نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

يمكن اعتباره قرينة على استمرارية التغير والتبدّل في الدار الآخرة أيضاً ، وأنّ أصحاب الجنّة كل يوم في شأن بإرادة الله.

وقد اطلق بعض المفسرين عبارة «كل يوم» وأعطاها عمومية أوسع لتشمل أيّام الدنيا والآخرة كليهما معاً (١).

جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله خلق جنّة لم ترها عين ولم يطّلع عليها مخلوق ، يفتحها الرب تبارك وتعالى كل صباح فيقول : إزدادي طيباً! إزدادي ريحاً» (٢).

وورد حديث آخر أيضاً عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنَّ أهل الجنّة توضع لهم موائد عليها من سائر ما يشتهون من الأطعمة التي لا ألذّ منها ولا أطيب ، ثم يرفعون عن ذلك إلى غيره» (٣).

تُظهر هذه التعبيرات وبكل وضوح أنْ لا رتابة في الحياة هناك ، بل في كل لحظة نِعم وعطايا جديدة.

نختم حديثنا هذا بإشارة مقتضبة لأحد المفسرين حيث قال : «إنّ الآية تشير إلى تجلّي الحق في كل زمن فرد ونفس فرد على حسب المتجلّى له واستعداده ولا نهاية للتجلّيات» (٤). ولا شك في أنّ هذا الكلام لا يشمل كل مفهوم الآية ، بل يعبّر عن جزءٍ من مفهومها (فتأمل)!؟

٢ ـ أتعرف قيمة اللذة بفقدانها؟

من المعروف أنّ «الفقدان» يبرز أهميّة «الوجدان» وبعبارة أخرى : أنّ النعم الإلهيّة والعطاء الربّاني يُعرف عند زواله ، فلو لم يكن للمرض وجود في العالم لما عرف أحد قيمة الجوهرة الثمينة لنعمة السلامة ، ولولا الخوف لما عرفت قيمة وأهمية نعمة الأمان.

وعلى هذا فالجنّة التي تخلو من الفقدان والخوف والمرض والتعب ، ولا تعرف العوز

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٩٦.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٩٩ ، ح ١٩٨.

(٣). المصدر السابق ، ح ١٩٩.

(٤). تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٠٠.

٢٦١

والقحط ... الخ ، لن تعرف قيمة كل هذه النعم وستُنسى أهمّيتها بالتدريج ، ولن يكون هناك أي شعور باللذة.

والجواب عن هذا السؤال لا صعوبة فيه ، لأنّ أهل الجنّة مشرفون على أهل النّار وبإمكانهم الاطلاع على أوضاعهم ومقارنتها بما هم عليه ، وحين يرون هذا الفارق الشاسع يلتذّون بالنعم اللامتناهية التي يعيشون فيها.

تطرّق القرآن الكريم مرّات عديدة إلى اطلالة أهل الجنّة على أهل النّار ، فجاء قوله تعالى : (وَنَادَى اصْحَابُ النَّارِ اصْحَابَ الجَنَّةِ ان أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا انَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). (الأعراف / ٥٠)

وفي سورة الصافات تحدّثت عدّة آيات منها عن هذا المشهد قائلة : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالَ قَائِلٌ مِّنهُم انِّى كَانَ لِى قَرِينٌ) (فَاطَّلَعَ فَرآهُ فِى سَوَاءِ الجَحِيمِ* قَالَ تَاللهِ ان كِدتَّ لَتُرْدِينِ* وَلَولَا نِعمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الُمحْضَرِينَ). (الصافات / ٥٠ ـ ٥١ ، ٥٥ ـ ٥٧).

كما نقرأ أيضاً في سورة الأعراف : (وَنَادَى اصْحَابُ الْجَنَّةِ اصحَابَ النَّارِ ان قَد وَجَدْنَا مَاوَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُم حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَينَهُم ان لَّعنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). (الأعراف / ٤٤)

يُفهم من مجموع هذه الآيات أنّه لا أهل الجنّة يجهلون أوضاع أهل النّار ، ولا أهل النّار محجوبون عن أحوال أهل الجنّة ، فاطلاع أهل الجنّة يضاعف ما هُم فيه من السرور والنعمة لنجاتهم من ذلك العذاب الأليم ، ويسعدون لما يرفلون فيه من النعمة والرفاه ، وعلى العكس منهم أهل النّار إذ يتضاعف عذابهم عند إجراء مثل هذه المقارنة.

وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام حديث يقول : «ما خلق الله خلقاً إلّاجعل له في الجنّة منزلاً وفي النّار منزلاً ، فاذا سكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار نادى مناد ، ياأهل الجنّة اشرفوا ، فيشرفون على النّار وترفع لهم منازلهم في النّار ثم يقال لهم : هذه منازلكم التي لو عصيتم ربّكم دخلتموها ؛ قال : فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً

٢٦٢

لما صرف عنهم من العذاب ؛ ثم ينادون : يامعشر أهل النّار ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنّة فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم ، فيقال لهم : هذه منازلكم التي لو اطعتم ربّكم دخلتموها ...» (١).

وجاء في ذيل الرواية نفس هذا المعنى بشأن أصحاب النّار حينما يرون منازلهم في الجنّة فيكادون يموتون من الحسرة والغيظ.

ونُقل في تفسير الدر المنثور حديث مشابه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآلهولكن بشكل مختصر(٢).

إنّ وجود منزلين لكل إنسان يدل على الطبائع والاستعدادات الموجودة في كل إنسان بالقُوّة ، حيث يُحدّد منزله في الجنّة أو في النّار وفقاً لتلك الطبائع والاستعدادات ، ولا يتنافى هذا مع ماذكرناه سابقاً من أنّه يبني تلك المنازل بعمله ويكملها من جميع الجوانب ، ويخرج كل تلك الاستعدادات من حالة القُوّة إلى حالة الفعل ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ أهل الجنّة لا ينسون أبداً ذكريات الدنيا ، ويمكنهم معرفة قيمة وأهّمية كل هذه النعم والفضائل من خلال مقارنة أوضاعهم الحالية مع ما كانوا عليه في الدنيا.

ذكرت الآيات ما يأتي : (وَأَقبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا انَّا كُنَّا قَبلُ فِى اهلِنَا مُشفِقِينَ* فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ). (الطور / ٢٥ ـ ٢٧)

ويُظهر هذا التعبير أنّ أصحاب الجنّة يتذكرون معاناتهم في الدنيا وشقاءهم ويقارنون بينهما وبين ماهم فيه ، ومن الطبيعي أنّ هذه المقارنة تُظهر لهم بوضوح عظمة النعم التي يتنعّمون بها.

* * *

٣ ـ هل يوجد في الجنّة تكامل؟

رغم أنّ جواب هذا السؤال قد اتّضح إجمالاً من خلال الإجابة عن السؤال السابق ، لكن

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٢٥ ، ح ٢٦.

(٢). تفسير در المنثور ، استناداً لما ورد في تفسير الميزان ، ذيل آيات سورة الأعراف.

٢٦٣

من الضروري هنا البحث عن جواب أوسع ، فنقول : نعم إنّ التكامل موجود هناك قطعاً ولا يبقى أهل الجنّة يراوحون في أماكنهم ، بل هم يقتربون ـ بفضل الله ولطفه ورحمته ـ نحو ساحة قدسه يوماً بعد يوم ، ويواصلون سيرهم في التقدم صوب القرب إلى الله.

وليس مفهوم هذا الكلام وجود العبادات والطاعات والأعمال هناك ، لأنّ الجنّة ليست دار التكليف ، فالمقوّمات الأوّلية للتكليف معدومة هناك ، بل هم يواصلون مسيرتهم التكاملية في ظل أعمالهم المنجزة في الدنيا ، تماماً كالأشجار المثمرة التي يغرسها الإنسان مَرّة واحدة ، فتمتد جذورها وتخرج منها فروع وأغصان هنا وهناك حتّى تعم السهول والصحارى ، أو كسفينة الفضاء التي تحتاج في بداية انطلاقها وخروجها عن مجال جاذبية الأرض إلى طاقة عظيمة ، ولكنها بعد الخروج من هذا المجال تواصل حركتها ـ إذا لم تصطدم بمانع ـ من غير حاجة إلى أي وقود جديد.

وهناك آيات قرآنية تشير إلى هذه القضية ، وتتحدث عن أصحاب الجنّة كما هو في قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكرَةً وَعَشِيّاً). (مريم / ٦٢)

ويتضح جلياً من خلال الآيات السابقة لهذه الآية أنّ هذا الوصف ينطبق على جنّة الآخرة التي عبّرت عنها بكلمة «جنّات عدن» لا على جنّة البرزخ ، وهنا يتبادر سؤال إلى الأذهان وهو إذا كانت الآيات الشريفة تشير إلى أنّ أهل الجنّة لهم فيها ما يشتهون في أي وقت وزمان ، فما هي هذه العطايا والفضائل التي تُمنح لهم في كل بكرة وعشيّ؟

من المؤكد أنّها فضائل وأرزاق مادّية ومعنوية تقدّم لهم في هذه الأوقات ، إضافة إلى رفعهم نحو درجات أسمى وأعلى.

وورد حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يُلقي الضوء على هذا الموضوع يقول فيه : «وتأتيهم طُرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلّون فيها في الدنيا ، تسلّم عليهم الملائكة» (١) ، وهنا يثار سؤال آخر تُفرزه تعابير الآية ، فحينما لا وجود لليلٍ ولا نهارٍ في الجنّة فكيف تكون هناك بكرة وعشّياً؟

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ١٦ ، ص ١٠٣ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٤١٦٦ ، ذيل ، الآية مورد البحث.

٢٦٤

ويمكن الإجابة عن هذا السؤال كما يأتي :

إنّ الجنّة وإن كانت مضيئة بالنور دائماً إلّاأنّ ذلك ليس على وتيرة واحدة على الدوام بل هو في حالة توهّج وخفوت يتيح لأهل الجنّة تحديد الليل من النهار تماماً مثل المناطق القطبية التي تمر عليها ستّة أشهر كاملة والوقت فيها نهار ، إلّاأنّه يمكن تحديد الليل والنهار من خلال زيادة ونقصان درجة النور.

وبالنظر لاستعصاء هاتين القضيتين (قضية الرزق الجديد وقضية البكرة والعشي) على الكثير من المفسرين ، فقد طرحوا بشأنها آراءً وتبريرات متعددة تتعارض في الغالب مع ظاهر الآية ككونها كناية عن دوام النعمة ، حيث كان من المتعارف بين العرب أنّ من يملك طعام الصباح والمساء (البكرة والعشي) يُعتبر غنيّاً ، أو أنّ النعم الإلهيّة تأتيهم متوالية وبفواصل زمنية تعادل الليل والنهار في هذه الدنيا.

ومن الواضح أنّ جميع هذه الآراء تخالف ظاهر الآية ، أليس من الأفضل القول بوجود نوع من الليل والنهار الحاصلين من خلال اشتداد وانخفاض درجة الضياء ووجود نوع من الرزق مُستمد من فضل الله وألطافه ومبشّر بطيّ مسيرة التكامل ، بحيث ينطبق مع ظاهر الآية أو لا يتعارض معه كثيراً!؟

وهناك حديث نُقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «والذي أنزل الكتاب على محمد إنّ أهل الجنّة ليزدادون جمالاً وحُسناً كما يزدادون في الدنيا قباحةً وهرماً» (١).

وهذا الحديث يُظهر بوضوح التكامل التدريجي لأصحاب الجنّة وإن كانت فيه إشارة إلى الجوانب الجسمانية فقط ، لكن من البديهي أنّه يتضمن أيضاً الأبعاد الروحية من باب أَولى.

* * *

__________________

(١) علم اليقين ، ص ١٠٣ ، (استناداً على مانقله في المعاد ، كلام فلسفي).

٢٦٥
٢٦٦

النّار

١ ـ من هم أصحاب النّار؟

٢ ـ ماهية جهنّم

٣ ـ أبواب جهنّم وطبقاتها

٤ ـ العذاب الجسدي لأصحاب النّار

٥ ـ العذاب الروحي

٦ ـ خلود العقاب

٢٦٧
٢٦٨

١ ـ من هم أصحاب النّار؟

تمهيد :

رغم أنّ القاعدة تستوجب التحدّث أولاً عن ماهية النّار وأوصافها ومن ثم الانتقال إلى الحديث عن أصحاب النّار ، ولكن بما أنّ اسلوب القرآن وسنّته قد دأبا على التركيز أكثر مايمكن على الأبعاد التربوية والنتائج الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية في مثل هذه البحوث ، فإننا ـ واتباعاً لهذا النمط الإيجابي ـ سنبدأ أوّلاً بمن يستحق هذه العقوبة العظمى حتّى نقف على منطق الإسلام في هذا الصدد من خلال استقراء الآيات التي تتحدث عن أصحاب النّار.

كثيرة هي الآيات الواردة بشأن أهل النّار وسوف نأتي بمثال عن كل قسم ونأتي بشاهد ومصداق عن كل موضوع.

ويتّضح بجلاء من خلال مضامين هذه الآيات أيضاً تفاوت الذنوب ودرجات قبح المعاصي.

بعد هذه المقدمة الوجيزة نعود إلى القرآن كي نلاحظ الأقسام المختلفة لأصحاب النّار في ضوء ما ورد في الآيات القرآنية.

* * *

١ ـ الكُفّار والمنافقون

إنّ أول فئة تأخذ طريقها إلى النّار هم الكفار والمنافقون ، يقول القرآن الكريم : (انَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء / ١٤٠)

٢٦٩

وفي قوله تعالى : (وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ). (التوبة / ٤٩)

وجاء : في قوله تعالى : (انَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً). (النساء / ٤٥)

وفي الحقيقة أنّ أهم وأوسع مصدر للمعاصي والذنوب هو الكفر والنفاق وعدم الإيمان ، لأنّ الإنسان إذا لم تشرق أعماق نفسه بنبراس الإيمان ولم يتطهر من الشرك والكفر والنفاق فلن تكون لديه أيّة دوافع نحو عمل الخير وستتغلب عليه النزعات المادية والشهوانية فقط ، ولا يخفى على أحد طبيعة الظواهر الناتجة عن سيطرة مثل هذه الدوافع ، فنحن نرى أمثلة منها في الجرائم التي يرتكبها المجرمون في عالم اليوم.

«الكفر» : يعني تغطية الحق ، و «النفاق» يعني التظاهر بعكس ما يبطن (التظاهر بالإيمان واستبطان الكفر) ، وهما أهم الموانع في طريق الإصلاح في المجتمعات الإنسانية ، لذلك ركّزت الآيات المتعلّقة بالجنّة والنّار على هاتين الفئتين.

* * *

٢ ـ الصد عن سبيل الله

يُقسِّم القرآن الكريم الناس من زاوية موقفهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والآيات القرآنية إلى فريقين ، فيقول : (فَمِنهُم مَّن آمَنَ بِهِ وَمِنهُم مَّن صَدَّ عَنهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً). (النساء / ٥٥)

وقد أكثرت الآيات الشريفة من التهديد والوعيد لهذا الفريق «الذين يصدون عن سبيل الله» ، وهو الفريق الذي لا يضل نفسه فقط بل ويعمد إلى إضلال جميع الناس ، وكأنّه يجد لذّته في هذا العمل ، بل ويرى مصالحه اللامشروعة في كفر الناس وعدم إيمانهم ، وذلك لأنّ المجتمع المؤمن المعتقد بالقيم الإلهيّة السامية لا يخضع أبداً للفراعنة وشياطينهم وأحزابهم ، فالطريقة الوحيدة إذن للتسلّط على أيّ مجتمع تكمن في سلب جوهر الإيمان من قلوب أبنائه ، وتاريخ الشعوب حافل بأمثال هذه المساعي المحمومة لهذا الفريق من أجل إضلال الناس ، واليوم أيضاً تنصبُّ جهود جميع الدول والمؤسسات الاستكبارية في

٢٧٠

العالم على سلب الشعوب إيمانها بالله وبالقيم الرّبانية حتّى لايكون ذلك عائقاً أمام تحقيق أهدافهم وخدمة مصالحهم.

* * *

٣ ـ ترك طاعة الله وشق عصا المسلمين

جاء في قوله تعالى : (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيْهَا ابَداً). (الجن / ٢٣)

وينص القرآن الكريم في الآية الكريمة : (وَمَن يُّشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيراً). (النساء / ١١٥)

كلمة «يشاقق» مأخوذة من «الشقاق» وتعني المخالفة العمدية المصحوبة بالعداوة ، وتدل جملة : «مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى» أنّ مخالفته نابعة من العناد وتهدف إلى إيجاد الفرقة بين صفوف المسلمين.

* * *

٤ ـ الاستهزاء بآيات الله

بالنظر لأنّ الاستهزاء بآيات الله يحمل دلالة على الكفر وعدم الإيمان والكفر من موجبات دخول النّار ، لذلك فإنّ الآيات القرآنية أكدّت عليه كثيراً واعتبرته أحد الأسباب الأساسية التي تنتهي بالانسان إلى النّار ، وهذا ما عبّرت عنه الآية الشريفة : (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً) (١). (الكهف / ١٠٦)

إنّ الاستهزاء بالحق نابع ـ كما هو متعارف ـ من الجهل والعناد والتعصّب والكفر المقرون بالبغض والعداوة ، وكل واحد من هذه المفاهيم باب من أبواب جهنّم ، لهذا فلا عجب أن

__________________

(١). ورد ما يشابه هذا المعنى في الآيتين ٩ ، ٣٥ من سورة الجاثية.

٢٧١

ينتهي مصير المستهزئين ـ الذين كان الأنبياء وأولياء الله في صراع معهم ـ إلى جهنّم أو أدنى دركات الجحيم.

* * *

٥ ـ عدم الاستفادة من العقل والعين والأذن

والفريق الآخر الذي يستحق دخول جهنّم هم الذين اغلقوا على أنفسهم أبواب المعرفة ، فعطلوا العقل الذي منحه الله لهم ، وأغمضوا أعينهم ، وسدوا آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت الحق ولا يروا وجه الحقيقة الناصع ، ولكي لا يفكّروا بما يوجب الوعي واليقظة ، تقول الآية الكريمة : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالْانسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ اعيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسمَعُونَ بِهَا اولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم اضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ). (الأعراف / ١٧٩)

ومن الواضح أنّ هذا الخلق ليس جبرياً ، وما يقوله بعض انصار مذهب الجبرية مثل «الفخر الرازي» ومايستدّلون به لِاثبات مذهبهم ، عارٍ عن الصحّة تماماً ، وذلك لأنّ جوابه قد ورد ضمن الآية التي يقول تعالى فيها إننا وفّرنا لهم جميع مستلزمات المعرفة (كالعقول لإدراك المعقولات ، والعيون لمشاهدة القضايا المحسوسة ، والآذان لنيل العلوم النقلية) إلّا أنّهم لم يستعملوا تلك المستلزمات ولم يسفيدوا منها (تأمل)؟! ولهذا يقول في وصفهم أنّهم كالحيوانات بل أدنى منها درجة ، وذلك لأنّ الحيوان إنْ قَصُر عن فهم شيء فذلك ليس تقصيراً منه ، بل لعدم امتلاكه لمستلزمات ذلك ، والأضل من الحيوانات هو من يمتلك كل هذه الأسباب والعوامل مع توفّر الظروف اللازمة ولكنه لا يستفيد منها ، والعامل الأساس لكل هذه الامور هو الغفلة التي اشير إليها في ذيل الآية : (اولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) ، وجاء نظير هذا المعنى في سورة الملك ، ، خلال إجابة أهل النّار عن تساؤلات خزنة النّار وملائكة العذاب : (وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَاكُنَّا فِى اصْحَابِ السَّعِيرِ). (الملك / ١٠)

إنَّ علل كل هذا الشقاء الذي يرزح فيه الإنسان وسبب كل هذه المفاسد يكمن في عدم

٢٧٢

استخدام ابن آدم لعقله وأُذنيه وعينيه ولا يستغل هذه النعم الإلهيّة الكبرى في سبيل المعرفة ، فالله تبارك وتعالى قد حباه تلك النعم ومستلزمات المعرفة وأسبابها فهو ـ أي الإنسان ـ يمتلكها ولكنه لا يستفيد منها.

* * *

٦ ـ اتباع الشيطان

ومن العوامل المهمّة في دخول النّار (مركز الغضب الإلهي) هو الاستسلام للشياطين والانقياد لإرادتهم وتسليم زمام الامور لهم ، كما تصف ذلك الآية الكريمة : (قَالَ اخْرُج مِنْهَا مَذءُوماً مَّدحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنهُم لَأَمْلَئَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ اجْمَعِينَ). (الأعراف / ١٨)

ومع أنّ الآية تتحدث عن رأس الشياطين ابليس ، إلّاأننا نعلم أنّ خط الشياطين كلهم واحد ، فهم في كل مكان يسيرون على خُطى ابليس ، واتّباع خُطى شياطين الجن والانس يُعد اتباعاً لِابليس ، ومصير كل هؤلاء الأتباع دخول النّار.

فهم يخدعون من يتبعهم بالآمال الكاذبة وتزيين الشهوات والدعوة إلى المعاصي ، والصد عن الخير والتشجيع على الانحراف ، ويصدونهم عن سبيل الله ، فيوقعونهم في نار قهره وغضبه (١).

* * *

٧ ـ الطغيان والتكبر

إنّ (التكبّر) من أسباب دخول النّار ، سواءً كان التكبر على الله سبحانه وتعالى أم على الخلق ، أم عدم الاذعان والتسليم للحق ، والطغيان أيضاً مصدر رئيس للكثير من الجرائم والمظالم وسلب الحقوق ، لذلك فهو يؤدّي بالإنسان ـ كما هو الحال في التكبر ـ إلى دخول النّار.

__________________

(١). ورد مضمون هذا المعنى في الآية ٢١ من سورة لقمان ؛ وأيضاً الآية ٢٢ من سورة ابراهيم.

٢٧٣

يقول القرآن الكريم : (الَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثوىً لِّلمُتَكَبِّرِينَ). (الزمر / ٦٠)

ويقول كذلك : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكبَرُوا عَنهَا اولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (١). (الأعراف / ٣٦)

وكذلك جاء هذا المعنى في آيات اخرى من القرآن الكريم في وصف الجبّار العنيد : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ). (إبراهيم / ١٥ ـ ١٦)

لكلمة «الجبار» معان متعّددة : منها : القهر والتسلط والغلبة والنفوذ ، إلّاأنَّ لهذا الأمر جانباً رحمانياً أحياناً ، مثل سلطة الله على عالم الوجود وعلى كل شيء فيه ، وله أحياناً جانب شيطاني ، كسلطة وغلبة الطغاة والمتجبّرين.

و «العنيد» : على حد قول صاحب كتاب لسان العرب : «الجائر عن القصد الباغي الذي يَرُدّ الحق مع العلم به» ، وكل هذا من نتائج الكبر والغرور والتعالي ، ولو أمْعنّا النظر قليلاً لوجدنا أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية هي واحدة من أهم الحُجب المانعة للمعرفة ومن عوامل إضلال الإنسان ، وسلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم ، وأنواع الذنوب الاخرى(٢).

* * *

٨ ـ الظلم والجور

ورد في الكثير من آيات كتاب الله تهديد للظلمة بنار جهنّم ، والتعابير التي وردت بشأنهم قلّما وردت بشأن فئة اخرى ، وهذا يعكس مدى الأهميّة التي أولاها الإسلام لمواجهة الظلم والحث على التخلي عنه. وقد وردت أشدّ التهديدات في قوله تعالى : (انَّا اعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً احَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وانْ يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِى الوُجُوهَ

__________________

(١) ورد شبيه هذا المعنى في الآيات ٦٠ ، ٧٢ ، ٧٦ من سورة غافر ؛ والآيتين ٤٠ ، ٤١ من سورة الأعراف ؛ والآيتين ٢١ ، ٢٢ من سورة النازعات ؛ والآيتين ٥٥ ، ٥٦ من سورة ص.

(٢). ورد مايشابه هذا التعبير في الآية ٢٤ من سورة ق ؛ والآية ١٦ من سورة المدّثر.

٢٧٤

بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرتَفَقاً). (الكهف / ٢٩)

وهناك تعبير آخر شديد اللهجة أيضاً ورد أيضاً في قوله تعالى : (وَامَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (الجن / ١٥)

ويبيّن هذا التعبير أنّ نار جهنّم تستعر في داخل نفوسهم ، وكما كانوا في هذه الدنيا ناراً محرقة للمظلومين ، يتحول كيانهم هناك في عالم تجسيد الأعمال إلى قطعة من نار ، ولا تعبير أبلغ وأفصح من هذا التعبير بشأن القوم الظالمين (١).

* * *

٩ ـ الركون إلى الظالمين

ليس الظلم وحده يؤدّي إلى ورود جهنّم المتوقدة بنار الغضب الإلهي ، بل الركون إلى الظالمين واعانتهم يؤدّي إلى ذلك أيضاً ـ كما صرح بذلك القرآن الكريم ـ وقد جاء في الآية الشريفة : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِنْ اوْلِيَاءَ ثُّمَ لَا تُنصَرُونَ). (هود / ١١٣)

كلمة (تركنوا) مشتقة من مصدر (الركون) والذي يعني في رأي أصحاب اللغة الاتكال على الشيء والميل إليه ، وهو مايستلزم اتصافه بالقوة والمقدرة ، لأنّ الإنسان يتوكّل ويعتمد على ما فيه القدرة ، ولذلك تطلق كلمة «الركن» على العمود أو الجدار الذي يُقام عليه البناء أو الأشياء الاخرى (٢).

وتحمل الآية أعلاه عنواناً عاماً يطلق على كل الظلمة ، وتشتمل أيضاً من خلال تعبير (الركون) على أيَّ نوع من أنواع الارتباط والاعتماد على الظالمين ، وتقول إنّ الجميع سيقعون في نهاية المطاف في قبضة العذاب الإلهي ، بل وإنّهم حتّى في هذه الحياة الدنيا لا

__________________

(١). ورد نفس هذا المعنى في سورة سبأ ، ٤٢ ؛ الزخرف ، ٦٥ ؛ آل عمران ، ١٥١ ؛ المائدة ، ١٢٩ ؛ إبراهيم ، ٢٢ ؛ مريم ، ٧٢ ؛ الأعراف ، ٤١ ؛ الأنبياء ، ٢٩ ؛ والشورى ، ٤٥.

(٢). مصباح اللغة ؛ صحاح اللغة ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٧٥

يجنون غالباً سوى الفشل والخسران والشقاء لأنّ الظالم حين يقوى لا تأخذه رأفة ولا رحمة على غيره.

وعلى أيّة حال ، فإذا كان الركن الذي يُعتمد عليه سبباً لمثل هذا الشقاء فمن البديهي ـ ومن باب أولى ـ أن تكون تقوية الظلمة وإعانتهم سبباً لدخول الإنسان النّار ، ولهذا السبب فقد شدّدَ القرآن في النهي ، وبكل صراحة ، عن أي تعاون ومساعدة على الظلم ، وقال : (وَلاتَعاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدوَانِ). (المائدة / ٢)

وقد انذرت الروايات الإسلامية بأشد العذاب والجزاء لمن يكون سبباً في تقوية وتعزيز الظالم بأي شكل من الأشكال ، حتى فيما لو وضع بين يديه القلم أو الدواة لكتابة حكم فيه أي ظلم ، وسنأتي على تبيان ذلك بإذن الله في الموضع المناسب.

* * *

١٠ ـ نسيان الآخرة

تتحدث سورة الجاثية عن هذا الجانب وتقول : (وَقِيلَ اليَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَومِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَالَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ). (الجاثية / ٣٤)

لا شك في أنّ نسيان محكمة العدل الإلهي في يوم القيامة يعتبر مصدر أنواع الذنوب والمعاصي ، والانغماس في مستنقع الظلم والرذيلة والفساد ، وهذه الأعمال تؤدّي إلى أن يعاملهم الله معاملة الناسين ، ولا شك أنّ احاطة الله بكل شيء وعلمه بكل شيء وفي كل زمان تجعل من مفهوم نسيانه أمراً لا معنى له ، لكنه يعامل الناسين معاملة النسيان ، أي أنّه يقطع عنهم بالكامل لطفه ورحمته ، فتنغلق عليهم كل سبل النجاة ، ولا يبقى أمامهم سوى هاوية جهنّم (١).

* * *

__________________

(١) ورد نفس هذا المعنى في سورة ص ، ٢٦ ؛ السجدة ، ١٤.

٢٧٦

١١ ـ حبّ الدنيا

حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ، ومن العوامل المهمّة في إلقاء الكثير من الناس في نار جهنّم ، كما صرّح بذلك قوله تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مانَشَاءُ لِمَن نُّريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذمُوماً مَّدحُوراً). (الاسراء / ١٨)

أي إنَّ الأمر ليس بهذه الدرجة من البساطة بحيث ينال أهل الدنيا كل مقاصدهم منها ، بل قد يلجأون إلى الآف الحيل والمساعي ، بل ويضطرون إلى ارتكاب الجرائم والمعاصي من أجل بلوغ بعض من اغراضهم ، لكن جهنّم لهم بالمرصاد ، فتحرق أجسادهم وأرواحهم أيضاً بحكم كونهم «مذمومين» و «مدحورين» ومطرودين من رحمة الله (١).

* * *

١٢ ـ اكتناز الذهب

إنّ اكتناز الذهب وإن كان يُعَدُ واحداً من مظاهر حب الدنيا ، لكن القرآن الكريم قد أكّد عليه وخصّه بالذكر بأعتباره واحداً من الأسباب التي تؤدّي ببني آدم إلى دخول نار جهنّم ، حيث قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ الِيمٍ* يَوْمَ يُحمَى عَلَيهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُم فَذُوقُوا مَاكُنتُمْ تَكنِزُونَ). (٢) (التوبة / ٣٤ ـ ٣٥)

تحتوي هذه الآية على نقاط وبحوث متعددة سنشير إليها في موضعها المناسب ، أمّا ما ينبغي الإشارة إليه هنا فيتلخّص في نقطتين :

الاولى : إلى أي حدّ يُعتبر جمع الثروة اكتنازاً؟ وهذا الموضوع مُختلف فيه كثيراً بين المفسّرين ، وما ورد في الكثير من الروايات عن الشيعة وأهل السنّة ، واتّفقت عليه آراء الكثير من المفسّرين هو : أنَّ المال الذي تؤدّى زكاته لايُعتبر كنزاً (أيُّ مال ادّيت زكاته فليس بكنز) (٣).

__________________

(١). ورد نظير هذا المعنى في سورة النازعات ؛ ٣٨.

(٢). ورد نفس المعنى في سورة الهمزة ، ٢ إلى ٦ ؛ وسورة مسد ، ٢ ـ ٣ ؛ وسورة الحاقة ، ٢٨ إلى ٣١.

(٣). لمزيد من الايضاح راجع التفسير الأمثل ذيل الآية ٣٥ من سورة التوبة.

٢٧٧

ولكن في الظروف الاستثنائية وحين توجب مصالح المجتمع الإسلامي على الحكومة الإسلامية تعيين حدود جمع الثروة ـ كما ورد في بعض الروايات عن علي عليه‌السلام ـ أو يكون الاجراء أبعد من ذلك فيعلن في ظرف خاص عن وجوب صرف جميع المدّخرات والذخائر حفاظاً على وجود المجتمع الإسلامي (كما ورد في بعض الروايات بشأن قيام الإمام المهدي «عج»). لكن لا تُعتبر النقاط المذكورة قاعدة عامّة ، والقاعدة العامة الأساسية هي ماذكرنا في بداية الموضوع.

الثانية : لماذا تقول الآية تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم؟ لعلَّ ذلك يعود إلى ردود الفعل التي تصدر منهم تجاه المحرومين والفقراء فهم أولاً يعبّسون ويقطّبون الجبهة ، ومن ثم يظهرون اللامبالاة فيصدّون عنهم ومن بعد ذلك يديرون لهم الظهور ، ولذلك تكوى بالترتيب جباههم ثم جنوبهم ثم ظهورهم بنفس تلك المسكوكات كما كانوا يكوون قلوب المساكين والفقراء.

* * *

١٣ ـ الفرار من الزحف

نحن نعلم أنّ الإسلام يعتبر هذا الذنب من أكبر الذنوب فهو يؤدّي إلى اندحار وذلّة وشقاء المسلمين ويستوجب أشد العقوبات وهنا يصرح القرآن : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذَا لَقِيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الادبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزاً الَى فِئَةٍ فَقَد بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ). (الانفال / ١٥ ـ ١٦)

«الزحف» : وفقاً لرأي أصحاب اللغة (١) يعني في الأساس الحركة المصحوبة بجر الأرجل على الأرض كحركة الطفل في بداية تعلمه للمشي ، أو كسير الجمل عند شدّة التعب ثم استعملت هذه الكلمة لتعني حركة المجاميع الكبيرة من الناس لأنّهم يبدون لكثرتهم وكأنّهم ينزلقون على الأرض في مشيهم ويتقدمون نحو الإمام.

__________________

(١). مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٧٨

وعلى أيّة حال ، تحمل هذه الجملة إشارة إلى أنّ قوّة العدو مهما كانت كبيرة فلا ينبغي التراجع أمامها أو الفرار من ساحة المعركة عند المواجهة ، إلّابأمر القائد.

ومن الواضح أَنَّ حرمة الفرار من الزحف يعتبر قانوناً إسلامياً عاماً ، وأمّا قول بعض المفسرين الذين اعتبروه خاصاً بمعركة بدر دون سواها فهو قول لا دليل على صوابه كما اشير إليه في تفسير الميزان (١) ، ولا سيما أنّ هذه الآية قد نزلت بعد معركة بدر (٢). إذن فالفرار من الجهاد من موجبات دخول النّار.

* * *

١٤ ـ قتل الأبرياء

إنّ الإسلام يكن احتراماً كبيراً لدماء الناس إلى درجة اعتبر معها قتل الواحد وكأنّه قتل لجميع الناس : (مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). (المائدة / ٣٢)

واعتبر إراقة دم المؤمن تستحق الغضب الإلهي والعذاب العظيم : (وَمَن يَقتُل مُؤمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَاعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً). (النساء / ٩٣)

وبهذا فقد انذر قاتل المؤمن بأربع عقوبات كبرى وهي : ١ ـ الخلود في جهنّم ، ٢ ـ غضب من الله ، ٣ ـ لعنة من الله ، ٤ ـ العذاب العظيم ، وهذا أقصى ما أظهره الإسلام إزاء احترام دم المؤمن ، لأنّه لا يوجد في القرآن أي موضع يشتمل على مثل هذه العقوبة (٣).

* * *

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ٣٧.

(٢). ورد ما يشابه هذا المعنى في بعض جوانبه في الآية ٨١ من سورة التوبة.

(٣) ورد نفس المعنى بصيغة اخرى في الآية ٢١ من سورة آل عمران.

٢٧٩

١٥ ـ ترك الصلاة

تحظى الصلاة بقدر عظيم من الأهميّة ، وقد وردت بشأنها الكثير من الآيات والروايات التي تشيد بمكانتها وخاصة في الكتب الإسلامية الشهيرة ، وعَدّ القرآن الكريم ترك هذه الفريضة من موجبات الهلاك ودخول النّار ، حيث يقول في وصف جماعة من أصحاب الجنّة يحادثون جماعة من أصحاب النّار فيقولون لهم : (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ)؟ فيأتيهم الجواب : (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ* وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ). (المدثر / ٤٢ ـ ٤٦)

ورغم وجود ثلاثة ذنوب اخرى في الآية أعلاه إضافة إلى ذنب ترك الصلاة ، لكن التركيز عليها وجعلها في البداية يعكس مدى خطورة ترك هذه الفريضة الإلهيّة ، إضافة إلى أنّ أيّاً من هذه الامور الأربعة كاف لوحده لإلقاء الإنسان في النّار (ويبدو أنّ المقصود من عدم إطعام المسكين هو منع الحقوق الواجبة).

وللصلاة من وجهة نظر الإسلام مكانة رفيعة ، ونقلت بعض الروايات المعروفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منها : «إذا كان يوم القيامة يدعى بالعبد فأول شيء يسأل عنه الصلاة فاذا جاء بها تامة وإلّا زُخَّ في النّار» (١).

ولعل السبب الكامن وراء ذلك هو أنّ الصلاة هي الشريان النابض بالإيمان ، منها ينبع الإيمان وبها يتواصل ويستمر ، وبتركها تتزعزع أركان الدين والإيمان ، ولا يخفى أنَّ أحد شروط قبول الأعمال ، وجود الإيمان ، فلا يقبل عمل إلّابوجوده.

* * *

١٦ ـ عدم ايتاء الزكاة

الزكاة من أركان الإسلام الأساسية وتركها من أكبر الذنوب ونلاحظ أنّ القرآن قد جعل منعها في مصاف الشرك وتكذيب المعاد ، وهذا يعني أنّها من دواعي دخول النّار ، حيث

__________________

(١). وسائل الشيعة ، ج ٣ ، كتاب الصلاة ، الأبواب ٦ و ٧ و ٨ وخاصّة ص ٢٢ ، ح ١٠ ؛ ص ١٩ ، ح ٦.

٢٨٠