نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ الحرير وبسبب نعومته ولطافته وقبوله لألوان مختلفة يعتبر من أفضل الأقمشة وأفخرها.

وبما أنّ الناس لم يعرفوا لباساً أغلى وأفخر من الحرير لذا استعملت هذه الكلمة في توصيف لباس أهل الجنّة ، وإلّا فكل شي في الجنّة فوق حد التصور.

والجدير بالذكر أنّ الآيات الكريمة تحدثت عن اللون الأخضر ، ولعل السبب في ذلك هو أنّ هذا اللون أجمل الألوان في عالم الطبيعة والخلق ، فهو لون يبعث على البهجة والارتياح في النفس ، فالنباتات بشكل عام خضراء ، والبحار والمياه تبدو أحياناً زرقاء وأحياناً اخرى خضراء ، ولهذا فإنّ هذا اللون يبعث في الروح الإنسانية البهجة والطمأنينة والارتياح.

ويعتقد بعض العلماء بأنّ اللون الأخضر لون مهدئ ومسكن ، ونقرأ في أحد الكتب مقالة تحت عنوان : (الصحة واللباس) : «إنّ اللون الأخضر له أثر كبير في علاج الأمراض العصبية والنفسية والهستريا والارهاق العصبي ، وكذلك له الأثر في زيادة قوة الإدراك والتحمل ويبعث الأمل والاعتدال ، كذلك له الأثر في ازالة حالات الأرق وتخفيف ضغط الدم ، وتسكين أوجاع الأعصاب ، ويلاحظ أنّ أغلب الذين ينتخبون اللون الأخضر في الوهلة الاولى رحماء واقعيون ، ويتمتعون بتعادل روحي ونفسي.

ولقد اجريت تجربة على ثلاث مجاميع من العمال .. المجموعة الاولى عهد إليها حمل صناديق خضراء اللون ، والثانية ، صناديق سوداء اللون والثالثة ، بنية اللون ، فلوحظ أنّ أغلب المراجعين للمستشفى هم من المجموعة الثانية والثالثة وكانوا يشكون من آلام في الظهر وآلام اخرى.

يذكر أنّه كان في لندن جسر أسود اللون وكان الكثير من الناس ينتحرون بإلقاء أنفسهم من فوقه ، ولما غيروا لونه إلى الأخضر لوحظ انخفاض نسبة الانتحار بشكل كبير» (١).

وعرف منذ القدم هذا القول : (ثلاث يذهبن الحزن : الماء والخضراء والوجه الحسن).

__________________

(١). الجامعة الاولى والنبي الخاتم ، المرحوم الشهيد الدكتور پاك نجاد ، ج ١٨ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٨١

ونختم هذا الموضوع بما نقله أحد المفسرين : «لو بسط ثوب من أثواب الجنّة في الدنيا لاندهش أهلها جميعاً» (١).

* * *

١٠ ـ حلي الجنّة

أشرنا في البحث السابق إلى ألبسة أهل الجنّة ، وسنتطرق في هذا البحث إلى حليهم أيضاً. من المعلوم أنّ للحلي والزينة المناسبة أثر نفسي كبير على روح الإنسان ، فتبعث فيها الارتياح والانبساط والبهجة ، وإذا لم تخرج عن حد الاعتدال فلا باس في ذلك وهو عمل مرضي ، لذا نجد أنّ الكثير من الآيات القرآنية والروايات أكدت على الزينة والتجمل والتطيب حتى أثناء العبادة ومن جملتها : ارتداء الألبسة الطاهرة ، اختيار الألوان المناسبة ، تمشيط الشعر ، استعمال العطور والطيب ، والتختم باليمين ونحو ذلك.

ويستفاد من آيات عديدة من القرآن أنّ أهل الجنّة يتجملون ويتزينون بأفخر أنواع الحلي ، وبهذا فهم يتمتعون بلذة نفسية كافية ، ولقد ورد في ثلاث آيات من القرآن الكريم قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ اسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). (٢)

«أساور» : جمع (اسْوِرَة) على وزن (تجربة) وهي أيضاً جمع (سُوار) على وزن (غبار) و (كتاب) ومشتقة من الكلمة الفارسية (دستوار).

ولقد صرحت آيتان من الآيات الثلاث بالإضافة إلى (الذهب) بـ (اللؤلؤ) أيضاً ، ويقول بعض المفسرين أنّها إشارة إلى أساور الجواهر واللؤلؤ ، ولو أخذنا بنظر الاعتبار أنّ (اللؤلؤ) عطف على محل (من أساور) وهو منصوب فيكون بمنزل المفعول به لـ «يحلون» فيكون معنى الآية هكذا : (يُحَلَّونَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُولُؤاً وَلِبَاسُهُم فِيهَا حَرِيرٌ). (الحج / ٢٣)

ومن الممكن أن تكون زينة اللؤلؤ مشتقة من الأساور ، وكذلك يمكن أن تكون جزءاً منها.

__________________

(١). روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ٢٤٩.

(٢). الكهف ، ١٣ والحج ، ٢٣ وفاطر ، ٣٣.

١٨٢

ويحتمل البعض : أنّ أهل الجنّة بالإضافة إلى تزينهم بأساور من ذهب كذلك أنّهم يتزينون بأساور من اللؤلؤ الخالص أيضاً.

ولقد أشار القرآن الكريم في موضع واحد إلى (أساور الفضة) : (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ). (الانسان / ٢١)

من هنا يطرح هذا السؤال : أنّ الأساور سواء كانت من ذهب أو من فضة فهي من زينة النساء ، ولا يتحلى الرجال عادة بالأساور فهل يختلف الأمر في الجنّة؟

يجب أن نلاحظ هذه المسألة وهي أننا نجد وفي أماكن مختلفة من هذا العالم أنّ كلا الجنسين يتزينون بالأساور ولا يختص بالنساء فقط.

ويتبيّن من اعتراض فرعون على موسى الذي كان يقول : (فَلَولَا الْقِىَ عَلَيهِ اسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ). (الزخرف / ٥٣)

إنّ هذا الموضوع كان له شياع في عرف أهل مصر ، وتدل الزينة على شخصية الرجال وعظمتهم.

لقد أشرنا في البحوث السابقة ولمرات عديدة إلى هذه المسألة وهي أنّ القرآن يحدثنا بلغتنا وماهو سائد عندنا ، ومن البديهي أنّ زينة أهل الجنّة وحتى زينتهم المادية هي أعلى من أن تحيط بها أفكار أهل الدنيا.

١١ ـ الحور العين

يعتبر اختيار الزوجة الصالحة من أهم عوامل الراحة والسكينة والأُنس والحيوية في هذه الدنيا.

فالزوجة الصالحة (وكذلك الأمر بالنسبة للزوج الصالح) تسهل على الزوج تحمل جميع مشاكل الحياة وصعوباتها ، وتعطي للحياة طعماً خاصاً مليئاً بالمحبة والبهجة والسعادة.

وعلى العكس ـ في حالة عدم امتلاك زوجة أو امتلاك الزوجة غير الصالحة ـ فسوف تتبدل حلاوة الحياة وعذوبتها إلى جحيم لايطاق حتى وإن توفرت جميع أسباب الراحة.

١٨٣

وبتعبير آخر ، إنّ الزوجة الصالحة التي تتحلى بالفضائل الأخلاقية والخصال الحميدة. لم تكن أساس اللذة الجسمانية فقط وإنّما تعتبر أساس اللذة الروحانية أيضاً.

فليس من قبيل المصادفة أن يركّز القرآن الكريم ضمن عرضه لأنواع النعم في الجنّة على هذه المسألة ، فقد عبّر بتعابير عميقة المحتوى في هذا المجال.

قال تعالى في موضع : (وَلَهُمْ فِيهَا ازوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ). (البقرة / ٢٥)

وصف الأزواج بكونها (مطهرة) له مفهوم جامع وشامل ، فكما يدل التعبير على نقائها وصفائها من كل النقائص والأقذار الجسمية والخلقية ، كذلك يشمل أيضاً نزاهتها من العيوب والأدران المعنوية والخُلقية ، ومن المعلوم أنّ أهم شرط في اختيار الزوجة هو طهارتها.

إنّ تعبير (مطهرة) أكثر عمقاً من تعبير طاهرة (فمطهّرة) تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي طهّرها ومن يطهره الله ويشهد على طهارته تكون حالته واضحة بيّنة.

وجاء نفس هذا المعنى في هذا الحديث (أزواج مطهرة من أنواع الأقذار والمكاره) (١).

لقد عبّر القرآن في عدّة مواضع عن زوجات أهل الجنّة ب (الحور العين) ، فقال تعالى : (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ). (الدخان / ٥٤)

وورد نفس هذا التعبير في الآية ٢٢ من سورة الطور. وذهب إلى أبعد من ذلك في قوه تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ* كَامثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ). (٢) (الواقعة / ٢٢ ـ ٢٣)

وقال تعالى : (حُورٌ مَّقصُورَاتٌ فِى الخِيَامِ). (الرحمن / ٧٢)

ونقرأ في قوله تعالى : (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ...* كَانَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرجَانُ). (الرحمن / ٥٦ ـ ٥٨)

«حور» : جمع (حوراء) و (أحور) ، وعلى قول الكثير من أرباب اللغة والمفسِّرين (شدة

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١ ذيل الآية ٢٥ من سورة البقرة وهكذا ذكرها المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٤٠.

(٢). هناك احتمالات عديدة في محل اعراب «حور عين» ، ومن جملتها مبتدأ لخبر محذوف تقديره (لهم حور عين) ، أو عطف على (ولدان مخلدون ...) والاحتمال الأول هو الأرجح وذلك لأنّ الحور العين ليست للخدمة.

١٨٤

بياض العين في شدة سوادها) وهذا غاية جمال العين. ولعل السبب في ذكر القرآن لجمال العين هو أنّ أكثر جمال الإنسان في عينيه ، ولقد فسّره البعض ببياض جميع الجسم لذا تطلق كلمة التحوير على عملية غسل الملابس وتبييضها. ويمكن الجمع بين المعنيين على أساس اتّصافهما ببياض الجسم وجمال العيون وسعتها.

ومن هذا الباب أيضاً أُطلقت كلمة (الحواريون) على أصحاب السيد المسيح عليه‌السلام الذين كانوا يرتدون الملابس البيضاء.

أمّا كلمة (عِين) جمع (أعين) على وزن (أفضل) و «عَيناء» في الأصل بمعنى العين الوسيعة ، وتطلق هذه الكلمة على المرأة التي تمتلك عينين واسعتين جميلتين وجذّابتين أو الرجل كذلك.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ كلمتي «حور» و «عين» تطلق على المذكر والمؤنث أيضاً ، لهذا فهي تحمل مفهوماً واسعاً بحيث يشمل جميع الأزواج في الجنّة ، زوجات للرجال المؤمنين ، وأزواج للنساء المؤمنات (سنتكلم عن هذا الموضوع أيضاً في مكان آخر).

يلاحظ أنّ القرآن الكريم قد أكّد على جمال العيون ـ وكما أشرنا ـ أنّ جمال الإنسان يكون قبل كل شيء وبعد كل شيء في عينيه ، فالعيون معيار جمال الجسم والروح.

«لؤلؤ» : أي الدر المصون المخزون في الصدف لم تمسّه الأيدي ، والذي يكون له صفاء ورونقٌ خاصٌّ حين استخراجه من الصدف. وتشبيه «حور العين» بـ (اللؤلؤ المكنون) إشارة إلى لطافتها وجمالها الخارق. ومن الممكن أن يكون إشارة إلى أنّها مستورة بشكل كامل عن أنظار الآخرين ، فلا يد مسّتها ولا عين وقعت عليها.

وقال بعض المفسِّرين أيضاً (١) : بما أنّ (حور) مشتقة من مادة (حيرة) ، فيكون مفهومها هو أنّ الحور العين من الجمال بحيث تتحير العيون عن النظر إليها.

وبعدها امتدح الله (الحور العين) بقوله : (خيرات حسان) ، أي نساء خيّرات الأخلاق حسان الوجوه ، وذكر صفة اخرى لهن وهي (مقصورات في الخيام) ، قيل المقصور بمعنى

__________________

(١). أبو الفتوح الرازي في تفسيره. نقل ذلك عن بعض المفسرين القدماء (تفسير روح الجنان ، ج ١١ ، ص ١٣).

١٨٥

المستور أي مستورات في القباب ، وقيل مصونات محفوظات مخدّرات لا يبتذلن ، وقيل مقصورات أي قصرن على أزواجهن فقط دون غيرهم.

وقيل نفس الشيء في تفسير قوله تعالى : (قاصرات الطرف) ، وذلك لأنّ «طرف» على وزن (حرف) بمعنى (جفن العين) ، لأنّها تطرف فينطبق عليها تارة وينفتح تارة ، ويكون المعنى : قصرن طرفهن على أزواجهن لم يرون غيرهم ، وهذه أعظم صفة وأكبر امتياز حيث لاترى أحسن من زوجها ، فليس لها أي علاقة بغيره.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ كلمة «الخيمة» في اللغة العربية لا تنحصر بالخيمة المصنوعة من القماش ، بل تطلق على كل بناية مدورة ، حتى قال بعض أرباب اللغة : «كل بناية بنيت من الحجر و... وغيره هي خيمة ، وأنّ الخيمة في الأصل حسب قول صاحب كتاب مقاييس اللغة بمعنى الإقامة والثبات».

ويستفاد من الروايات الإسلامية أنّ خيام الجنّة وحكمها كسائر النعم الإلهيّة الاخرى لا يوجد أي شبه بينها وبين الخيام الدنيوية ، فبعضها قطعٌ من اللؤلؤ.

وجاء في وصف آخر للحور العين حيث شبههن بالياقوت والمرجان : (كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرجَانُ). (الرحمن / ٥٨)

أي هنّ على صفاء ولون وتلألؤ الياقوت وبياض وجمال المرجان.

ومن المعلوم أنّه إذا امتزج هذان اللونان مع بعضهما يشكلان أحلى الألوان وأجملها.

«ياقوت» : حجر معدني في غاية الشفّافية ، وعادة يكون أحمراللون.

«مرجان» : يشبه أغصان النباتات. ويوجد في البحار ، وله ألوان مختلفة ويراد منه هنا اللون الأبيض ، وقيل إنّه اللؤلؤ الصغير ، حيث تتصف مثل هذه اللئالي ببياض وجمال وشفافية أكثر (١) ، ولكن يعتقد العلماء اليوم أنّ (المرجان) موجود حيٌ ويشبه الأغصان الصغيرة للشجرة وينمو في أعماق البحار ، وكان العلماء يعتقدون لفترة طويلة بأنّه نوع من أنواع النباتات ، ولكن اتّضح فيما بعد أنّ له صفات الحيوان رغم أنّه ملتصق بصخور قاع البحر.

__________________

(١). ذكر هذا المعنى الراغب في (مفرداته) ومجموعة من أهل اللغة والتفسير.

١٨٦

وجاء في سورة الواقعة وصف آخر لهن وهو (أبكار) ثم «عرب».

«أتراب» : قال لله تعالى : (فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكَاراً* عُرُباً اترَاباً). (الواقعة / ٣٦ ـ ٣٧)

«أبكار» : جمع (بكر) أي خلقناهن عذارى كلما آتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً ، ويستفاد من بعض الروايات وكلمات المفسِّرين أنّ هذه الحالة حالة دائمية لا تتغير.

«عُرُب» : على وزن (كُتُب) جمع (عَروب) على وزن (طَروب) أو (عربا) أي متحننات على أزواجهن متحببات إليهم ، وقيل عاشقات لأزواجهن ، وقيل العروب اللعوب مع زوجها ، وفي الأصل مأخوذة من مادة (اعراب) التي تعنى الإظهار ، وقد تعني أنّ لسان حالها يدل على عفتها وطهارتها.

وفسّرها البعض أيضاً بمعنى الدلال وهو قريب من المعنى السابق.

ولقد ذكرت كلمة «أتراب» في ثلاث آيات من القرآن الكريم كوصف للحور العين (١) وهي جمع «تِرْب» على وزن (حزب) بمعنى (المتساويان) في السن ، وتستخدم في الجنس المؤنث على الأغلب ، وقيل : إنّها في الأصل مشتقة من «ترائب» بمعنى اضلاع القفص الصدري : أي متشابهات ... وقال البعض إنّها مشتقة من مادة (تُراب) وكأنّهم ولدوا في وقت واحد ووطؤوا تراب الأرض معاً.

على أيّة حال فإنّ التساوي في السن يمكن أن يكون إشارة إلى تقاربهم ، حيث إنّ الأزواج المتقاربين في السن يدركون غالباً أحاسيس ومشاعر بعضهم البعض على نحو أفضل ، أو أنّه إشارة إلى تشابههم في الخلقة والقامة والصورة والسن حتى أصبحوا متشاكلين.

ولكن ذكر هذا الوصف مع بقية الأوصاف الاخرى مثل «عرب» و «كواعب» و «قاصرات الطرف» يدلل على أنّ المعنى الأول هو الأنسب.

«كواعب» : لقد ورد هذا الوصف مرّة واحدة في القرآن الكريم في سورة النبأ ، و (كواعب) جمع (كاعب) بمعنى الفتاة صغيرة السن ، وهي مشتقة من مادة (كعب) والتي تعني في الأصل

__________________

(١). سورة النبأ ، ٣٣ ؛ ص ، ٥٢ ؛ الواقعة ، ٣٧.

١٨٧

بروز ظاهر القدم ، واستعملت هنا للإشارة إلى الفتيات الصغيرات السن اللاتي أشرفت أثداؤُهُنَّ على البروز ، ولقد ورد كذلك أنّ الكواعب إشارة إلى مرحلة البلوغ الجسمي حيث يبدأ الجسم بالنمو السريع في هذه المرحلة.

وبهذا الشكل فإنّ الحور العين يتّصفن بجميع الصفات والمحاسن وحسن الظاهر والباطن والفضائل الجسمانية والروحانية والأخلاقية ، وبذلك يتّصفن بكل ما هو حسن.

ونكرر مرّة اخرى ونقول : إنّ كل ذلك إشارات لحقائق مادية ومعنوية عليا للعالم الآخر ولا يمكن إدراك تفاصيلها.

* * *

١٢ ـ الخدم والسقاة

إنّ الله سبحانه وتعالى اتم نعمته على أهل الجنّة واعطاهم كل شيء ومن جملتها المضيّفون الذين يخدمونهم وبأعلى كيفية.

و «السُقاة» : وهم الذين يطوفون على أهل الجنّة ويسقونهم من الشراب الطهور.

إنّ حسن ظاهرهم ولطف باطنهم وصلاح خَلقهم وخُلقهم من الدرجة بحيث يجذب إليهم أهل الجنّة وينسيهم كل ما تحملوه من الآلام والمعاناة في الدنيا في سبيل اطاعة أوامر الله تعالى.

ولقد تحدث القرآن الكريم في آيات عديدة عن (الغلمان) و (الولدان المخلدون) ووصفهم بأجمل الأوصاف.

إنّ التعابير الواردة في هذا الصدد ، وكسائر المواهب والعطايا الإلهيّة متنوعة ومختلفة ، فقد جاء تعبير «غلمان» في قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ). (الطور / ٢٤)

تعبير (يطوفُ) (مع ملاحظة كونه فعل مضارع يفيد الاستمرار) دليل على أنّ طوافهم حول أهل الجنّة طواف دائمي.

١٨٨

«لؤلؤٌ مكنون» : وصف للخدمة ، فهم في حسنهم وصباحتهم وصفائهم وبياضهم كاللؤلؤ المصون في الصدف ، أو الذي اخرج تواً من الصدف.

صحيح أنّ الجنّة ـ حسب التعابير الواردة في الآيات والروايات ـ لاتحتاج إلى خدم ، وكل مايريد أهل الجنّة مهيأ وجاهز ، ولكن هذا يعبّر عن مقدار الاحترام والاكرام المنقطع النظير لأهلها من قبل الخدم.

ولو أنّ هذه الآية لم تخبر صراحة ، عن علّة طوافهم ، ولكن الآيات التي بعدها أشارت إلى أنّ مهمتهم تتعلق بخدمة وتضييف أهل الجنّة بأنواع الأشربة والشراب الطهور ، ومختلف الأغذية.

التعبير بـ (لهم) يدل على أنّ لكل واحدٍ من أهل الجنّة خدماً خاصين به ، وقيل : ليس على الغلمان مشقة في خدمة أهل الجنّة بل لهم في ذلك اللذة والسرور إذ ليست تلك الدار دار محنة.

وقد نقل الكثير من المفسِّرين هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قيل يارسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم؟ فقال : «والذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (١).

ومن الجدير بالذكر أنّ (الغلمان) جمع غلام وتعني في اللغة (الصبي) لا العبد (٢).

ومن البديهي أنّ الأفراد بهذا السن يتمتعون بالنشاط والحيوية والجدية.

وذكر القرآن الكريم تعبيراً آخر بخصوص الخدم وهو «ولدان» ، قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيهِمْ وِلدَانٌ مُّخَلَّدُونَ* بِأَكوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّنْ مَّعِينٍ). (الواقعة / ١٧ ـ ٨)

«ولدان» : جمع «وليد» بمعنى (مولود) ، وهنا بمعنى (الغلام) وما ذهب إليه البعض من كونهم صغار المؤمنين يخدمون آباءهم فهو بعيد (٣) ، وذلك لأنّهم إن كانوا مؤمنين فهم

__________________

(١). راجع تفاسير مجمع البيان ؛ روح الجنان ؛ روح البيان ؛ القرطبي ؛ والكشاف ذيل الآية مورد البحث.

(٢). لقد كتب الكثير من أرباب اللغة في تفسيرها «الغلام هو الطار الشارب» (مقاييس اللغة ، المفردات ، لسان العرب).

(٣). تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٤٩ ذكر هذا الاحتمال في تفسيره واستبعده.

١٨٩

يُخدمون لا أنّهم خدم للآخرين ، وإن كانوا غير مؤمنين فلا سبيل لهم.

وتعبير (مخلدون) إشارة إلى بقائهم على حالهم فيبقون صغاراً دائماً لا يكبرون ولا يلتحون فهم على هيئتهم من حداثة السن والنشاط والحيوية.

ولقد ورد نفس هذا التعبير بتوضيح أكثر وألطف ، قال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلدَانٌ مُّخَلَّدُونَ اذَا رَأَيْتَهُم حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً). (الإنسان / ١٩)

وهذا شاهد آخر على أنّ المراد من (ولدان) هو نفس (الغلمان) الذين وصفتهم الآيات السابقة بـ (لؤلؤ مكنون) ، وهنا وصفتهم هذه الآية بـ (لؤلؤ منثور).

ولقد احتمل الكثير من المفسرين أنّ هؤلاء الغلمان هم أطفال المشركين والمؤمنين الذين رجحت كفة سيئاتهم ، فلم يؤاخذهم الله سبحانه بأعمال آبائهم ولكن جعلهم خدماً لأهل الجنّة وهم مسرورون بذلك.

ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما أشرنا إليه سابقاً في تضعيف هذا الاحتمال ، وما الرواية التي نقلت في هذا المجال إلّارواية مرسلة لا أكثر.

وجاء في تعبير آخر (بصيغة المبني للمجهول) يشير إلى المضيفين في الجنّة ، قال تعالى : (يُطَافُ عَلَيهِم بِكَأسٍ مِّنْ مَّعِينٍ). (الصافات / ٤٥)

ولقد ورد شبيه هذا المعنى بشيء من التفاوت كدليل على تنوع الموائد في الجنّة في قوله تعالى : (وَيُطَافُ عَلَيهِمْ بِآنِيَةٍ مِّنْ فِضَّةٍ وَأَكوَابٍ كَانَت قَوَارِيرَاْ). (الدهر / ١٥)

ونقرأ تعبيراً آخر في قوله تعالى : (يُطَافُ عَلَيهِم بِصِحَافٍ مِّنْ ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ). (الزخزف / ٧١)

«صحاف» : جمع «صحفه» وعلى قول الزمخشري (طبق ما جاء في مصباح اللغة) : إناء مستطيل (كبير) ، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار المادة الأصلية للكلمة والتي تعني الانبساط والاستواء ، فيمكن أن يكون إشارة إلى إناء يشبه (الصينية).

و «أكواب» : جمع (كوب) وهو إناء للشراب لاعروة فيه وقد يعبر عنه بـ (القدح) أحياناً. والجدير بالذكر وعلى قول بعض المفسِّرين (صحاف) (جمع كثرة) و «أكواب» جمع «قلة» ، وهذا يعود إلى أن تنوع الأغذية وصحافها أكثر من تنوع المشروبات وأكوابها (١).

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٢٥ ، ص ٩٠.

١٩٠

وتقتضي فصاحة القرآن التطرق حتى لمثل هذه الجزئيات ، (تأمل).

وأخيراً ، ولو أنّ هذه الآيات الأخيرة لم تبيّن أوصاف المضيّفين ، ولكن يمكن أن تفسرها الآيات السابقة وتدلل عليهم وعلى مواصفاتهم.

* * *

١٣ ـ المضيغون

يلاحظ في مجالس الضيافة ولأجل تقدير واحترام الضيوف على أحسن وجه حضور شخصية أو مجموعة من الشخصيات المحترمة ، وهؤلاء يقومون بواجب الضيافة كدعوتهم الضيوف إلى تناول الطعام أو المراجعات أو سائر لوازم الضيافة ، وغالباً مايكون هؤلاء من غير الخدم.

وهذا يعتبر احتراماً مضاعفاً ، وكذلك يمنح الضيف أهميّة وعظمة خاصة ، بالإضافة إلى ذلك يزيد من احترامه وتقديره.

ويستفاد من الآيات الكريمة أنّ هذا المعنى عهد به إلى الملائكة وخزنة الجنّة. فإنّهم يدعون أهل الجنّة للانتفاع من نعمها.

ورد في قرآن الكريم (ومن دون أن يذكر القائل) : (كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ). (الطور / ١٩)

ولقد ورد عين هذا التعبير في الآية ٤٣ من سورة المرسلات.

فهل أنّ المتكلم هو الله تبارك وتعالى؟ وهل ورد هذا الكلام كاحترام وأكرام وعناية ولطف خاص من قبل الله تبارك وتعالى؟ أم أنّ هذا الكلام صادر عن الخزنة والملائكة ...؟

على أيّة حال ، فإنّ جميع نعم الجنّة هنيئة ، وما قول «هنيئاً ...» إلّاعناية اخرى تضاف إلى جميع النعم.

ولقد ورد شبيه هذا التعبير بشيء من الاختلاف في قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا اسْلَفْتُمْ في الْايَّامِ الْخَالِيَةِ) (١). (الحاقة / ٢٤)

__________________

(١). في اعراب «هنيئاً» أقوال : يرى البعض أنّها وصف بمحل «المفعول المطلق» ويكون التقدير (كلو أكلاً ـ

١٩١

إنّ هذه الآية لم تشر إلى المتكلم أيضاً ، وما جاء في الآيات لا يختلف عمّا ذكرناه في الآية السابقة.

* * *

١٤ ـ النُّزل

نلاحظ في بعض الآيات تعبيراً عميق المعنى يكشف عن حقيقة جديدة وهذا التعبير هو (النُزُل) ، وقد ورد في قوله تعالى : (لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّن عِنْدِ اللهِ وَمَاعِنْدَ اللهِ خَيرٌ لِّلَابرَارِ). (آل عمران / ١٩٨)

كما ورد نفس هذا المعنى في الآية ١٠٧ من سورة الكهف ، والآية ١٩ من سورة السجدة ، والآية ٦٢ من سورة الصافات والآية ٣٢ من سورة فصلت.

ولأجل توضيح المفهوم الحقيقي لهذه الآيات ، فلابدّ من توضيح المعنى الدقيق للنزل.

قال الراغب في مفرداته : (النزل مايعد للنازل من الزاد) ، وعلى ضوء هذا التفسير تكون جميع النعم التي تعد لاستقبال الضيوف مصداقاً من مصاديق النزل ، ولقد ورد نفس هذا المعنى في «صحاح اللغة» و «المقاييس».

وقال بعض المفسرين : «النزل مايعطى الملك النازل وقت نزوله قبل أنّ يجعل له راتباً أو يكتب له خبزاً» (١).

وقيل : (النزل) (٢) أول طعام يقدم إلى الضيف (وكما هو جارٍ في زماننا حيث يقدمون عصير الفواكه ، أو الفواكه للضيف في أول حلوله) وينسجم هذا المعنى مع مفهوم (النُنزل).

__________________

ـ هنيئاً» ، وقيل : إنّها وصف المفعول به ويكون المعنى (كلو واشربوا مأكولاً ومشروباً هنيئاً) ، وفي الواقع أنّ هنيئاً هو نفس المأكول والمشروب.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المراد من «هنيئاً». أنّ الطعام أو الشراب لايترك أي أثر سيء على الإنسان. بل إنّه يهضم بكل سهولة.

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ١٨٢.

(٢). تفسير المنار ، ج ٤ ، ص ٣١٤ ـ لقد ذكر ثلاثة معان مختلفة ومتقاربة في نفس الوقت.

١٩٢

وبناءً على ذلك ومع الأخذ بنظر الاعتبار «الجنات» بكل نعمها ومواهبها يكون مفهوم «النزل» في ذلك المضيف الكبير هو : وجود استقبالات أعلى وأهم ولعلها تكون إشارة إلى تلك النعم المعنوية والجذبات الروحانية والمظاهر القدسية ، ولهذا السبب ورد في قوله تعالى بعد جملة : (نُزُلاً مِّن عِندِ اللهِ) قوله تعالى : (وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ لِّلَابرَارِ). (آل عمران / ١٩٨)

حتى وإن كان (النزل) بمعنى مايعد للضيف من الكرامة والبر والطعام والشراب (كما قال ذلك بعض المفسرين). فإنّه لا يمكن انكار أنّ ضيافة الشخص الكريم لاتنحصر بإطعام الضيوف فقط ، بل تشمل إضافة إلى ذلك تقديم أنواع الهدايا والعطايا التي تهدى إليهم ، وما الطعام والشراب إلّاشيئاً يسيراً قبال هذه الامور.

وبناءً على هذا ومهما كان معنى (النزل) ، فانه إشارة لطيفة إلى تلك المواهب المعنوية والروحانية للجنّة.

* * *

١٥ ـ النعم التي لا تتصور

ممّا لا شك فيه أنّ النعم المادية في الجنّة لا تنحصر بما قيل سلفاً ، فطبيعة هذا العالم المحدود تحول دون أن يكون لدينا تصور متكامل عن النعم المادية والروحانية في العالم الآخر.

ومن جهة اخرى ، أنّ حب التنوع عند الإنسان يدفعه لطلب المزيد من المواهب والنعم المختلفة ، ولذا عني القرآن الكريم بهذه المسألة عناية خاصة وأعلن صراحة : (وَفِيهَا ماتَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (الزخرف / ٧١)

وهذا التعبير هو أكثر التعابير شمولية وجمعاً فيما يتعلق بالمواهب والنعم الإلهيّة في الجنّة.

يقول المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان : «لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما

١٩٣

في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان» (١).

والملفت هو ذكر هذه الجملة بعد بيان العديد من نعم الجنّة حتى يُعْرف أنّ نعم الجنّة لاتنحصر بها.

وهنا يطرح هذا السؤال : لماذا ذكر تعالى لذة الأعين بعد لذة الأنفس؟ هناك عدّة احتمالات :

الأول : أنّ جملة «تشتهيه الأنفس» تشمل جميع اللذات ، أمّا لذّة «الأعين» ولِما لها من أهميّة استثنائية فقد وردت على شكل (ذكر الخاص بعد العام).

الثاني : أنّ الجملة الاولى إشارة إلى لذات جميع الحواس (حاسة السمع ، واللمس ، والذوق ، والشم) ، أمّا جملة «تلذ الاعين» فهي إشارة إلى لذة حاسة البصر وهذه اللذة تعادل جميع اللذات أو أكثر.

الثالث : أنّ الجملة الاولى أشارت إلى جميع اللذات الجسمانية (المادية) ، أمّا الجملة الثانية فقد أشارت إلى اللذات الروحانية (المعنوية). أي النظر بعين البصيرة إلى جمال الخالق المطلق ، ومشاهدة صفات الجمال والجلال التي تعادل كل لحظة منها جميع النعم المادية في الجنّة.

ومن الواضح أنّ محيط الجنّة محيط منزه ومقدس ، لذا فإنّ طلبات الإنسان من أنواع النعم (المشروبة والمأكولة والملبوسة والمشمومة وغيرها) لا تتعدى الأشياء الظاهرة التي تليق بالإنسان الطاهر ، وعلى هذا فلا استثناء في عمومية الآية ، ولا تحتاج إلى تساؤلات هذا وذاك من قبيل هل تشمل الطلبات السيئة للنفس؟

لقد ورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشتَهِى انفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا ماتَدَّعُونَ) (٢). (فصلت / ٣١)

قال بعض المفسرين : إنّ الجملة الاولى إشارة إلى جميع النعم المادية في الجنّة ، أمّا

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٥٦.

(٢). «يدَّعُون» من مادة «ادّعاء» (افتعال من دعاء) بمعنى طلب الشيء.

١٩٤

الجملة الثانية فهي إشارة إلى المواهب المعنوية بقرينة قوله تعالى : (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ انِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). (يونس / ١٠)

إنّ هذا التفسير يعتبر تفسيراً مناسباً ، حيث إنّ شهوة النفس تكون أكثر فيما يتعلق ب (المسائل المادية) ، أمّا الدعاء فيستعمل عادة في المسائل المعنوية.

ونقرأ تعبيراً آخر في قوله تعالى : (وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ انفُسُهُمْ خَالِدُونَ). (الأنبياء / ١٠٢)

وإضافة إلى ماذكرنا هناك آيات اخرى في هذا المجال :

فنجد في تعبير جديد : (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ). (نحل / ٣١)

وكذلك ورد نفس هذا التعبير في سورة الفرقان الآية ١٦.

ويلاحظ هذا التعبير أيضاً (وبشيء من الاختلاف) في ثلاث سور اخرى من القرآن (الزمر / ٣٤ ، والشورى / ٢٢ ، وق / ٣٥).

ويتّضح من مجموع ماذكر في هذا الفصل ، أنّ العطاء الإلهي في الجنّة لا تحدّه أي حدود ، لا من حيث المقدار ، ولا الكيفية والنوع ، ولا الزمان والمكان ، وبناءً على ذلك فإنّ ما ذكر في الفصول الماضية إنّما هو عبارة عن نماذج واضحة لما يمكن أن يدركه أهل هذا العالم إجمالاً ، أمّا النعم التي هي فوق تصورنا وإدراكنا فقد أشارت إليها الآيات القرآنية المذكورة بعبارات أكثر شمولية وعمومية.

وفي الحقيقة أنّ الجنّة والعطاء الإلهي فيها ما هو إلّامظهر كامل من مظاهر القدرة واللطف الإلهي ، وبما أنّه لا نهاية لقدرته ولطفه تعالى .. فكذلك لا نهاية ولاحد لعطاياه ومواهبه في الجنّة.

* * *

١٩٥
١٩٦

٣ ـ اللذّات الروحية

نظراً لوجود أبعاد روحية وجسمية في «المعاد» ونظراً لكون الروح أسمى وأشرف من الجسم بمرّات وَمرّات ، فينبغي إذن عدم الشك في أنّ النعم الروحية والمعنوية للجنّة أفضل وأسمى وأعظم بمرّات من النعم المادّية والجسمية!

ولكن لمّا كان الوصف لا يتسع عادة للتعبير عن هذه النعم ، وهي امور تعتمد على المشاهدة (القلبية) لا على القول والسماع فلهذا غالباً ما نعثر في الآيات القرآنية على إشارات مبهمة لهذه النعم التي يتمتّع بها أصحاب الجنّة باستثناء الموارد التي يمكن شرحها وبيانها حيث تولى القرآن الكريم شرح وتبيان عدد منها.

وبعبارة أخرى : فإنّ لذّة إدراك معرفة الله وما فيها من نفحات جلالية وجمالية وأنوار ألطافه الخفيّة ، والسكر لدى ارتشاف كأس العشق لذاته المقدّسة تعادل بل وتفوق اللحظة الواحدة منها كل النعم المادية في هذا العالم.

وقد نتصور أحيانا نماذج بسيطة لهذه النعم في الدنيا تتجلّى لنا عندما نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى وننقطع للعبادة والخلوة ، فنمد الأيدي بالدعاء والمناجاة ونغرق بالاستغاثة ونداء يا قاضي الحاجات ، فننسى الدنيا وما فيها ، وفي لحظات قصيرة نحس وكأننا في حالة ذوبان في جمال الله الذي لا مثيل ولا نظير له ، وبالخصوص لو كنّا في هذه اللحظات في بعض الأماكن المقدّسة ، في بيت الله الحرام أو عرفات والمشعر وغيرها من الأماكن والعتبات المقدّسة المخصصة للعبادة ، فيشعر الإنسان بلذة لا يمكن لأي قلم أو بيان أن يصفها ويتصورها.

تصّور لو أنّ هذه الحالات تحصل وبشكل أكثر قوّة بآلاف المرات وتستمر لساعات

١٩٧

وأيّام وليال وأشهر وسنوات متواصلة ، كيف سيكون الحال؟ خاصّة مع انعدام عوامل الغفلة عن ذكر الله في الجنّة وزوال المسببات التي تعصف باستقرار القلب وحضوره ، وانكشاف الحجب وموانع المعرفة من أمام الابصار ، حيث يصبح إدراك الإنسان وبصيرته أشدّ وأقوى ولا وجود هناك للوساوس الشيطانية التي تقف حجر عثرة دوماً في وجه سالكي هذا الطريق.

يمكن حينذاك تصّور ما يجري هناك ، وما هي النعم المعنوية العظيمة التي تتجلّى لنا ، وما هي النفحات الجذابة التي تستقطب الروح إلى جوار قرب الله ، وتجعلها غارقة في أنوار ذاته وغافلة عن ذاتها حتى يصل بها الحال إلى عدم رؤية ما سواه ولا تطلب سواه ، ولا ترى إلّا ما تحب ، وتحب كل ما ترى.

ونعود الآن إلى القرآن مع الالتفات إلى الإشارات المذكورة أعلاه لنرى القرآن نفسه وهو يبّين هذه النعم التي يمكن تلخيصها تحت الأبواب الآتية :

* * *

١ ـ الاحترام الخاص

تبدأ الاحترامات الخاصة لأهل الجنّة منذ لحظة دخولهم فيها فيقابلهم خزنتها مهنّئين ، كما ورد في القرآن الكريم : (وَسِيقَ الَّذيِنَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى اذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ ابْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ). (الزمر / ٧٣)

يُستفاد من هذه الآية أنّ خزنة الجنّة ينتظرون المتقين بلهفة على أبواب الجنّة وقد فتحوا لهم أبوابها من قبل وما أن يصلوا إليها حتّى يسارعوا إلى استقبالهم بأجمل التحيات ووافر الاحترام ويدعوهم بأطيب العبارات إلى الجنّة والحياة الخالدة فيها (١).

__________________

(١). الملفت للنظر هنا أنّ القرآن استعمل «واو» الحالية في جملة «وفُتحِت أبوابها» للتعبير عن انفتاح الأبواب مسبقاً (كما ورد هذا في الآية ٥٠ من سورة ص (جَنَّات عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ). إلّاأنّه تعالى يقول عن النّار : «حتّى إذا جاءُوها وَفُتِحت أبوابها» بدون استعمال «واو» الحالية.

١٩٨

نعم هذه هي الأصول المتّبعة في استقبال الضيف العزيز ، فأول الأمر تفتح الأبواب والمضّيفون ينتظرون على الباب ، وما يكاد يدخل حتّى يستقبلوه بالترحاب وهذه من اللذات المعنوية الثمينة.

«والخزَنة» : جمع (خازن) وهو بمعنى الحارس والمراقب ، والمقصود هنا هو الملائكة الذين يتولون المحافظة على الجنّة وتسيير شؤونها.

وفي المرحلة اللاحقة بعد دخول الجنّة يُؤمر ملائكة الله المقربون بالدخول عليهم من كل باب والترحيب بهم وتهنئتهم. ورد في قوله تعالى : (وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقبَى الدَّارِ) (١). (الرعد / ٢٣ ـ ٢٤)

ويُفهم من الآية السابقة أنّ جموعاً من الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، مع الالتفات إلى أنّ كل باب من أبواب الجنّة مخصص لواحد من الأعمال الصالحة مثل : (باب الصلاة ، وباب الجهاد ، وباب الحج) فيتضح أنّ كل مجموعة من الملائكة تدخل عليهم لأجل واحد من الأعمال الصالحة التي أدوها في الدنيا ، والطريف في الأمر أنّ كل هذه الأعمال تتلخص في معنى الصبر بكل أنواعه : الصبر على الطاعة والصبر على المصيبة ، والصبر عن المعصية.

والأهم من كل ذلك التحية والسلام الصادر من الله إلى أهل الجنّة ، وهو سلام مقرون بالمحبّة ومليء باللطف والرحمة ، كما جاء في قوله تعالى : (سَلَامٌ قَولاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (٢). (يس / ٥٨)

هذا السلام وهذه التحية الإلهيّة التي تنفذ في أعماق النفس وتملؤها بالطاقة فتشد إليها نفوس أهل الجنّة بما فيها من لطف واحسان وتجعلها مستغرقة بالبهجة ، إنّها نعمة لا تضاهيها نعمة ، أجل ، إنّ سماع نداء المحبوب المنبعث من جوده ولطفه لَهُو أفضل من الدنيا وما فيها.

__________________

(١). هذه الجملة تقديرية ، وتقديرها هو : فنعم عاقبة الدنيا الجنّة.

(٢). قيل في إعراب هذه الجملة : «سلام» خبر «أنّ» «لهم» مقدّرة. و «قولاً» مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره : يقول قولاً ، وهناك آراء اخرى أيضاً في هذا الصدد. إلّاأنّ ما ذكرناه هو الأنسب.

١٩٩

إنّ نفحة لقاء المحبوب ورؤية لطف الحبيب والسلام الذي يعني رفع الحجب ، يحوي من اللذّة والأشواق والبهجة بحيث لو بقي العشاق بعيدين عن فيضه المعنوي لما صبروا ، على تحمل ذلك ، وقد روى بعض مفسري السُنّة حديثاً قيّماً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول فيه : لو حجبت عنه ساعة لمتّ (١).

وعلى أيّة حال ، فإنّ أسمى أماني أهل الجنّة وأشرف مفخرة لهم وأحبّ ساعة إليهم ، هو أنّ يسلّم عليهم الرّب الرحمن الرحيم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك آيات عديدة اخرى في القرآن الكريم تتضمن اهداء التحية لأهل الجنّة من غير أن تحدد مصدر التحية والسلام كما في «الآية ٤٦ من سورة الحجر ـ والآية ٧٥ من سورة الفرقان ـ والآية ٣٤ من سورة ق». فربّما يكون مصدر التحية الملائكة ، ويحتمل في بعضها أن يكون السلام من أهل الجنّة على بعضهم ، أو ربّما يكون من الله وهذا أفضلها وأكملها.

* * *

٢ ـ اجواء الامن والسلام

إنّ أكثر ما يعكر صفو روح الإنسان في الدنيا هو عدم الشعور بالأمان في شتى مناحي الحياة ، وعدم الشعور بحلاوة الدنيا يعود في الغالب إلى عدم ثقة الإنسان بما بين يديه ، فهو غير واثق من المستقبل ولا هو واثق من أبناء جنسه ، لا سيما إذا كانت لدية نعمة أكثر فهو يجد نفسه عرضة لأمواج متلاطمة من الحقد والحسد والكراهية بما يجعل الدنيا مظلمة في عينيه.

واحدى النعم الروحية المتوفّرة في الجنّة هي الشعور بالأمن والأمان في جميع المجالات ، فلا خوف من اندلاع الحرب ولا وجل من المخاصمات ، ولا الحقد له وجود ولا الحسد ، والعشق والوفاء يملأ الأرجاء ، وكذلك المحّبة والاخوّة تحيط بالجميع.

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٤١٦.

٢٠٠