نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

تلك الأدلّة شيوعاً هي ما ورد في من سورة الجن والتي مَرّ علينا تفسيرها مسبقاً وهي : (وَمن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِانَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً). (الجن / ٢٣)

ولكن هناك قرائن كثيرة في هذه الآيات وفي غيرها تدل على أنّها (هذه الآيات) تختص بأولئك الذين تنتهي بهم ذنوبهم إلى الكفر وانكار المعاد أو النبوّة أو ضرورة من ضرورات الدين ، ومن جملة تلك القرائن الآية : (كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظلِماً). (يونس / ٢٧)

وبالنظر إلى أنّ هذا الوصف قد ورد في القرآن هنا بحق الكفّار ، حيث يقول تعالى : (وَوُجُوهُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ* اولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ). (عبس / ٤٠ ـ ٤٢) فهذا دليل على أنّ المقصود في الآية موضع بحثنا هم الكفّار أيضاً.

ولهذا جاء في الرواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات يسوِّد الله وجوههم ثم يلقونه ، يقول الله : (كَأَنَّمَا اغشِيَت وُجُوهُهُم قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظلِماً) ، يسود الله وجوههم يوم القيامة ويلبسهم الذل والصغار ، يقول الله سبحانه وتعالى : (اولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (١).

والقرينة الأخرى هي عبارة (أحَاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ) الواردة في الآية ٨١ من سورة البقرة والتي تشير إلى أنّ ارتكاب الذنب الكبير وحده لايؤدّي إلى الخلود في النّار ، بل إنّ إحاطة الذنب بكل وجود الإنسان هي السبب في طرح مثل هذا الموضوع لأنّها تسوقه نحو الكفر ، والسبب في ذلك ـ كما تفيد الروايات ـ أنّ الإيمان يظهر في القلب على هيئة نقطة مضيئة ، وكلما ازدادت أعمال الخير التي يؤدّيها كلما اتسعت تلك النقطة حتّى تحيط بقلبه كله ، وكلما ارتكب ذنوباً ومعاصيَ كلّما خيم الظلام على قلبه حتى يحيط بقلبه كله ويجعله قلباً أسوداً (ينطفيء فيه نور الإيمان) لاسيما وأنّ بعض الروايات تستدل بقوله تعالى : (كَلَّا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ) (٢). (المطففين / ١٤)

__________________

(١). تفسير علي بن إبراهيم ، ج ١ ، ص ٣١١.

(٢). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، باب الذنوب ، ح ٢٠.

٣٦١

وبعض تلك الآيات تؤكّد تعمّد الذنب (كآية القتل) ، ولعل المراد منها هو مخالفة امر الله ومخالفة الحق ، وهذا من أوضح مصاديق الكفر.

والاشتشهاد الآخر هو الوارد في قوله تعالى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُا السُّوأَى انْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهزِئُونَ). (الروم / ١٠)

يُظهر هذا التعبير أنّ الاصرار على الذنب والاستمرار عليه يؤدّي بالنتيجة إلى الكفر وتكذيب آيات الله وهو مايؤدّي إلى الخلود في النّار.

إضافة إلى كل هذا ، فإنّ الآية : (انَّ اللهَ لَايَغْفِرُ انْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) والتي تكررت مرّتين في سورة النساء ٤٨ و ١١٦ ، هي دليل آخر واضح على هذه الحقيقة وهي أنّ المشركين (الكفر بأنواعه أيضاً ملحق بالشرك) لايُغفر لهم ويخلدون في جهنّم ، وأنّ المجرمين الآخرين يمكن أن يُغفر لهم ، وهذا مايدل على أنّ حسابهم يختلف عن حساب الكفّار ولا يمكن أن يُعدّوا ضمن صنف واحد.

لا يتوهم أحد أنّ هذه الآية تعطي الضوء الأخضر للمجرمين ، لأنّه لم يصدر وعد قطعي بالعفو عنهم بل هو وعد احتمالي مرتبط بمشيئة الله ، ولما كانت مشيئة الله وإرادته مرتهنة بحكمته ، وحكمته تقتضي أن تكون هذه المقوّمات كلها معايير للعفو ، اذن ، فالحال يوجب على المجرمين عدم قطع علاقاتهم بالله وأوليائه والإبقاء على جسور العودة قائمة.

ورد في الروايات أنّ هذه الآية هي أكثر الآيات التي تبعث الأمل والرجاء في النفوس ، كما جاء عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية» (١).

ولطرح مزيد من التوضيح ، ينبغي الالتفات إلى أنّ الآية المذكورة لا تشمل مرتكب الصغائر طبعاً لأنّ القرآن قد وعد بغفران الذنوب الصغيرة لمن يتورّع عن اجتناب الكبائر منها ، وهي أيضاً لا تشمل الذنوب الكبيرة بعد التوبة لأنّ التوبة سببٌ لغفران جميع الذنوب حتى الشرك ، وعلى هذا فالمفهوم الوحيد المتبقي لهذه الآية هو أنّها ميّزت بين الشرك

__________________

(١). لمزيد من الايضاح راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٤٨ من سورة النساء.

٣٦٢

وارتكاب الذنوب الكبيرة ، فالأول لا يغفر لأنّ وجود الشرك يقضي على جميع مقوّمات العفو ، أمّا الثاني فالعفو فيه محتمل ولكن بشروط اشير إليها في جملة «لمن يشاء».

والشاهد الآخر على هذا الادّعاء هو الآيات القرآنية العديدة ، ومنها هذه الآية : (فَسَتَذْكُرُونَ مَااقُولُ لَكُم وَأُفَوِّضُ امرِى إِلَى اللهِ انَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ). (المؤمن / ٤٤) وهذه الآية : (فَمَن يَعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ). (الزلزال / ٧)

كذلك آيات الشفاعة ، لأنّ الصغائر تُمحى في ظل اجتناب الكبائر ، والكبائر أيضاً يُعفى عنها بالتوبة ، واستناداً إلى ماذُكر ، فالشفاعة تختص فقط بمرتكبي الكبائر الذين لم يتوبوا فإن كانوا يستحقّون الشفاعة يُعفى عنهم.

فإن كان الحال كذلك ، فكيف نعتبر مرتكبي الكبائر كالكُفّار والمشركين ونقول بخلودهم في النّار؟

كيف يمكن أن تقضي الحكمة الإلهية بتخليد إنسان في النّار قضى عمراً في الإيمان والعمل الصالح لارتكابه ذنباً كبيراً كأن يكون كذب لمرّة واحدة في حياته؟

نحن لا نقول هنا بعدم عقابه بل نرى أنّ عذاب الخلد لا ينطبق على مثل هذا الشخص. هناك روايات كثيرة وردت عن المعصومين عليهم‌السلام تنفي قول «الوعيدية» بتخليد مرتكبي الكبيرة في النّار (١).

والحقيقة أنّ هذه الفرقة المتطرفة من الخوارج قد انحدرت في هذا الوادي السحيق بسبب التعصب والعناد وعدم الإلمام بآيات القرآن وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين عليهم‌السلام ، وعدم الأخذ بالأدلّة العقلية البيّنة ، والخوارج بشكل عام قد ابتلوا بعواقب جهلهم وتعصبهم ، وماضيهم في التاريخ الإسلامي أفضل دليل على ذلك (٢).

__________________

(١). للاطلاع على ايضاحات أكثر يمكن مراجعة كتاب بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٣٥١ ـ ٣٧٦ ، الباب ٢٧ ؛ وتفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٤٤ وما بعدها.

(٢). المصدر السابق.

٣٦٣

توضيحات

اعتراضات على خلود العذاب :

طرحت أسئلة مختلفة بشأن العقاب الأبدي لفئة خاصة من المجرمين يبدو أنّ البحث فيها ضروري هنا.

١ ـ فناء المادة

هناك من يقول : إنّ المادة ليست خالدة حتّى تتعرض للثواب الأبدي أو العقاب الأبدي. وبعبارة اخرى إنّ فناء المادّة لا يتناسب وخلود الثواب والعقاب.

وليس هناك صعوبة كبيرة للرد على هذا الاعتراض ، فلا يوجد شيء في العالم ـ سوى ذاته المقدّسة ـ أبدي بالذات. بل إنّ كل ذرّات العالم (سوى ذاته) فانية والبقاء لا يصُح إلّا لها ، لكن ذلك لا يمنع أن تكون الموجودات الإمكانية أبديّة بالغير. أي إنّ الله تعالى يمدّها دوماً بأسباب البقاء وكلما استهلكت تجددت ، أو كما يُعبّر عنه في الفلسفة أنّ «الإمكان بالذّات» لا يتنافى مع «الوجوب بالغير». (تأمل جيداً).

أي كما أنّ الله سبحانه وتعالى يمد الجنّة والنّار دوماً بأسباب الوجود ويجعلهما باقيتان قائمتان دائماً ، فكذلك تكون أجسام أهل الجنّة وأهل النّار مشمُولة بهذا القانون إذ تبقى قائمة دوماً بالامداد الإلهي حتّى تلقى جزاءها الأبدي من عقاب أو ثواب ، وخلاصة القول : إنّ الفناء يحصل في حالة عدم وجود امداد خارجي وانعدام التجدد.

* * *

٢ ـ هل يمكن للعرضي أن يصير دائماً؟

يلاحظ في بعض كلمات الفلاسفة أنّ : «الاصول الحكمية دالة على أنّ القسر لا يدوم على الطبيعة ، وأنّ لكل موجود من الموجودات الطبيعية غاية ينتهي إليها وقتاً وهي خيره

٣٦٤

وكماله ، وأنّ الواجب جلّ ذكره أوجد الأشياء على وجه تكون مجبولة على قوة يتحفظ بها خيرها الموجود وتطلب بها كمالها المفقود ، إلّاأن يُعيقه له عن ذلك عائق ويقسره قاسر ، لكنّ العوائق ليست أكثرية ولا دائمة وإلّا لبطل النظام وتعطلت الأشياء وبطلت الخيرات ، فعلم أنّ الأشياء كلها طالبة لذاتها للحق مشتاقة إلى لقائه بالذات ، وأنّ العداوة والكراهة طارئة بالعرض ، فمن أحبّ لقاء الله بالذات أحبّ الله لقاءه بالذات ومن كره لقاء الله بالعرض لأجل مرض طرأ على نفسه كره الله لقاءه بالعرض ، فيعذبه مدّة حتى يبرء من مرضه ويعود إلى فطرته الاولى» (١).

والإجابة عن هذه المقولة ليست صعبة لأنّ الاخطاء والانحرافات قد تتجذر أحياناً في وجود الإنسان إلى درجة تغدو معها ذات طبيعة ثانوية مثلما يحصل في هذا العالم حين يبلغ المجرم مرحلة من الانحراف حتى يصبح مُلتذّاً بجرائمه ، وتستهويه الامور التي ينفر منها الإنسان السوي طبيعياً وفطرياً ، كما يلاحظ عند الأشخاص الذين اعتادوا ارتكاب الأعمال القبيحة التي تشمئز منها النفوس.

وحينما يبلغ الإنسان مثل هذه المرحلة من الطبيعة الثانوية لا يبقى له أي طريق للعودة. وهذا هو نفس الشيء الذي عبّرت عنه الآية السابقة بتعبير «أحاطت به خطيئته» الذي يسبب انقلاب الطبيعة الإنسانية.

٣ ـ ألا يعتاد أهل النّار على العذاب

قِيل أحياناً : إنّ أصحاب الحجيم يُعّذبون بعد دخولهم في نار جهنّم بمقدار المدّة التي قضوها وهم مشركون في هذه الدنيا ، ولكن بعد انتهاء هذه المدّة يتحول عذاب جهنّم إلى نعيم بالنسبة لهم لأنّه يصبح أمراً متناسباً مع طبيعتهم حتى أنّهم لو دخلوا الجنّة شعروا بعدم الارتياح ، والسبب في ذلك هو عدم تناسبها مع طبيعتهم ، إنّهم يتلذذون بما هم فيه من نار وزمهرير وما فيها من لدغ الحيات والعقارب كما يلتذ أهل الجنّة بظلال أشجار الجنّة والحور والقصور وطوبى والكوثر ، وفي هذا العالم نرى البلبل يطربه أريج الزهور في حين

__________________

(١). الاسفار ، ج ٩ ، ص ٢٤٦ (مع التلخيص). لقد نقل صدر المتألهين هذا الموضوع باعتباره وجهة نظر.

٣٦٥

أنّ بعض الحشرات القذرة تلتذ وتنتشى بروائح القمامة الكريهة (١).

هذا الوهم يشكل نقطة مقابلة للوهم السابق أيضاً ويتناقض معه ، وهو في نفس الوقت لا يتّسق مع أي من الآيات التي تؤكّد خلود العذاب ، لاسيّما وأنّ بعضها قد صَرّحت بأنّه (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ). (النّساء / ٥٦)

والتهديد بالخلود في النّار هو تهديد بالعذاب الدائم ، ولو أنّه تحّول إلى نعمة خالدة لما كان يتصف بالتهديد.

إنّ مثل هذه التفسيرات بشأن الخلود تدل على أنّ أصحابها لم يجهدوا أنفسهم بالقيام بدراسة دقيقة أو حتّى دراسة إجمالية لتلك الآيات القرآنية ، ولو أننا أعدنا قراءة تلك الآيات لتبيّن مقدار التناقض بينها وبين هذا الكلام الفارغ القبيح.

إضافة إلى ذلك ، يجب الالتفات إلى أنّ اعتياد الإنسان على الآلام له حدود ، فبعض الآلام طفيفة يعتاد عليها الإنسان بمرور الزمن. لكن لو نقص الماء في جسم الإنسان مثلاً فانّه يعاني العطش ، ويتعذر عليه عندئذٍ الاعتياد على ذلك ، كأن يكون بدنه يحتاج إلى الماء وهو لا يشعر بالعطش!.

٤ ـ هل أنّ الخلود نوعي أم شخصي

يلاحظ أنّ البعض اعتبر الخلود «خلوداً نوعياً» لا «شخصياً» ، ومعنى ذلك أنّ نوع «الإنسان الكافر» يبقى في النّار إلى الأبد ، لكن الأشخاص يتبدلون ، أي أنّ كل واحد منهم يقضي مدّة معيّنة في عذاب جهنّم ، وبما أنّه يعطي مكانه إلى آخر ، فإنّ بقاء الإنسان في جهنّم سيبقى أبدياً.

ومفهوم هذا الكلام أنّ خلقاً آخر يأتي إلى الدنيا في المستقبل ، وينحرف منهم جماعة أيضاً ، فيكونون وقوداً لنار جهنّم ، ويتصادف دخولهم فيها مع نجاة وخروج الخلق السابق منها (٢).

__________________

(١). هذا الكلام نقلناه بشيء من التلخيص عن كتاب الأسفار نقلاً عن محي الدين بن العربي في الفتوحات المكية (الأسفار ، ج ٩ ، ص ٣٤٩).

(٢). هذا التفسير موجود في حاشية ج ٩ ، من الأسفار ، ص ٣٤٨.

٣٦٦

وهذا التفسير لاينسجم مع آيات خلود العذاب المتعلقة بالكفّار ، ويكفي قليل من التدقيق في الآيات السابقة لفهم ذلك التناقض وعدم الانسجام ، لأنّ تلك الآيات تصرح بالخلود الشخصي ، وهذه التأويلات لا تتعدى السبب الذي ذكرناه سابقاً وهو أنّ العجز عن حل المشاكل في بحث الخلود قد دفعهم إلى التشبث بمثل هذه التأويلات غير واقعية.

٥ ـ هل ينسجم الخلود مع العدل الإلهي؟!

إنّ أهم اعتراض يُطرح في مسألة الخلود ـ وهو في الحقيقة الاعتراض الأساس فيها ـ هو عدم التناسب بين الذنب وبين العقوبة ، فيقال : كيف نرضى بأنّ يتعذب الإنسان الذي أساء في كل حياته وهي مائة عام على أكثر تقدير وكان خلالها يتخبط في الكفر والمعاصي ويعاقب مدّة ألف مليون عام؟

هذة القضية لا تثير أي اعتراض طبعاً في ما يخص النعم الإلهيّة الخالدة في الجنّة إذ لا عجب من فضل الله ورحمته وجزائه الأوفى ، فرحمته قد وسعت كل عالم الوجود ، أمّا في مجال العقاب فينبغي أن يكون هناك تناسباً بين الجريمة والعقاب ، وإن اختل ذلك التناسب والتوازن فذلك ما لا يتسق والعدل الإلهي ، والخلاصة أنّ مائة سنة من الكفر والذنوب تستوجب مائة عام من العقوبة لا أكثر.

إنّ استعصاء هذا الاعتراض على الحل قد دفع ببعض الجماعات إلى تأويل آيات الخلود واعتبارها تعني طول المدّة أو أنّه الخلود النوعي لا الشخصي أو أنّه الاعتياد على تلك الأوضاع وأمثال ذلك ممّا سبق القول فيه ، لكن وكما قلنا سابقاً فإنّ هذه التأويلات واهية جدّاً ولايمكن التعويل عليها ولاتنسجم قطعاً مع آيات الخلود.

الجواب :

إنّ الذين يطرحون هذا الاعتراض يغفلون عن نقطة أساسية وهي الفارق الموجود بين العقوبة الوضعية والعقوبة التكوينية التي هي النتيجة الطبيعية للأعمال أو الحياة في محيط تلك الأعمال.

٣٦٧

وتوضيح ذلك : إنّ المقنن : قد يسُن أحياناً قانوناً يقول فيه إنّ من يرتكب المخالفة الفلانية فعليه أن يدفع مقداراً من المال كغرامة مالية أو يُسجن مدّة من الزمن ، فمن البديهي في مثل هذا الموقف أن يكون هناك تناسب بين «الجريمة» و «العقاب» ، فلا يمكن أن تُقَرّر مثلاً عقوبة الاعدام أو السجن المؤبد للمخالفة البسيطة ، وبعكس ذلك فمن غير المعقول تحديد عقوبة القتل بسجن يوم واحد ، فالحكمة والعدالة تستوجب التناسب الكامل بين تلك الحالات.

لكن العقوبات التي هي في الحقيقة الآثار الطبيعية للعمل وتعتبر من خاصّيته التكوينية أو نتيجة حضور ذات العمل أمام الإنسان ، لا تقر مثل هذه الأقوال سواءً بشأن آثار العمل في هذا العالم أم في العالم الآخر.

فلو قيل مثلاً ، إنّ من يخالف تعليمات المرور ويقود سيارته بسرعة عالية ويتسابق بلا مبرر ويجتاز المناطق الممنوعة قد يتعرض ـ وبسبب عدّة لحظات من المخالفة ـ إلى اصطدام عنيف يؤدّي إلى كسر يديه ورجليه ويبقى مقعداً طوال عمره ، فهنا لا يستطيع أحد أن يقول إنّ هذه النتيجة المريرة غير عادلة ازاء هذه المخالفة البسيطة لأنّ من المسلّم به أنّ أمثال هذه العقوبات ليست من وضع إدارة المرور حتّى يؤخذ بنظر الاعتبار التناسب بين المخالفة والعقوبة ، بل هو الأثر الطبيعي للعمل الذي فعله الإنسان بإرادته وأوقع نفسه فيه.

وكذلك الحال ، إذا قيل بضرورة اجتناب المشروبات الكحولية أو المخدرات لأنّها تتلف القلب والمعدة والمخ والاعصاب خلال فترة وجيزة ، ولكن لو تعمد أحد تناولها واصيب بضعف الأعصاب الشديد وبأمراض القلب والشرايين والقرحة كل ذلك في مقابل الفسق والمجون لأيّام معدودة ، أو يبقى إلى آخر عمره يعاني من شدّة الألم والعجز والضعف ، ففي مثل هذا الحال لا يمكن لأحد أن يتحدث عن عدم التناسب بين الذنب وآثاره وجزائه.

ولو افترضنا أنَّ هذا الشخص قد عَمّر في هذه الدنيا بدل المائة عام ألف عام أو مليون عام ، فينبغي عليه تحمل العذاب والألم طوال هذه المدّة المديدة ازاء عدّة أيّام قضاها في اللهو والمجون.

٣٦٨

أمّا في ما يخص العقوبات الأخروية فالمسألة أعمق من هذا بكثير ، فالآثار التكوينية للأعمال ونتائجها بالغة الأهميّة وقد تبقى ملازمة للإنسان إلى الأبد ، بل إنّ ذات العمل (كما ذكر في موضوع تجسّد الأعمال) يتجسد أمام الإنسان وبما أنّ ذلك العالم خالد ، فإنّ الأعمال الصالح منها والطالح تبقى خالدة مع الإنسان وتكون وسيلة إمّا لشقائه أو لسعادته.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ ثواب وعقاب يوم القيامة يتصف بالآثار التكوينية وخواص العمل الذي أتى به الإنسان في الدنيا ، كمايقول القرآن الكريم : (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَاعَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّاكَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ). (الجاثية / ٣٣) وجاء في قوله تعالى : (وَلا تُجْزَونَ إِلَّا مَاكُنتُمْ تَعمَلُونَ). (يس / ٥٤) وورد نفس هذا المضمون مع قليل من الاختلاف في آيات اخرى عديدة.

وبناءً على هذا لا يبقى هناك أي مجال لطرح هذا التساؤل وهو : لماذا لم يؤخذ بنظر الاعتبار التناسب بين الذنب والعقوبة؟

ينبغي أن يحلّق الإنسان في سماء السعادة بجناحي «الإيمان» و «العمل الصالح» لينال نعيم الجنّة الأبدي ولذّة القرب الإلهي ، فإن كان قد كسر جناحيه في لحظة من لحظات المجون أو خلال المائة سنة التي قضاها في هذه الدنيا ، فعليه أن يعيش إلى الأبد في الذلة والشقاء ، فالقضية هنا ليست قضيّة الزمان والمكان وحجم الجريمة ، بل هي قضية العلة والمعلول ، آثاره قصيرة المدى وبعيدة المدى ، فقد يكفي عود واحد من الثقاب لاحراق مدينة بأكملها ، وقد يؤدّي غرام واحد من بذور الشوك إلى تغطية صحراء واسعة بالاشواك بعد مدّة وجيزة ويكون سبباً دائمياً في ايذاء الإنسان ، كما قد تكفي عدّه غرامات من بذور الورد إلى تغطية صحراء شاسعة بأجمل الورود واشذاها رائحة تفوح منها العطور فتملأ النفوس والقلوب بهجة وارتياحاً.

فإن قال قائل ما التناسب بين عود الثقاب وإحراق مدينة بأكملها؟ وما العلاقة التناسبية بين عدّة بذور من الشوك أو من الورد وبين الصحراء الفسيحة؟

فهل هذا السؤال منطقي؟ من المؤكد ، كلّا.

٣٦٩

فأعمالنا الصالحة والطالحة على هذا النمط أيضاً ، فقد تخلّف وراءها آثاراً خالدة واسعة وكبيرة ، (فتأمل).

والمسألة المهمّة هنا هي أنّ الله تعالى القادة الربانيين والأنبياء العظام وأوصياءَهم كانوا يحذروننا باستمرار من أنّ نتيجة أمثال هذه الذنوب هي العذاب الأبدي ، ونتيجة الأعمال الصالحة هي النعمة الأبدية الخالدة. تماماً كالبستاني الماهر الذي يبيّن لنا مسبقاً الآثار الواسعة التي تنتج عن بذور الورد أو الشوك ، ونحن الذين نختار مسارنا بوعي خلال هذا الطريق.

فهل نلوم أحداً في هذه الحال؟ ولمن نؤاخذ؟ وعلى من نعترض سوى على أنفسنا؟

إلى هنا ينتهي موضوع الثواب والعقاب وجوانبه المختلفة.

* * *

٣٧٠

القرآن والشفاعة

٣٧١
٣٧٢

القرآن والشفاعة

تمهيد :

إنّ العقوبات الإلهيّة يوم القيامة ليست ذات طابع انتقامي سواءً كانت قصيرة أم طويلة الأمد أم أبدية ، وسواءً كانت جسمية أم روحية وسواءً اعتبرناها كآثار طبيعية للعمل أو وضعية ، وقد وضعت بهدف تربية الإنسان أو كضمانة لتنفيذ القوانين الإلهيّة الرامية إلى تنمية الكمال الإنساني.

ولهذا السبب ، نرى سبل النجاة مشرعة أمام الإنسان ـ في نفس الوقت الذي نرى فيه القرآن الكريم يصف العقوبات الإلهيّة بالشّدة ـ وتمنح الفرصة للمذنبين للرجوع عن الخطأ وإصلاح أنفسهم وسلوك الطريق المؤدي إلى الله تعالى.

وتعتبر الشفاعة واحدةً من هذه الوسائل لأنّها تعني في المفهوم الصحيح للكلمة انذاراً للمذنبين بعدم هدم جسور العودة بأجمعها والحفاظ على خطوط الاتصال مع أولياء الله ، وإن وقعوا في بعض الذنوب فلا ييأسوا ، وعليهم الشروع بالعودة حيثما كانوا والمسارعة نحو رحمة الله الواسعة.

إنّ بحث الشفاعة بجميع تفاصيله ونقاطه التربوية المثيرة التي وردت في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، يصب في هذا السياق.

ومن الأفضل الاكتفاء بهذا التمهيد الموجز ، ومن ثم نعود إلى القرآن الكريم لنتعرف من خلاله على حقيقة ومفهوم الشفاعة وعلى جميع الامور المتعلقة بها.

نمعن فيما يلي خاشعين في الآيات التالية التي قُسمت إلى عدّة مجاميع وبالشكل الآتي:

١ ـ (فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر / ٤٨)

٣٧٣

٢ ـ (وَاتَّقُوا يَوماً لَّاتَجْزِى نَفسٌ عَن نَّفسٍ شَيئاً وَلَايُقبَلُ مِنهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤخَذُ مِنهَا عَدلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) (١). (البقرة / ٤٨)

٣ ـ (مَالَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (٢). (السجدة / ٤)

٤ ـ (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرضِ ثُمَّ الَيهِ تُرْجَعُونَ). (الزمر / ٤٤)

٥ ـ (مَن ذَا الَّذِى يَشفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِاذنِهِ). (البقرة / ٢٥٥)

٦ ـ (يَومَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَن اذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قَولاً) (٣). (طه / ١٠٩)

٧ ـ (مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعدِ إِذنِهِ). (يونس / ٣)

٨ ـ (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّموَاتِ لَا تُغنِى شَفَاعَتُهُم شَيئاً إِلَّا مِن بَعدِ ان يَأذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرضَى). (النجم / ٢٦)

٩ ـ (وَلَا يَملِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعلَمُونَ). (الزخرف / ٨٦)

١٠ ـ (وَلَا يَشفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى). (الأنبياء / ٢٨)

١١ ـ (لَّايَملِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمنِ عَهداً). (مريم / ٨٧) ١٢ ـ (مَّا لِلظَّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ). (المؤمن / ١٨)

جمع الآيات وتفسيرها

المجاميع الخمسة لآيات الشفاعة :

عندما نضع الآيات الإثنتي عشرة المذكورة أعلاه إلى جنب الآيات الأربع المذكورة في الهامش إلى بعضها ، تُحل بكل سهولة جميع المشاكل الموجودة في موضوع الشفاعة ،

__________________

(١). جاء نفس هذا المضمون مع اختلاف ضئيل في الآية ٢٥٤ من سورة البقرة.

(٢). جاء نفس هذا المعنى أيضاً في الآيتين ٥١ و ٧٠ من سورة الانعام.

(٣). ورد نفس هذا المعنى مع وجود بعض الاختلاف في الآية ٢٢ من سورة سبأ.

٣٧٤

ويقدّم الجواب المناسب لكل سؤال يُطرح في هذا الصدد.

لكن عدم الاهتمام بالتفسير الموضوعي لهذه الآيات ، والنظر إلى بعضها واهمال البعض الآخر في الدراسات العامّة لموضوع الشفاعة قد آثار مشاكل عديدة وانتهى أحياناً إلى الضلال وإلى إضلال الآخرين أيضاً ، ويُعد هذا تقصير من قبل أولئك الذين أداروا ظهورهم للتفسير الموضوعي وحاولوا حل مثل هذه البحوث ـ التي لا تحل إلّابه ـ من خلال الاستناد إلى آية واحدة أو عدّة آيات ، أو حتّى يحتمل فيهم سوء النيّة في اختيار الآيات التي تتحقّق بها مقاصدهم.

فالآيات المذكورة تُقسم في الحقيقة إلى خمسة أقسام محددة يهدف كل واحد منها إلى غرض معيّن.

القسم الأول : الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل قاطع

ومنها كالآية الأولى والثانية.

وصنفت الآية الأولى بعض أحوال المجرمين الذين لم يكونوا مؤمنين ، وأوضاعهم في جهنّم وحديثهم مع أهل الجّنة ثم قالت : (فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ).

إنّ هذه الآية وإن كانت تنفي أي نوع من أنواع الشفاعة بحق هذا الفريق (بما في ذلك شفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين) ، إلّاأنّ وجود كلمة «الشافعين» وهي ظهور الفعلية ، تثبت وجود شافِعين ومشفَّعين في ذلك اليوم وأنّ شفاعتهم لا تنفع هؤلاء الذين كانوا يكذّبون بيوم الدّين ولم يكونوا يصلّون ولا يطعمون المسكين.

وكذلك تعبير «فَمَا تَنْفَعُهُم» يدل أيضاً على أنّ أحوالهم وأعمالهم ومعتقداتهم هي التي جلبت إليهم هذا الحرمان.

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية وإن كانت من الآيات النافية للشفاعة ، إلّاأنّ نصّها يثبت ضمنياً وجود الشفاعة.

ونفت الآية الثانية الشفاعة أيضاً وقالت : (وَاتَّقُوا يَوماً لَّاتَجْزِى نَفسٌ عَن نَّفسٍ شَيئاً

٣٧٥

وَلَايُقبَلُ مِنهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤخَذُ مِنهَا عَدلٌ وَلَاهُمْ يُنصَرُونَ).

رغم أنّ المخاطبين في هذه الآية هم اليهود ـ بقرينة الآية السابقة لها ـ إلّاأنّ حكمها يتّسم بالعمومية ويَسُدّ جميع المنافذ أمام المخالفين ، وأشارت أثناء ذلك إلى أربعة طرق مهمّة تُعتبر وسيلة للنجاة في هذه الدنيا لكثير من المجرمين :

الأول : أن تجزي نفس عن نفس ، والثاني : أن يشفع لها محترم ، والثالث : لو دفعت غرامة لجزت عن العقوبة ، والرابع : أن يهب قوم لنصرتها وانقاذها من مخالب العذاب ، لكن أيّاً من هذه الطرق ليس لها وجود يوم القيامة ، والحديث هنا يدور حول نفي الشفاعة هناك نفياً قاطعاً ، ولكن هل يختص ذلك باليهود الذين سلكوا طريق الكفر والعناد ومجانبة الحق ، وقتل الأنبياء ، وبهذا فهي لا تتنافى مع آيات الشفاعة والروايات المتواترة الدالة على أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المعصومين عليهم‌السلام يشفعون لمذنبي هذه الأمّة؟

أم أنّ هذه الآية تشير إلى ظن اليهود الذين كانوا يتوهّمون بأنّ آباءهم يشفعون لهم يوم القيامة ، فالآية تبطل هذا الوهم وتجعلهم في يأس منه؟ أم أنّ ظاهر الآية مطلق وينفي أي نوع من الشفاعة لأي أحد؟

وتشير الآيات الأُخرى التي ستأتي لاحقاً وكذلك الروايات المتواترة وإجماع الأمّة بأنّ هذه الآية تخص الكفّار والأشخاص الذين لا تشملهم الشفاعة بسبب عِظمِ ذنوبهم ، وعلى هذا فالآية المذكورة ذات طابع عمومي ، والآيات الأخرى ذات صيغة مختصة ، وترفع أي غموض في هذا المجال.

وسيأتي شرح هذا الكلام عن قريب إن شاء الله.

القسم الثاني : الآيات التي تعتبر الشفاعة خاصّة بالله

ومنها الآية الثالثة التي ورد فيها بعد الإشارة إلى خلق السموات والأرض وحاكميَّة الله على كل شيء قوله تعالى : (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا شَفِيعٍ)

وبناءً على هذا فإنّ الشفيع هو الخالق المدّبر لعالم الوجود لأنّ الشفاعة هي أيضاً نوع من

٣٧٦

التدبير والربوبية والتربية ، ومعنى هذا وجوب عدم التعلّق بالأوثان والالتجاء إلى سوى ذاته المقدّسة ، وأن وضع أحد من الأنبياء والأولياء على مقام الشفاعة فهو مستمد منه بالتأكيد : كما أنّ مقام الحاكمية وهداية وتربية الناس ممنوحٌ لهم من قبل الله تعالى.

وورد نفس هذا المعنى في الآية الرابعة من آيات البحث ، ولكن بصورة اخرى ، إذ تقول لعبدة الأوثان الذين اتخذوها شفعاء لهم : (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً).

ثم تؤكّد أنّ سبب ذلك هو أنَّ : (لَهُ مُلكُ السَّموَاتِ وَالأَرضِ ثُمَّ الَيهِ تُرجَعُونَ).

فمن البديهي أنّ من يمتلك حق العفو عن المذنبين وحق الشفاعة أو قبول شفاعة الشافعين هو الخالق والمالك لكل الموجودات التي بدأ وجودها منه ثم تعود إليه في نهاية المطاف.

وعلى هذا فانَّ الشفيع في الأساس هو الله تعالى ، لا منافس له في ذلك بل يستمد الآخرون منه مشروعية شفاعتهم ، ومن الواضح أنّ انحصار حق الشفاعة به تعالى دون سواه لا يتنافى أبداً مع مشروعيته للآخرين ، كما أنّ الملكية والحاكمية له دون سواه ، ويمكن للآخرين الملك والحكم بإذنه وبأمره وفي حدود خاصّة.

وما يسترعي الاهتمام هنا هو أنّ الآية السابقة لها قالت حين نفت شفاعة الأوثان : (قُلْ اوَلَوْ كَانُوا لَايَملِكُونَ شَيئاً وَلَا يَعقِلُونَ). (الزّمر / ٤٣)

وهذا التعبير دليل واضح على أنّ الشفاعة من مختصات المالكية والحاكمية ، وإنّما اختص بها الله تعالى لأنّه هو المالك والحاكم الأصل في عالم الوجود والآخرون يقتاتون على فُتات مائدة نعمته.

القسم الثالث : الآيات التي تؤكّد على أنّ الشفاعة منوطة بإذن الله

وهي في الحقيقة مكملة لآيات القسم الثاني ، ولذا ورد في الآية الخامسة استفهام انكاري ينص على :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). (البقرة / ٢٥٥)

٣٧٧

وبناءً على ماذكر فإنّ الأنبياء وأولياء الله والشفعاء يستمدون مشروعية شفاعتهم يوم الجزاء من الله تعالى ، ويشفعون بإذنه ، ومن البديهي أنّ إذنه منبثق من حكمته أي وفق أسس محسوبة ، فإن كان هناك شخص لا يستحق الشفاعة فلا يؤذن بالشفاعة له (احفظوا هذا الكلام جيداً فسيأتي شرحه في الظرف المناسب).

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الآية المذكورة (وهي آية الكرسي) قد أكّدت هذه الجملة بعد أن أقرّت مقام القيمومة والمالكية لله تعالى على كل ما في السموات والأرض ، وعلى هذا فانَّ هذه الشفاعة منبثقة من مالكيّته وحاكميته وقيمومته.

وبهذا فهي تبطل معتقدات عبدة الأوثان الذين يتذرّعون بعبادتها بدعوى أنّها تشفع لهم عند الله.

وورد نفس هذا المعنى بصورة اخرى في الآية السادسة ؛ إذ قالت : (يَومَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قُولاً).

ولكن مَن المقصود مِن : «مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ»؟ هنالك احتمالان :

الأول : هم الشفعاء بإذن الله ، والثاني : هم الذين تشملهم الشفاعة بإذن الله.

إلّا أنّ الاحتمال الأول يبدو هو الأصح لأنّه يتسق ومضمون الآية السابقة (آية الكرسي) فهناك كان الحديث يدور حول الإذن للشفعاء ، وتمثل الآية اللاحقة شاهداً آخر على صحّة هذا القول ، ولهذا السبب اختار الكثير من المفسّرين هذا المعنى.

وينعكس كلا المعنيين في جملة «وَرَضِيَ لَهُ قَولاً» ، الأول : إنّها تعود على الشفعاء أي تُقبل شفاعة من رضي الله قوله وشفاعته ، وعلى هذا فإنّ الجملتين تؤكّد إحداهما الأخرى.

والثاني : إنّ المقصود هو المشفوع له من الذين رضي الله قولهم ، وبعبارة اخرى هو الذي كان عمله وكلامه ومعتقده صالحاً وصار موضعاً لرضى الله لكي يُشفع له ، ولكن بما الجملة الأولى تقصد الشفعاء ، فمن الأنسب أن تكون الجملة الثانية إشارة إلى ذلك أيضاً ، لتكون عودة الضمائر على وتيرة واحدة.

وعلى جميع الأحوال تشكّل الآية دليلاً واضحاً على وجود الشفاعة بإذن الله ، لفريق من المؤمنين.

٣٧٨

وقد بيّنت الآية السابقة نفس ذلك المعنى بصورة اخرى إذ قالت : (مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعدِ إِذنِهِ) فلماذا تعبدون الأصنام؟ (ذلِكم اللهُ رَبُّكُمَ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

وجاء نفس هذا المعنى في الآية الثامنة بشأن شفاعة الملائكة ، إذ تؤكّد أنّ شفاعتهم تقبل بإذن الله أيضاً ، إذ ورد فيها : (وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّموَاتِ لاتُغنِى شَفَاعَتُهُم شَيئاً إِلَّا مِن بَعدِ ان يَأذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرضَى).

فالمكان الذي لا يستطيع فيه ملائكة السماء وبكل مالديهم من عظمة من الشفاعة إلّا بإذنه ، فماذا نتوقع من الأوثان التي لا حس لها ولا تمتاز بأيّة قيمة معنوية؟ أليس من المخجل أن يقولوا نعبدها لتكون شفيعة لنا عند الله؟!

والملفت هنا هو استخدام كلمة «كم» للتعبير عن أهميّة الموضوع ، وهو ما يُستخدم عادة للكثرة وهو موسوم هنا بطابع العموم ، وجاء في الآية كذلك تعبير «في السموات» وهو دلالة على علو مقامهم ، ووردت كذلك كلمة «شفاعتهم» بصيغة الجمع لكي يفهم شفاعتهم جميعاً لا أثر لها إلّابإذن الله ورضاه.

ولعل التأكيد على الملائكة دون بقية الشفعاء جاء هنا لأنّ فِئة من العرب كانت تعبد ، الأوثان أو أنّ المقصود : فإن كانت شفاعة الملائكة لا تتحقق ولا تنفع إلّابإذن الله ، فماذا يُتوقع من الأصنام الجامدة؟

والفارق بين «الإذن» و «الرضا» هو أنّ الإذن يُطلق حين يُعلن المرء عن رضاه ، لكن الرضا منوط بالباطن ، وانطلاقاً من أنّ الرضا قد يكون مفروضاً أحياناً وعارٍ عن الرضا الباطني ، فقد ورد الاثنان معاً في هذا الموضع ليتم تأكيد الغرض رغم أنّ الفرض على الله لا يمكن تصوره (جل وعلا) وأنّ رضاه مستوسق مع إذنه ، (فتأمل).

هل أنَّ هذا الاذن مرتبط بالشفعاء أم بالمشفع لهم؟ فالآية التي نحن بصددها تحتمل المعنيين ، رغم أنّ معناها العام يبدو أكثر اختصاصاً بالشفعاء أي إنّ الله يأذن ويرضى لهم بالشفاعة.

٣٧٩

القسم الرابع : الآيات التي حددت بعض الشروط للشفيع والمشفوع له

من جملة ذلك الآية التاسعة التي تنفي بقولها : (وَلَا يَملِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) ثم إنّها استثنت منهم فريقاً فقالت : (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُم يَعلَمُونَ).

يبدو أنّ الصفة الاولى للشفعاء هي الشهادة بالحق ؛ فلابدّ أن يكون الشفيع موحّداً ، أي لا تتحقق الشفاعة إلّافي ظل التوحيد ونبذ الأصنام والاستعانة بلطف الله.

قال بعض المفسّرين : إنّ هذا الوصف للمشفوع لهم. أي إنّ الشفاعة لا تشمل إلّامن يقر بحقّانية الله ووحدانيّته ، فهي لا تشمل المشركين مطلقاً.

لكن ظاهر الآية ، دالّ على التفسير الأول ، لأنّ التفسير الثاني يحتاج إلى التقدير (١) ، والتقدير خلاف للظاهر.

أمّا الوصف الثاني : «وهم يعلمون» فقد ورد كلا التفسيرين بشأنه أيضاً ، فإن كان الوصف للشفعاء فسيكون معنى الجملة : اؤلئك الذين يشهدون بالحق عن علم ووعي ، أو إن كان المقصود هم المشفوع لهم فيكون المعنى حينئذٍ أنّهم يعرفونهم ويعلمون لمن ينبغي أن تكون الشفاعة.

فإن كان الوصف للمشفوع لهم ؛ يجب أن يكون مفهومها هو أنّ الشفاعة تشمل من ينطقون بحق كلمة التوحيد ويقولونها عن علم ووعي انطلاقاً من الدليل والبرهان وهي غير مقصورة على اللسان.

وجاء نفس هذا المعنى بصورة اخرى في نفس هذه الآية التي نحن بصددها ، فبعد استنكار الآية ورفضها لقول عبدة الأوثان الذين يظنون أنّ الملائكة أبناء الله تقول لهم بأنّهم عباد الله وأنّهم : (وَلَايَشفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارتَضَى) وفي الحقيقة : (وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشفِقُونَ).

وعلى هذا فعبادة الملائكة لأجل نيل شفاعتهم (وهي عقيدة المشركين) لا طائل من

__________________

(١). ينبغي أن يكون تقدير الآية على هذه الشاكلة : «إلّا لمن شهد بالحق».

٣٨٠