نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

إضافة إلى هذا نقرأ في روايات عديدة أنّ الجنّة حالياً في حالة بناء واتساع بواسطة أعمال الإنسان ، فبعض أعمال الإنسان ينتج عنها غرس أشجار جديدة في الجنّة ، ولا تصح مثل هذه الأخبار إلّاإذا كانت الجنّة موجودة حالياً ، ومن جملة ذلك ماورد في الروايات التالية التي تحمل ابعاداً تربوية رفيعة :

١ ـ نقل أبو أيوب الأنصاري حديثاً عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «في ليلة المعراج مَرَّ بي إبراهيم الخليل عليه‌السلام وقال : مُر امّتك أن يكثروا من غرس الجنّة فإنّ أرضها واسعة وتربتها طيّبة قلت وما غرس الجنّة؟ قال. لا حول ولا قوة إلّابالله» (١).

٢ ـ جاء في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قال لا إله إلّاالله ، غرست له شجرة في الجنّة» (٢).

٣ ـ نقل الإمام الصادق عليه‌السلام حديثاً عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال لا اله إلّاالله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الله أكبر غرس له بها شجرة في الجنّة» فقام له رجل من قريش كان بين الحاضرين وقال له : اذن فشجرنا في الجنّة أكثر ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها»(٣).

٤ ـ وجاء في حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لمّا اسري بي إلى السماء دخلت الجنّة فرأيت فيها ملائكه يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وربّما أمسكوا ، فقلت لهم : مالكم ربّما بنيتم وربّما أمسكتم؟ فقالوا حتّى تجيئنا النفقة! فقلت لهم : وما نفقتكم؟ فقالوا : قول المؤمن في الدنيا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّاالله والله أكبر ، فاذا قال بنينا ، وإذا أمسك أمسكنا» (٤).

نختم هذا البحث بحديث للمرحوم العلّامة المجلسي ، فقد قال في نهاية هذه الرواية

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ، ح ٨٣.

(٢). ورد هذا الحديث في كتب كثيرة منها : المحاسن ؛ ثواب الأعمال ؛ بحار الأنوار عن اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٥١٧ ح ٢.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٨٦ ، ح ١٥٤.

(٤). المصدر السابق ، ج ١٨ ، ص ٣٧٥ ، ح ٨٠ (بشيء من التلخيص).

٢٤١

المتعلقة بالجنّة والنّار والتي أوردها في بحار الأنوار : «إعلم أنّ الإيمان بالجنّة والنّار على ماوردتا في الآيات والأخبار من غير تأويل من ضروريات الدين ، ومنكرهما أو مؤولهما بما أوّلت به الفلاسفة خارج من الدين ، وأمّا كونهما مخلوقتان الآن فقد ذهب إليه جمهور المسلمين إلّاشرذمة من المعتزلة والآيات والأخبار الواردة دافعة لقولهم مزيّفة لمذهبهم ، والظاهر أنّه لم يذهب إلى هذا القول أحد من الإمامية إلّاما ينسب إلى السيد الرضي» (١).

٣ ـ جواب على اعتراضين

لعل منكري الوجود الحالي للجنّة والنّار يتمسكون باعتراضين أحدهما عقلي والآخر نقلي ، أمّا الاعتراض العقلي فهو أن إيجادهما قبل القيامة لغو وعبث ، لأنّه مامن أحد يدخل الجنّة أو النّار قبل حساب يوم القيامة ويبدو هذا شبيهاً لمن يبني قبل الف عام داراً لمن يأتي بعد ألف عام ، أليس هذا عبث؟!

والجواب على هذا الاعتراض واضح وهو أنّ هذه القضية ـ كما سبق منّا القول فيها ـ تترك تأثيراً تربوياً على الناس ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يُفهم الناس أنّ الثواب العظيم غير مؤجّل ولا العقاب الأليم ، بل كلاهما حاضر ، ويبدو هذا الفعل شبيهاً بتهيئة مجموعة من الجوائز في بداية العام الدراسي للطلبة الذين يحوزون في نهاية العام على أعلى الدرجات بل وقد نضعها معروضة أمام أنظارهم ونقول لهم هذه المكافأة لمن يبذل أقصى الجهد في الدراسة ، أو يبدو شبيهاً بإعداد السجن والمشنقة مقدّماً للقتلة والجُناة.

ومن البديهي أنّ مثل هذا العمل لا يُعَدُّ عبثاً ، بل له آثار عميقة أيضاً في الجانب التربوي ، ولكن بما أنّ الجنّة والنّار محجوبتان عن أهل الدنيا بسبب الحجب الموجودة حافظت الآيات القرآنية والأخبار النبوية في هذا الصدد على ذلك التأثير.

والاعتراض الآخر هو علمنا بأنّ (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ الَّا وَجْهَهُ) في نهاية هذا العالم ، ويمكن تقديم عدّة إجابات على هذا الاعتراض.

الأول : إنّ المقصود من «كل شي» هو الدنيا بأجمعها وما يتعلق بها ، أمّا معنى «الهلاك» فلا

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٢٠٥ ، ذيل ح ٦٢.

٢٤٢

يصدق على الجنّة والنّار فهما من الأشياء الباقية والمستثناة من الهلاك فوق العالم المادي أو في باطنه ، وهما خارج نطاق الدنيا الفانية.

الثاني : إنّ «الوجه» المستثنى يشمل جميع الامور التي تنتسب إليه بقوّة بحيث تُعتبر داخلة ضمن مفهوم «الوجه» وبما أنّ الجنّة والنّار هما مظهر رحمته وغضبه وموضع الثواب والعقاب فهما داخلتان ضمن الاستثناء طبعاً.

الثالث : إنّ «الهلاك» يعني انعدام المستفيدين من الشيء كالدار العامرة التي يموت أهلها وتبقى بلا وارث ، فهذه الحالة تسمّى أحياناً بالهلاك.

٤ ـ أين الجنّة؟

يُطرح هذا السؤال جدّياً مع أخذ قضيّتين بنظر الاعتبار :

الاولى : وهي أنّ الجنّة موجودة الآن ، (طبقاً للشواهد المتأتّية من الآيات والروايات المذكورة سابقاً).

والثانية : إن عرض الجنّة كعرض السماء والأرض (استناداً إلى صريح الآيات الواردة في البحث السابق).

ولعل البعض يقول : أين يقع بالدقّة مثل هذا الوجود الذي هو كعرض السماء والأرض؟ وكيف يمكن وجود مثل هذا الشيء دون أن تطاله حواسّنا؟

وقد أجاب جماعة عن مثل هذا السؤال بقولهم : تفيد الآيات القرآنية أنّ الجنّة موجودة في السماء ، فكما أشرنا سابقاً ، إنّ عروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إلى السماء حيث أخبرت الآية الشريفة : (عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى) (وهذه النقطة هي أسمى وأرفع نقطة في السماء). (١) (النجم / ١٥)

رغم أنّ البعض اعتبرها الجنّة البرزخية التي تصعد إليها أرواح الشهداء أو أنّها جنّة آدم،

__________________

(١). صرّح بذلك المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان ؛ والفخر الرازي في التفسير الكبير ؛ والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ؛ والبرسوئي في تفسير روح البيان ؛ في ذيل الآية ٢٢ من سورة الذاريات أو ذيل الآية ١٥ من سورة النجم أو في كليهما.

٢٤٣

ولكن كلا هذين الاحتمالين يخالف معنى التعبير الظاهري لجنّة المأوى.

وجاء في قوله تعالى : (وَفِى السَّمَاءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُونَ). (الذاريات / ٢٢)

إذ يعتقد كثير من المفسرين أنّ المقصود من «ماتوعدون» هي جنّة الخلد التي وعد الله بها عباده (١) ، وقال جماعة إنّ هذا يشمل الجنّة والنّار رغم قول البعض أنّ الغرض هو الإشارة إلى العذاب الدنيوي الذي ينزل على الكفّار والجبابرة (كعذاب قوم نوح وقوم لوط وأمثالهما).

محصّلة هذا الكلام هو أنَّ جنّة الخلد تقع في مارواء السماء الدنيا وسعتها كعرض السماء والأرض أو أنّها أوسع من ذلك بعدّة مرّات لعدم وجود ما هو أوسع من هذا البيان ليصف به القرآن سعة الجنّة ، وعلى هذا الأساس فهي موجودة ومكانها في السماء وسعتها كعرض السماء والأرض في هذه الدنيا.

وقد طرح بعضهم عدّة مؤاخذات على هذا الرأي وهو إذا كانت الجنّة فوق الفلك التاسع فهذا يستلزم أنّها كائنة في اللامكان واللاجهة! وهي إنّ كانت واقعة في طبقات السماء أو بين فلكين من هذه الأفلاك فهذا إمّا يستلزم التداخل أو انفصال الأفلاك عن بعضها ، وكل هذا محال ولا يتّسق مع التعبير القرآني القائل : إنّ سعتها كعرض السموات والأرض.

ولا يخفى أنّ هذا الاعتراض قائم في الحقيقة على أساس هيئة بطليموس والأفلاك التسعة التي يعتقد أنّها قائمة فوق بعضها كطبقات قشرة البصل ولا يوجد بينها أي فاصل ولكن بعد أن ثبت الآن بالدلائل القطعية بطلان هذه العقيدة ، وحتى أنّ بطلانها في بعض الحوانب ثبت حسّياً ، لم يَعُد هناك أي دليل تستند عليه مثل هذه الاعتراضات ولا يوجد هناك أي مانع من وجود عوالم كبيرة اخرى أوسع بكثير من سمائنا وأرضنا هذه فوق هذه النجوم الثابتة والسيارة وفوق المجّرات ، وعليه فلا تتعارض مع مفهوم الآية الآنفة الذكر أيضاً.

__________________

(١). صرّح بذلك المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان ؛ والفخر الرازي في التفسير الكبير ؛ والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ؛ والبرسوئي في تفسير روح البيان ؛ في ذيل الآية ٢٢ من سورة الذاريات أو ذيل الآية ١٥ من سورة النجم أو في كليهما.

٢٤٤

النظرية الأخرى تقوم على رأي جماعة من الفلاسفة الذين ينكرون مادّية الجنّة والنّار ، وعلى هذا ذهبوا إلى عدم حاجة الجنّة إلى المكان المادّي بل هي في ماوارء عالم الحس والمادّة ، وقد تحدّث صدر المتألهين عن هذا الموضوع في كتاب الأسفار قائلاً :

«واعلم أنّ لكل نفس من نفوس السعداء في عالم الآخرة مملكة عظيمة الفسحة ، وعالماً أعظم وأوسع ممّا في السماوات والأرضين ، وهي ليست خارجة عن ذاته بل جميع مملكته ومماليكه وخدمه وحشمه وبساتينه وأشجاره وحوره وغلمانه كلها ، قائمة به ، وهو حافظها ومنشئها بإذن الله تعالى وقوته ، ووجود الأشياء الاخروية وإن كانت تشبه الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في بعض المرايا لكن يفارقها بالذات والحقيقة ، أمّا وجه المشابهة فهو أنّ كلا منها بحيث لا يكون في موضوعات الهيولى ولا في الأمكنة والجهات لهذه المواد ، وأن لا تزاحم بين أعداد الصور لكل منهما وأنّ شيئاً منهما لا يزاحم شيئاً في هذا العالم في مكانه أو زمانه ، فإنّ النائم ربما يراه في يقظة هذا العالم ، وهي مع كونها مغايرة لما في الخارج بالعدد لكن لا تزاحم ولا تضايق بينها .. وأمّا وجه المباينة فهو أنّ نشأة الآخرة والصور الواقعة فيها قوية الجوهر شديدة الوجود عظيمة التأثير إلذاذاً وإيلاماً ، وهي أقوى وأشد وآكد ، وأقوى من موجودات هذا العالم ، فكيف بالصور المنامية والمرآتية ، ونسبة النشأة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الانتباه إلى نشأة النوم» (١).

وبالرغم من استخدامه لتعابير مختلفة بشأن المعاد فليس من السهل الحكم على رأيه من خلال هذه التعابير ، لكن من الواضح أنّ هذا التفسير للمعاد لا يتطابق مع ظاهر بل مع صريح القرآن ، بل يتناسب مع آراء الذين يعتبرون المعاد روحياً فقط ، فقد ورد في النص السابق أنّ الجنّة في داخل ذات الإنسان وفي نفسه وروحه وكل شيء هناك له صورة مثالية ، وكل شيء روحاني ، بل وأنّ الموجد له هي روح الإنسان!

لقد ذكرنا فيما سبق عشرات الآيات التي تثبت جسمانية المعاد ، وذلك ضمن عدّة مجاميع وبإمكان كل مجموعة أن تكون جواباً على مثل هذا الرأي.

__________________

(١). الاسفار الأربعة ، ج ٩ ، ص ١٧٦ الفصل ١٠.

٢٤٥

أمّا الرأي الثالث الذي يمكن طرحه في هذا الصدد فهو أنّ كلًّا من الجنّة والنّار تقعان في باطن هذا العالم ، وحجب عالم الدنيا تحول دون رؤيتهما ، لكن أولياء الله بإمكانهم مشاهدتهما ، وقد استطاع النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء معراجه حيث صار بعيداً عن ضجيج سكان هذا العالم ، أن يرى بعينه الملكوتية قطعة من الجنّة في العالم الأعلى ، وحتّى أنّ أولياء الله قد يتاح لهم بين الفينة والأخرى أثناء بعض النفحات مشاهدة ذلك وهم على الأرض!

وقد تكون الآيات التالية إشارة إلى هذا المعنى : (انَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). (العنكبوت / ٥٤)

وقال : (انَّ الْأَبرَارَ لَفِى نَعِيمٍ* وَانَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ). (الانفطار / ١٣ ـ ١٤)

وكذلك : (كَلَّا لَو تَعْلَمُون عِلْمَ اليَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ). (التكاثر / ٥ ـ ٦)

يمكن تشبيه وجود الجنّة في باطن هذا العالم بماء الورد في الورود ، فمع أنّ ماء الورد مادّة وكذلك الورود لكن ذلك لايمنع من وجود أحدهما مخفياً داخل الآخر فلا يشاهد بالعين.

والتشبيه الآخر الذي يمكن الإتيان به لتقريب الموضوع إلى الأذهان ، وهو تشبيه سبق ذكره حيث توجد أشياء كثيرة في عالم المادّة هذا لا يتيسّر لنا إدراكها في الظروف الاعتيادية ، وكثير منها موجود في داخل هذا العالم المادّي فعلى سبيل المثال توجد في فضاء هذا العالم أمواج إذاعية عديدة تبثها في الفضاء محطات الاذاعة العالمية ، وتصل أحياناً بواسطة الأقمار الصناعية إلى جميع أرجاء العالم ، وتوجد أنواع متعددة من هذه الموجات في كل بيت ، لكنّ أحداً لايشعر بها ، ولعل بعضها يحمل أنغاماً وأصواتاً جذّابة ورائعة ، وقد يحمل بعضها الآخر أصواتاً مزعجة وصفّارات انذار وأنغاماً تشمئز منها النفوس ، وكذلك محطات التلفزة ، فقد تبث صوراً ومشاهد جميلة وجذّابة وتربوية فيما تبث محطّات اخرى مشاهد الحرب والدمار والخراب والمذابح والحرائق والجرائم ، وكل هذه الصور والمشاهد والأصوات المختلفة موجودة في عالمنا المادي هذا وفي هذا الفضاء

٢٤٦

المحيط بنا ، وقد اصطنعت لنفسها جنّةً وناراً في داخل هذا العالم ، فيقوم بعض الناس بتنظيم أجهزة الاستلام لديهم مع الأصوات الجّذابة والأنغام المريحة والمشاهد الممتعة والمفيدة ، بينما ينظم البعض الآخر أجهزة الاستلام ـ اختياراً أو اضطراراً ـ مع الأنغام والأصوات والمشاهد المعاكسة للُاولى ، فيعيش الفريق الأول أجواء عالم ممتع ، والفريق الثاني يعيش في عالم من العذاب والأذى ، وهذه كلها كامنة في قلب هذا العالم المادّي.

نأمل عدم حصول الالتباس في الفهم ، فنحن لا نقول أبداً إنّ الجنّة والنّار هكذا تماماً بل نقول ما المانع في أن يكون في عمق هذا العالم عالم آخر أو عوالم اخرى ونحن لا نتمكن في الظروف الحالية من الاطّلاع عليها مطلقاً لوجود الحجب المتعددة الحائلة بيننا وبينها؟ إنّ من أوتي القدرة على إزاحة هذه الحجب فبإمكانه رؤية تلك العوالم حتّى وإن كان هو في هذا العالم ، (فتأمّل).

وقد اتيح للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء معراجه إلى السماء ـ حيث خفّت ضجّة عالم المادّة ، وتتقلصت الهموم والمشاغل وتتعاظمت مظاهر جلال الله وجماله ـ ازاحة الحُجب ومشاهدة جوانب من العالمين (الجنّة والجحيم) الواقعتين داخل هذا العالم.

وليس معنى هذا أنّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سائر أولياء الله لا يتمكّنون من مشاهدة الجنّة والنّار وهم على الأرض ، بل إنّ هذا قد حصل أيضاً في بعض الأوقات على الأرض كما يتّبين من بعض الروايات.

جاء في الحديث الذي نقله الراوندي في «الخرائج» أنّ أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام حين أكدوا له وفاءهم الكامل له وامتنعوا عن مغادرة الميدان ونقض البيعة : «دعا لهم بالخير وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها» (١).

ويروي مؤلف كتاب «مقتل الحسين» بعد ذكره لهذه الرواية : «وليس ذلك في القدرة الإلهيّة ولا في تصرفات الإمام بغريب ، فإنّ سحرة فرعون لما آمنوا بموسى عليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم آراهم النبي موسى منازلهم في الجنّة» (٢).

__________________

(١). الخرائج للراوندي طبقاً لما ورد في «مقتل الحسين» للمقرم ، ص ٢٦١ ؛ وبحار الأنوار ج ٤٤ ، ص ٢٩٨.

(٢). أخبار الزمان للمسعودي ، ص ٢٤٧ (استناداً إلى مقتل الحسين ، ص ٢٦١).

٢٤٧

ورد في بعض الروايات أيضاً أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام أرى بعض أصحابه حوض الكوثر (١).

وهذه النظرية حول مكان الجنّة تحل ضمناً مسألة سعتها التي هي كعرض السموات والأرض وترد على بعض اعتراضات المتكلمين بشأن ضرورة التداخل.

وعلى أيّة حال فإنّ ما طرحناه بخصوص وجود الجنّة والنّار في باطن هذا العالم لا يتجاوز النظرية ، والاعتقاد به يحتاج إلى مزيد من الدراسة والأدلة والشواهد.

* * *

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٨٧ ، ح ٩.

٢٤٨

٧ ـ درجات الجنّة

تمهيد :

تدل العبارات القرآنية المختلفة على أنّ حدائق الجنّة متعددة ومتنوّعة ، ولو أمعنا النظر في الروايات الواردة في تفسير الآيات النازلة في هذا الصدد لاستخلصنا منها أنّها تحدد درجات ومنازل أهل الجنّة وتضع كل فئة منهم في المكانة اللائقة بهم ضمن هذه الحدائق ، كل شخص حسب أفضليّة وسمو مقامه.

فهناك ـ مثلا ـ حديث وارد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير الآيات من سورة (الرحمن) الواردة بخصوص حدائق الجنّة أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جنّتان من ذهب للمقرّبين ، وجنّتان من ورق لأصحاب اليمين» (١).

ومن الواضح أنّ استعمال كلمتي الذهب والفضّة في هذا الحديث يشير إلى تفاوت درجتَي هاتين الجنتين.

مع هذه اللمحة التمهيدية نعود إلى آيات القرآن الكريم لنشاهد ، ماذا تقول عن ذلك :

١ ـ (قُلْ أَذَلِكَ خَيرٌ امْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً). (الفرقان / ١٥)

٢ ـ (اولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنهَارُ) (الكهف / ٣١)

٣ ـ (امَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم جَنَّاتُ المَأوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ). (السجدة / ١٩)

٤ ـ (انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِردَوْسِ نُزُلاً). (الكهف / ١٠٧)

__________________

(١). تفسير درّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٦.

٢٤٩

٥ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اولَئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ). (الواقعة / ١٠ ـ ١٢)

٦ ـ (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (ذَوَاتَا افْنَانٍ) (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (مُدْهَامَّتَانِ) (الرحمن / ٤٦ ـ ٤٨ ـ ٦٢ ـ ٦٤)

جمع الآيات وتفسيرها

جنّة أم جنان؟

تتحدث الآية الاولى عن العذاب الأليم لأصحاب النّار وتقارن حالهم بالمنزلة الرفيعة لأصحاب الجنّة : (قُلْ اذَلِكَ خَيرٌ امْ جَنَّةُ الخُلدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً).

«جنّة الخلد» : وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم وهي تشير إلى خلود الجنّة.

يقول الراغب في «المفردات» : «الخلود» بمعنى : بُعد الشيء عن الفساد وبقاؤه على حاله ، وقال صاحب «مقاييس اللغة» : إنّ الكلمة تعني أساساً الثبات والملازمة ، وفسّرها صاحب «مصباح اللغة» بمعنى الإقامة ، رغم أنّ هاتين الكلمتين ـ أي جنة الخلد ـ جاءت أحداهما مضافة إلى الاخرى فإنّهما تفيدان معنى الوصف ، ويبدو أنّه وصف للجنّة بشكل عام ، لأنّ كل نعمة فيها خالدة ، وكذلك أهلها فهم خالدون أيضاً ، وعلى هذا فهي لا تختص بجانب من الجنّة دون الجانب الآخر ، لأنّ هذا الوصف شامل لكل حدائق الجنّة.

واعتبر بعض أصحاب اللغة مثل ابن منظور في «لسان العرب» : «الخلد» واحداً من أسماء الجنّة ، ولا يستبعد أن تكون آراؤهم أيضاً بياناً لصفة الدوام والبقاء التي تحوّلت بالتدريج إلى اسم من أسماء الجنّة.

* * *

وفي الآية الثانية نلاحظ تعبيراً آخراً ، فبعد أن تؤكد الآية على عدم ضياع أجر المؤمنين الصالحين ، تبّشرهم أنَّ : (اولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجرِى مِن تَحتِهِمُ الْأَنهَارُ).

٢٥٠

وردت كلمة «جنات عدن» احدى عشرة مرّة في القرآن الكريم (١) وهذا التكرار يفيد الأهميّة في المواصفات المتعلّقة بالجنّة.

و «الجنّات» : جمع (جنّة) وهي الحدائق الكثيرة في الجنّة ، و «عدن» تعني في الأصل الإقامة حسب ماذكر صاحب «مقاييس اللغة» أو بمعنى الثبات والاستقرار حسب ماأفاد به كتاب المفردات ، وهذا يتضمن إشارة إلى خلود الجنّة ، لا إلى حدائق هذه الدنيا التي تتعرض أشجارها لتساقط الأوراق في فصل الخريف وقد تيبس وتموت بعد عدّة سنوات ، وقد تنقطع عنها مصادر المياه ، أو قد تتعرض ثمارها للآفات أو تجف جذوعها من الداخل أو قد تقضي عليها الرياح الحارّة اللاهبة أو القارصة ، بل وقد تتعرض للصواعق فتتحول إلى رماد ، وخلاصة القول أنّها عرضة لألف آفة وبلاء بينما أشجار الجنّة باقية دوماً وحدائقها خضراء غنّاء لا يعتريها اليبس ولا المرض ولا تساقط الأوراق أو الذبول.

قال بعض المفسرين : إنّ المقصود من (جنّات عدن) وسط الجنّة ، وهي في الحقيقة جنّة من جنانها إلّاأنّ لها من السعة ما يجعل كل جزء من اجزائها وكأنّه جنّة قائمة بذاتها وقد ذُكرت على هيئة الجمع (٢) ، لكن التأمل فيما سبق من القول يجعل مثل هذا المعنى بعيداً.

وأبرزت الآية الثالثة نفس هذا المعنى ولكن بعبارات اخرى ؛ فهي تقول : (امَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم جَنَّاتُ المَأوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ).

«المأوى» : مشتقة من كلمة «اوِيّ» على وزن (قويّ) ، قال الراغب في المفردات : إنّها تعني انضمام الشي إلى شيء آخر (ثم أصبحت تعني الإقامة عند الشيء).

وقال صاحب مقاييس اللغة : إنّ أحد معانيها هو «التَجمُّع» وهذا يستلزم السكن عند الشيء ، والمأوى يعني باختصار : المكان والمسكن والمقر الذي يسكنه الإنسان ليلاً أو نهاراً ويستريح فيه ، وعلى هذا ف «جنّات المأوى» تشير إلى الخلود والدوام والاستقرار في الجنّة

__________________

(١). في سور ، التوبة ، ٧٢ ؛ الرعد ، ٢٣ ؛ النحل ، ٣١ ؛ الكهف ، ٣١ ؛ مريم ، ٦١ ؛ طه ، ٦٧ ؛ فاطر ، ٣٣ ؛ ص ، ٥٠ ؛ غافر ، ٨ ؛ الصف ، ١٢ ؛ البّينة ، ٨.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٧ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٦ ص ٤٠١٣.

٢٥١

ويُستَشفُ منها أيضاً معنى الهدوء والسكينة.

قال البعض : إنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ دار الدنيا ليست مأوى الإنسان (أي ليست دار مقّره النهائي) ، بل هي ممر يجتازه ، أو كما وصفتها الرواية المشهورة «الدنيا قنطرة» فهي ليست محل استقرار وثبات.

ولا يخفى أنّ مثل هذا الوصف ينطبق على جميع الجنّة ، ومع ذلك فقد نُقِل عن ابن عبّاس أنّه قال : حدائق الجنّة ثمان : إحداها جنّة المأوى ، وسواها هي (دار الجلال) و «دارالقرار» و «دار السلام» و «جنّة عدن» و «جنّة الخلد» و «جنّة الفردوس» و «جنّة النعيم».

سبق أن قلنا أنّ «النزل» تعني أول مايُستقبل به الضيف (كما يُستقبل اليوم مثلاً بالعصير أو الماء البارد أو الشاي). وإذا كان الأمر كذلك فهو يدل على أنّ جنات المأوى ـ رغم سعتها وعظمتها ـ فهي أدنى درجات الاستقبال لعباد الله المخلصين! وعلى هذا فإنّ الاستقبال والتكريم الأساس لهم هي تلك النعم التي تتضاءل أمامها جّنات المأوى ، وهي ليست سوى قرب الإله ولقائه وجنّة معرفة جلاله وجماله.

* * *

التعبير الآخر الذي استخدمه القرآن الكريم لوصف مستقر هذه الرحمة الإلهيّة الكبرى هو «جنات الفردوس» إذ يقول القرآن في هذا الصدد : (انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِردَوسِ نُزُلاً).

هناك اختلاف بين المفسرين وأصحاب اللغة في أصل كلمة (فردوس) هل هي رومية أم سريانية أم نبطية أم حبشية أم عربية؟ كما اعتبرها البعض فارسية الأصل تحوّرت إلى «پراديزس» و «پراديز» ثم إلى «فردايس» و «فردوس».

وقد ذكروا معاني عديدة لهذه الكلمة ؛ منها : الحديقة والبُستان ، وحدائق العنب والحدائق الشاملة لكل الأزهار والثمار ، والحدائق المغطّاة بالأشجار والتي تحوي الكثير من المياه ، وأحياناً الحاوية للكثير من العنب.

٢٥٢

فأمّا الذين عدّوها عربية الأصل فقد قالوا : إنّها مأخوذة من مصدر «الفَرْدَسة» وهو بمعنى السعة واستعملت هذه الكلمة التي وردت في القرآن مرّتين فقط (في سورة الكهف / ١٠٧ وسورة المؤمنون / ١١) بمعنى الجنّة ، ويُستشف من الروايات المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ هذا الاسم يختص ببقعة ممتازة جدّاً من الجنّة.

جاء في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، فانّه وسط الجنّة وأعلا الجنّة وفوقه عرش الرحمن ، ومنها تفجر أنهار الجنّة» (١).

ونقل عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «لكل شيء ذروة وذروة الجنّة الفردوس وهي لمحمد وآل محمد» (٢).

وأخيراً ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية ؛ إنّها نزلت بحقّ أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر وهي : «جَعل الله لهم جنّات الفردوس نُزلاً» أي مأوى ومنزلاً (٣).

ومن الواضح عدم وجود أي تضاد بين الحديث الثاني والثالث ، لأنّ المؤمنين من أصحاب الدرجات الرفيعة من أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمّار وهم التابعون المخلصون لمحمد وآل محمد عليهم‌السلام يعدّون في الحقيقة من زمرتهم.

ولكن ما معنى «نزلاً» هنا؟ اعتبرها البعض بمعنى دار النزول ومحل السكن كما أشار إلى هذا حديث الإمام الصادق عليه‌السلام. وقال بعض المفسرين : إنّ النزل يعني وسائل الاستقبال أو اوّل ما يستقبل به الضيف ، ولامانع أيضاً من جمع هذين المعنيين.

التعبير الآخر الذي ورد في وصف حدائق الجنّة هو ما جاء في سورة الواقعة (جنات النعيم) إذ يقول تعالى في كتابه الكريم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اولَئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

__________________

(١). صحيح البخاري ؛ وصحيح مسلم (نقلاً عن كتاب روح المعاني ، ج ١٦ ، ص ٤٧).

(٢). تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٩٥ ، ح ٢.

(٣). استناداً إلى ما نقله تفسير الميزان عن تفسير القمي ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٥٣

«الجنّات» : جمع «جنّة» ولعل استعمال الجمع هنا لبيان أنّ لكل واحد من أصحاب الجنّة جنّة خاصة به فيكون جمعها جنّات ، والنعيم هو جمع «نعمة» لأنّ الجنّة تحوي دوماً أنواع النعم المادّية والمعنوية ، لا كمثل حدائق الدنيا التي تكون أحياناً مدعاة للتعب والمعاناة والألم وأحياناً سبباً للراحة والنعمة ، إضافة إلى أنّ حدائق الدنيا تضم كل واحدة منها نعمة واحدة لا جميع النعم.

وما يسترعي الانتباه هنا هو أنّ الله ذكرهم أوّلاً ، فقال : (اولَئِكَ المُقَرَّبُونَ) ومن ثم انتقل إلى ذكر «جنات النعيم» ومن الواضح أنّ جنات النعيم وبكل ماتزخر به من نعمة وعظمة لا تمثل في قبالة القرب الإلهي إلّاقطرة في بحر.

وقد تكررت هذه الكلمة (جنّة النعيم ، وجنات النعيم) ، عشر مرات في الآيات الشريفة والتكرار دليل على التأكيد والأهميّة (١).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الإنسان كلما اقترب في هذه الدنيا من مراكز القوى ازداد قلقه ، لأنّه يعيش دوماً في حالة من الوجل والهواجس والرعب خوفاً من تغيير آراء أصحاب القوّة بشأنه فيسقط ويتعرض لأشد أنواع العقوبة والتنكيل ، ولهذا يحذّر أهلُ المعرفة وكبار الشخصيات من «التقرّب إلى السلطان» ، وأمّا القرب من الإله فعلى العكس من هذا تماماً ، فلا يشعر بغير الاطمئنان واللذة الروحية والمعنوية ، وجنّات النعيم.

وهناك قضّية تستدعي الدقّة أيضاً وهو ماورد في الروايات العديدة التي جاءت في ذيل الآية الشريفة : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). (التكاثر / ٨)

حيث فُسر «النعيم» بـ «نعمة الولاية» (٢) ، ومن هذا المنطلق فمن المحتمل أنّ جنّات النعيم هي جنّة الولاية ، ولاية الله وأوليائه ، ومحبّتهم والاستضاءة بنورهم المعنوي.

__________________

(١). المائدة ، ٦٥ ؛ يونس ، ٩ ؛ الحج ، ٥٦ ؛ الشعراء ، ٨٥ ؛ لقمان ، ٨ ؛ الصافات ، ٤٣ ؛ الواقعة ، ١٢ ـ ٨٩ ؛ القلم ، ٣٤ ؛ المعارج ، ٣٨.

(٢). للحصول على مزيد من المعلومات عن هذه الأحاديث راجع كتاب بحار الأنوار ، ج ٢٤ ، الباب ٢٩ ، ص ٤٨ وماتلاها.

٢٥٤

أمّا هل أنَ «جنّات النعيم» تشمل كل الجنّة أم تُشير إلى بقع مهمّة منها؟ فهنالك احتمالان ، فمن جهة ، قد يكون الوعد الإلهي للمقّربين دليلاً على الاحتمال الثاني لاسيما وأن تعبيراً مشابهاً لهذا قد ورد في من نفس هذه السورة : (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ* فَرَوحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). (الواقعة / ٨٨ ـ ٨٩)

* * *

المجموعة السادسة والأخيرة من هذه الآيات تشير باختصار إلى أربع روضات من رياض الجنّة مع عدة خصائص، كل اثنين منهما على حدة، إذ قال الكتاب الكريم : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (ذَوَاتَا أَفْنَانِ) (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (مُدْهَامَّتَانِ).

كانوا يتصوّرون أنّ هذه الحدائق الأربع كلها لجميع المؤمنين ، وهذا التعدد من أجل إيجاد التنوع لأنّ طبيعة الإنسان تميل إلى التنوّع ، لكن لهجة الآيات وكذلك الروايات الواردة في تفسيرها تظهر لنا بوضوح أنّها ـ أي تلك الحدائق ـ من نصيب فئتين مختلفتين وعبارة «من دونهما» تعطي معنى الأدنى ، وعلى هذا الترتيب فروضتان من رياض الجنّة من نصيب «المقّربين» واثنان أدنى منهما من نصيب «أصحاب اليمين» وهذا في الحقيقة إشارة إلى درجات ومراتب أهل الجنّة ، وهذا ما ينبغي أن يكون وذلك لأنّ أهل الجنّة ليسوا على سواء في المرتبة والدرجة.

لقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الاختلاف بعبارات جميلة في حديث ورد عنه إذ قال : «جنّتان من فِضّة آنيتهما وما فيهما ، جنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» (١).

وورد نفس هذا المعنى في حديث أكثر صراحة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا تقولَنَّ واحدة إنّ الله يقول : ومن دونهما جنّتان ، ولا تقولن درجة واحدة إنّ الله يقول : درجات بعضها فوق بعض ، وإنّما تفاضل القوم بالأعمال» (٢).

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ١٠ ، ص ٢١٠.

(٢). المصدر السابق.

٢٥٥

وذكر المفسرون احتمالات متعددة لسبب حصول كل واحدة من هاتين الفئتين على جنّتين ، وهذه الاحتمالات لا تتعارض فيما بينها ولعلّها ملخّصة في مفهوم الآية ، ومن جملة ذلك أنّ إحداهما تشير إلى الجنّة الروحية والاخرى تشير إلى الجنّة المادية أو أنّ لكل واحد من أهل الجنّة جنّتين : إحداهما عامّة لمقابلة الاصدقاء ، والاخرى خاصة لمعاشرة الزوجات.

أو أن تكون إحداهما كثواب على العقيدة والإيمان والأخرى جزاءً للعمل الصالح.

أو أن تكون إحداهما جزاءً للعمل والاخرى فضل من الله.

أو ربّما إحداهما جزاءً على طاعة الأوامر والثانية ثواباً على اجتناب الذنوب!

* * *

ويمكننا أن نستخلص من مجموع ماذكر أنّ للجنّة مقامات ودرجات ومراتب ويمكن اعتبار كل واحدة منها جنّة ، ولا شك أنّ اختلاف درجات أولياء الله في الدنيا يستوجب اختلاف مراتبهم في الجنّة ، فجنّة المقربين تختلف عن جنّة أصحاب اليمين ، وجنّة الذين يحتلّون الذُرى في الورع والإيمان والمعرفة والعمل الصالح تختلف عن جنّة من هم في مراتب أدنى.

ورغم عدم قدرة أذهاننا على استيعاب مواصفات أي منهما ، إلّاأننا نعلم قطعاً أنّهما عالمان مختلفان ، ولعل أهل المراتب الأدنى في الجنّة لا يتمكّنون من معرفة أحوال العوالم الأرفع مكانة!

ينبغي الإشارة إلى أنّ كلمة الجنّة قد وردت في القرآن الكريم أحياناً بصيغة المفرد الذي يحمل مفهوم اسم الجنس ويشمل جميع الحدائق والرياض في الجنّة ، وأحياناً اخرى بصيغة الجمع وهو مايشمل رياض الجنّة ودرجاتها ومراتبها المختلفة ، وأحياناً بصيغة التثنية (جنّتان) وهو ما دلَّ على درجتين مختلفتين ، وقد سبق لنا شرحه.

ويتحدّث القرآن في بعض الأحيان عن خلود الجنّة ويستخدم عبارات من أمثال

٢٥٦

«جنّات عدن» أو «جنّة المأوى» و «جنّة الخلد» ، ويتناول في أحيان اخرى تبيان نعمها المادية والمعنوية المختلفة ويعبّر عنها ب «جنّة النعيم» ، ويشير أحياناً اخرى إلى الرياض الفاخرة جدّاً فيها ويطلق عليها اسم «جنّة الفردوس».

يعبّر كل واحد من هذه الأوصاف الغنّية عن واحد من أبعاد هذا المكان وهو مقر الرحمة الإلهيّة الكبرى ، ودرجات القرب والوصال بالمحبوب الحقيقي :

«اللهم أرزقنا الجنّة بمنّك ورحمتك ياأرحم الراحمين»

* * *

٢٥٧
٢٥٨

٨ ـ أسئلة وأجوبة حول الجنّة

١ ـ هل أنّ التكرار يولد الملّل؟

يعترض البعض قائلاً : إنّ ما يُستشف من الآيات والروايات يشير إلى أنّ النعم في الجنّة ونمط الحياة فيها يسير برتابة وعلى وتيرة واحدة ، ونحن نعلم أنّ هذا الوضع ـ ولاسيما إذا استمر لمدّة طويلة ـ يثير الملل ويطفيء شعلة الشوق والحماسة والنشاط ، لأنّ تكرار أجمل المشاهد وأحلى المناظر وأطيب الأطعمة يضفي عليها مسحة طبيعية ويجعل منها وضعاً عادياً ، حتى أنّ الإنسان قد يلجأ أحياناً إلى أساليب حياتية أبسط أو أكثر مشقّة من أجل كسر طوق الرتابة والملل وممارسة التجديد والتنوع ، وللاجابة عن هذا السؤال ينبغي الالتفات إلى ثلاث نقاط :

الاولى : يجب عدم تطبيق المقاييس والمعايير المادية والنفسية السائدة في هذا العالم على ذلك العالم ، فلعل هذه الحالة النفسية الموجودة فينا وهي سرعة التعب والضجر واللامبالاة في هذا العالم قد تكون على العكس تماماً هناك ، فكلما تكررت المشاهدة ازداد الشوق وتضاعفت الرغبة ، ومع تزايد التكرار تزداد اللذة ، فيكون التكرار مدعاة لمضاعفة اللذّة المعنوية والمادية.

فما هو الدافع الذي يجعلنا نتصور أنّ الوضع النفسي للإنسان في هذا المجال واحد هنا وهناك؟

الثانية : توجد في هذا العالم أيضاً نِعمٌ لا يملّها الإنسان ولا يشبع منها ، فنحن كلما تنفسنا هواءً طلقاً جديداً ومليئاً بالاوكسجين ، لا نملّه ولا نضجر منه ، بل نلتذ به ويثير فينا البهجة والارتياح ، وكذلك الماء هذا المشروب البسيط فلو أننا عمّرنا مئات السنين يبقى شرب

٢٥٩

الماء العذب عند العطش من أعظم اللذات بالنسبة لنا ، وهذا هو معنى قولنا إنّ طعم الماء هو طعم الحياة ، فلا يبعث فينا الملل ولا الضجر بل يبقى الماء العذب مستساغاً ولذيذاً في أفواه العطاشى.

فما المانع في أن يجعل الله لدى الإنسان حالة شبيهة بحالة العطش (العطش اللذيذ الخالي من الازعاج والأذى ، مثل العطش للقاء المحبوب) لكي يلتذ الإنسان بواسطتها من النعم الروحية والجسمية الموجودة في الجنّة؟

الثالثة : لما كانت ذات الله وصفاته غير متناهية ، فلا شكّ أنّ مظاهره الروحية والمعنوية لا نهاية لأمدها ، فهو يفيض عليهم في كل يوم بألطاف جديدة ويمدّهم في كل لحظة بهداية متجددّة لا تكرار فيها ولا رتابة وهل يمكن أن يتكرر ما لا نهاية له؟

والنعم المادية هي من مظاهر رحمانيّته ورحيمّيته ، ولا حد لها ولا حصر.

فما المانع في أن تكتسب أنهارُ الجنّة وأشجارها وأزهارها وتلك الألوان والعطور وتلك الأشربة الطاهرة ، لوناً وطعماً وشكلاً وعطراً جديداً في كل يوم وفي كل ساعة؟ فألوانها في حالة تبّدل دائم وهي في تغيّر مستمر ، تكتسي على الدوام بحلل جديدة بحيث لا يتكرر الطعام الواحد ولا المشهد الواحد على أهل الجنّة إلّامرة واحدة طوال حياتهم فيها! (فياله من مشهد عجيب!).

هناك بعض الآيات القرآنية والروايات التي تؤكّد ما ورد في هذا الباب منها : (كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ). (الرحمن / ٢٩)

وقد طرح المفسرون آراءً كثيرة متنوعة في تفسير هذه الآية ويشير كل واحدٍ منها إلى فعل من أفعال الله في مسألة خلق الناس وموتهم أو رزقهم وحياتهم أو عزّة ومذّلة الامم والأقوام أو غفران الذنوب وكشف الهموم أو جلب النفع ودفع الضر ، ولا شكّ أنّ لهذه الآية مفهوماً أوسع يشمل أي تغيير يطرأ على أوضاع العالم ، ونظراً لانعدام الدليل على تخصيص هذه الآية في مجال الدنيا ، بل وإنّ مجيئها بعد الآية الشريفة : (كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ* وَيَبقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكرَامِ). (الرحمن / ٢٦ ـ ٢٧)

٢٦٠