نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

ورائه ، فهم يأتمرون بأمره تعالى ولا يشفعون إلّالمن يرتضي ، أي للموحّد فقط.

وعلى هذا تكون جملة «لمن ارتضى» إمّا إشارة إلى رضاه عن دينهم وتوحيدهم وإيمانهم ، وإمّا كونه راضياً عن الشفاعة لهم ، وكلاهما يرجعان إلى معنىً واحد.

وانطلاقاً ممّا ذكر فإنّ شفاعة غير الله لا تكون إلّابإذنه ، واذنه يختص بالمؤمن والموحّد.

ويطالعنا في الآية التاسعة تعبير جديد يجري في نفس هذا المجرى ، فالآية تتحدث عن سوق المجرمين نحو جهنّم ثم تقول : (لَّايَملِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمنِ عَهداً).

وهذا الوصف لمن يُشفع لهم (بقرينة الآية السابقة لها والتي تتحدث عن المجرمين).

ومن المؤكّد أنّ المقصود بالعهد هنا هو الإيمان بالله والإقرار بوحدانيّته وتصديق الأنبياء وقبول ولاية الأوصياء ، وقد أضاف البعض إلى كل ذلك العمل الصالح.

ورغم كثرة الاحتمالات التي طرحها المفسّرون في تفسيرهم لكلمة «العهد» ، إلّاأنّه يتضح خلال التمعن فيها أنّها تعود إلى المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً.

واحتمل بعض المفسرين الكبار أن يكون هذا الوصف للشفعاء وأنّ المقصود بـ «العهد» هنا هو نفس ما ورد في الآية ٨٦ من سورة الزخرف ؛ أي «الشهادة بالحق» (١).

ولكن بما أنّ الضمير في «لا يملكون» ينبغي أن يعود على صريح مذكور في الآية السابقة وأنّ كلمة «المجرمين» هي المذكورة في الآية ، يبدو هذا الاحتمال مستبعداً ، والظاهر أنّ الوصف يخص المشفوع لهم.

وعلى هذا الأساس يجب أن تكون هناك علاقة بين الشفيع والمشفوع له قائمة على الإيمان والعمل الصالح ، لأنّ الشفاعة هناك محسوبة ولا تعني مطلقاً التوسط لمن لا يستحق.

جاء في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرّني ومن سَرّني فقد اتّخذ عند الله عهداً» (٢).

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ذيل الآية ٨٦ من سورة مريم.

(٢). تفسير در المنثور ، (وفقا لنقل تفسير الميزان في الآية مورد البحث.

٣٨١

من المؤكّد أنّ عبداً لو أدخل السرور على المؤمن لأجل إيمانه ، فهو من ذوي الإيمان والعمل الصالح وذلك ممّا يوثّق علاقته بالله من أجل قبول شفاعته.

القسم الخامس : الآيات التي تشير إلى الأشخاص الذين لا تنالهم الشفاعة

(وهو القسم الأخير من الآيات التي ندرسها) وتشير إلى الأشخاص الذين لا تنالهم الشفاعة بسبب ما ارتكبوه من أعمال ، ومفهومها أنّ الشفاعة تشمل فئات اخرى ، تقول إحداهما : (مَّا لِلظَّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ).

إذن فغير الظالمين بشكل عام يستحقّون الشفاعة.

ولكن ما المقصود بالظالمين؟ قال البعض من أمثال المحقق الطبرسي في مجمع البيان أنّهم المشركون والمنافقون ، لأنّ أسوأ الظلم هو الشرك والنفاق (١).

وصرح الفخر الرازي بأنّ المقصود بـ «الظالمين» هنا الكُفّار (٢).

والآيات السابقة لهذه الآية ، ومطلع نفس هذه الآية الذي يحذّرهم من عذاب يوم القيامة وكذلك الآيات الواردة بعدها والتي تذكُر مصير الكفّار السالفين الذين أصبحوا عبرة من خلال تعرضهم للعذاب الإلهي ، هي أيضاً شاهد ودليل على هذا المعنى.

وقال بهذا الرأي كل من صاحب تفسير روح البيان ، وصاحب روح المعاني والمراغي.

وعلى كل حال فإنّ نفي الشفاعة عن الظالمين بالخصوص (وبغض النظر عن المعنى الذي تُفسر فيه كلمة الظالمين) دليل على إثباتها لأقوام آخرين ، وهذا ما أكدناه مَرّات عديدة فالشفاعة لا تحصل اعتباطاً بل تحتاج إلى نوع من الاستحقاق والتأهيل ، أي إنّ المذنبين على صنفين : صنف يستحق الشفاعة وصنف لا يستحقّها.

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ٨ ، ص ٥١٩.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٥٠.

٣٨٢

النتيجة :

نظراً لكثرة وتنوّع الآيات الآنفة الذكر ، وأقسامها الخمسة المخصص كل واحد منها لجانب من جوانب الشفاعة ، وبالالتفات إلى الوجهة العامة لها وتفسيرها بالاستعانة ببعضها وهو ما أشرنا إليه سابقاً ، يتّضح لدينا حقيقة ومفهوم الشفاعة وكذلك شروطها وفلسفتها وأهمّيتها ودورها البنّاء ، ويمثل أيضاً إجابات عن الاعتراضات المختلفة التي يطرحها عديمو الاطلاع بسبب عدم احاطتهم بمجموعة الآيات المتعلّقة بموضوع الشفاعة.

لكن أهميّة المسألة تقضي بفصل كل واحد من هذه المواضيع عن بعضها وتفسيره على حِدة من أجل أن تتمّ الاستعانة بالآيات القرآنية والتحليل المنطقي لازالة الصدأ عن هذه المرآة ، وإليكم فيما يلي الايضاحات المهمّة في موضوع الشفاعة.

* * *

توضيحات

١ ـ مفهوم الشفاعة

لو تأملنا في المفهوم اللغوي الصحيح لكلمة الشفاعة لاستطعنا الحصول على مدلولها الإسلامي لأنّ كلمة الشفاعة مأخوذة من المصدر «شَفْع» على ورن (نَفْع) ويعني «ضم الشيء إلى مثله» ومن هنا تتضح ضرورة وجود نوع من التشابه بين الاثنين رغم الفروقات الموجودة بينهما.

ولهذا السبب فالشفاعة بمفهومها القرآني تعني أنّ الشخص المذنب الذي يتصف ببعض الجوانب الإيجابية (كالإيمان أو العمل الصالح) يشبه أولياء الله ، وهم بدورهم يبذلون له العون ويسوقونه نحو جادّة الكمال ويطلبون له المغفرة من الله تعالى.

ويمكن وصف حقيقة الشفاعة بصيغة اخرى فهي عبارة عن وقوف كائن أقوى وأفضل إلى جانب آخر أضعف ليعينه على طي مراتب الكمال.

إنّ الشفاعة للأشخاص المخطئين موجودة في المجتمعات البشرية على مر العصور وقد

٣٨٣

كان الأشخاص المتنفّذون يشفعون للمخطئين عند أصحاب السلطة قبل نزول القرآن بآلاف السنين ، إلّاأنّ الشفاعة السائدة بين أوساط الناس تختلف عن الشفاعة في منطق القرآن والأديان السماوية بفارق واحد مهم وواضح وهو : أنّ الشفاعة في المجتمعات الإنسانية غالباً ما يُقصد بها قبول شخص متنفّذ للحاجة إليه في وجه من الوجوه ، ولذلك تقبل شفاعته في حق المخطيء ، لكي يستفيد من الشافع في الظرف المناسب لبلوغ بعض الغايات!

فالملوك مثلاً كانوا يقبلون شفاعة حواشيهم ورجال دولتهم في بعض المجالات لكي يعظموهم ويمّجدوهم وليستفيدوا منهم في انجاز أعمالهم في الوقت المناسب.

وكذلك كان الشفعاء يأخذون بنظر الاعتبار علاقتهم الشخصية بالمشفوع له ، وليس أهليته ومدى استحقاقه لها.

ولكن لما كان الله غنيّاً بالذات وغير محتاج على الاطلاق ، فالشفاعة لديه تأخذ طابعاً آخر وهو أنّ الشفعاء لديه ينظرون إلى المخطئين ليروا مَن مِنهم ينال رضا الله بسبب بعض النقاط الإيجابية لديه كالإيمان والعمل الصالح ، فيشفعون له عند الله لأجل هذه الجوانب الإيجابية ، وهذا هو الفارق الشاسع بين الشفاعة المتداولة بين الناس وشفاعة أولياء الله لديه ، إذ أنّ الاولى قائمة على العلاقات في حين أنّ الثانية قائمة على الضوابط والاستحقاقات :

ومن هذا المنطلق يمكن الردّ على بعض المنتقدين الجهلة الذين يرون الشفاعة نوعاً من الوساطة أو أنّها بمثابة الضوء الأخضر للمذنبين ، وقارنوها بشفاعة حواشي الملوك المتجبّرين ، فالأسس التي تقوم عليها الشفاعة في مفهومها الشرعي تعتبر بنّاءة ومبنية على عوامل اللياقة والاستحقاق ، في حين تنبع الشفاعة المتعارفة بين الناس في أغلب أشكالها من الحاجة المتبادلة بين الطرفين وترتكز على العلاقات الخاصة والشخصية غير المنطقية.

فالشفاعة الإلهيّة تربوية ، والشفاعة المتعارفة تكون سبباً للاجتراء على ارتكاب الذنب أحياناً.

وتمثّل الآيات التي ذُكرت سابقاً شاهداً حيّاً على هذا المعنى ، لأنّها تحدد خصائص لمن

٣٨٤

تنالهم الشفاعة تقوم على الجوانب الإيجابية والتأهيل والاستحقاق ، وكثيراً ما تكون الأسس المقبولة للاستحقاق هي العمل الصالح.

* * *

٢ ـ أنواع الشفاعة (الشفاعة التكوينية والشفاعة التشريعية)

لو ألقينا نظرة امعان على مفهوم الشفاعة لوجدناها من زاوية المصداق الخارجي واسعة إلى حد أنّها تشمل كل عالم الوجود ، لأنّ مساعدة الكائنات الأقوى للكائنات الأضعف على العيش والنجاة والحياة مشهودة في جميع مجالات الحياة.

فحين تنفلق البذرة وتخرج منها نبتة ضعيفة تهيّء لها الأرض المواد الغذائية اللازمة ، وترسل عليها الشمس أشعتها وحرارتها وطاقتها الخفية ، وتُسقط عليها الغيوم قطرات متواصلة من المطر ، لكي يشتد هذا الكائن الضعيف ويجتاز العقبات ليغدو في نهاية المطاف شجرة ضخمة محمّلة أغصانها بالثمار ، هذا مشهد واضح للشفاعة التكوينية.

وهنالك مشاهد اخرى للشفاعة التكوينية تتمثل في وقوف الوالدين إلى جانب المولود الضعيف ، والمزارع إلى جانب غرسه ، والمعلم إلى جانب الطفل الذي يتعلم حروف الهجاء ، وعلى هذا يمكن اعتبار كل عالم الأسباب والعلة والمعلول مشاهد متنوعة لهذه الشفاعة.

إنّ الشمس والريح والمطر والأرض لا تهرع بالتأكيد لإعانة خشبة يابسة ، فهي حطب ولا مصير لها سوى الاحتراق ، بل تهب لمساعدة النبتة المتفتحة توّاً والبراعم الضعيفة ، وباختصار فإنّ كل كائن يمتلك مقوّمات الكمال والنمو.

ولو نقلنا هذا المثال الواضح من عالم التكوين إلى عالم التشريع أي إلى شفاعة الأنبياء والأولياء للمذنبين ، سيتضح لنا المفهوم الحقيقي للشفاعة القرآنية ، ويكون ذلك ردّاً على انتقادات الجهلة ، وهنا تبرز لنا الشفاعة بمفهومها التربوي على أكمل وجه.

وردت في نهج البلاغة للإمام أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام ضمن كلماته القصار ، جملة

٣٨٥

تعكس هذا المعنى بأسلوب جذّاب جدّاً يقول فيها : «الشفيع جناح الطالب» (١).

فكما أنّ الطيور صغيرة السن لا يمكنها الطيران إلّابمساعدة الأب والأم وكأنّهما يمثلان اجنحتها التي بها تطير إلى أن تكبر ، فكذلك الشفعاء يساعدون المشفوع لهم ليحلّقوا في سماء السعادة والكمال ، (فتأمل).

* * *

٣ ـ فلسفة الشفاعة

لقد اتّضحت لدينا فلسفة الشفاعة من خلال ما قيل في تفسيرها وكذلك من خلال الإشارات العديدة التي أوردناها في تفسير الآيات.

فالشفاعة لا تشجيع على الذنب ، ولا تمثل الضوء الأخضر لارتكاب المعاصي ، ولا هي من أسباب التخلف ولا هي شيء يشبه الواسطة في مجتمعات عالم اليوم ، بل هي مسألة تربوية تحضى بأهميّة بالغة ، ولها آثار إيجابية في الجوانب المختلفة ، ومن جملة ذلك :

أ) بعث الأمل ومواجهة روح اليأس

كثيراً مايتغلب هوى النفس على الإنسان ويدفعه لارتكاب الذنوب الكبيرة ، فتتغلب من بعد ذلك روح اليأس عليه ، ممّا يدفعه لارتكاب المزيد منها حتّى يغدو غارقاً في الذنوب لأنّه يتصور أنّه قد تجاوز الحد وغرق في بحر آثامه فما هو الفرق إن انغمس في الماء لقامة واحدة أو لمائة قامة!

لكن الاعتقاد بشفاعة أولياء الله يزرع في نفسه الأمل ، فلو وقف عند هذا الحد وأصلح نفسه ، فقد يُعفى عمّا سلف منه وذلك عن طريق شفاعة الأبرار والصالحين ، وعلى هذا فإنّ الأمل بالشفاعة يساعد على الكفّ عن ارتكاب المزيد من الذنوب والعودة إلى الصلاح والتقوى.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٦٣.

٣٨٦

ب) إيجاد العلاقة المعنوية مع أولياء الله

لو أمعنا النظر في ما قيل سابقاً في تفسير مفهوم الشفاعة لتوصّلنا وبكل سهولة إلى نتيجة مفادها أنّ الشفاعة مرهونة بوجود نوع من العلاقة بين الشفيع والمشفوع له ، وهي رابطة معنوية منبثقة من الإيمان وبعض الخصال الفاضلة وفعل الحسنات.

ومن المؤكد أنّ الذي يرجو الشفاعة يسعى دوماً لإقامة نوع من العلاقة مع الشفعاء وفعل ما يرضيهم ولا ينسف جسور العودة من خلفه ، ولا يفسخ عرى الصداقة والمحّبة عن آخرها ، وسيكون مجموع هذه الإجراءات عوامل مؤثرة في تربيته ، وسبباً لابتعاده عن صف المجرمين بالتدريج ، أو أن يقوم على أقل تقدير ببعض الأعمال الصالحة إلى جانب المعاصي والذنوب ، لانقاذ نفسه بالتدريج من الوقوع في حبائل الشيطان.

ج) نيل شروط الشفاعة

وردت في الآيات التي قمنا بتفسيرها سابقاً شروط مختلفة للشفاعة وأهمها استحصال الإذن من الله بذلك ، ومن البديهي أنّ من يرجو الشفاعة لابدّ وأن يحاول التمهيد للحصول على الإذن ، أي يفعل ما يُرضي الله.

فقد ورد في بعض الآيات السابقة أنّ الشفاعة يوم القيامة لا تنفع إلّامن رضي الرحمن قوله وأذِن له بالشفاعة (طه / ١٠٩).

وجاء في في قوله تعالى أنّهم : (لَا يَشفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارتَضَى). (الأنبياء / ٢٨)

وقوله تعالى : إنّ الشفاعة لا تكون إلّالمن : (اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمنِ عَهداً). (مريم / ٨٧)

وكما قلنا سابقاً فإنّ هذه المقوّمات لا تتحقق إلّافي ظل الإيمان بالله وبمحكمته العادلة والاعتراف بحُسن العمل الصالح وقبح السّيئات والإقرار بصحة جميع القوانين والتعليمات الإلهيّة.

بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في بعض الآيات السابقة أنّ الشفاعة لاتشمل الظالمين ، وبناءً على هذا يتوجّب على من يأمل في نيل الشفاعة الخروج من صف الظالمين (بغض النظر عن المعنى الذي تفسر به كلمة الظلم).

٣٨٧

ومن مجموع هذه العوامل يتعيّن على كل من يأمل الفوز بالشفاعة إعادة النظر في أعماله السابقة واتخاذ القرارات الافضل بشأن سيرته المستقبلية ، وهذه أيضاً تعتبر بذاتها نقطة إيجابية ومن العوامل التربوية الفاعلة.

د) الاهتمام بسلسلة الشفعاء

تُعتَبر الإشارات الواردة بخصوص الشفعاء في الآيات الشريفة ، وكذلك التصريحات التي نقلتها لنا الروايات ، دليلاً آخر على الأبعاد التربوية للشفاعة.

جاء في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الشفعاء خمسة : القرآن ، والرَّحِم ، والأمانة ، ونبيّكم ، وأهل بيت نبيّكم» (١).

وجاء في مسند أحمد حديث آخر عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه : «تعلّموا القرآن فانّه شافع يوم القيامة» (٢).

وورد نفس هذا المعنى في نهج البلاغة في كلام مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيه : «فانّه شافع مشّفع» (٣).

ويُستفاد من روايات أُخرى أنّ أفضل الشفاعة التوبة ، فعن علي عليه‌السلام قال : «لا شفيع أنجح من التوبة» (٤).

وصرّحت بعض الأحاديث أيضاً بشفاعة الأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة ، كالحديث المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الشفاعة للأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة ، وفي المؤمنين من يشفع مثل ربيعة ومضر ، وأقل المؤمنين شفاعة من يشفع لثلاثين إنساناً» (٥).

__________________

(١). ميزان الحكمة ، ج ٥ ، ص ١٢٢.

(٢). مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٢٥١.

(٣). نهج البلاغة ، الخطبة ، ١٧٦.

(٤). نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٣٧١.

(٥). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٥٨ ، ح ٧٥.

٣٨٨

وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد ، فاذا وقفا بين يدي الله عزوجل قيل للعابد : انطلق إلى الجنّة ، وقيل للعالم : قِف تشفّع للناس بحسن تأديبك لهم» (١).

يظهر من هذه التعابير وخاصة الأخير منها أنّ الشفاعة نتاج العلاقة المعنوية القائمة مع الصلحاء والأبرار والمؤمنين والعلماء.

أمّا عن الشهداء فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرانه» (٢).

وحتى أنّ بعض الروايات أشارت إلى أنَّ : «شافع الخلق : العمل بالحق ولزوم الصدق» (٣). وخلاصة القول التي يمكن استنتاجها من مجموع هذه الروايات وغيرها الواردة في المصادر الإسلامية أنّ الشفاعة من المسائل التربوية المهّمة في الإسلام والتي تعكس القيم الإسلامية السامية من خلال الاهتمام بنوع الشفعاء ، وتحث جميع المسلمين للالتزام بهذه القيم والصفات التي يتمتع بها الشفعاء ، وتشجّع على تقوية وتوثيق العلاقات معهم ، وتجلو عنها كل تفسير خاطيء وكل تحريف باطل (٤).

* * *

٤ ـ متى تكون الشفاعة؟

لا شك أنّ أحد الأوقات التي تتحقق فيه الشفاعة هو يوم القيامة ، وذلك لأنّ الكثير من

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٥٦ ، ح ٦٦.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥٣٨ ، ذيل الآية ١٧١ من سورة آل عمران.

(٣). غرر الحكم.

(٤). ذكر في تفسير الميزان : وبعد أن وضّح الشفاعة أنّها تأثير الأسباب في المسببات ـ أنَّ الشفعاء يقسمون إلى فريقين في عالم التشريع وعالم التكوين ، فمن جملة الشفعاء التشريعيين : التوبة والعمل الصالح والإيمان والقرآن والأنبياء والملائكة والمؤمنون ويستدل في هذا الصدد بالآيات الدالة على تأثير هذه الامور في هؤلاء الأشخاص في غفران الذنوب (رغم أنّ عنوان الشفاعة غير موجود فيها) كالآية ٥٤ من سورة الزمر ؛ والآية ٢٨ من سورة الحديد ؛ والآية ٩ ومن سورة المائدة ؛ والآية ١٦ من سورة المائدة ؛ والآية ٦٤ من سورة النساء ؛ والآية ٧ من سورة المؤمن ؛ والآية ٢٨٦ من سورة البقرة.

٣٨٩

آيات الشفاعة تختص بذلك اليوم ، ولكن هل تحصل الشفاعة أيضاً في عالم البرزخ أو في عالم الدنيا؟ وهل هناك شفاعة في الآخرة وقبل انتهاء الحساب ، أم لا؟ هناك آراء في ذلك ، منها :

للعلّامة الطباطبائي رحمه‌الله بحث مفصل في هذا الصدد ، وفي ختامه يستنتج ما يأتي :

«إنّ الشفاعة تكون في آخر موقف من مواقف يوم القيامة حيث يطلب فيها الشفيع المغفرة ـ فيحول دون دخول المشفوع له النّار ، أو اخراج بعض من كان داخلاً فيها ، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

ويشير في بعض كلماته إلى عالم البرزخ وما يدل على حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام عندد الموت وعند مسائلة القبر واعانتهم إيّاه على الشدائد.

ويضيف : فليس من الشفاعة عند الله في شيء وإنّما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بأذن الله سبحانه» (١).

والغريب في الأمر أنّه عندما يتحدّث عن حقيقة الشفاعة يعطيها من الشمولية بحيث يعتبر أي نوع من تأثير الأسباب في عالم التكوين والتشريع مشمولاً بالشفاعة ، ولكنه لايعتبر هنا مساعدة أولياء الله لجماعة من المؤمنين لإنقاذهم من مشكلات القبر والبرزخ ، مصداقاً للشفاعة.

وعلى أيّة حال يستشف من مجموع الآيات والروايات أنّ الشفاعة ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ تتحقق في العوالم الثلاثة (الدنيا والبرزخ والآخرة) رغم أنّ المكان الرئيسي لها والأثر المهم هو في يوم القيامة لغرض النجاة من عذاب النّار.

جاء في قوله تعالى : (وَلَو انَّهُم اذ ظَّلَمُوا انفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاستَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً). (النساء / ٦٤)

وهل أنّ استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤمنين المذنبين يعني شيئاً سوى الشفاعة؟!

وجاء نفس هذا المعنى في موضع آخر من القرآن الكريم في قصة يعقوب وابنائه إذ

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٧٤ ، ذيل الآية ٤٨ من سورة البقرة.

٣٩٠

طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ربّهم (يوسف / ٩٧).

وحصل في هذه الدنيا الكثير من ذلك حيث نجا أشخاص أو أقوام من عذاب الدنيا بسبب شفاعة الأنبياء وأولياء الله.

ولدينا روايات كثيرة أيضاً تفيد أنّ أعمال الإنسان الصالحة كالصلاة والصوم والولاية وأمثالها أو حضور أولياء الله تكون سبباً في تخفيف عقوبات وآلام الشخص في عالم البرزخ كما يؤدّي دفن إنسان صالح لديه حسنات كثيرة في مقبرة ما إلى تخفيف ذنوب من دفن في تلك المقبرة.

وهذه كلها إشارات إلى وجود الشفاعة في عالم البرزخ.

وحتّى أنّ صلاة الميّت وما تتضمنه من الاستغفار له لا تخلو من التأثير ، وهي نوعٌ من الشفاعة أيضاً.

وعلى هذا فليست الشفاعة محدودة في عالم خاص ، بل تضم العوالم الثلاثة إلّاأنّ المكان المهم والأساسي لها هو القيامة لأنّها تمثل لحظات الوقوف على مشارف العذاب الإلهي.

سؤال :

قد يُقال : هناك روايات عديدة وردت عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام تؤكد خوفهم على شيعتهم من عذاب البرزخ كما نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «والله ما أخاف عليكم إلّا البرزخ ، فإذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم» (١).

ونقرأ عنه عليه‌السلام حديثاً آخر يتضمن وعداً منه بالشفاعة للمؤمنين المخطئين يقول فيه : «ولكنّي والله أتخوّف عليكم من البرزخ. يقول الراوي : فقلت له : ما البرزخ؟ قال : القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة» (٢).

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٤ ، ح ٢.

(٢). المصدر السابق ، ص ٢٦٧ ، ح ١١٦.

٣٩١

ولكن يحتمل أن تخص هذه الروايات مرحلة معينة من البرزخ ، أو أنّ لها بُعداً استثنائياً ومحدوداً قد يتحقق في ظل مجاورة أحد أولياء الله وهي غير شاملة لجميع من يستحقون الشفاعة.

* * *

٥ ـ الإشكالات الأساسية المطروحة بشأن الشفاعة

كما أسلفنا في تفسيرنا لمعنى الشفاعة في القرآن الكريم والإسلام بأنّ لها مفهوماً يختلف كُلياً عمّا هو متعارف بين أوساط الناس ، وأن تشابهها هو السبب في بروز الكثير من الإشكالات والأخطاء في هذا المجال ، والحقيقة أنّ الإجابة عن أغلب تلك الإشكالات يمكن في التفسير الصحيح لمفهوم الشفاعة في الإسلام.

نكتفي بهذا التمهيد الموجز ونعود لطرح تلك الاعتراضات ونجيب عنها :

أ) هل تُعتبر الشفاعة تشجيعاً على ارتكاب الذنوب؟

إلّا يكون الأمل بالشفاعة والاعتماد عليها سبباً لكي يعتبره البعض بمثابة الضوء الأخضر لارتكاب المعاصي ، فيوغلون في ممارسة أنواع الذنوب والجرائم متأملين انقاذ الشفعاء لهم من العذاب الإلهي في يوم الجزاء وبهذا تكون نفوسهم في راحة تامة وقد أمنت من التهديد الرباني بالعذاب؟ أو بتعبير آخر : ربّما تكون عقوبات القيامة ضماناً إجرائياً لتنفيذ القوانين الإلهيّة واجتناب معصيتها ؛ أقلا تُعتبر الشفاعة خرقاً لهذه الضمانات؟

الجواب :

كما قيل سابقاً فإنّ الشفاعة بمفهومها القرآني لا تحث ولا تشجع على ارتكاب الذنب ، وليس هذا فقط بل إنّها عامل ردع قوي أيضاً يحول دون ذلك ، لأنّها تجعل الأشخاص يتوقفون في أي مرحلة كانوا ولا يوغلون في طريق المعصية أكثر من ذلك ، بل تكون بمثابة خط للرجعة تدريجياً.

٣٩٢

وبتعبير آخر ، يمكن القول : إنّ الشفاعة بمفهومها الإسلامى تعتبر نتاجاً لنوع من العلاقة بين الشفيع (أولياء الله والقرآن و...) والمشفوع له ، وهي رهينة بإذن الله وتستلزم أرضية إلهيّة ، وبناءً على هذا فإنّ أمل الشفاعة يقول للإنسان : يجب عليك إقامة علاقة إيمان وعمل مع أولياء الله ، وأن تعمل ما من شأنه جلب رضا الله ، ليكون لك رصيداً في ذلك اليوم العصيب وسبباً للشفاعة عندهم.

ولهذا السبب يكون أصل الشفاعة رادعاً عن ارتكاب الذنب من جهة ، وعاملاً لإعادة النظر في ما ارتكب من سيّئات في الماضي.

ولا يخفى أيضاً أنّ أحداً لم يتسلّم ضماناً بالشفاعة من أي ولي من أولياء الله ، ولا يمكن لأي مذنب أن يطمئن إلى قول الشفاعة فيه ، بل إنّها مطروحة كإحتمال وأمل ، وهذا أيضاً مشروط بالشروط المذكورة آنفاً ، وعلى هذا فهي لا تدفع مطلقاً على التجرؤ على ارتكاب الذنب.

ب) لمن الشفاعة؟

هل هي للشخص النادم على الذنب؟ فهذا في غنىً عن الشفاعة لأنّ التوبة تعني الندم وهي سبب الخلاص ، وإذا وجدت التوبة فما الحاجة للشفاعة؟ وإن كانت للعاصي غير النادم على الذنب ، الذي يقف أمامه بكل صلافة وجسارة ، فمثل هذا الشخص لا يستحق الشفاعة وهو ليس مصداقا لقوله «لِمَنْ ارْتَضَى» في الآية ٢٨ من سورة الأنبياء!؟

الجواب :

أوّلاً : إنّ للتوبة شروطها ، وكثيراً ما يخفق الإنسان في انجاز كل تلك الشروط ، لأنّ عدداً من الآيات القرآنية نصّت على أنّ التوبة اصلاح الماضي ، أي لو أنّ أحداً كان يرتكب الذنوب لسنوات متمادياً ويدخل باب التوبة نادماً ، يجب عليه إصلاح ما مضى سواءً كان حق الله بعمل الخير ، أو كان حق الناس فيجب عليه أداؤه عن آخره ، وعلى هذا فالتوبة

٣٩٣

وخلافاً للتصور السائد لا تقتصر على الندم لوحده.

وما أكثر الناس الذين يفشلون في تحقيق هذا الإصلاح ، بينما هو غارق في الندم فينقطع أمله في الشفاعة ويسقط في اليأس من الغفران ، وإن هو يَئِسَ توغل أكثر في ارتكاب الذنب.

ثانياً : قد يكون الشخص قد ارتكب الكثير من الذنوب إلّاأنّ الحظ لم يحالفه في التوبة والندم ، فإن شعر بإمكان الأخذ بيده يوم القيامة على يد الشُفعاء شريطة هجر بقية الذنوب أو القيام بأعمال الخير ، فهذا سيشجعه على أقل تقدير على ترك الذنوب الاخرى وفعل عمل الخير.

ج) هل تنسجم الشفاعة مع العدل الإلهي؟

كيف يمكن لعدد من المذنبين المتشابهين مع بعضهم في الذنوب ، أن تنجو طائفة من العذاب الإلهي بالشفاعة ، وتقع الاخرى في مخالب ذلك العذاب؟ ألا يُعتبر هذا التمييز منافياً لعدل الله؟

السؤال : وقد يطرح هذا التساؤل أحياناً بضيغة اخرى ؛ فيقال : إن كان العقاب الرّباني للمذنبين عدلاً : إذن فطلب أولياء الله الشفاعة هو خلاف للعدل ، وإن لم يكن متسقاً مع مبدأ العدل ، فينبغي أن لا تجرى تلك العقوبة من الأساس.

والجواب : عن هذا الاستفهام يمكن استخلاصه من بين طيات البحوث السابقة ، وكما يلى.

أولاً : إنّ الشفاعة لا تتحقق بدون الأرضية المناسبة. فكل من يستحقها ينالها وكل من لا يستحقها فهو مُستبعد عنها ، وعلى هذا لا يوجد فيها أي تمييز.

ثانياً : إنّ مجازاة المذنب هي عين العدل ، أمّا قبول الشفاعة فهو نوع من التفضل لأجل ما يمتاز به المشفوع له من أرضية صالحة من جهة ، وتكريماً واحتراماً للشفيع وما قام به من عمل صالح من جهة اخرى.

٣٩٤

د) ألا تتعارض الشفاعة مع إرادة الله؟

قد يُتصور أحياناً أنّ الشفيع يحول دون تحقق إرادة الحاكم العادل ، ويُنقذ من العقوبة الشخص الذي ينوي ذلك الحاكم معاقبته ، إلّاأنّ هذا الكلام لا يصدق بحق الله جلّت عظمته.

فهذا التصّور الخاطىء ناتج من اعتبار الشفاعة التي يصورها القرآن مماثلة للشفاعة المتعارفة بين يدي الجبّارين والحكام الظالمين ، فالأشخاص المتنفّذين عند هؤلاء الحكام يحاولون استنقاذ المذنبين الذين يرتبطون معهم بصلةٍ ما ، خلافاً للاصول المرعّية ، فيضطر الحاكم أو السلطان إلى النزول عند رغبة هؤلاء المتنفذين ـ لحاجته إليهم ـ وقبول شفاعتهم والتغاضي عن معاقبة المذنب وقد تكون خلافاً لرغبته أحياناً.

إلّا أنّ هذه المسائل وكما قلنا سابقاً لا تصدق على الله تعالى ولاتنطبق على الشفاعة بين يديه ، فالشفاعة هناك لها طابع آخر ، فأولياء الله يطلبون الشفاعة بإذن الله لمن لديهم ذنوب لكنها ليست كبيرة ، ولديهم في مقابل تلك الذنوب أعمال صالحة أيضاً ، وطرح هذا الموضوع يُعتبر في الحقيقة تربية للنفوس وتطهيراً لها.

ه) عقوبات القيامة هي الأثر التكويني للاعمال ، فكيف يمكن ازالتها بالشفاعة؟

وهذا أيضاً واحد من الإشكالات التي طرحت على الشفاعة ، فالذي يتبادر إلى الأذهان أنَّ الشفاعة يمكن تطبيقها على العقوبات التشريعية والوضعية فقط ، فيكون الشفيع سبباً لايقاف تنفيذ الحكم على المشفوع له ، ولكن عندما نعتقد بأنّ عقوبات القيامة هي في الغالب من الآثار الوضعية والطبيعية للأعمال وهي بذلك تشبه فعل السم في قتل الإنسان ، فهذا الأثر ليس بالشيء الذي يمكن تغييره بالشفاعة.

الجواب : لو أننا لاحظنا ماذكرناه سابقاً في كون الشفاعة على نوعين تكوينية وتشريعية ، لاتّضح لنا جواب هذا السؤال جلياً ، لأنّ العقوبات إن كان لها بُعد تكويني ، فإنّ وقوف أولياء الله باعتبارهم كيانات أقوى وأفضل إلى جانب المشفوع له وكمال استعداده

٣٩٥

الناقص بواسطة إمدادهم المعنوي ، فيتغلبون بالنتيجة على الآثار التكوينيّة للذنب ، مثلما تُنمّي الشمس النباتات ذات الاستعداد للنمو وتنقذها من الآفات. أمّا إذا كانت تلك العقوبات وضعية ، فَتُطلَبُ الشفاعة من الله تعالى ليغفر لمن يستحق غفران الذنب وفي جميع الأحوال فإنّ المقام المعنوي للشفيع يكون سبباً في تأثير تلك الشفاعة بإذن الله.

ويمكن تكرار نفس هذا الكلام بخصوص تجسّد الأعمال لأنّه شبيه أيضاً بالآثار الوضعية والتكوينيّة للعمل (فتأمل).

و) أليس الاعتقاد بالشفاعة من عوامل التخلف؟

ويبدو هذا الوهم لبعض الناس أيضاً وهو : ألا يكون الاعتقاد بالشفاعة سبباً يحدو ببعض الناس إلى عدم الإتكال على عملهم ، فلا يظهرون مالديهم من قابليات وكفاءات كامنة؟

الجواب؟

يبدو من هذا التعبير أنّ ذهنية أصحاب الإشكالات لا تختلف عن ذهنية الناس العاديين وتصورهم عن الشفاعة ومفهومها الدنيوي ، في حين طرح هذا الموضوع بالأدلة في بداية هذا البحث ، مِن أنَّ الشفاعة في مفهومها القرآني الإسلامى لا تُعتبر عامل تخلف ، بل وحتّى أنّها تعتبر دعوة فاعلة لاصلاح الذات وترك الذنب والتعويض عمّا مضى والاستبشار بالمستقبل والتّحرك نحو الخير والصلاح. وبما أنّ هذا الموضوع قد تمّ تبيانه بالتفصيل ، فلا نرى ضرورة لتكراره هنا.

ز) ألا تتعارض الشفاعة مع التوحيد؟

إنّ التصور بوجود تعارض بين الشفاعة والتوحيد هو واحد من الإشكالات المعروفة بشأن موضوع الشفاعة ، ومَرَدُّ ذلك هو الإعلام المكثف الذي وظّفهُ الوهابيون ضد هذه المسألة ، ولهذا ينبغي الالتفات إليها جيّداً :

٣٩٦

تدور عقائد الوهابيين بشكل أساسي حول عددٍ من المحاور ، وأكثرها وضوحاً هي مسألة التوحيد في الأفعال والتوحيد في العبادة ، فهم يفسِّرون فرعي التوحيد هذين وكأنّهما يتعارضان مع موضوع الشفاعة والتوسل بأرواح الأنبياء والأولياء وشفاعتهم بين يدي الله ، ولهذا السبب فقد اعتبروا جميع فرق المسلمين التي تعتقد بهذه الامور (باستثناء الوهابيين) مشركة ، ولا تعجبوا لو قلنا إنّهم يعتبرون أرواح غيرهم وأموالهم وأعراضهم مباحة مثلما كان يفعل عرب الجاهلية المشركون.

وانطلاقاً من هذا المعتقد فقد أراقوا دماء الكثير من المسلمين في الحجاز والعراق ، ونهبوا أموالهم ، وارتكبوا جرائم كثيرة لم يسبقهم إليها أحدٌ في الإسلام.

ولمؤسِّس هذه الفرقة وهو محمد بن عبدالوهاب (المتوفى عام ١٢٠٦) كتابٌ يعرف باسم «رسالة القواعد الأربع» يقول فيه حول هذا الموضوع :

إنّ الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد :

الاولى : أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يُقِرون بأنّ الله تعالى هو الخالق الرزاق المدبر ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى : (قُل مَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالارضِ امَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالْابصَارَ وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل افَلَا تَتَّقُونَ). (يونس / ٣١)

الثانية : أنّهم يقولون مادعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة (وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالَا يَضُرُّهُم وَلَا يَنَفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَاللهِ). (يونس / ١٨)

الثالثة : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم فبعضهم يعبد الملائكة ، وبعضهم الأنبياء والصالحين ، وبعضهم الأشجار والأحجار ، وبعضهم الشمس والقمر ، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

الرابعة : أنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ، لأنّ أُولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى : (فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا

٣٩٧

اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الَى الْبَرِّ اذَا هُمْ يُشرِكُونَ) (١). (العنكبوت / ٦٥)

والغريب في الأمر هو تمسكهم بهذه الأقاويل التي لا تعدو أن تكون مجرّد سفسطة ومغالطة ، فيبيحون وبهذه البساطة أرواح وأموال خصومهم ، ويجيزون قتلهم ، كما يقول الشيخ «سليمان» وهو من زعماء هذه الفرقة الضالة في كتابه «الهدية السنيّة» بأنّ الكتاب والسُنّة يشهدان على أنّ كلّ من يجعل الملائكة والأنبياء أو بعض الأصحاب وأهل البيت كابي طالب وابن عباس واسطة بينه وبين الله عزوجل ليشفعوا له عند الله تعالى لقربهم منه كما يشفع إلى السلاطين بواسطة المقربين منه فمثل هذا الشخص كافر ومشرك ، ومباح دمه وماله حتى لو كان يشهد والشهادتين ويصلي ويصوم (٢).

لقد أثبتوا تمسكهم بهذا الحكم القبيح والمخزي أي اباحة دماء وأموال المسلمين من خلال الأحداث التاريخية المختلفة ومنها الحادثة المشهورة لقتل أهالي الطائف في الحجاز قتلاً جماعياً وذلك (في صفر عام ١٣٤٣) ، والقتل الجماعي لأهالي كربلاء في العراق (في ١٨ ذي الحجّة عام ١٢١٦) وهذا ماورد في الكثير من كتب التاريخ.

النقاط الخاطئة في هذا الاستدلال :

١ ـ إنّ الآيات الاثنتي عشرة التي أوردناها في بداية البحث بشأن موضوع الشفاعة وفسّرنا مفهومها تثبت لنا هذه الحقيقة وهي أنّ الشفاعة مبدأ إسلامي وقرآني بديهي إلّاأنّها تضّمنت شروطاً للشفيع وللمشفوع له ، وعلى هذا فلا يمكن لأحد أن يتحدث باسم الإسلام والقرآن وينكر هذا المبدأ بجميع دلائله البيّنة ، وإننا لنعجب كيف أنّهم يعتبرون أنفسهم مسلمين وينكرون هذا المبدأ الذي يُعَدُّ من ضرورات الإسلام والقرآن ، فهل ينكر المُسلم ضرورات الإسلام وأحكام القرآن؟

__________________

(١). «رسالة القواعد الأربع» تأليف محمد بن عبد الوهاب زعيم الوهابيين : من ص ٢٤ إلى ص ٢٧ وفقاً لما نقله كتاب كشف الارتياب ، ص ١٦٣.

(٢). الهدية السنية ، ص ٦٦.

٣٩٨

٢ ـ إنّ الشفاعة التي ذكرها القرآن وذبَّ عنها ، شفاعة يرتبط خطّها الأصيل بـ «إذن الله» وما لم يأذن بالشفاعة فلا يحق لشفيع أن يشفع ، وبتعبير آخر فإنّ هذه الشفاعة صادرة من الأعلى ومشروطة بإذن الله ، وهي ليست كشفاعة حاشية السلاطين الجائرين ، فهي صادرة من الأسفل وقائمة على أساس العلاقات الشخصية.

إنّ شفاعةً كهذه تُعّد تأكيداً لمسألة التوحيد لأنّ خطّها الاصلي يصدر عن الله تعالى وهذا هو التوحيد البعيد عن أي لون من ألوان الشرك ، لكن الوهابيين الذين تشابهت عليهم الشفاعة القرآنية مع الشفاعة الشيطانية لحواشي السلاطين انكروا هذا المبدأ واعتبروه مضادّاً لأصل التوحيد ، وفي الحقيقة أنّهم قد اعترضوا على أوهامهم في هذا الطرح ، لا على مبدأ الشفاعة القرآنية.

٣ ـ الشفاعة في حقيقتها سبب للنجاة : كما هو الاعتقاد بوجود الأسباب في عالم الخلقة والتكوين (كتأثير أشعة الشمس وتساقط المطر في نمو الأعشاب) لا يتنافى مطلقاً مع مبدأ التوحيد ، لأنّ تأثير هذه الأسباب يتحقق بإذن الله وأمره ، وفي الحقيقة أنّ عملها هو نوع من الشفاعة التكوينية ، كما أنّ وجود مثل هذه الأسباب في عالم الشريعة للمغفرة والنجاة بأنّ الله لا يتعارض مع التوحيد بل هو تأكيد له ، وهذا هو ما نطلق عليه اسم الشفاعة التشريعية.

٤ ـ إنّ الشفاعة التي يرفُضها القرآن في عبادة الأصنام هي أنّهم كانوا يجعلون كثيراً من الأشياء الخالية من أيّة ميزة أو خاصية شفيعة لهم إلى الله؟ ولذا صَرّح الآية التي يستندون عليها بالخصوص : (وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالَا يَضَرُّهُم وَلَايَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ). (يونس / ١٨)

هذا من جهة ؛ ومن المؤكد أنّ هذا لا علاقة له بشفاعة الأنبياء والأولياء ، فهذا الكلام يخص الأصنام وهي الأحجار المجرّدة من أي عقل وأحاسيس.

ومن جهة اخرى ، فالقرآن يذم الشفاعة القائمة على أساس الاعتقاد باستقلال الشفيع ، وتأثيره في مصير الناس بلا اذن من الله ، ولذا جاءت في سورة الزمر آية وهي من الآيات التي يستندون إليها : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ مَانَعْبُدهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا الَى اللهِ زُلْفَى

٣٩٩

إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَينَهُمْ فِى مَا هُم فِيهِ يَختَلِفُونَ). (الزمر / ٣)

ووفقاً لهذه الآية فانّهم كانوا يعتبرون من يعبدون من دون الله أولياء ، وقيِّمين وحماة وحافظين لهم ، فكانوا يعبدونهم ، وكلا هذين الفعلين (اعتبارهم أولياء وعبادتهم) شرك.

أمّا إذا لم يعبد أولياء الله وأنبياء وملائكته ، بل يحترمهم ويكرّمهم ويرى فيهم أنّهم شفعاء له بين يدي الله وبأذنه ، فهو غير مشمول بهذه الآية قطعاً.

وبسبب عدم احاطة الوهابيين بالآيات القرآنية الواردة بخصوص الشفاعة ، ومسألة الكفر والإيمان والشروط التي حدَّدها الله للشفيع والمشفوع له ، فقد اشتبهت عليهم هذه المسألة مع ما كان يعتقد به عبدة الاوثان ، وبهذه الشاكلة التَبَسَتْ عليهم الحقيقة.

٥ ـ أمّا قول الوهابيين إنّ عبدة الأوثان العرب كانوا يعتقدون بأنّ كلَّ شيء بما فيه المالكية والرازقية لله تعالى ، وكانت مشكلتهم تتمثل فقط في شفاعة ووساطة الأوثان ، فهو خطأ آخر من أخطائهم الناتجة عن فقرهم العلمي والثقافي وعدم المامهم بالآيات القرآنية. وذلك لأنّهم ـ أي عبدة الأصنام ـ كانوا ينسبون بعض هذه الصفات للاصنام كما يفهم هذا المعنى من الآيات الشريفة ومن جملتها : (فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم الَى الْبَرِّ اذَا هُم يُشرِكُونَ). (العنكبوت / ٦٥)

يتبيَّن من هذا التعبير أنّهم كانوا في الأوضاع العادية يتوسلون بالأصنام لحل مشاكلهم ، وفي الشدائد يتعلّقون بالله فقط.

وكذلك ما فيها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُل أَرَأَيْتُمْ شُركَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَم لَهُمْ شِركٌ فِى السَّموَاتِ). (فاطر / ٤٠)

لو كان المشركون يعتقدون بتفرد الله في الخالقية وينظرون إلى الأصنام نظرة الشفيع فلا معنى لهذا السؤال ، لأنّهم سيقولون في الجواب : إننا لا نعتبرهم خالقين ، ونعدّهم واسطة فقط بين الخالق والمخلوق ، وهل يجب في الواسطة أن يكون خالقاً أو شريكاً في الخلق؟

وهذا يكشف بوضوح أنّ عبدة الأصنام قد جعلوا من أصنامهم بشكل من الأشكال أنداداً وشركاء لله سبحانه وتعالى ، وأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور بكشف وفضح أكاذيبهم بأنّ يسألهم ماذا خلقوا؟

٤٠٠