو (كراماً) أو (متلقيان) وكل واحد منهم مأمور بعمل خاص ، (تأمل).

من هنا نقول : ماهي صحيفة الأعمال؟ وهل أنّ لكل إنسان صحيفة أعمال واحدة ، أم أكثر من ذلك؟ ومن هم كُتاب صحف الأعمال؟ وكيف يتمّ تسجيل هذه الصحف؟ وكيف تعطى باليمين أو بالشمال؟

هناك بحث واسع في هذا الصدد سنتعرض إليه بعد ذكر الآيات التي تدور حول هذا الموضوع ، مع عدم الغفلة عن التعرض بالدرجة الاولى للمسائل التربوية والأخلاقية في هذه الآيات :

١ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحيِ الْمَوتَى وَنَكْتُبُ مَاقَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىءٍ احْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ). (يس / ١٢)

٤٩

٢ ـ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الُمجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). (الكهف / ٤٩)

٣ ـ (أَمْ يَحسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). (الزخرف / ٨٠)

٤ ـ (وَتَرى كُلَّ امَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ امَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَاكُنْتُم تَعْمَلُونَ). (الجاثية / ٢٨ ـ ٢٩)

٥ ـ (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً* إِقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسيِباً). (الإسراء / ١٣ ـ ١٤)

٦ ـ (وَكُلُّ شَىءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ). (القمر / ٥٢ ـ ٥٣)

٧ ـ (وَكُلَّ شَىءٍ أَحصَيْنَاهُ كِتَاباً). (النبأ / ٢٩)

٨ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَّرقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ). (المطففين / ٧ ـ ٩ و ١٨ ـ ٢١)

٩ ـ (إِذْ يَتَلقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (ق / ١٧ ـ ١٨)

١٠ ـ (وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ). (الانفطار / ١٠ ـ ١٢)

١١ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَه) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُوْتَ كِتابِيَه* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَه). (الحاقة / ١٩ ـ ٢٥ ـ ٢٦)

١٢ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ* فَسَوفَ يَدْعُواثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً). (الانشقاق / ٧ ـ ١٢)

١٣ ـ (فَأَصْحَابُ المَيْمَنةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنةِ* وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَآأَصْحَاب

٥٠

الْمَشْئَمَةِ). (الواقعة / ٨ ـ ٩)

١٤ ـ (وَأَصْحَابُ الَيمِينِ مَا أَصحَابُ الَيمِينِ* فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ) (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِى سَمُوْمٍ وَحَمِيمٍ). (الواقعة / ٢٧ ـ ٢٨ و ٤١ ـ ٤٢)

١٥ ـ (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) ... (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ). ١ (التكوير / ١٠ ـ ١٤)

جمع الآيات وتفسيرها

تتحدث الآية الاولى عن الحياة بعد الموت وعن كتاب الأعمال ، ذلك الكتاب الذي يكتب بيد القدرة الإلهيّة وتثبت فيه أعمال الناس كلها وعبر عنه بـ «الإمام المبين» (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكتُبُ مَاقَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىءٍ أَحصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبينٍ).

فما المراد بالآثار؟

قيل : إنّ عبارة (ما قدموا) إشارة إلى الأعمال التي يؤدّيها الإنسان ، (وآثارهم) إشارة إلى السنن التي يخلفها بعد موته أو آثار الخير والصدقات الجارية مثل الأبنية والأوقاف والكتب العلمية والتربوية.

وقيل أيضاً : إنّ المراد بـ (ما قدموا) النيات التي تحصل قبل أداء العمل ، و (آثار) إشارة إلى الأعمال التي تنجز بعد النيّة وقيل إنّ (ماقدموا) إشارة إلى الأعمال الصالحة والسيئة ، و (آثار) إشارة إلى الخطوات التي يخطوها الإنسان لانجاز هذه الأعمال ، فيقال للقدم من هذه الجهة (أثر) حيث تترك الاقدام أثرها على الأرض وخاصة الترابية.

ونذكر حديثاً حول نزول هذه الآية ، حيث إنّ فريقاً من الأنصار (طائفة من بني سلمة كانوا في ناحية المدينة فشكوا إلى الرسول بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه فأرادوا النقلة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم» (١).

«الإمام المبين» : هو اللوح المحفوظ الذي تثبت فيه جميع الحقائق حسب قول الكثير من المفسرين وبناءً على ذلك يستفاد من التعبير أعلاه أنّ الإمام المبين هو غير صحيفة

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، جزء ٢٢ ، ص ٤١٨ ؛ تفسير الكبير ، ج ٦ ، ص ٤٩ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٤ ـ ٥٦.

٥١

الأعمال التي تختص بكل فرد ، بل هو كتاب عمل عام ، فهذا اللوح بمنزلة سجل عام تحصى فيه جميع أعمال الناس ، وسوف نوضح هذا الكلام في موضوع (تعدد صحف الأعمال).

عبارة (مبين) إشارة إلى ذكر اللوح المحفوظ وصحيفة الأعمال لجميع الأعمال نظراً لأنّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الأعمال الصالحة أو السيئة إلّاأحصاها.

ولقد جاء في روايات متعددة أنّ المراد من (الإمام المبين) هو الإمام المعصوم الذي يبيّن جميع الحقائق بأمر الله تعالى وبتعليم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي هذا الصدد ورد حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير على بن إبراهيم عليه‌السلام قال : «أنا والله الإمام المبين! أُبيّن الحق من الباطل ، ورثته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ومن خلال هذه التفاسير يتبيّن أنّ للإمام المبين مفهوماً واسعاً فكما يشير ظاهرهُ إلى كتاب الأعمال الذي يدون جميع أعمال الناس كذلك يشير باطنه إلى الإمام المعصوم الذي يُبيّن الحق من الباطل من خلال العلم الذي يرثه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

ولقد أشارت الآية الثانية إلى هذا المعنى بصراحة أكثر : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الُمجْرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) فهل أنّ هذا الكتاب هو كتاب أعمال الناس الذي أشارت إليه الآيةُ الاولى؟ أم أنّه كتاب أعمال كل امةٍ أو كتاب أعمال كل إنسان؟ (وذلك ـ وكما سنوضح ذلك في البحوث المقبلة إن شاء الله ـ أنّ هذه الأنواع الثلاثة من كتب الأعمال .. أخذت من آيات القرآن الكريم).

فالاحتمالات الثلاثة ممكنة في تفسير هذه الآية ولو أنّ من الممكن أن يكون ذكر (الكتاب) بصورة المفرد إشارة إلى كتاب أعمال جميع الناس ، ويستفاد من الآية الكريمة أنّ هذا الكتاب يعرض جميع جزئيات أعمال الإنسان الصالحة والسيئة ، الكبيرة والصغيرة ، حتى أنّ أصحابها يصيبهم الوجل والخوف من أعمالهم ، وسبب وجلهم يعود إلى حضورهم

__________________

(١). تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٢١٢.

٥٢

في محكمة العدل الإلهي من جهة ومن جهة اخرى أنّهم قد نسوا الكثير من الأعمال ولم يعطوها أهميّة ، ولكنّها اليوم تجسدت أمام أعينهم ، ومن جهة ثالثة ، الفضيحة العظمى أمام الخلائق.

ويجب أن ننتبه إلى هذا المعنى وهو أنّ كلمة (يغادر) مشتقة من مادة (غَدْر) بمعنى الترك ، وبناء على ذلك يكون مفهوم هذه الجملة هو أنّ هذا الكتاب لا يترك شيئاً إلّاوسجّلهُ ، ويقال لنكث العهد غدر وذلك بسبب عدم الوفاء به.

* * *

وتتحدث الآية الثالثة عن كتابة رسل الله تبارك وتعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَانَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِم يَكْتُبُونَ).

ومن الواضح أنّه لا يوجد هناك تضارب بين هذه الآية والآية التي تقول : (إِنَّا نَحنُ نُحْيِ المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُم) نظراً لأنّ عمل الرسل والملائكة إنّما هو في الحقيقة عمل الله تبارك وتعالى لأنّه يجري بأمره ، وهناك احتمال بأنّ كتاب أعمال الناس جميعاً (الإمام المبين) يكتب بيد القدرة الإلهيّة ، أي بصورة مباشرة ، أمّا كتاب أعمال كل إنسان الذي عرض في هذه الآية فيكتب بواسطة الملائكة ، أمّا تعبير (الرسل) وهو جمع رسول فالمراد به هنا الملائكة المأمورون بكتابة الأعمال ، وليس المقصود وجود عدد من الملائكة لكل إنسان بل يمكن أن يكون لكل فرد ملك واحد أو ملكان فيكون بصورة الجمع بالنسبة لمجموع الناس.

يقول الزمخشري في الكشاف : (السّرّ) ما حدّث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال أمّا النجوى ما تكلّموابه فيما بينهم همساً (١).

* * *

__________________

(١). تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٢٦٥.

٥٣

الكتاب الذي يتكلم :

الآية الرابعة تنسب عملية تدوين الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى إضافة إلى ذلك دلّلت على أنّ صحف الأعمال تنطق يوم القيامة : (وَتَرى كُلَّ امَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ امَّةٍ تُدعى إلى كِتابِها ...* هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَاكُنْتُم تَعْمَلوُنَ).

فهي تتحدث بوضوح عن كتاب أعمال الامم والذي هو أحد الأقسام الثلاثة لكتب الأعمال ، وتعدد هذه الكتب يؤكد حقيقة تسجيل كل أعمال الإنسان وعدم ترك صغير ولا كبير منها ، ويدل تعبير ـ تُدعى ـ على أنّهم يدعون ليقرأوا كتبهم ، وبالتالي يكونون هم المحاسبين لأنفسهم ، كما جاء صراحة في الآية الشريفة : (إِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَومَ عَلَيكَ حَسِيباً). (الاسراء / ١٤)

«وجاثية» : مشتقة من (الجُثوّ) على وزن (عُلوّ) بمعنى الجلوس على الركب والسبب في اتخاذ هذه الجلسة من قبل أهل المحشر يعود إمّا لشدّة الخوف أو هي شَبَه للحالة التي كان يتخذها المتهمون في قديم الزمان عند الحضور في المحكمة لإبداء الرأي ، حيث يجلسون جلوس القرفصاء ، وهو الوضع الذي يتخذه الإنسان عند انتظاره للحوادث المهمّة.

ومن الملفت للنظر هنا نسبة تسجيل الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى ، وهذا يدل على أنّ كاتب الأعمال ليس بالذي تتصور فيه الغفلة أو الخطأ وهو عليم ومحيط بكل شيء ، و (نستنسخ) من مادة (نسخ) وحسب قول أهل اللغة أنّ النسخ إزالة شيء بواسطة شيء آخر ويلازمه نفي لشيء وإثبات لشي آخر ، وتستعمل هذه الكلمة بمعنى النفي أحياناً واخرى بمعنى الإثبات وثالثة بمعنى الإثبات والنفي معاً.

من هنا يتبين أنّ الاستنساخ يعني إثبات موضوع مع صرف النظر عن آخر.

* * *

ونجد في الآية الخامسة تعبيراً آخر هو (الطائر) : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً* إِقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ الْيَومَ عَليكَ حَسيِباً).

٥٤

و «الطائر» : في الأساس ، هو الطير ويراد به العمل أو كتاب الأعمال حسب قول الكثير من المفسرين ، ويعود هذا الربط إلى العادات والتقاليد العربية حيث كانوا يتفاءلون للخير والشر بواسطة الطيور ، فبعض الطيور يبشر بالسعادة واليمن والبركة ، فاذا عرض لهم هذا الطير أثناء خروجهم من منزلهم أو من مدينتهم استبشروا ورأوا ذلك دليلاً على الانتصار والنجاح ، وعلى عكس بعض الطيور التي يعتقدون بأنّها نذير شؤم ، فالطائر يستخدم للتفاؤل والتشاؤم معاً ، لذا فقد قال بعض المفسرين إنّ ما يقابل كلمة طائر في اللغة الفارسية هو (البخت) ومن هنا يعتبر القرآن الكريم أنّ العامل الرئيس للسعادة والشقاء هو أعمال الإنسان ، وقد استعملت هذه الكلمة للتعبير عن كتاب هذه الأعمال ، وبهذا المعنى فقد صنع القرآن الكريم من مفهوم خرافي لا أساس له حقيقة واقعية ودعا الناس إليها ، مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) حيث يمكن القول أنّ تفسير الطائر بالعمل أنسب من تفسيره بكتاب الأعمال وذلك لأنّه ذكر كتاب الأعمال بشكل مستقل فلكون الأعمال متعلقة بعنق الإنسان فهي لا تنفك عنه أبداً ، فإن كان العمل صالحاً فيسعد ويأنس به صاحبهُ وإن كان سيئاً فيؤذي صاحبه كالغل أو السلسلة.

وهناك مسألتان اخريان في هذه الآية :

الاولى : عرض كتاب الأعمال يوم القيامة واطلاع الآخرين عليه ، فيكون عاملاً في فضيحة صاحبه لدى جميع الخلائق.

الثانية : إنّ كتابة صحيفة الأعمال واضحة بحيث لا حاجة إلى الحسيب بل يكفي أن يطلع الإنسان على أعماله ويحاسب نفسَهُ بنفسهِ.

فكما يدلّل اصفرار اللون والكآبة على وجود حالة مرضية كذلك تدلّل الطراوة وامتلاء الوجنات والنشاط على الصحة والسلامة ، وبهذا يستطيع المريض أن يحكم على نفسه بالمرض أو السلامة ولا حاجة لشهادة الآخرين.

* * *

٥٥

في الآية السادسة نلاحظ تعبيراً جديداً بخصوص الأعمال وهو كلمة (زبر) ، والزبر جمع زبور وهو بمعنى الكتاب.

قال تعالى : (وَكُلُ شَىءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) ومع أنّ هذه الآية أشارت إلى وضع الأقوام السابقة التي كانت لديها أعمال كأعمال الكفّار الذين عاصروا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن من البديهي أنّه تعالى عندما يصرِّح بأنّ جميع أعمالهم مثبتة ومسجلة في كتاب ، فهذا المفهوم يعني أنّ أعمال جميع الناس تكون على هذا النحو ..

«وزُبُر» : مشتق من (زُبْرَة) على وزن (سُفرة) بمعنى قطعة الحديد الكبيرة ثم اطلقت هذه الكلمة على الخطوط العريضة التي تكتب على الصفحات الكبيرة ، لذا يقول الراغب الإصفهاني في مفرداته : كل كتاب غليظ الكتابة يقال له (زَبُور) ويستفاد من هذا التعبير أنّ الزبور لا يطلق على كل كتاب بل يشترط فيه عظمة الخط وغلظته ، وأنّ اختيار هذا التعبير لكتاب الأعمال يعبر عن عمق المعنى فهو يبيّن ثبوت ووضوح هذا الكتاب.

إنّ تعبير (الصغير) و (الكبير) وتقديم الصغير على الكبير الذي لم يرد في هذا الموضع من القرآن فقط بل في مواضع متعددة ، إشارة إلى عدم وجود أي استثناء في تسجيل أي عمل وأي شخص.

أمّا (مستطر) فمأخوذة من مادة (اسطر) وتعني الكتابة ، وهذا تأكيد آخر على أنّ تسجيل الأعمال وجميع الأقوال وحتى النيات قد جمع في مفهوم الآية ، (تأمل).

* * *

وقد صرحت الآية السابعة بأنّ الكافرين يظنون أنّهم لن ينالوا جزاء أعمالهم يوم القيامة ، فهم يكذبون الآيات الإلهيّة في حين : (وكلَّ شىءٍ احْصَيْنَاهُ كِتَاباً).

و «أحصيناه» : مأخوذة من مادة (إحصاء) ومشتقةٌ في الأصل من احصى حيث كانوا في الماضي يستعملون الحصى لعد الأشياء بدلاً من أصابع اليد ، وكلمة إحصاء بمعنى العد وجاءت لحفظ الحساب.

٥٦

يقول بعض المفسرين : إنّ مفهومها هنا ينطبق مع مفهوم الكتابة ولهذا السبب أعربوا كتاباً ، مفعولاً مطلقاً لأَحصينا ، في حين يجب أن يكون المفعول المطلق من مادة نفس الفعل الذي قبله ، وبما أنّ معنى الكلمتين واحدٌ فيمكن أن يحل أحدُهما محل الآخر (١).

* * *

كتب في عليين وأخرى في سجين :

الآية الثامنة التي وردت في موضعين من سورة المطففين تشير إلى كتاب أعمال الأبرار والفجار ، وقد كشفت عن جزئيات أكثر ، فقد ذكرت أولاً كتاب أعمال الفجار : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ* وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ* كِتابٌ مَرْقومٌ).

وبعد عدّة آيات من نفس السورة جاء كتاب أعمال الأبرار : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَّرقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ).

وقد ورد في هذه الآيات كلام عن (سجين) و (عليين) التي تحفظ فيها كتب أعمال الفجار والأبرار ، لذا يجب توضيح معنى هاتين الكلمتين بدقّة :

«سِجّين» : هي صيغة مبالغة مشتقة من مادة (سِجن) بمعنى السجن ، ولقد ذكر المفسرون معانيَ مختلفة لهذه الكلمة مثل النّار أو موضع خاص من النّار تحفظ فيه كتب الفجار.

ونحن نقول : إنّ أصح الأقوال هو إنّ سجين كتاب جامع تجمع فيه كتب أعمال جميع الفجار ، وبتعبير أوضح أنّ هذا الكتاب كمثل السجل العام الذي يسجل فيه حساب جميع الدائنين والمدينين.

أمّا (عليين) فهي جمع (علي) على وزن (ملي) وهو في الأصل مشتق من العلو ، وهو إشارة إلى المكان المرتفع ، ولذا يطلق هذا الاسم على الأشخاص الذين يسكنون المناطق المرتفعة من الجبال ، وحسب قول بعض المفسرين : إنّ المراد (بعليين) أعلى أماكن الجنّة أو أعلى مكان في السماء ، ومن خلال المقارنة بين الآراء حول سجين يتضح أنّ عليين كذلك

__________________

(١). وقيل إنّ (كتاباً) حال ، ولكن الاحتمال الأول هو الأصح.

٥٧

يعني السجل الكبير الذي تجمع فيه كتب أعمال الأبرار والصالحين وهو سجل عالي المرتبة والمقام في جوار الله تبارك وتعالى (١).

* * *

الملائكة المراقبون :

الآية التاسعة لم تتحدث في الظاهر عن كتاب الأعمال لكونها عرضت هذه الحقيقة بتعبير آخر : (اذْ يَتَلقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) فمن الواضح أنّ التلقي هنا إشارة إلى التسجيل في صحف الأعمال ، ثم قال تعالى للتأكيد أكثر (مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

«يتلقى» : مشتق من مادة (لقاءِ) ولكن تلقي الأعمال هنا كناية عن أخذها وتسجيلها.

«المتلقيان» : هُما الملكان المأموران بأخذ وتسجيل أعمال الناس.

«قعيد» : من مادة قعود وهو الجلوس ، ويراد منها الملازم والمراقب كما نقول في كلامنا المتداول أنّ فلان جليس فلان بمعنى الملازم والمراقب له (٢).

«يلفظ» : مشتقة من مادة (لفظ) بمعنى قذف الشيء ، كما يقال (لفظت الرحى الدقيق) وتطلق هذه الكلمة على ما يخرجه الإنسان من فمه ، فكأنّها أشياء تقذف إلى الخارج.

«رقيب» : كما قال الراغب في مفرداته مشتق من مادة (رقبة) ، ويطلق على الشخص الذي يحافظ ويراقب شيئاً معيناً أو شخصاً.

«عتيد» : مشتق من مادة (عتاد) على وزن (جِهاد) بمعنى إعداد عدّة وذخيرة شيء قبل الحاجة ، لذا يطلق على الشخص المستعد لأداء فعل معين بـ (عتيد).

__________________

(١). يجب الالتفات إلى أنّ عليين جمعت حسب قاعدة جمع المذكر السالم في حين أنّ سجين مفرد ولكن هذا لا يمنع من أن يطلق ذلك على المكان المرتفع والمقام العالي بسبب علو مكانته ومنزلة ساكنيه.

(٢). المتلقيان مثنى ، وعلى هذا فلابدّ أن يكون (قعيد) مثنى أيضاً ، ولكن هناك حذف في الآية والتقدير ، عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وحذفت الاولى بقرينة الثانية.

٥٨

ولقد قال صاحب كتاب مقاييس اللغة : إنّ المعنى الأصلي ل (عتيد) القوة والضرب ، وهذا المعنى بالنسبة للمعنى السابق كنسبة اللازم إلى الملزوم ، على كل حال فهل أنّ كل واحد من هذين الوصفين مختص بأحد الملكين والآخر بالملك الثاني فيكون الأول مراقباً والثاني معداً للتدوين والتسجيل أم أنّ كليهما يدلان على هذا المعنى أي كلاهما يقومان بمراقبة أعمال الإنسان وتسجيل وتثبيت أعماله أيضاً.

يعتقد بعض المفسرين ، أنّ الرقيب هو إسم لملك اليمين (الذي هو مأمور بكتابة أعمال الخير) والعتيد اسم لملك الشمال (الذي هو مأمور بكتابة أعمال الشر).

ولكن يظهر من أقوال بعض المفسرين ، أنّهم ذكروا كلا الوصفين لكلا الملكين ، أي إنّ كل واحد منهما رقيب وفي عين الحال عتيد أيضاً ولقد نقلت حول هذين الملكين روايات عديدة بالغة الأهميّة نذكر من جملتها حديثاً عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال فاذا عمل حسنة كتبها له اليمين بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين امسك فيمسك عنه سبع ساعات فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر الله كتب له سيئة واحدة» (١).

وتحمل مثل هذه الروايات للإنسان رسالة تربوية واضحة ، ونستنتج من خلال هذه الرواية وبعض الروايات الاخرى أنّ عمل كلٍّ من هذين الملكين منفصل عن الآخر وسوف نفصِّل الموضوع أكثر في فقرة (التوضيحات).

* * *

كُتّاب صحيفة الأعمال :

لقد ورد في نفس هذه الآية كلامٌ عن (الكاتبين) وسعة اطلاعهم ومعلوماتهم : (وَإِنَّ عَلَيْكُم لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٤٤ ؛ وكذلك في تفسير روح المعاني ، ج ٢٦ ص ١٦٤ ؛ وكذلك ورد في تفسير المراغي ، ج ٢٦ ، ص ١٦١.

٥٩

فمن الواضح أنّ المراد بـ (حافظين) الملائكة المأمورين بحفظ وتسجيل الأعمال ، وليس المراد حفظ الإنسان من الحوادث المختلفة ، والله تبارك وتعالى وصف هؤلاء الملائكة بأربعة أوصاف ولكنها لازمة وملزومة لبعضها في نفس الوقت ، وهذه الأوصاف هي :

١ ـ حفظ ومراقبة الأعمال.

٢ ـ (الكرام) و (كرام) جمع (كريم) وهي إشارة إلى عظمتهم وعلو شأنهم وإن كانوا مأمورين بإحصاء أعمال الإنسان ، لكنهم لا يشوبون هذا العمل بالغلظة والقوة بل يقرنونه باللطف والكرامة.

وقيل إنّهم كرام لأنّهم يكتبون الأعمال الصالحة مباشرة بعشرة أمثالها ، أمّا الأعمال السيئة وكما ذكر في الرواية السالفة فانّهم يمهلون صاحبها سبع ساعات لعله يتوب.

وقيل : إنّهم كرام لأنّهم يطيرون بالأعمال الصالحة إلى السموات ويعرضونها على الملائكة ، أمّا الأعمال السيئة وبحكم كونه تعالى (ستار العيوب) فانّهم يتسترون عليها ، وكونهم كراماً يجعل الإنسان يراقب أعماله أكثر وذلك لأنّه يستحي من أن يرتكب عملاً قبيحاً في محضر شخص كريم.

٣ ـ (كاتبين) ، وهذا الوصف يعني كيفية حفظهم الأعمال بصريح قوله تعالى ، فهم يكتبون كل الأعمال ولا يعزب عنهم شيء ، ومن المعلوم أنّ الحفظ والكتابة بحاجة إلى اطلاع واسع من جميع الجوانب.

٤ ـ (يعلمون ما تفعلون) ، وهذا التعبير يشمل قول الإنسان وأعمال جوارحه وكذلك الأعمال القلبية.

وذكر كلمة (حافظين) بصورة الجمع ، إمّا أن يكون هناك ملكان في النهار وملكان آخران في الليل يراقبون أعمال الإنسان (كما جاء في بعض الروايات) (١) ، أو لكون المخاطب جميع الناس وبهذا فسيكون الملائكة الذين يراقبون الجميع جمعاً.

__________________

(١). وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ١٥٤ و ١٥٥ ، باب ٢٨ من أبواب المواقيت.

٦٠