نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

نلا حظ في القرآن الكريم آيتين فيهما وصف جميل وغني للجنّة وهو «دار السلام» وهذا ما جاء في الآية الكريمة : (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ). (الأنعام / ١٢٧)

وكذلك جاء هذا الوصف في قوله تعالى : (وَاللهُ يَدعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ). (يونس / ٢٥) ينقسم المفسرون في تفسيرهم لمعنى (دار السلام) إلى قسمين :

الأول : يرى أنّ السلام هنا يعني السلامة من كل ألم وآفة وبلاء ، وهو من أوصاف الدار أي : الجنّة ، فلا وجود هناك لصراع الناهبين في الدنيا المادّية ولا أثر للسلوكية المنحرفة لأصحاب الثروة الغافلين عن ذكر الله ، ذلك المكان خالٍ من الحروب وإراقة الدماء ولا مكان فيه للاستعمار والاستثمار ، نعم هناك دار السلام والوئام والأمن والأمان (١).

الثاني : يرى أنّ السلام من أسماء الله ، وعلى هذا فدار السلام هي من قبيل المضاف والمضاف إليه ، وهو إشارة إلى أنّ الجنّة دار الله ، وكلا المعنيين جميل رغم أنّ المعنى الأول يبدو مناسباً أكثر ، لأنّ أصل هذه المفردة ـ بناءً على قول الراغب الإصفهاني ـ يعني الخلو والسلامة من العيب والنقص الظاهري والباطني ، حتّى أنّ هذه المفردة أطلِقت على ذات الباري عزوجل كواحدة من صفاته وأسمائه الحُسنى ، لأنّ ذاته المقدّسة سالمة من العيب والفناء.

ويظهر كذلك من جملة (لهم دار السلام) أنّها تتطابق والمعنى الأول. (تأمل).

وورد في حديث عن ابن عّباس أنّه قال : «دار السلام : الجنّة وأهلها لهم السلامة من جميع الآفات والعاهات والأمراض والاسقام ، ولهم السلامة من الهرم والموت وتغير الأحوال عليهم ، وهم المكرمون الذين لا يهانون أبداً ، وهم السعداء الذين لا يشقون أبداً ، وهم الفرحون المسرورون الذين لا يغتمون ولا يهتمون أبداً ، وهم الأحياء الذين لا يموتون

__________________

(١). بلغني وأنا أكتب هذه الجمل أنّ المستعمرين بقيادة أمريكا قد بدأوا قبل عدّة ساعات بهجوم على العراق وأنّ المئات من طائراتهم تضرب وبشكل متواصل جميع المنشآت الحيوية في هذا البلد (٢٧ / ١٠ / ١٣٦٩ المصادف ليوم ٣٠ جمادى الثانية عام ١٤١١).

٢٠١

أبداً ، فهم في قصور الدر والمرجان أبوابها مشرعة إلى عرش الرحمن والملائكة يدخلون عليهم من باب سلام عليكم بماصبرتم فنعم عقبى الدار» (١).

وأخيراً تأتي تكملة هذا الموضوع في الآية الكريمة : (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ اخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ* لايَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَاهُمْ مِّنهَا بِمُخْرَجِينَ) (٢). (الحجر / ٤٧ ـ ٤٨) وبما أنّ كلمة «غل» تحتمل الكثير من المعاني الواسعة التي تدل في الغالب على الصفات الباطنية القبيحة التي تعكر صفو الروح والجسد والعائلة والمجتمع ، لهذا يفهم من هذه الآية أنّ صدور أهل الجنّة خالية من الحقد ولا تحمل قلوبهم أي ضغينة وعداوة وكبر وحسد ، فالله قد نزع من قلوبهم كل هذه الصفات الرذيلة ، فسادتهم روح الاخوة والمحّبة. وما أجمل وألطف مثل هذه الأجواء الخالية من تلك الصفات التي يخيم عليها الحب والعطف والسلام والوئام.

وحتى في الحياة الدنيا كلما أزيلت أمثال هذه الرذيلة من المجتمع كلما ساده الأمن والاستقرار ، وعلى العكس من ذلك كلما انتشر وجود أمثال هذه الظواهر في أي بيت أو مجتمع أصبحت مصدراً للنزاعات الدامية والمؤسفة وسبباً لزعزعة الأمن والاستقرار.

وممّا يثير الاهتمام أنّ القرآن الكريم جعل الاستقرار الداخلي مكمّلاً للاستقرار الخارجي حيث يقول : لا يوجد في الجنّة تعب أو اضطراب ، وينعدم فيها الخوف من زوال النعم ، وهو الهاجس الذي يقلق بال الإنسان الذي ينعم بالخيرات ويكدّر عليه عيشه ، وكل هذه الأسباب تجعل من نعم الجنّة هنيئة مستساغة (٣).

* * *

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٩٤ ، ح ١٧٦.

(٢). «غلّ» مشتقّة من كلمة «غلل» على وزن «بَلَل» ، وتعني في الأصل النفوذ التدريجي للشيء ، ولهذا يُقال للماء الذي يجري ويتسلل بين الأشجار (غلل) ، وكذلك يقال للحسد والحقد والعداوة «غل» لأنّها تنفذ إلى القلب خفية وبالتدريج ، وكذلك يطلق على الخيانة اسم «الغلول» لهذا السبب.

(٣). ورد ما يشابه هذا المضمون مع بعض الاختلاف الجزئي في : الآية ٤٣ من سورة الأعراف ؛ والآية ٣٥ من سورة فاطر.

٢٠٢

٣ ـ الأمان بعد الخوف

إنّ نعمة الأمن وبغض النظر عن جذورها التي أشرنا إلى بعضها في بحثنا السابق ، تُعد من أكبر النعم المعنوية التي يعز على الإنسان فقدانها ولو للحظة واحدة ، وهذه الحقيقة يشعر بها الأشخاص في المناطق الصحراوية الموحشة ، أو في المناطق الحربية المعرّضة في أي وقت للقصف بالصواريخ والقنابل ، فهناك يتكدَّر معين الحياة الصافي وتمضي الساعات والدقائق ثقيلة وعسيرة ، والنقطة المقابلة لذلك هي مناطق الأمن والأمان (١).

يَصفُ القرآن المجيد حال المتقين بقوله : (انَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ امِيْنٍ). (الدخان / ٥١) فلا هم يخشون هجوم الشياطين ولا يخافون سلطة الطواغيت ولا هم يتعرضون للآفات والبلايا ولا يعتريهم الحزن والغم!

ولهذا السبب يضيف في مكان آخر : (ادْخُلُوا الجَنَّةَ لَاخَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ). (الأعراف / ٤٩)

لقد لاحظنا من خلال التجربة أنّ بعض الناس ـ ورغم مايتوفر له من متطلبات الحياة ومستلزمات الراحة ـ يعيش حالة من القلق والاضطراب بسبب الحزن والهم الذي يستحوذ عليه ، أو لوجود الخوف والهلع الذي ينتابه فيقض مضجعه فنراه لا يلتفت مطلقاً إلى كل تلك النعم ولا يعير أدنى اهتمام لما بين يديه ، ففي مثل هذه الأحوال يمكن لمس حقيقة وعمق التعابير القرآنية بشأن أهل الجنّة.

لابدّ أنّ أهل الجنّة يشعرون حتّى في هذه الدنيا بشيء من ذلك الأمان والسكينة في ظل إيمانهم ، وينعمون بالاستقرار حتّى في أشدّ المعضلات من خلال الاعتماد على حقيقة التوكل وروح التسليم والرضا بالإرادة الإلهيّة : (أَلَا انَّ اوْلِيَاءَ اللهِ لَاخَوفٌ عَلَيْهِم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ... (لَهُمُ البُشرَى فِى الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِى الْآخِرَةِ). (يونس / ٦٢ ـ ٦٤)

* * *

__________________

(١). كلمة «آمنين» الواردة في الآية ٥٥ من سورة الدخان ؛ والآية ٤٦ من سورة الحجر بشأن أهل الجنّة ، وكذلك كلمة «آمنون» في الآية ٣٧ من سورة النبأ حيث تقول : «وهم في الغرفات آمنون» هاتان الكلمتان تشيران إلى نفس هذا المعنى.

٢٠٣

٤ ـ الأخلّاء والأصدقاء الأوفياء

ومن أهم اللذائذ الروحية الأخرى معاشرة الأصدقاء المخلصين والاخلّاء الذين يتصفون بالإيمان والسجايا الرفيعة ، ويفوح من أرواحهم عطر المحبّة والمودّة ، إنّ الجلوس مع هؤلاء لحظة واحدة يغمر النفس ببهجة لاتوصف ، وتذكر الآيات القرآنية الشريفة أنّ أهل الجنّة ينعمون بهذه النعم فيجالسون الأخلاء ويتحدثون إليهم ، ولكن ما هي المواضيع التي تدور حولها أحاديثهم؟ هذا ما لا يمكن التكهن به ، لعلهم يتحدثون في مواضيع يستحيل علينا إدراكها اليوم ، ولكن من البديهي أنّها من نوع الأحاديث التي تحيي القلوب.

تطالعنا الآيتان بما يأتي : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ انْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ والصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (١) * ذلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللهِ (وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً). (النساء / ٦٩ ـ ٧٠)

نعم ، إنّ الأخلاء في الجنّة هم خيرة ذوي الفضائل في العالم : كالأنبياء العظام والخلّص من أصحابهم والصديقين والشهداء والصالحين.

ولو قارنا هذا مع ما يجري في هذه الدنيا حيث يضطر الناس في كثير من الأحيان إلى تحمل العذاب الناتج عن معاشرة أشخاص لا يجمعهم وإيّاهم انسجام أو ترابط ، يمكن حينذاك فهم طبيعة الأوضاع الموجودة في الجنّة.

والذي يسترعي الاهتمام هنا أنّ الكثير من المفسرين قد نقلوا روايات عديدة بشأن نزول هذه الآية ، ننقل فيما يلي ملخّصها (مع وجود بعض الاختلاف بين المفسرين في النقل) :

يروى إنّها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كان شديد الحبّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قليل الصبر عنه فأتاه يوماً وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حاله ، فقال : يارسول الله ما بي وجع غير إني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت

__________________

(١). يرى البعض أنّ كلمة «رفيقا» جاءت هنا تمييزاً ولهذا وردت مفردة ، واعتبرها البعض الآخر حالاً. وان مجيئهامفردة (مع أنّ الحال جمع) إمّا لكون كلمة رفيق تعني المفرد وتعني الجمع أيضاً أو تضمنها لمعنى الجنس.

٢٠٤

وحشة شديدة حتى ألقاك ، فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأنّي إن أُدخلت الجنّة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجات العبيد فلا أراك وإن أنا لم أُدخل الجنّة فحينئذٍ لا أراك أبداً. فنزلت الآية (١).

وكلمة «ذلك» التي تستعمل عادة إشارة للبعيد ، جاءت هنا للدلالة على عظمة هذه النعمة الإلهيّة ، وكأنّها عالية إلى الحد الذي يجعلها بعيدة عن متناول أيدينا ، وكذلك عبارة «فضل من الله» إنّما هي تأكيد على هذا المعنى وإشارة إلى أنّ هذه النعمة لا يمكن الحصول عليها بمجرّد العمل ، بل تنال بفضل الله.

وتجدر الإشارة إلى قضية أخرى في هذه الآية ، وهي ذكرها لأربع جماعات بالترتيب واعتبارهم كأصدقاء في الجنّة وهم : «الأنبياء ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين».

ويبدو أنّ هذا الترتيب يدل على تسلسل درجاتهم. فقال بعضهم : «إنّ الأنبياء وُضعوا في المقام الأول لأنّهم وصلوا في مجال المعرفة الإلهيّة إلى حد رؤيته عن قرب بباصرة القلوب ، والصديقون في المقام الثاني من المعرفة وهم كمن يرى الأشياء بعينيه من بعيد ، والشهداء في المقام الثالث وهم كمن يدرك وجود الشيء بالأدلة العقلية ، والصالحون في المقام الرابع وهم كمن يقبل الأشياء عن طريق تقليد الكبار واتّباع أهل الفن» (٢).

يمكن في كثير من الحالات اطلاق كلمات (الشهداء والصالحين والصديقين) على الأنبياء أيضاً ، لكن ربّما يُقال : إنّ هذه الأوصاف الأربعة عندما تصبح في ازاء بعضها فانّها تعطي مثل هذا المعنى.

ويبدو أنّ هناك تفسيراً أكثر روعة بشأن هذه الدرجات الأربع ، وهو أنّ الحاجة إلى هداية المجتمع الإنساني تحتاج في بداية الأمر إلى الأنبياء أي (القادة الربّانيين). ومن بعدهم يأتي دور الصديقين أي المبلّغين الصادقين في القول والعمل الذين ينشرون دعوتهم

__________________

(١). راجع تفاسير مجمع البيان ؛ والكبير ؛ والقرطبي ؛ والمراغي ؛ وروح المعاني ؛ وفي ظلال القرآن ذيل الآية مورد البحث.

(٢). مقتبس من تفسير روح المعاني ، ج ٥ ، ص ٦٨.

٢٠٥

من بعدهم ، وفي المرحلة التالية عند اصطدامهم بالعوائق والموانع تبرز الحاجة إلى أشخاص يهبّون للدفاع ويقدّمون التضحيات حتّى يتمكّن الصالحون أخيراً من حكم المجتمع.

وفي هذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى أنّ مرافقة هذه الفئات الأربع لا تعني وحدة المقام معها ، بل تعني إمكانية الإرتباط بها كما هو الحال في اتصال الطالب باستاذه أو الجندي بآمره.

ورد ما يشبه هذا المعنى ـ ولكن بثوب آخر ـ في قوله تعالى : (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). (الحجر / ٤٧)

ويلحظ في الآية ٣١ من سورة الكهف إشارة إلى نفس المعنى أيضاً.

وعلى أيّة حال ، فإنّ مرافقة هؤلاء الصالحين والاتصال بهم يُعد من أكبر اللذات المعنوية لأصحاب الجنّة.

* * *

٥ ـ العلاقات الطّيبة

إنّ ما يملأ أجواء الحياة بهجةً هي الأحاديث الطيّبة التي يتبادلها الناس مع بعضهم ، فلو كانوا كلهم صادقين ويفكّرون بشكل اصولي ويتعاملون فيما بينهم بالانصاف والمودّة ويتبادلون الحبّ والاحترام ، لكانت حياتهم مملوءة بالاستقرار والبهجة ، ولكن لو انحرفت العلاقات فيما بينهم نحو الكلام القبيح وتبادلوا التهم والأكاذيب والذم والتقريع وتنابزوا بالكلمات الفجّة التي تأباها الآداب العامّة ، يصبح من الصعب على أحدهم صيانة شخصيته والتعامل في مثل هذه الأجواء بل إنّ هذه الأجواء تصبح خانقة ومؤلمة له.

وأحد الخصائص الموجودة في الجنّة هي خلوّها من هذه الظواهر ، فأهل الجنّة لا يسمعون كلمة كذبٍ واحدة على مدى خلودهم أبداً ولا تطرق أسماعهم الكلمات النابية ولا الأحاديث الباطلة ، وهذه من أهم الفضائل المعنوية التي يتمتّعون بها.

٢٠٦

قال تعالى في القرآن الكريم : (لَايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغواً وَلَا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً). (الواقعة / ٢٥ ـ ٢٦)

فيُحيي بعضهم الآخر ، والملائكة أيضاً تسلّم عليهم ، والأهم من كل ذلك هو سلام الله عليهم وما تحمله تلك التحيات من المحبّة والاخلاص والصفاء ، أجل ، إنّ مجالس أهل الجنّة فوّاحة بالحب والمودّة ، وإذا توفّرت مثل هذه الأجواء في أي مكان فهو نموذج من الجنّة.

وجاء في موضع آخر من الكتاب المجيد : (لَايَسْمَعُونَ فيِهَا لَغْوَاً وَلَا كِذَّابَاً). (النبأ / ٣٥)

«اللغو» : في اللغة يعني الكلام الفارغ ، وبعبارة اخرى : الكلام الذي لا يتضمن أيّة أفكار أو معانٍ ، ويبدو أنّ الكلمة مأخوذة اصلاً من (لغا) وهو صوت زقزقة العصافير ، أمّا الضمير «فيها» : فقد أرجعه اغلب من فسر هذه الآية إلى أحد هذين الاحتمالين:

الأول : أنّه يرجع إلى كلمة الجنّة. الثاني : أنّه يرجع إلى كلمة الكأس التي وردت في الآية السابقة لها. فاذا كان الاحتمال الأول فالمعنى واضح. وإذا صح الاحتمال الثاني فيكون المعنى أنّ شراب أهل الجنّة لا يسكر ولايسبب فيه أي لغو.

لكن التفسير الأول أكثر انسجاماً مع معنى «فيها» والآيات الاخرى المشابهة ، وورد نفس هذا المعنى في آية اخرى أقصر وأكثر وضوحاً حيث يقول تعالى : (فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* لَاتَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيةً). (الغاشية / ١٠ ـ ١١)

هناك آيات قرآنية أخرى تؤكد على هذا المعنى منها (مريم / ٦٢) و (يونس / ١٠).

إضافة إلى ماذكر ، يتنعم أهل الجنّة بكثير من المتع المؤنسة ومجالس الفرح والبهجة والأحاديث المسلّية والمزاح اللطيف كما يصفهم القرآن : (إِنَّ اصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ). (يس / ٥٥)

تعني كلمة «شُغُل» أية حادثة أو حالة تشغل الإنسان ، ولكنها هنا تفيد معنى الحالة المسلّية التي تبعث السرور ، وذلك بوجود قرينة «فاكهون» وهي جمع «فاكه» وتعني

٢٠٧

الإنسان المسرور ، وهي مشتقة من كلمة «فكاهة» ومعناها المزاح ، وتعني كلمة «فاكه» في اللغة العربية الإنسان الممازح المرح الذي يجيد الأحاديث الطريفة.

وبما أننا نجهل طبيعة الأشياء التي يتسلى بها أهل الجنّة لأننا نقيس كل شيء في هذا العالم بمعيارنا المحدد الصغير ، فمن البديهي أنّ النعم التي يشغلون بها هناك لا يمكننا حتّى تصّورها في هذا العالم.

وعلى أيّة حال فإنّ الامور التي تستهويهم وتشغلهم هناك تكون سبباً لنسيان آلام هذا العالم وهول المحشر أو فقدان بعض الأحبّة ، ولا شك أنّ مواضيع التسلية السبعة أو العشرة التي ذكرها بعض المفسرين ، إنّما هي موضوعة وفقاً للمعايير والتصورات الدنيوية للتسلية ، وإلّا فالاوضاع في ذلك العالم تختلف عّما في هذا العالم (١).

* * *

٦ ـ الانشراح النفسي

قد يُدعى الإنسان أحياناً إلى أجمل الحدائق ، وتوفّر له كافة مستلزمات الراحة ، إلّاأنّ روحه منقبضة فلا يتلذذ بأي منها ، فالإنسان يشعر بلذة النعم الإلهيّة فيما إذا كان منشرح النفس.

يُستفاد من مجمل الآيات الواردة في هذا الصدد أنّ الفرح والانشراح يظهر على وجوه أهل الجنّة بكل وضوح ، وقد استخدم القرآن الكريم عبارات جذّابة في هذا الصدد ، فإليك مثلا قوله : (ادخُلُوا الْجَنَّةَ انْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ). (الزخرف / ٧٠)

فكلمة «تُحبرون» : مأخوذه من المصدر (حبر) على وزن (فكر) ، وتعني في الأصل الآثار الجميلة حسب ما وردت في كتاب (مقاييس اللغة) ، ولذلك يطلق على الأشياء المزّينة اسم «مُحَبَّر» على وزن مُشّجر وسمّي الحِبرُ حِبراً لأنّه يترك وراءه أثراً جميلاً ، ويُقال للعلماء «أحبار» لأنّهم يمتلكون آثاراً قيّمة ، وهذه الكلمة تعني هنا البهجة والانشراح الذي يظهر أثره على الوجوه (٢).

__________________

(١). ورد نفس هذا المضمون في سورة الطور ، الآية ١٨.

(٢). ورد نفس المعنى في سورة الروم ، الآية ١٥.

٢٠٨

وقد وردت الإشارة إلى هذا الموضوع بتعبير آخر في قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). (المطففين / ٢٤)

فكلمة «النضرة» : تعني في الأصل الجمال ، والمقصود من (نضرة النعيم) الطراوة والنعومة التي تظهر من أثر وفرة النعمة والحياة المرفهة وتعكس حالة (الارتياح والانبساط الداخلي) كما أنّ «تعابير الوجه تفشي سر الداخل» (١).

وقد فسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى السعيد والفرح والمستبشر كما جاء في قوله تعالى : (وُجوُهٌ يَومَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) (٢). (عبس / ٣٨ ـ ٣٩)

ولكن الآيات السابقه لها تظهر أنّ هذه الآية تشرح حال المؤمنين في مشهد المحشر وليس في الجنّة.

وفسرها البعض الآخر بمعنى النور والجمال والاشراق الذي لا يتيسر للبيان وصفه ، (٣) وذهب البعض الآخر إلى أنّها تعني البِشْر والبشاشة التي تظهر على وجوههم شعوراً منهم برضا المحبوب أي الله سبحانه وتعالى (٤).

ونقرأ هذا الوصف الآية الكريمة : (وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَّاعِمَةٌ* لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ). (الغاشية / ٨ ـ ٩)

كلمة «ناعمة» : مأخوذة من مصدر (النعمة) وتعني هنا الاستغراق في النعمة إلى حد ظهور آثارها من السرور والارتياح على الوجه.

وقال آخرون : إنّها تعني النعومة واللطافة ، وهذه أيضاً حاصلة من النعم المختلفة (٥).

ومن الطبيعي أنّ هذه النعومة والطراوة ، أو تلك الوجوه المنيرة على قول بعض المفسّرين وكأنّها القمر في الليلة الرابعة عشرة ، ليست معلولة للنعم المادية فقط لأنّ النعم المادية

__________________

(١). جاءت تعابير مشابهة في سورة القيامة ، الآية ٢٢ ؛ وسورة الدهر ، الآية ١١.

(٢). تفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٩٨ (نقله باعتباره قولاً).

(٣). المصدر السابق ، ص ٩٩.

(٤). روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٧١.

(٥). تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٧٤.

٢٠٩

لا يمكنها لوحدها إيجاد مثل هذه الآثار ، ومن المؤكد أنّ هذا الأثر ناتج عما يختلج في نفوس أصحابها من أحاسيس ومشاعر معنوية وروحية سامية تنعكس آثارها على أجسامهم ، وختام الآية شاهد على هذا المعنى أيضاً.

٧ ـ الشعور برضا الله

ليس هناك شعور يخامر الإنسان أكثر من شعوره برضا محبوبه وعزيز قلبه ، فهذا الشعور يثير لديه بهجة وارتياحاً لا يوصفان.

نعم ، إنّ نيل رضا المحبوب من أكبر اللذات المعنوية ، وهي لذّة ممزوجة بالشعور بالشخصية وقيمة الوجود ، لأنّه إن لم يكن يتحلّى بالقيمة والشخصية ، لما كان موضع قبول محبوبه الأكبر.

لقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه القضية المهمّة وجعل منها ركيزة يستند عليها ، فبعد الإشارة إلى الجنان اليانعة والأزواج المطّهرة ، ورد في قوله تعالى : (وَرِضوانٌ مِنَ اللهِ) (آل عمران / ١٥)

فهذه النعمة التي تُعتبر أفضل من جميع النعم قد لُخّصت في جملة قصيرة وبليغة.

وفي الآية ٧٢ من سورة التوبة ازيح الستار أكثر عن هذا الموضوع ، فبعد الإشارة إلى مجموعة من النعم المادية المتوفّرة في الجنّة ومنها الحدائق التي تجري من تحتها الأنهار والمساكن الطّيبة ، يقول تعالى : (وَرِضوَانٌ مِّنَ اللهِ اكبَرُ) ثم تُختتم الآية بالجملة : (ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ).

فاستخدام تعابير من أمثال «أكبر» و «ذلك هو الفوز العظيم» يُظهر بوضوح عدم وجود نعمة تضاهي هذه النعمة وبالشكل الذي يتضمن مفهوم الحصر وكأنّ الجملة تريد أن تقول : (ذلك هو الفوز العظيم لا غير).

لقد ذكرنا عدّة مَرّات عدم إمكانية تصوّر أيٍّ من النعم المادّية للعالم الآخر في نطاق هذا السجن الدنيوي المحدود ، فكيف يجوز ذلك بشأن نعمة روحية ومعنوية كبرى ألا وهي «رضوان الله».

٢١٠

ويمكننا أن نفهم بشكل إجمالي الفارق بين النعم المادّية والمعنوية واللّذات المنبثقة عن أيٍّ منهما ، فنحن نعرف مثلاً أنّ اللذة الناتجة عن لقاء الحبيب الغالي بعد سنوات من الفراق ، أو الشعور باللذة من جرّاء اكتشاف قضّية علمية معقدة كُنّا نبحث عنها لسنوات طويلة ، والأكثر من كل ذلك النفحات الروحية والانشراح النفسي الذي يغمرنا حين العبادة الخالصة والمناجاة المقرونة بحضور القلب والمحبّة الدافئة ، نعرف أنّه لا يمكن مقارنة كل هذا بلذّة الطعام والشراب وسائر اللذات المادّية الاخرى.

روى أبو سعيد الخدري حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه :

«إنّ الله يقول لأهل الجنّة : ياأهل الجنّة ؛ فيقولون لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى ياربِّ وقد اعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقكَ : فيقول : ألا اعطيكم أفضلَ من ذلك ، فيقولون ياربّ وأيُّ شيءِ أفضل من ذلك فيقول : احلُّ عليكم رضواني فلا أَسخطُ عليكم بعده أبداً» (١).

وورد نفس هذا المعنى عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ولكن بتعبير آخر ، جاء في آخرهِ : «فيقول تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه» (٢).

«رضوان» : يعني الرضا والارتياح بالمعنى المصدري ، ومجيئُها هنا على هيئة النكرة يدل على العظمة ، أي إنّ رضوان الله الأكبر أهم من كل شيء.

وقيل أيضاً : إن تنكيرها هنا فيه دلالة على القِلّة ، أي إنّ أقلَّ رضاً من الله يُعتبر أكبر من جميع النعم المادية المتاحة في الجنّة.

وعلى أيّة حال ، فليس في ميسور أحد وصف تلك النفحات الروحية واللذات المعنوية التي ينالها الإنسان بسبب الشعور برضا الله ، نعم إنّ أي جانب من هذه اللذة الروحية يفوق جميع النعم والمسرّات الموجودة في الجنّة.

وممّا يسترعي الانتباه أَنَّ الآية (١١٩) من سورة المائدة ، وبعد سردها للنعم المادية في

__________________

(١). تفسير روح الجنان ، ج ٦ ، ص ٧٠ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ١٠ ، ص ١٢٢.

(٢). تفسير العيّاشي ، آخر الآية مورد البحث وفقاً لما جاء في تفسير الميزان.

٢١١

الجنّة ، أشارت إلى الرضوان وصورته وكأنّه أمر متبادل بين الخلق والخالق قائلة : «رَضِىَ اللهُ عَنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ». وما أجمل أن يكون الرضا من الجانبين ، فهو يغرقهم بالنعم حتّى يرضون ، ويغمرهم بالمحبّة بحيث يعلن لهم عن رضاه ، وخلاصة القول أنّه لا فوز أكبر من أن يشعر الإنسان بأنّ مولاه ومحبوبه ومعبوده راضٍ عنه. ودلالة ذلك الرضا أنّه يفيض عليه بكل ما يتصور وما لا يتصور من النعم.

وعبارة «راضية مرضية» من الآية ٢٨ من سورة الفجر هي أيضاً إشارة إلى نفس هذا المعنى ، إذ تصوّر النفس المطمئنة لعباد الله المخلصين الذين يصلون إلى جوار قرب المحبوب قائلة : إنّ صاحب النفس المطمئنة يرجع إلى ربّه وهو راضٍ عنه ورّبه راضٍ عنه أيضاً ، وهنا يصدر الأمر الإلهي : «فَادْخُلِى فِى عِبَادِى» كتاج للكرامة يزّين به الرأس ، فياله من فخر كبير عندما يخاطب تعالى الإنسان في قوله : «عبادي»!

نعم هذه هي عقبى من اجتاز مرحلة النفس الأمّارة والنفس اللوامة ووضع قدمه على أعتاب النفس المطمئنّة. فكبح جماح الأهواء ، وأَلجم الشيطان وامتطى مركب التقوى.

ولا تقتصر الآيات المتعلقة برضا الله في يوم القيامة باعتباره نعمة إلهيّة ، على ما ذكرناه ، فهذا المعنى يلوح للعيان في آيات اخرى أيضاً ويعكس الأهميّة الاستثنائية لهذا الموضوع (١).

* * *

٨ ـ نظر الله إليهم ونظرهم إليه

إنّ من أثمن اللذّات المعنوية هي أن يجود المحبوب الجامع لكل الكمالات بنظرة لطف على الإنسان ويتحدّث إليه ، والأكثر أهميّة من كل ذلك أن يتمكن الإنسان من بلوغ مقام شهود ذاته المقدّسة أي إنّه يراه بقلبه ويغرق في بحر جماله.

وقد أكّد القرآن الكريم مراراً على هذه النعمة المعنوية ، فتذكر احدى الآيات العذاب

__________________

(١). راجع سور ، القارعة ، ٧ ؛ والتوبة ، ٢١ ؛ والحديد ، ٢٠ ؛ والبيّنة ، ٨.

٢١٢

الإلهي الأليم على من يكتم آيات الله بالقول : (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ الِيمٌ). (البقرة / ١٧٤)

ويتحدث القرآن في موضع آخر عن نفس هذا الموضوع والعذاب الإلهي على من يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً : (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ الِيمٌ). (آل عمران / ٧٧)

نعم ، إنَّهم محرومون من لذّة التكلم مع الله ونظرة رحمته ولطفه ، ولذلك فهم لا يطهرون ، ولما كانت الجنّة مأوى الأطهار فهم يبقون في جهنّم يذوقون أليم عذابها.

ونستفيد من هاتين الآيتين أنّ هذه النعم والهبات سوف يخص بها الله سبحانه وتعالى المؤمنين وأصحاب الجنّة ، وسوف يكلمهم بلطف ، ولهم نفس المنزلة التي أولاها لأنبيائه في هذه الدنيا ، فالتذوا واستأنسوا بما وهبهم الله سبحانه وتعالى ، وأيّة لذّة أعظم وأحسن من هذه اللذّة؟ فبالإضافة التي نعمة الحديث معهم ، فإنّ الله ينظر إليهم نظرة لطف خاص ، وآية موهبة أعظم من هذه الموهبة؟ حيث ينظر المحب نظرة لطف ومحبّة إلى محبوبه الصادق العاشق الولهان؟!

ومن البديهي أنّ الكلام لا يكون باللسان ، ولا النظر يكون بالعين ، فالله سبحانه أجل من الجسم والجسمانية.

ربّما يحصل أحياناً أن يغضب الأب على إبنه فلا يكلّمه ولا ينظر إليه ، وإذا كان الابن واعياً فهو يعتبر هذا التجاهل من أبيه تجاهه أكبر عذاب نفسي له ، أمّا في حالة الرضا عنه فهو يجلس معه وينظر إلى قوامه ويحادثه بانشراح ومحبّة وهذا من دواعي فخر الابن وسعادته.

هذا في عالم المادّة والجسم والصورة ، ونفس هذه القضيّة تحدث بمقياس أسمى في عالم المعنى بين المولى الحقيقي وعباده.

وذكرت سورة القيامة لذّة النظر إلى الجمال الذي لا مثيل له للمحبوب الحقيقي : (وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* الَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة / ٢٢ ـ ٢٣)

٢١٣

وما يلفت الانتباه هنا هو أنّ تقديم (إلى ربّها) ـ وهو ما يفيد الحصر ـ ، يدلّ على أنّهم ينظرون إليه فقط في ذلك اليوم ولا ينظرون إلى سواه ، وهم إن نظروا إلى غيره فهي ليست إلّا نظرة عابرة ، ومع ذلك فهم يرونه هو وحده لأنّ كل ما في العالم مظاهر لذاته المقدّسة وآثار لطفه ورحمته ، وفي الحقيقة أنّ رؤية الأثر هي بمثابة رؤية المؤثر.

وهناك احتمال آخر أيضاً في تفسير هذا المقطع من الآية : (الَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يشير إلى انتظار الناس لرحمة الله ولطفه ، كما نقول أحياناً إنّ الشخص الفلاني لا ينظر إِلّا إليك أي أنّه ينظر كرمك وفضلك ، أو عندما نقول إننا نعقد الأمل عليك ، ولا مانع من اتساع معنى الآية لتشمل كلا المفهومين.

وقد استدل أغلب مفسري أهل السُنّة عند وصولهم إلى هذه الآية ببعض الروايات الضعيفة التي تشير إلى المشاهدة الحسيّة لله تعالى ، وقالوا : إنّ أحد نعم أهل يوم القيامة رؤية الله بهذه العين ، حتى أنّ بعضهم قال : إنّ الله يظهر في السماء على هيئة النور! وهم ينظرون فوق رؤوسهم ويلتذّون بمشاهدة نور الله بهذه العين المجرّدة.

وقد بحثنا في الجزء الرابع من هذا التفسير وبشكل موسّع في بطلان مثل هذه التصوّرات المليئة بالشرك والتي تهبط في تصوير الإله إلى أنّه جسم محدود بالمكان والاتّجاه ، وشرحنا كذلك ضعف هذه الأحاديث ، ولا نرى لزوم تكرار ما سبق القول فيه ، وإننا نعتبر مثل هذا الخطأ الفاحش ناتجاً عن الابتعاد عن تعاليم أهل البيت عليهم‌السلام ونسيان حديث الثقلين المتواتر (١).

من البديهي أنّ آثار عظمة الله في ذلك اليوم أوضح بكثير ممّا عليه الحال في الدنيا ، وكذلك الحجب المظلمة التي تغطي قلوب المؤمنين في هذا العالم فانّها ستُزاح جانباً حتّى ليمكنهم مشاهدة ذاته المقدّسة من خلال نظرة قلبية وروحية واحدة ، بل ويكون الفيض الشهودي أحياناً أعمق ، فيغمرهم بجماله فينسون الجنّة والنعم التي هم فيها.

ونختم بحثنا هذا بآية أُخرى تتحدث عن هذا الموضوع بأسلوب آخر ، إذ ورد فيها :

__________________

(١). للمزيد من المعلومات ، يرجى المراجعة الى ج ٤ ، ص ١٧٥ ـ ١٩٢ من هذا التفسير.

٢١٤

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَومَئِذٍ لَمحْجُوبُونَ). (المطففين / ١٥)

وهل هناك جزاءٌ أشدّ ايلاماً من حرمان الإنسان من لقاء الله ومنعه من الحضور في المحضر الإلهي المقدّس.

ومفهوم هذا الكلام هو أنّ المؤمنين غير محجوبين في ذلك اليوم ، بل يتمتّعون برؤية جمال الحق ويتلذّذون بفيض لقاء المحبوب الذي لا نظير له ، وإن كان ذلك الحجاب عذاباً أليماً للكفّار فهذا اللقاء هو من أمتع اللّذات بالنسبة للمؤمنين.

* * *

٩ ـ لهم ما يشتهون

قد يقوم المضيّف أحياناً بتهيئة جميع المستلزمات الضرورية لضيفه العزيز ، لكنَّها عادة ما تكون محدودة بشكل أو آخر ، إلّاأنّه عندما يعِدُهُ بتوفير كل ما يشتهي وما يطلب بلا استثناء فالضيف يشعر في مثل هذه الحالة بالارتياح والسكينة لأنّه يتأكد من انعدام أيّة قيود أو حدود في هذا الصدد.

وكما أنّ هذا الكلام يصدق على النعم الماديّة في الجنّة ، وهو كذلك يصدق تماماً على النعم المعنوية فيها ، وبعض تعابير الآيات القرآنية تتّسق معانيها أكثر مع النعم المعنوية ، فمثلاً ورد قوله تعالى بعد التحدث عن حدائق الجنّة : (لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). (الشورى / ٢٢)

فتعبير «عند ربّهم» وتعبير «ذلك هو الفضل الكبير» يتناسبان مع العطايا المعنوية والروحية في الجنّة ، وقد اشير إليهما بعد تبيان النعم المادّية.

وقد ورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى دون الإشارة إلى النعم المادية : (لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ). (الزمر / ٣٤)

وعلى هذا فلا توجد هناك أيّة قيود على النعم في الجنّة وخاصّة في الأبعاد الروحية والمعنوية ، بالإضافة إلى ما تتضمنه هذه التعابير من دلالات على عدم محدوية نِعَم الجنّة

٢١٥

في الاطُر المادية ، فهي تُظهر أيضاً عدم وجود أيّة محدوية في أيٍّ من الجانبين.

وبتعبير آخر إنّ الله يهب الإنسان القدرة التي تجعل من إرادته سبباً لحصول أيّة نعمة ، خلافاً لما عليه الحال في الدنيا إذ إنّ إرادة الإنسان فيها تابعة لوجود الأسباب وتوفّر العوامل ، فعندما يرغب الإنسان في التجوال في روضة أو بُستان ولا يكون الجو معتدلاً ولا الأشجار يانعة ، فإرادة الإنسان لا تستطيع مطلقاً خلق أجواء ربيعية أو أشجار مورقة نديّة ، ولكنه في الجنّة ما أن يطلب شيئاً حتّى يتحقق له بإذن الله ، وهذا الامتياز مثير للعجب (١).

وقد طرح بعض المفسرين ، الذين يصرّون على قضية رؤية الله تعالى ، هذه المسألة هنا وقالوا : إنّها تتضمن المشاهدة أيضاً ، فمن ذا الذي لا يطلب ولا يبغي رؤية الله جل وعلا؟! (٢) لكن خطأهم الفاحش يكمن في عدم رغبتهم للاذعان لهذه الحقيقة وهي أنّ مشاهدة الله حسيّاً أمر غير ممكن ، وذلك لأنّ الاتصاف بالجسمية والمكانية والأينية لا تعدو أن تكون من الصفات الخاصة بالمخلوقات وهو أمر مستحيل بشأن ذاته المقدّسة ، وأهل الجنّة لا يطلبون المحال ، أمّا المشاهدة القلبية والباطنية فهي متيّسرة في هذا العالم وكذلك في العالم الآخر.

وفي نفس هذا السياق ورد في قوله تعالى : (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ). (ق / ٣٥) ويدلّ هذا التعبير على توفير كل ما تتسع له جملة (لهم ما يشاءُون) وكل ما تشتمل عليه إرادتهم إضافة إلى توفير جميع النعم والعطايا التي لم تخطر على بال أي إنسان ، ويشملهم بلطفه الذي يستعصي على البيان وصفه.

ويُسْتدل من بعض الروايات أنّ جملة : «ولدينا مزيد» هي إشارة إلى أيّام الجمعة التي يحظى فيها أهل الجنّة بكرامات وعنايات خاصة من قبل الباري جلّ وعلا ، وهو أكثر لديهم

__________________

(١). مقتبس من تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ٢٦٠.

(٢). تفسير الكبير ، ج ٢٦ ، ص ٢٨٠.

٢١٦

باثنين وسبعين مرّة (١) ، وتوجد هناك آيات اخرى في القرآن الكريم تتّسق بشكل أو آخر مع الآيات السابقة الذكر (٢).

* * *

١٠ ـ النعم التي لا يدركها التصور

تُلحظ في القرآن الكريم تعابير تذهب إلى أكثر بكثير ممّا ذكرناه لحد الآن ، فهي تتحدث عن قضيّة تخرج عن إطار التفكير لدى جميع أبناء البشر ولا تسعها دائرة التصور والخيال والوهم ، وهي أبعد ممّا قرأنا وكتبنا.

إنّ استدلال الآيات القرآنية بمثل هذا الأمر يعكس مدى عظمة النعم الإلهيّة والتي يعجز البيان عن وصفها ، وهي من الآيات العجيبة في القرآن ، مثل : (فَلَا تَعلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُمْ مِّن قُرَّةِ اعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (السجدة / ١٧)

وجاء في حديث مشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ الله يقول أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (٣).

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه البشارة العظمى قد وردت في القرآن الكريم في أعقاب سرده لصفات المؤمنين الذين يقومون الليل لمناجاة ربّهم (صلاة الليل) والذين ينفقون من أموالهم ؛ وهذه دلالة على أنّ أفضل الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة هي «صلاة الليل» ، «والانفاق» ، والغريب في الأمر أنّ صلاة الليل تعني عبادة يؤدّيها المؤمن في الخفاء ، وكذلك الانفاق الخالص فإنّه غالباً ما يجري في الخفاء كذلك ، ويكون الجزاء على ذلك من قبل الله تعالى في الخفاء أيضاً ، فجعله مستوراً ولم يُطلع عليه أحداً.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٢٦ ، ح ٢٧.

(٢). من جملة ذلك : سورة يس ، الآية ٥٧ ؛ سورة فصلت ، الآية ٣١ والتي تشتمل على النعم المختلفة ويتبيّن ذلك من خلال تعابيرها : «ولهم ما يدّعون» «ولكم فيها ما تدّعون».

(٣). نقل هذا الحديث عدد كبير من المفسرين منهم الطبرسي في مجمع البيان ؛ والآلوسي في روح المعاني ؛ والقرطبي في تفسيره ؛ والعلّامة الطباطبائي في الميزان ، وذكره كل من البخاري ومسلم في كتابيهما.

٢١٧

وهناك نقطة اخرى أيضاً تسترعي الإنتباه وهي أنّ تعبير «قرّة أعين» تعني برودة الأعين (١). لأنّه من المعروف بين العرب أن «دموع الشوق» التي تنهمر عادة من الأعين عند الفرح الشديد تكون باردة ، على العكس من دموع الحزن التي تتصف عادة بالحرارة والحرقة ، لذا فإنّ العربي عندما يريد القول : إنّ الموضوع أو الحادثة الفلانية مدعاة للسرور والارتياح ، نراه يقول «قرة العين أو قرّة أعين».

وعلى أيّة حال فهنالك كلمات وآيات لا يبلغها عقل الإنسان مهما بلغ من التسامي ومهما ارتقى من الذُرى ، وكلما تعمّق لسبر أؤغوارها كلما توصل إلى مفاهيم وأبعاد جديدة ، حتّى يصل الفكر إلى مكان يقف عنده ويعترف بعدم القدرة على بلوغ أعماقه ، والآية التي نبحث فيها تمثل في الواقع إشارة قيّمة وذات مغزىً للنعم الروحية والمعنوية العظيمة لأصحاب الجنّة ، فهى تحمل بين طيّاتها هذا المفهوم وهو عدم استطاعة أي إنسان حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين من بلوغ هذه الحقيقة ومعرفة ما أخفى الله من جزاء لخاصة عباده ، ومن المؤكد أنّهم يبلغون درجات عالية من القرب إلى ذاته المقدّسة ومراحل رفيعة من وصال لقائه ومنازل سامية من عنايته وألطافه لا يدركها إلّامن بلغها.

* * *

١١ ـ خلود نِعَم الجنّة

وممّا يضفي على الجنّة أهميّة بالغة وقيمة معنوية كبيرة ويميّزها تماماً عن جميع النعم الدنيوية هو (عدم إمكانية فنائها أو زوالها) ، فلا قلق هناك من ذلك ولا خوف ولا وجل من انقطاعها ، فالإنسان مطمئن البال في هذا الجانب تماماً ، وهذا الشعور بالأمان يضفي على تلك النعم طعماً خاصاً.

هذه الحقيقة يعرف معناها كل من ينال نصيباً وافراً من النعمة ثم تنتابه الهواجس الداهمة في إمكانية ذهابها ، فتمسي حلاوتها مرارة في فمه.

__________________

(١). «قُرّ» في اللغة على وزن «حُرَّ» وتعني البرودة.

٢١٨

ويتضمن القرآن الكريم آيات عديدة في هذا المجال وهي تذكّر دوماً بهذه الحقيقة وتزفّ البشرى للإنسان معلنة عن خلود النعم الإلهيّة ، ليهنأ بها الإنسان ويعيش في فرح وحبور.

جاء في قوله تعالى : (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا). (الرعد / ٣٥) ولما كان هذا البحث يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة الخلود فإننا سنتناوله بالبحث في فصل آخر وبشكل مستقل.

* * *

٢١٩
٢٢٠