نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

ونقرأ أيضاً : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَعتَذِرُوا الْيَوْمَ انَّمَا تُجْزَونَ مَاكُنْتُمْ تَعمَلُونَ). (التحريم / ٧)

فالمعذرة نافعة حين لا تكون القضية متعلّقة بالعلة والمعلول والنتيجة للأعمال.

والآيات التي تتحدث مثلاً عن تجسيد الأعمال وتشبّه أكل مال اليتيم بأكل النّار تدل بأجمعها على هذا المعنى ، وكذلك الروايات التي تقول إنّ الطباع الحيوانية في الإنسان ، تظهر من داخله يوم القيامة وترتسم على خارجه ، فتغدو صور الأشخاص شبيهة بالحيوانات المتميّزة بتلك الطباع.

وخلاصة القول : إنّ هذه الدنيا مزرعة ، والآخرة أوان وزمان الحصاد ، فإن كان الإنسان قد زرع بذور الورد ، فمحصوله أغصان طيبة وطرية ومعطّرة من الورد ، وإن كان قد بذر الشوك فلا يجني سواه.

جاء في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله أوصني فقال : احفظ لسانك ، قال : يا رسول الله أوصني ، قال : احفظ لسانك ، قال : يارسول الله أوصني ، قال : احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النّار إلّاحصائد ألسنتهم» (١).

٢ ـ لا شك في أنّ التبشير والتحذير يعتبران دعامتين أساسيتين في إجراء البرامج التربوية ، فكما أنّ التبشير بالجزاء الأوفر الذي يحظى به الإنسان في الجنّة يُعَدُّ عاملاً فاعلاً في الدعوة إلى طاعة الله وترك معصيته ، فكذلك التحذير والوعيد بالعذاب الصارم في جهنّم يُعتبر هو الآخر مؤثّراً قويّاً في هذا الجانب ، لا بل ثبت بالتجربة أنّ للعقوبات تأثيراً أقوى.

ولهذا فإنّ جميع القوانين التي تسنّها مراكز التشريع القانوني في العالم تضمن عقوبات للمخالفين وهو ما يصطلح عليه علماء الحقوق باسم الضمانة التنفيذية ، وتحظى هذه الضمانة بقدر كبير من الأهميّة بحيث تُعتبر واحدة من العناصر الأساسية التي يبنى عليها القانون ، ولو أنّ قانوناً استُنَّ ولم يتضمن أي عقاب للمخالفين (كالسجن والجلْد والغرامة

__________________

(١). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١١٥ ، ح ١٤.

٣٠١

المالية والحرمان من بعض الحقوق الاجتماعية) فلا يمكن أن يطلق عليه قانوناً.

فكيف تكون القوانين الإلهيّة ـ والحالة هذه ـ خالية من الضمانة التنفيذية؟! فهي عندئذٍ تفقد قيمتها القانونية ، ولايرى المخالفون لها والمتخلفون عنها أي دافع أو وازع لإطاعتها والالتزام بها ، ويبقى هدف القانون عقيماً.

صحيح أنّ الآثار الوضعية والطبيعية لعدم الالتزام قد تكون رادعاً للذين يقومون بمخالفات شرعية ، إلّاأنّها غير كافية لوحدها ، ولهذا فقد أدرج سبحانه وتعالى سلسلة من العقوبات لمن يتخلف عن الالتزام بها ، فكما يهدد أقواماً بالعقوبة الدنيوية (وأمثلة ذلك كثيرة وقد تحققت في الوجود الخارجي وأشار إليها القرآن في تبيانه لحياة الأقوام السالفة) فهو ـ جلّ شأنه ـ قد وضع أيضاً العقوبات في الآخرة لمن يتوانى عن التقيّد بها.

ومن الواضح كذلك أنّه كلما اشتّدت لهجة الترغيب والترهيب ، كلّما كان التأثير أقوى وأكثر.

وهذا الأمر يوضّح أحد الأبعاد الأساسية لفلسفة وجود الجنّة والنّار.

وربّما يقال هنا إنّ جميع الآثار التي عُرضت إنّما تترتب على الوعيد بالعقاب والجزاء ، وعلى هذا ، فما المانع من أن يكون سبحانه وتعالى قد عرض كل هذه التهديدات والتحذيرات ، إلّاأنّها لا تتحقق في القيامة ، لعدم وجود ضرورة لها ، وذلك لخلو ذلك العالم من دروس العبرة للآخرين وانعدام تكرار الذنب من قبل المجرمين؟

إنّ هذا الكلام يستلزم أن يرتكب الله عزوجل ، القبيح وأنّه ـ والعياذ بالله ـ يكذب ويتخلف عن وعده فهو يوعد بالعقاب للمتخّلفين وحتّى أنّه يُقسم بتنفيذ وعيده ، وكيف لا يطبق ذلك فعلياً؟! من البديهي أنّ هذا الفعل قبيح لا يليق بذاته المقدّسة بل ولا يفعله الإنسان المهذب الحكيم.

والنتيجة : أنّ وجوب التهديد والوعيد بالعقاب والجزاء ضمانة تنفيذية ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، لابدّ من تطبيق تلك الوعود والتهديدات لدفع القبح عن ذاته المقدّسة.

وهذه هي فلسفة وجود جهنّم وعقوباتها.

٣٠٢

ومن أجل هذا نصّت الآية الكريمة بالقول : (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ انَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ). (إبراهيم / ٤٧)

ثم يشرح في أعقاب هذه الآية بعضاً من عذاب يوم القيامة.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

٣ ـ أبواب جهنّم وطبقاتها

تمهيد :

من خلال ملاحظة عدد من آيات القرآن الكريم نستنتج أنّ لجهنّم أبواباً متعددة ، وصرّحت احدى هذه الآيات بأنّها سبعة ، فهل تشير هذه الأبواب إلى الأعمال التي تُسقِط الإنسان في النّار وهي في الحقيقة طرق دخول الناس إلى جهنّم؟ كما هو الحال لأبواب الجنّة التي سبق الحديث عنها؟ أم أنّها إشارة إلى طبقات جهنّم ودرجاتها التي ذكرتها الكثير من الروايات؟ أم أنّ كلا المعنيين قد اجتمعا في مفهوم هذه الآيات؟

من الأفضل أن نبحث أولاً في تفسير الآيات المتعلقة بهذا الحقل ، لكي نحصل على جواب السؤال المذكور أعلاه.

ومع هذا التمهيد الوجيز نعود إلى القرآن ونقرأ الآيات الآتية :

١ ـ (وَانَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ اجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ ابوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُم جُزْءٌ مَّقْسُومٌ). (الحجر / ٤٣ ـ ٤٤)

٢ ـ (فَادْخُلُوا ابْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ). (١) (النحل / ٢٩)

٣ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى اذَا جَاءُوهَا فُتِحَت ابوَابُهَا). (الزمر / ٧١)

٤ ـ (انَّ المُنافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْاسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً). (النساء / ١٤٥)

جمع الآيات وتفسيرها

ماهو المقصود من أبواب جهنّم؟

تتحدث الآية الاولى عن أتباع الشيطان ، الذين وصفتهم الآيات السابقة لها ، فقالت:

__________________

(١). ورد نظير هذا المعنى في الآية ٧٢ من سورة الزمر ؛ والآية ٧٦ من سورة غافر.

٣٠٥

(وَانَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ اجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ ابوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُم جُزْءٌ مَّقْسُومٌ).

ولكن ما المقصود من «أبواب جهنّم»؟ ذكر المفسرون احتمالات مختلفة لذلك :

الأول : إنّها إشارة إلى مداخل جهنّم التي تنتهي جميعها في مركز واحد ، كالأبواب المتعددة لبناية واحدة في دنيانا هذه ، وهي في الحقيقة تعبير عن كثرة الداخلين إلى هذا المكان الذي يتجسد فيه الغضب الإلهي ، ويبدو هذا الاحتمال مستبعداً في ظلّ الروايات المتعددة التي تفسر هذه الآية.

الثاني : المقصود هو الطبقات المختلفة في جهنّم والتي تتفاوت في شدّة العذاب ، وعلى هذا فكل واحد من هذه الأبواب السبعة ينفتح على واحدة من تلك الطبقات.

وهناك روايات عديدة وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام وعن طريق أهل السنّة تشهد على هذا التفسير.

فقد ورد في الدرّ المنثور حديث منقول عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «أتدرون كيف أبواب جهنّم؟ قلنا كنحو هذه الأبواب! قال : لا ولكنّها هكذا ووضع يده فوق يده وبسط يده على يده» (١).

وجاء عنه عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «سبعة أبواب النّار متطابقات» (٢).

ونقل عنه عليه‌السلام أيضاً حديث آخر فسَّر فيه الأبواب السبعة لجهنم بالطبقات التي تقع فوق بعضها وسماها بأسمائها وهي :

«فأسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية» (٣).

الثالث : إنّ تعدد تلك الأبواب يرجع إلى تعدد الأقوام الذين يردون منها.

جاء في تفسير روح المعاني نقلاً عن بعض المصادر الخبرية إنّ : «في الدرك الأول

__________________

(١). تفسير درّ المنثور ، ج ٤ ، ص ٩٩.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٨ ، ح ٦٢.

(٣). المصدر السابق ، ص ١٩ ، ح ٦٤.

٣٠٦

المحمديون ، وفي الثاني النصارى وفي الثالث اليهود ، وفي الرابع الصابئون ، وفي الخامس المجوس ، وفي السادس مشركو العرب ، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة) (١).

الرابع : أنّ المقصود من تلك الأبواب هي الأعمال والذنوب التي تسبب دخول جهنّم. والدليل على هذا الكلام ما يأتي :

أولاً : المقابلة الموجودة مع أبواب الجنّة ، فتصف بعض الروايات صراحةً أنّ أحد أبواب الجنّة هو باب «الجهاد» أو أنّ أحد أبواب الجنّة يسمى «باب المجاهدين» (٢) ، وأشارت روايات اخرى إلى الأبواب الاخرى وقالت بوجود صلة بينها وبين أعمال الإنسان كـ «الصبر» و «الشكر» وماشابه ذلك.

ثانياً : الروايات التي تنص على أنّ بعض أبواب جهنّم يدخل منها فرعون وهامان وقارون ، ويرد من بعضها المشركون ، وبعضها الآخر يرد منها أعداء آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، وهذا دليل أيضاً على الصلة بين أبواب جهنّم والذنوب المختلفة.

إلّا أنّ التفاسير الثلاثة الأخيرة يمكن جمعها مع بعضها لأنّ كل واحدة من طبقات النّار أكثر إيلاماً من الاخرى وكل واحدة من الفئات التي تردها أكثر ذنباً وإجراماً من الاخرى ، وكل عمل ارتكبته أسوأ من الآخر ، وعلى هذا الأساس يمكن جمع التفاسير الثلاثة في مفهوم واحد. وبالنتيجة تطالعنا أبواب جهنّم بحقيقة وهي كما أنّ أعمال الإنسان مختلفة مع بعضها وأصناف المجرمين والكفّار متباينة فيما بينها ، فعقوباتهم في العالم الآخر غير متساوية وتختلف فيما بينها اختلافاً شاسعاً.

* * *

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ٤٨ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٦٤٦.

(٢). اصول الكافي ، ج ٥ ، ص ٢ ، ح ٢.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٢٨٥ ، ح ١١.

٣٠٧

تخاطب الآية الثانية الكفّار الذين ظلموا أنفسهم بسلوكهم هذا السبيل الخاطيء وتقول لهم : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبّرينَ).

وما يلفت النظر هنا أنّ «أبواب جهنّم» جاءت هنا بصيغة الجمع في حين يدخل كل فريق من باب واحدة لا من أبواب متعددة ، (فتأمل).

ولعل مرد هذا التعبير هو كون المخاطبين جمعاً ، ومن الطبيعي عندما تريد جماعة الدخول إلى مكان ما له أبواب عديدة ، فكل فريق يدخل من باب ، إذن فهم جميعاً يدخلون من أبواب متعددة ، أو أنّ كل فريق منهم يدخل تحت عنوان خاص من الباب المخصصة له ، كما ويحتمل أيضاً أن يكون مخاطبو هذه الآية في الطبقات الدنيا من جهنّم وهذا ما يحتّم عليهم اجتياز أبواب وطبقات متعددة للوصول إلى هناك.

وعلى أيّة حال فالآية أشارت فقط إلى أبواب الجنّة من غير أن توضّح عددها ، وبتعبير آخر يبدو أنّ جهنّم شبيهة بالسجون الرهيبة المتداخلة في بعضها والمكوّنة من طبقات متعددة ، وهنالك فريق من الضالين والمعاندين يجب أن يمّروا من خلال كل هذه الطبقات لكي يستقروا في «قعر جهنّم» أو «الدرك الأسفل» أو في الطبقات القريبة منه.

* * *

وورد نفس هذا الموضوع في الآية الثالثة وبتعبيرات اخرى حيث قال تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى اذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ ابوَابُهَا).

وكأنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ جهنّم تدرك وصولهم حينما يقتربون ، فتفتح لهم الأبواب فجأة وهذه الرؤية المفاجئة تزيد من روعهم ، في حين جاء نفس هذا المعنى بشأن أصحاب الجنّة فكان مدعاة لمزيد من الفرح والسرور لهم ، ونواجه هنا ثانية ذكر تعدد أبواب جهنّم من غير ذكر لعددها ، ومن ثم يتكرر الحديث هنا أيضاً عن انفتاح جميع الأبواب ، في حين يدخل كل فريق من باب ، وقد يكون اختيار هذا التعبير لأسباب ذكرت في الآية السابقة.

* * *

٣٠٨

وفي الآية الرابعة ليس هناك ذكر للأبواب ، بل تركّز الحديث عن الطبقة السفلى من جهنّم ، وهو ما يظهر تعدد طبقات جهنّم ، إذ تقول الآية : (انَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْاسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً).

يطلق في اللغة العربية على الخطوات الصاعدة نحو الاعلى اسم «الدرجة» وعلى النازلة إلى الأسفل اسم «الدركة».

وهذه الكلمة مأخوذة من المصدر «الدرك» وهو بمعنى بلوغ الشيء ونيله ، ولهذا يطلق على الحبال التي توصل مع بعضها لتصل إلى قعر البئر اسم «الدَرَك» وتسّمى أعمق نقاط البحر أو الاماكن الأخرى باسم «الدَرْك» على وزن (فلك) ، وعلى هذا الأساس وصف «الدرك» في الآية الشريفة بـ «الأسفل» من باب التأكيد والقيد التوضيحي.

وعلى أيّة حال فهذه هي الآية الوحيدة الحاوية على إشارة لطبقات جهنّم ، ويمكن أن نطابق معها الآيات السابقة التي تحدثت عن أبواب جهنّم ، والنتيجة هي نفس ما أفادت به الآيات السابقة وهي أنّ أبواب جهنّم ليست في ازاء بعضها الآخر بل هي فوق بعضها طوليّاً ، إحداها فوق الاخرى.

يقول الفخر الرازي في تفسيره بعد أن يُعطي معنى «الدرك» بأنّه أعمق نقطة في قعر الشيء : «فالدرك مايلحق به من الطبقة ، وظاهره أنّ جهنّم طبقات ، والظاهر أن أشدّها أسفلها» (١).

وممّا يسترعي الانتباه في هذه الآية أنّها حددت أسفل قعر جهنّم كمكان أسوأ للمنافقين ما يدل على أنّ «النفاق» هو أسوأ الذنوب ويستوجب الدرك الأسفل من جهنّم ، وسبب ذلك جلي فالخطر الذي يهدد المجتمع الإسلامي من جَرّاء وجود النفاق يفوق بمرّات عديدة الخطر القادم من الأعداء والكفّار الذين يبدون كفرهم وعداءهم علناً.

وجاء في حديث شريف حول العلماء الفاسدين : «إنّ من العلماء من يحّب أن يخزن

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ١١ ، ص ٨٧.

٣٠٩

علمه ولا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأسفل من النّار» (١).

وكما ذكرنا فإنّ بعض الروايات تفيد أنَّ لكل واحدة من أبواب جهنّم السبع أصحاباً خاصّين ، ففرعون وهامان وقارون مثلاً يدخلون من باب واحد ومن باب اخرى يدخل بنو اميّة ، ويدخل المشركون من باب اخرى وهكذا (٢).

ومن البديهي أنّ دخول فرعون وهامان وقارون أو بني اميّة من هذه الأبواب إنّما يعود لطبيعة أعمالهم ومعتقداتهم ، ولهذا فكل من يشايعهم ويسير على خطهم الفكري والعقائدي يدخل تلقائياً من نفس تلك الباب ، ومن هذا المنطلق تتضح طبيعة العلاقة بين الإنسان «وأعماله ومعتقداته».

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٣١ ، ح ٧٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٨٥ ، ح ١١.

٣١٠

٤ ـ العذاب الجسدي لأصحاب النّار

تمهيد :

كما أنّ الثواب الإلهي والنعم الموجودة في الجنّة تقسم يوم القيامة إلى قسمين «روحية» و «مادية» كما سبق شرحه بالتفصيل فكذلك عذاب جهنّم أيضاً ، إذ يُقسم هو الآخر إلى نوعين : روحي ، ومادي ، لأنّنا نعلم أنّ للمعادِ بُعدين يستدعي كل منهما مايستحقه من الثواب والعقاب.

إضافة إلى أنّ أعمال الإنسان في هذه الدنيا على شكلين أيضاً أولهما : «الأعمال القلبية والروحية» ، وثانيهما «الأعمال الجسمية والمادّية» ، وعلى هذا فمن غير الممكن أن يقتصر الثواب والعقاب هناك على نوع واحد.

وتمثل آيات القرآن والروايات الواردة في هذا الصدد شاهداً على هذا القول.

بعد الانتهاء من هذا التمهيد الوجيز نحاول التعرف على العقوبات الجسدية لأصحاب النّار ، ونتمعّن في الآيات القرآنية الواردة في هذا الحقل ، ونبحثها تحت العناوين التالية :

١ ـ شدّة عذاب أصحاب النّار

٢ ـ طعامهم.

٣ ـ شرابهم.

٤ ـ ثيابهم.

٥ ـ سائر عذابهم الجسدي.

١ ـ شدّة عذاب أصحاب النّار

١ ـ (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفتَدِى مِن عَذَابِ يَومِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ

٣١١

الَّتِى تُئْوِيهِ* وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ). (المعارج / ١١ ـ ١٤)

٢ ـ (فَيَومَئِذٍ لَّايُعَذِّبُ عَذَابَهُ احَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ). (الفجر / ٢٥ ـ ٢٦)

٣ ـ (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ). (الغاشية / ٢٤)

٤ ـ (انْطَلِقُوا الَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ* لَّاظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللهَبِ* انَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ* كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ). (المرسلات / ٣٠ ـ ٣٣)

٥ ـ (وَيَتَجَنَّبُهَا الْاشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحيَى). (الاعلى / ١١ ـ ١٣)

جمع الآيات وتفسيرها

تبلغ شدّة العذاب في يوم القيامة إلى الحد الذي يتمنّى فيه المجرم كما وصفهُ القرآن في الآيات من بحثنا قائلاً : (يَوَدُّ الْمُجْرمُ لَوْ يَفتَدِى مِن عَذَابِ يَومِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَاخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُئْوِيهِ* وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ) (١).

فيتبيّن من هذا التعبير وبكل وضوح أنّ العذاب الإلهي في ذلك اليوم شديد جدّاً ورهيب حتّى أنّ المجرم يغدو مستعداً للتضحية ، بجميع ثروته وكل أعزّائه بل وبجميع سكان الأرض ليخلِّص نفسه (ولا تعبير أفصح ولا أبلغ من هذا) ، ولكن ما الفائدة لأنّ أيّاً من هذه التضحيات لا تُقبل منه ، فيقع ضحيّة أعماله وعواقبها المؤلمة.

* * *

وبعد أن تشير الآية الثانية إلى صحوة المجرمين يوم القيامة وندمهم وشدّة أسفهم على تفريطهم في أداء الفرائض الرّبانية ، تقول : (فَيَوْمَئِذٍ لَّايُعَذِّبُ عَذابَهُ احَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) (٢).

__________________

(١). كلمة «الفصيلة» مأخوذة عن المصدر «الفصل» ويعني الافتراق والانقسام وتعني هنا العشيرة والقبيلة التي جاء منها الإنسان.

(٢). يعود الضمير في «عذابه» و «وثاقه» إلى الله تعالى ، واحتمل بعض المفسرّين كالآلوسي في روح المعاني والبرسوئي في روح البيان رجوع الضمير على الإنسان لكن هذا الاحتمال يبدو بعيداً جدّاً.

٣١٢

وعلى هذا المنوال فعذابه لا نظير له ، وتوثيقه في الحبال لم يجر على أحدٍ من قبله ولا من بعده على ضوء الآية.

وهذه التعابير بشكل عام تحمل أبعاداً تربوية تحثّ الناس على خشية الله وتجنّب أليم عقابه ، لأنّ أذهان الناس قد اعتادت على أنّ «الله أرحم الراحمين» فهو لا يعذّب عباده وإذا عاقبهم فعقوبته خفيفة جدّاً ، وهذا الوهم يدفع إلى الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب ، ولذلك يفصح القرآن وبشكل صريح عن وجود ذلك العذاب ليخرج الناس هذه التخيّلات الباطلة من أذهانهم ويراقبوا أعمالهم.

* * *

وانعكس نفس المعنى في الآية الثالثة إلّاأنّه ورد بتعبير آخر فهي تتحدث عن الكفّار الذين يديرون ظهورهم للحق فتقول : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الاكبَرَ).

«والعذاب الاكبر» : إشارة إلى عذاب يوم القيامة في قبالة العقوبات الدنيوية التي وُصِفت «بالعذاب الأدنى» كما نصت من سورة السجدة : (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدنَى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ). (سجدة / ٢١)

وتجدر الإشارة إلى أنّ العذاب الإلهي في الدنيا قد يكون أحياناً شديداً جدّاً بحق القوم المجرمين كما حصل لقوم لوط إذ دَكَّ مدنهم وقُراهم دكّاً وجعلهم هم وإيّاها قاعاً صَفْصَفاً ، ومع ذلك فهذا العذاب يبقى عذاباً أدنى في مقابل عذاب القيامة وهذا ما يُنْبيء عن شدّة العقوبة يوم القيامة.

* * *

وفي الآية الرابعة ورد تبيان لقسم من العذاب الصارم الذي يلقاه أصحاب النّار ، فيقال يومذاك لمنكري القيامة ومحكمة العدل الإلهي ، اذهبوا إلى ماكنتم به تكّذبون : (انْطَلِقُوا الَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ* لَّاظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللهَبِ* انَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ* كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ).

٣١٣

تستعرض هذه الآيات أوصافاً مثيرة حول شدّة عذاب جهنّم إذ يُقال لمنكري هذه المحكمة الإلهيّة الكبرى والمحملين بشتّى المعاصي والذنوب :

أولا : انطلقوا إلى ظل ؛ ولكن أي ظل؟ الظل الناتج عن الدخان الخانق المنقسم إلى ثلاث شعب ، شعبة منها فوق الرأس والأخرى عن اليمين والثالثة عن الشمال ، وهو باختصار ظل قاتل يحيط بهم من كل صوب ، ظل لا كظلال الأشجار الهادئة في الجنّة ، أو ظلال السقوف والقصور ، بل إنّه ظل حارق لشدّة حرارته.

ثانياً : إنّ لهذا الظل ثلاث شُعَب مليئة بالشرر المتطاير وكل شرارة فيه عظيمة بحجم القصر ، أو كالجمال الصفراء المسرعة نحو كل صوب ، يا له من مكان ، إن كان ظلّه هكذا فكيف بناره؟!

ويالها من عبارات مرعبة ودقيقة ، فالناس يهربون عادة من الحرارة إلى الظل ، بينما لا ظل هناك سوى ظل الدخان الذي تنبعث منه النيران ، وإذا كان تصّور مثل هذا الدخان صعباً في أيّام نزول هذه الآيات ، فساحات الحروب الإجرامية اليوم وما يُلقى فيها من قنابل تُغطّي كل شيء بالدخان والنّار فيها قد تكون صورة مصغّرة لذلك العذاب الأكبر ، إضافة إلى وجود شرر كبير الحجم وشواظ من نار تتطاير في مساحات واسعة ، وهذا كله في ظلال تلك النّار (١).

وقد تكون كلمة «القصر» إشارة إلى قصور الظالمين ، ولعل تشبيه شرر جهنّم بها ، أي بتلك القصور التي تؤجج النيران دوماً في قلوب المحرومين ، يعكس معنىً عميقاً ودقيقاً ، وكذلك التشبيه بالجمال الصفر ذات النمط الواحد فهو رمز لثروة المستكبرين ، وهو أيضاً تعبير آخر ذو مغزىً عميق في هذا السياق.

وقد يتوهّم البعض أن تشبيه الشرر بالقصر حيناً وبالجمال الصفر حيناً آخر يبدو غير

__________________

(١). يعتقد البعض أنّ الضمير في «إنّها» يعود إلى «النّار» وهو مؤنث مجازي ، ورغم عدم ذكر النّار في الآية إلّاأنّه يمكن الاستدلال عليها بقرينة ظل الدخان ، ولكن الأفضل هو ارجاع الضمير إلى الظل ذي الثلاث شعب وهو الظل الخانق لأنّ الهدف هو الاطلاع على الآثار القاتلة لهذا الظل حتّى يتّضح موضوع النّار بطريق أوْلى.

٣١٤

منسجم وذلك لأنّ أحدهما كبير جدّاً والآخر صغير نسبياً.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ كل واحد من هذين التشبيهين يركز على جوانب خاصة ، فالتشبيه الأول للدلالة على عظمة ذلك الشرر ، والتشبيه الثاني يرمز إلى الكثرة والسرعة والتطاير في كل صوب كافتراق الجمال المسرعة في الصحراء أو هو إشارة إلى اختلاف ذلك الشرر ، فشررها الكبير بحجم قصور الظالمين ، وشررها الصغير بحجم جمالهم الصفر.

«الجمالة» : جمع «جَمَل» أي البعير مثل حَجَر وحِجارة ، و «صُفْر» جمع أصفر وهو اللون المعروف ، وتُطلق أحياناً على الألوان الغامقة المائلة إلى السواد أيضاً ، لكن الأنسب هنا هو المعنى الأول.

* * *

وتلحظ في الآية الخامسة والأخيرة عبارة اخرى تصف شدّة عذاب النّار حيث تقول : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْاشْقَى* الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبرَى * ثُمَّ لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحيَى).

فهذه صورة تعكس العذاب الأليم في جهنّم ، حيث يعيش المعذّبون فيها حالة بين الموت والحياة فلا هم يموتون وفي ذلك راحة لهم ، ولا الحال التي يحيونها يمكن أن يُطلق عليها اسم الحياة ، كما هو حال من يعيش في عذاب شديد في الدنيا فيجعله يتخبّط بين الموت والحياة.

وكلمة «النّار الكبرى» في مقابل النّار الصغرى والتي هي عذاب هذه الدنيا.

جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءً من نار جهنّم ، وقد اطفئت سبعين مرة بالماء ثم التهبت ، ولولا ذلك ما استطاع آدمي يُطيقها» (١) ونُقل نفس هذا المعنى عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واحتمل بعض المفسرين أن تكون «النّار الكبرى» هنا إشارة إلى قسم من جهنّم عذابه

__________________

(١). تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام وفقاً لما جاء في بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٢٨٨ ، ح ١ ، ٢.

٣١٥

أشد (أي أدنى الطبقات فيها) (١) ، ولكن يبدو أنّ التفسير الأول يناسب الحال أكثر من التفسير الثاني.

كان هذا جانباً من الأبعاد الواسعة لنار جهنّم وشدّة عذابها الأليم.

٢ و ٣ ـ الطعام والشراب القاتل لأصحاب النّار

تمهيد :

ذكرنا مراراً بأنّ المعاد يتحقق ببعديه الجسمي والروحي ، وعلى هذا الأساس فالجزاء له بُعدان أيضاً ، ومن جملة القضايا التي تكون مدعاة للذة الجسم أو سبباً لعذابه هي الأطعمة والأشربة ، فالطعام الكريه والفاسد النتن والمحرق يعتبر عذاباً أليما بينما الطعام أو الشراب اللذيذ والطيّب يكون سبباً لارتياح الجسم ولذّته حتّى أنّه يؤثر على روحية الإنسان أيضاً ويبعث فيها البهجة والانشراح على العكس من الأشربة الفاسدة التي تسبب الألم للجسد وللنفس.

ومن أجل التركيز على الجوانب التربوية لوجود جهنّم ، حذّر القرآن المجرمين والمسيئين بشدّة من نتائج أعمالهم القبيحة وأماط اللثام عن النوعية الرديئة للأطعمة والأشربة في جهنّم وعرض لهم جانباً منها ، والتعابير المستخدمة في هذا الصدد تثير الفزع والرهبة لدى كل انسان ، وبعد هذا التمهيد المختصر نعود إلى القرآن الكريم لنمعن في آياته الآتية :

١ ـ (انَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الاثِيمِ* كَالمُهْلِ يَغلِى فِى الْبُطُونِ* كَغَلىِ الْحَمِيمِ). (الدخان / ٤٣ ـ ٤٦)

٢ ـ (أَذلِكَ خَيرٌ نُّزُلاً امْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (انَّهَا شَجَرةٌ تَخْرُجُ فِى اصلِ الجَحِيمِ* طَلْعُهَا كَأنَّهُ رُؤُسُ الشَّيَاطِينِ* فَانَّهُم لَآَكِلُونَ مِنهَا فَمَالِئُونَ مِنهَا البُطُونَ). (الصافات / ٦٢ ـ ٦٤ ـ ٦٦)

٣ ـ (فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ ههُنَا حَمِيمٌ* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِن غِسلِينٍ* لَّايَأكُلُهُ إِلَّا الخَاطِئُونَ). (الحاقّة / ٣٥ ـ ٣٧)

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ذيل الآية مورد البحث.

٣١٦

٤ ـ (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً* تُسقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيْعٍ* لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغنِى مِن جُوعٍ). (الغاشية / ٤ ـ ٧)

٥ ـ (انَّا اعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَان يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهلِ يَشوِى الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً). (الكهف / ٢٩)

٦ ـ (انَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرصَاداً* لِّلطَّاغِينَ مَئَاباً* لَّابِثِينَ فِيهَا احْقَاباً* لَّايَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً* إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً). (النبأ / ٢١ ـ ٢٥)

٧ ـ (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِّنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسقَى مِنْ مَّاءٍ صَدِيدٍ* يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيْغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) (١). (إبراهيم / ١٥ ـ ١٧)

جمع الآيات وتفسيرها

الزقوم ـ الحميم ـ غسلين ـ الضريع ـ الغساق ـ الصديد

نلاحظ في الآية الاولى أول تعبير عن طعام أصحاب جهنّم ، وهو شجرة الزقوم حيث يقول تعالى في قرآنه الكريم : (انَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيْمِ* كَالمُهلِ يَغلِى فِى الْبُطُونِ* كَغَلىِ الْحَمِيمِ).

للمفسرين وأصحاب اللغة آراء كثيرة في معنى كلمة (الزقّوم) التي تكررت ثلاث مَرّات في القرآن الكريم (٢). فقال البعض إنّها كلمة عربية ومشتقة من المصدر (زَقْم) على وزن (رَقْم) وتعني البلع وقال آخرون إنّ هذه الكلمة لم يكن لها وجود في اللغة العربية ودخلت الأوساط العربية من أفريقيا (الحبشة).

__________________

(١). ورد في آيات عديدة أُخرى تعابير شبيهة بالآيات المذكورة ، من جملة ذلك : الآية ١٣ من سورة المزمّل ؛ والآية ٧٠ من سورة الأنعام ؛ والآية ٤ من سورة يونس ؛ والآية ٥٧ من سورة ص ؛ والآية ٤٦ من سورة محمد (ص) ؛ والآيات ٥٢ ـ ٥٧ من سورة الواقعة.

(٢). الآيات : ٦٢ من سورةالصافات ؛ و ٤٣ من سورة الدخان ؛ و ٥٢ من سورة الواقعة.

٣١٧

واعتبرها بعض المفسرين وأصحاب اللغة إِسماً لعشب شديد المرارة كريه الرائحة له أوراق صغيرة وينمو في أقليم تهامة من شبه جزيرة العرب وكان المشركون يعرفونه جيداً ، وهو عشب عصارته شديدة المرارة وحادّة الطعم إذا لامس الجسم تورَّم (١).

ويعتقد الراغب في «مفرداته» أنّ «الزقوم» تعني كل طعام تشمئز منه النفس وهو طعام أصحاب النّار.

وقال بعض المفسرين : عندما نزلت هذه الكلمة في القرآن قال كفار قريش : «ما نعرف هذه الشجرة ، فقدم عليهم رجل من أفريقيا فسألوه فقال : هو عندنا «الزُّبْد والتمر» ، فقال ابن الزِّبَعرى : أكثر الله في بيوتنا الزقوم. فقال أبو جهل لجاريته : زقّمينا ؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه : تزقّموا ؛ هذا الذي يخوّفنا به محمد ، يزعم أنّ النّار تنبت الشجر والنّار تحرق الشجر» (٢).

وقد أدّى هذا التفسير ببعض أصحاب اللغة والمفسرين إلى اعتبار هذا المعنى هو أحد معاني الزقوم ظناً منهم بجديّة وواقعية التفسير المذكور ، كما نقل عن الجوهري قول في لسان العرب : «الزقّوم اسم طعام لهم فيه تمر وزبد».

أمّا المجموعة الثانية من الآيات فانّها تعطي توضيحاً أكثر لأوصاف «الزقوم» هذا الطعام الكريه المعد لأصحاب النّار ، فتقول : (أَذَلِكَ خَيرٌ نُزُلاً امْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ* انَّهَا شَجَرةٌ تَخْرُجُ فِى اصلِ الجَحِيمِ* طَلْعُهَا كَأنَّهُ رُؤُسُ الشَّيَاطِينِ* فَانَّهُم لَآكِلُونَ مِنهَا فَمَالِئُونَ مِنهَا البُطُونَ).

وأول ما نواجه هنا الاعتراض الذي طرحة أبو جهل وقال مستهزئاً وهل ينمو الشجر في النّار؟ فالنار عدو الشجر فهي تحرقه.

لكن هؤلاء المغرورين الظلمة فاتهم أنّ القوانين المهيمنة على الحياة الاخرى مغايرة تماماً لما هو سائد في هذه الحياة ، فقد ينمو في الجنّة عشب أو شجر ينبثق من قعرها وهو

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ؛ وتفسير مروج البيان ؛ وتفسير روح المعاني.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٥٢٩ ، ذيل الآية ٦٢ من سورة الصافات.

٣١٨

على لونها ويكبر في ظل ظروفها ولا يشبه الأعشاب التي تنمو في حدائقنا وحتّى في الحياة الدنيا توجد عجائب من هذا القبيل إذ تنمو مخلوقات حيّة بين طبقات الثلج وهذا دليل على أنّ الحياة للكائنات الحيّة هناك لُايشترط فيها أن تكون (كحياة الكائنات الحيّة المعروفة في بيئتنا العاديّة ، أوَليس من العجيب بقاء الإنسان حيّاً في جهنّم؟! فما الفرق بين الانسان والعشب؟).

أمّا تشبيه فروع هذه النبتة «برؤوس الشياطين» مع أنّ مخاطبي هذه الآيات لم يكن أحد منهم قد رأى الشيطان ولا رؤوس الشياطين ، فقد يكون من باب تشبيه كل قبيح بالشيطان ، كما يُشبّه كل كائن جميل بالملاك رغم أنّ أحداً لم ير الملاك ، فنسوة مصر قُلن عن يوسف : (انْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). (يوسف / ٣١) وفى محادثتنا اليومية نقول أحياناً أنّ الشخص الفلاني ك «العفريت» مع أنّ أحداً لم يكن قد رأى «العفريت» ، بل العفريت كائن وهمي لا وجود له.

وكل هذه التشبيهات جاءت على أساس التصور الموجود لدينا عن كلمة «الملاك» و «الشيطان» ، وهي على العموم تشبيهات بليغة ومؤثّرة وجميلة.

وعلى هذا فالزقوم ليس كريه الطعم والرائحة فقط بل وحتّى شكله الظاهري قبيح جدّاً ، على العكس من الكثير من النباتات السامّة في هذه الدنيا ذات المظهر الجميل.

وقال جماعة من المفسرين أيضاً : إنّ أحد معاني الشيطان هو حيّة قبيحة المظهر شبّهت بها تفرّعات الزقّوم ، لكن هذا التفسير يبدو مستبعداً ، لأنّ استعمال الشيطان في مثل هذا المفهوم نادر جدّاً.

* * *

وفي المجموعة الثالثة من الآيات ورد اسم طعام آخر من أطعمة أصحاب النّار وهو «غسلين» ، فقالت الآية الشريفة : (فَلَيسَ لَهُ اليَوْمَ ههُنَا حَمِيمٌ* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِن غِسْلِينٍ* لَّايَأكُلُهُ إِلَّا الخَاطِئُونَ).

٣١٩

تعني كلمة «الغسل» التي وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم : التنظيف بالماء وهي مأخوذة من المصدر «غسل». قال الراغب في «المفردات» : إنّ «الغسلين» هو غسالة أبدان الكفّار ، لكن المعروف بين المفسرين وأصحاب اللغة أنّه دم يشبه الماء يخرج من ابدان أصحاب النّار ، وبما أنّه يشبه الماء الذي يغسل فيه الإنسان لذلك سمّي ب «الغسلين». ولعل الراغب قصد نفس هذا المعنى في مفرداته ، لكن بعضهم اعتبر «الزقوم» و «الغسلين» بمعنى واحد ، وهو ـ كما قلنا ـ نبات كريهُ الطعم والرائحة ومخصص لأهل جهنّم ، لكن المشهور هو المعنى الأول.

* * *

ويواجهنا في الآية الرابعة تعبير آخر بشأن طعام أصحاب النّار وهو اسم «الضريع» وبه أشارت الآية إلى فئة من المجرمين قائلة : (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً* تُسقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَريْعٍ* لَّايُسمِنُ وَلَا يُغنِى مِن جُوعٍ).

وقد ذُكرت لكلمة «الضريع» معانٍ وتفاسير مختلفة لكنها متقاربة المعنى ، فقال جماعة إنّه نبات أخضر كريه الرائحة يلفظه البحر (١) ، وقال جماعة آخرون إنّه نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش الشِّبرق إذا كان رطباً ، فاذا يبس فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا ترعاه ، وهو سمٌ قاتل (٢).

وقال بعضهم أيضاً : إنّ الكلمة مأخوذة من المصدر «ضرع» بمعنى الضعف والذّلة وقالوا : «هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرعون منه إلى الله تعالى ، طلباً للخلاص منه ، فسُمي بذلك ، لأنّ آكله يضرع في أن يُعفى منه ، لكراهته وخشونته» (٣).

ورد في حديث عن الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الضريع شيء يكون من النّار يشبه

__________________

(١). العين لاخليل بن أحمد.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١١٩.

(٣). المصدر السابق ، ص ٧١٢.

٣٢٠