نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

١
٢

٣

٤

البحث عن عظمة الله ومعرفته في القرآن الكريم

أسئلة مهمة ومصيرية :

الكل يريد أن يعرف أجوبة هذه الأسئلة :

من أين جئنا؟

أين نحن؟

وإلى أين نذهب؟

وبالطبع فثمة سؤال مهم آخر إلى جانب هذه الأسئلة الثلاثة وهو :

«لماذا جئنا؟» هل كان لمجيئنا غاية؟ وإن كانت له غاية فما هي؟.

وما هي الوسائل المتوفرة لدينا من أجل الوصول إلى هذه الغاية؟

من هو المُبدىء الأصلي لهذا العالم ، ومن أين نَبَعَ عالم الخلقة؟

وأخيراً ، هل هناك طريق لمعرفة هذا المُبدىء الكبير؟

هذه هي أهم أسئلة البشر.

* * *

إنّ الذين لا يرون ضرورة في العثور على أجوبة هذه الأسئلة هم الغرقى في الحياة المادية اليومية إلى درجة أنّهم لا يفكرون في شيء سوى «النوم والأكل واللذة الجنسية» ، فهم كالأنعام لا علم لهم «بالعالم الإنساني».

أو أنّهم سعوا وحاولوا العثور على جواب هذه الأسئلة لكنهم لم يصلوا إلى شيء ، فيئسوا وكفوا عن البحث.

٥

وإنطلاقاً من أنّ «السؤال» هو الدافع «للحركة» دائماً ، الحركة نحو الإجابة ، وأنّ الأسئلة كلما كانت متنوعة وعميقة كانت الحركة أوسع وأكثر تجذراً ، لهذا يجب أن تستقبل الأسئلة المهمّة بصدور واسعة ، ولا نخشَ كثرة الأسئلة وأهميّتها ، بل نستقبلها بكل رحابة صدر.

ويمكن أن تكون محصلة عمر الإنسان ليست في الحقيقة شيئاً سوى العثور على أجوبة الأسئلة ، وأنّ نتيجة جهود كل علماء العالم والفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بلا استثناء هي الأجابة عن بعض هذه الأسئلة.

يحاول علماء الفلك أن يشرحوا كيفية ظهور السماوات والنظام الذي يحكمها.

وعلماء الجيولوجيا يجيبون على الأسئلة ذات العلاقة بظهور الأرض وتركيبها.

وعلماء الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي وكل الذين يدرسون العلوم الإنسانية والاجتماعية يريدون أن يعثروا على أجوبة الأسئلة المتعلقة بهذا الموجود العجيب المسمى ب «الإنسان».

ويريد الفلاسفة بمساعيهم المتواصلة أن يطلعوا على حقيقة المُبدىء ومصير العالم ـ إلى الحد الذي يستطيع عقل البشر أن يصل إليه ـ أو الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا المجال على الأقل.

نستنتج ممّا ذكرناه أنّه إن كان البحث حول «الخالق لعالم الوجود» ومبدأ هذا العالم الكبير الذي نعيش فيه من أقدم البحوث وأرسخ الأسئلة الإنسانية ، فليس ذلك أمراً عجيباً.

ولهذا نرى من واجبنا السعي بقدر استطاعتنا للعثور على جواب هذه الأسئلة :

من هو مُبدىء عالم الوجود؟ وكيف يمكن معرفته؟!

* * *

٦

دوافع البحث عن عظمة الله

١ ـ الدافع العقلي

٢ ـ الدافع العاطفي

٣ ـ الدافع الفطري

٧
٨

١ ـ الدافع العقلي

تمهيد :

قلنا إنّهُ لا توجد حركة بدون حافز أو دافع ، وبالطبع فلا يمكن للحركة في طريق معرفة مُبدىء عالم الوجود أن تكون بلا حافز ، ومن هنا يذكر الفلاسفة والعلماء ثلاثة دوافع أساسية للبحث عن الله ، وجميعها أشار إليها القرآن الكريم إشارات واضحة.

١ ـ الدافع العقلي.

٢ ـ الدافع العاطفى.

٣ ـ الدافع الفطري.

وللبعض من هذه الحوافز فروع خاصة بها.

لنبتدأ أولاً بـ «الحافز العقلي» ونتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه :

١ ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اسْتَجِيْبُوا للهِ وَلِلرَّسُوْلِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيْكُمْ). (الانفال / ٢٤)

٢ ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ إِذ بَعَثَ فِيْهمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِيْنٍ). (آل عمران / ١٦٤)

٣ ـ (لَقَدْ أَرْسَلُنَا رُسُلَنَا بِالْبيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ). (الحديد / ٢٥)

٤ ـ (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتى كَانَتْ عَلَيْهِمْ). (الأعراف / ١٥٧)

٩

٥ ـ (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعَوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ... فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ). (الشعراء / ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٧)

٦ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ انْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ). (فصلت / ١٣)

٧ ـ (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذْيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ). (سبأ / ٤٦)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

التحقيق من مسؤوليات الإنسان الأساسية :

الإنسان يحب الكمال ، ويعتبر هذا الحب خالداً عند كل الناس ، يبقى أنّ كل إنسان يرى كماله في شيء معين ، فيذهب نحوه ، والبعض يذهبون وراء السراب يحسبونه ماءً ويلهثون خَلْفَ القيم الوهمية والكمالات الخيالية ويتصورونها واقعاً.

قد يسمى هذا المبدأ أحياناً بـ «غريزة حب المنفعة ودفع الضرر» التي يجد الإنسان نفسه على ضوئها بأنّه ملزم أن يكون له تعامل جاد مع كل موضوع يتعلق بمصيره (بلحاظ النفع والضرر).

لكن إطلاق تعبير «غريزة» على هذا الحب يعدّ تعبيراً غير صحيح ، فالغريزة عادة تطلق على أمور تؤثر في أفعال البشر أو باقي الأحياء بدون تدخل التفكير ، ومن هنا تستعمل بالنسبة للحيوانات أيضاً.

وَعلى هذا الأساس فمن الأفضل أن نستخدم تعبير «الرغبات السامية» التي استعملها البعض لمثل هذه الموارد.

وعلى كل حال ، فالحب للكمال والميل نحو المصالح المعنوية والمادية ودفع كل أنواع الضرر يجبر الإنسان على التحقيق حتى في مواضع الاحتمال ، وكلما كان هذا الأحتمال أقوى ، وذلك النفع والضرر أعظم ، كان التحقيق والبحث أكثر ضرورة.

١٠

من المستحيل أن يحتمل شخص تأثير أمر مهمّ في مصيره ، ولا يرى من واجبه التحقيق حوله.

وقضية الإيمان بالله والبحث عن الدين تعتبر من هذه القضايا بلا شك ، لأنّ هنالك في محتوى الدين كلام عن القضايا المصيرية ، وعن القضايا التي يرتبط خير وشر الإنسان بها ارتباطاً وثيقاً.

البعض يذكر مثالاً من أجل إيضاح هذا الموضوع ، فيقول : لنفترض أننا نجد إنساناً واقفاً على مفترق طريقين ونسمعه يقول بقطع ويقين : إنَّ البقاء هنا خَطَرٌ ، واختيار هذا الطريق (إشارة إلى أحد الطريقين) هو الآخر خطر ، والطريق الثاني هو طريق النجاة ، ثم يذكر قرائن وشواهد لكل ما قاله ، فما من شك أن أي عابر سبيل يرى نفسه ملزماً بالتحقيق ويعتقد أنّ اللامبالاة تجاه هذه الأقوال مخالفة لحكم العقل ، وبلحاظ هذه المقدمة ننتقل إلى تفسير الآيات.

* * *

إنّ أول آية من الآيات المعنية بالبحث تَعتبر دعوة رسول الله إلى الإسلام دعوةً إلى العيش والحياة الحقيقية ، وَتدل هذه الدعوة على أنّ بالإمكان جمع كل محتوى الإسلام في مفهوم «الحياة» ، الحياة التي تشمل الحياة المعنوية وتشمل الحياة المادية ، الحياة الشاملة والجامعة.

مع أنّ البعض فسر معنى الحياة هنا بأنّه بخصوص «القرآن» أو «الأيمان» أو «الجهاد» (١) ، لكن ممّا لا شك فيه أنّ الحياة مفهوم واسع يشمل كل هذه العناوين المذكورة وكل ما هو مؤثر في حياة الإنسان المعنوية والمادية.

وعلى كل حال ، إذا دعانا شخص بمثل هذه الدعوة فهل يمكن أن نغض الطرف عن

__________________

(١) ذكرت هذه الاحتمالات عن المفسرين في تفسير الكبير ، ج ١٥ ص ١٤٧ ؛ وتفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ٤٣ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٨ ، ص ١٦٩ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٤ ص ٢٨٢٥.

١١

دعوته ولا نرى من مسؤوليتنا حتى التحقيق في هذه الدعوة؟.

هنا يريد القرآن بهذا التعبير أن يُوجد حافز الحركة نحو التحقيق حول الدين لدى كل من له القابلية على هذه الحركة.

يقول الراغب في كتاب «المفردات»: إنّ حقيقة «الاستجابة» هي السعي والقابلية على استلام الجواب، ولأنّ هذا الموضوع ينتهي عادةً بالجواب فقد فسروه بمعنى «الاجابة»(١).

* * *

الآية الثانية تعدُّ بعثة الرسول من أعظم النعم الإلهيّة التي منحها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين ، ثم تذكر في تفسير هذه النعمة ثلاثة برامج مهمّة للرسول : تلاوة الآيات الإلهيّة :

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، والتزكية والتربية : (وَيُزَكِّيِهمْ) ، وتعليم الكتاب والحكمة («وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ).

ونتيجة كل هذه البرامج هي النجاة من «الضلال المبين» : (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبَيْنٍ).

إنّ كل هذه التعابير هي من أجل إحياء محفزات الحركة نحو الأسلام لدى الناس ، أو على الأقل من أجل أن يرى كل إنسان نفسه ملزماً بالتحقيق حول الإسلام لأنّه من الممكن أن يكون اكبر نفع وضرر للإنسان كامناً في هذا التحقيق.

«المِنّة» : من مادة «مَن» وهي في الأصل كما يعتقد البعض بمعنى القطع ، لهذا فإن : (أجرٌ غير ممنون) بمعنى الثواب الذي لا ينقطع أبداً ، وكذلك يقال لنوع من الاصماغ والترشحات ذات الطعم الحلو والتي تشاهد كالقطرات الصغيرة مستقرة على أوراق الأشجار تشبه قطرات الندى ، يقال لها «المن».

ولكن يعتقد الراغب أنّ «المن» في الأصل بمعنى الحجر الذي يَزِنون به ، والذي أطلق

__________________

(١) ولكن يجب الالتفات إلى أنّ «الإجابة» تكون فعلاً متعدياً بدون حرف الجر ، في حين أنّ «الاستجابة» تذكر غالباً مع حرف اللام.

١٢

فيما بعد على النعم الكبيرة الثقيلة.

وحينما تستخدم هذه المفردة في القاموس الإلهي فتعني «منح النعم» وحين تستخدم في قاموس البشر فتعني غالباً التحدث بالنعمة التي يجزلها الإنسان لغيره ، من هنا كان معناها الأول إيجابياً والثاني سلبياً ومذموماً.

* * *

الآية الثالثة تشير إلى هدف مهم آخر من أهداف بعثة الأنبياء ، وهو مسألة «العدالة الأِجتماعية» ، فتقول : إنّنا جهزنا الرسل بثلاثة أشياء :

أولاً : البراهين الواضحة التي تشمل «المعجزات» ، و «البراهين العقلية» : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ).

ثانياً : الكتاب السماوي الذي يبين المعارف ويشرح للناس مسؤولياتهم.

وثالثاً : الميزان : وهو الوسيلة التي بواسطتها توزن الأشياء ، والعجب أنّ بعض المفسرين قد فسّروا الميزان بالمعنى الذي ذكرناه ، في حين أنّ أغلب المفسرين يعتقدون أنّ المراد من الميزان هي الوسيلة التي بواسطتها يقام العدل فيشخص بواسطتها الحق من الباطل ، الزيادة من النقصان ، الخير من الشر ، القيم الحقة والخيرة من القيم الباطلة والشريرة ، وبإمكاننا أن نفسّر الميزان بالقوانين الإلهيّة.

صحيح أنّ هذه الأمور مذكورة في نص الكتب السماوية ، ولكن ذكرها بشكل مستقل جاء بسبب أهميّتها.

وعلى كل حال ، هل من الممكن أن يسمع إنسان بأنّ شخصاً يدعي الدعوة إلى وجود مثل هذه الحقائق المصيرية ولا يرى أنّ من واجبه التحقيق في هذه الدعوة؟.

يقول الفخر الرازي : الناس ثلاثة أنواع : نوع في مقام «النفس المطمئنة» وهم المعنيون بالآية : (أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، النوع الثاني في مقام «الْنَفسِ اللَّوامة» وهم أصحاب اليمين الذين يحتاجون إلى معيار قياسي من أجل المعرفة والأخلاق ، ليكونوا في أمان من الافراط

١٣

والتفريط ، وهم المقصودون بتعبير «الميزان» ، النوع الثالث هم أصحاب «النفس الأمارة» الذين تعنيهم الآية : «انزلنا الحديد» أي هم المستحقون للعقاب والجزاء (١).

* * *

في الآية الرابعة إشارة إلى الأبعاد المختلفة لبعثة الأنبياء وبالخصوص السياسية والاجتماعية ونزول الأديان السماوية ، وفيها ذكر لبعض أوصاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد جاءت لترغيب الناس في اتباعه ، منها : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

لا شك أنّ هذه أمور مصيرية وذات علاقة وثيقة بمسألة تكامل الإنسان وخيره وشرِّه ، بل مجرّد احتمالها يكفي لدفعه نحو التحقيق.

«الأِصر» : على وزن مصر ، يعني في الأصل الربط والاغلاق وحبس الشيء بقوة وعنوة ، ثم أُطلقت على الحمل الثقيل والأعمال الشاقة التي تعوق الإنسان عن النشاط ، ولهذا سُميت الجبال والمسامير التي تربط بها الأعمدة «آصار» ، ولهذا أيضاً سمي العهد والوعد والذنب بالاصر (٢).

يمكن الاستنباط من التعابير التي وردت في كلمات أرباب اللغة والمفسرين أن معنى كلمة «إِصر» الجسم الثقيل الذي يُربط بقدم السجين لكي لا يستطيع أن يتحرك ، وإنَّ ذكره إلى جانب الأغلال وهي الأطواق والسلاسل التي تقيد بها الأعناق يناسب هذا المعنى ، ثم أطلقت هذه المفردة على معنى آخر يتناسب وأصل الكلمة.

مع إنّ الكثير من المفسرين فسروا «الإِصر» و «الأغلال» في هذه الآية بمعنى التكاليف الشاقة أو الامتحانات العسيرة والمعقدة التي حلّت بالامم السابقة ، لكن الظاهر أنّ لهاتين المفردتين مفهوماً أوسع وأشمل يستوعب كل أنواع قيود الاسر والحمل الثقيل الذي يسببه

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢٤١.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٨٨ ؛ التفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ٢٥ ؛ تفسير روح المعانى ، ج ٩ ، ص ٧٢ ومفردات الراغب ، مادة (إصر) وكتاب العين ، ج ٧ ص ١٤٧.

١٤

«الجهل» و «الشهوات» و «الذنوب» و «الاستبداد» و «الأِستعمار» وما شاكل ، وهي أمور ترتفع وتزول تحت ظل وجود رسول الله وتعليماته التحررية.

* * *

الآية الخامسة كلام ورد عن لسان محطم الأوثان إبراهيم عليه‌السلام عندما خاطب الوثنيين موبخاً إيّاهم على عملهم القبيح هذا (عبادة الأصنام) ، وقال من أجل إيقاض عقولهم حيث كانوا يغطون في سبات عجيب :

(هَلْ يَسْمَعُونَكُم إِذْ تَدْعُوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضَّروُنَ)؟! فلابدّ للعبادة أن تكون إمّا من أجل الربح والمكافأة والمنفعة أو من أجل دفع الضرر والعقاب.

وبالطبع لم يكن لديهم أجوبة إيجابية على هذه التساؤلات سوى الإعتصام باتباع وتقليد السلف والقول : (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفَعْلُونَ).

تدل هذه التعابير جيداً بأنّ حافز النفع والضرر (ليس النفع والضرر المادي فحسب فالنفع والضرر المعنوي أفضل وأرفع منه) وَيمكن أن يكون حافزاً للحركة باتجاه معرفة الله.

* * *

حول نزول آيات سورة فصلت وهي الآية السادسة في بحثنا هذا ، نقرأ أن «أبا جهل» سأل «الوليد بن المغيرة» وهو من رجال عرب الجاهلية المعروفين وهو من أهل النظر والمشورة يُرجَع إليه عند المعضلات : ما هذا الذي يقوله «محمد»؟ أهو كهانة أم سحر؟ أهو تكهّن؟ ... فقال «الوليد» : يجب أن أذهب إليه بنفسي وأتحقق ، وعندما جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ له بعضاً من آيات سورة فصلت إلى أن جاء إلى الآية التي ورَدت في بحثنا : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).

فارتجف «الوليد» لسماع هذه الآيات واقشعر بدنه ووقف شعر رأسه ، فنهض من مكانه وعاد إلى بيته وأغلق الباب على نفسه ، حتى ظن اكابر قريش أنّه يميل نحو الدين

١٥

الإسلامي ، وعندما جاءوا إليه وسألوه عن شأنه ، قال : ما صبوت (اي لم اسلم) واني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود ، فلا هو بالشعر ولا بالخطب ولا بالكهانة ، ولما قيل له : إذن ما نقول فيه؟ قال : قولوا هو سحر ، فانّه آخذ بقلوب الناس (١).

أولا يمكن لمثل هذه التهديدات الواردة في الآيات القرآنية وبقيّة المصادر الدينية أن تكون حافزاً على التحرك نحو التحقيق (بالنسبة لمن لم يؤمنوا لحد الآن).

* * *

في الآية السابعة من البحث ، أُمِر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخاطب جميع معارضيه ويعظهم بمسألة واحدة : (قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّروُا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ الَّا نَذِيْرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ ...).

كل تعابير هذه الآية تعابير مدروسة.

فالتعبير ب «إنّما» من أجل الحصر.

والتعبير ب «الموعظة» يستخدم في المواضع التي يحكم فيها العقل بشيء ، ولكن لكون الإنسان غافلاً عنه فهناك شخص حريص آخر يوقظه ويعظُهُ.

والتعبير ب «القيام» دليل على الاستعداد الكامل لتنفيذ الأهداف الجدية.

والتعبير ب «مثنى» و «فرادى» إشارة إلى النشاطات الجماعية والفردية والجهود الشاملة في هذا السبيل «لا شك أنّ الإنسان يفكر بشكل أعمق عند انفراده ولكنه يفكر بشكل أكمل حين يكون ضمن الجماعة ، لأنّ الأفكار ستتحد مع بعضها ، والجمع بين هذين (التفكير على انفراد وضمن الجماعة) هو أفضل الطرق» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٢١١ وتفاسير أخرى (الأصل في الحديث مفصل وقد نقلناه بتلخيص ، لاحظوا تفصيله في التفسير الأمثل ذيل الآية ١٣ من سورة فصّلت.

(٢) قال بعض المفسرين : «مثنى» إشارة إلى المناظرة التي لها تأثير كبير في كشف الحق ، في حين أنّ «فرادى» إشارة إلى القراءة في الوحدة ، واحتمل بعض آخر أن «مثنى» إشارة إلى التفكير الذي يقوم به الإنسان خلال النهار ضمن الجماعة و «فرادى» التفكير الذي يحصل في الليل وعند الإنفراد (تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٣ و ٩٣).

١٦

ثم التعبير بـ «التفكر» الذي ينبع من الصميم ويهدي الإنسان إلى البراهين العقلية الواضحة.

والتعبير بـ «لكم» هو الآخر ممتزج بمسألة الانذار والإلتفات إلى العذاب الشديد وفيه إشارة إلى أنّ الموضوع هنا هو نفعكم وضرركم فقط ، ولا هدف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى هذا.

أفلا يجب والحال هذه أنّ يأخذوا دعوته مأخذ الجد ويفكروا فيها ويعثروا على الحق ثم يتبعوه؟

النتيجة :

إنّ الآيات أعلاه وآيات مشابهة أخرى تكشف النقاب جيداً عن الحافز العقلي للبحث والتنقيب في طريق «معرفة الله» وتدل على أنّه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يتقاعس ويسكت أزاء الدعوات العظيمة لأنبياء الله ورسله على صعيد الدعوة إلى الله ذات العلاقة الوثيقة بمصير الجميع ، وهذا هو الحافز الأول للتحقيقات الدينية.

* * *

توضيحان

١ ـ الدوافع العقلية لفهم الدين في الروايات الإسلامية

١ ـ ورد في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام أن أحد أصحابه سأله عن الضعفاء (المستضعفين) فكتب له الإمام في الجواب : «الضعيف من لم ترفع إليه حجة ، ولم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف» (١).

٢ ـ وجلوه هاى توخالى دنيا از دور روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله : «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف» (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٠٦ ، (باب المستضعف) ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٠.

١٧

وفي هذا إشارة إلى أنّ الإنسان حين يطلع على وجود الاختلاف سوف يرغمه عقله على التحقيق والمطالعة (النظر) ، وعندها لا يُعتبر مستضعفاً.

وبالطبع فالقصد من «المستضعف» هنا هو «المستضعف فكرياً» الذي نسميه أحياناً ب «الجاهل القاصر».

٣ ـ جاء في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي ، قيل : يا رسول الله ما هنَّ؟ قال : إستماع العلم وحفظه ونشره والعمل به» (١).

وبهذا يعتبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاستماعَ والتحقيقَ من آثار وعلامات العقل والدراية.

٢ ـ المعاندون الملحّون

كان دائماً في مقابل الأحرار الذين يرون التحقيق في الحق واجبهم العقلي ، هناك جماعة يخشون رؤية الحق كالخفافيش ، وحتى لو ارتفع صوت منادي الحق وَدَوّى في آذانهم سدوا آذانهم لكيلا يسمعوا صوته.

ينقل القرآن عن جماعة من قوم نوح عليه‌السلام على لسان هذا النبي العظيم عندما اشتكاهم إلى الله : (وإنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِمْ واسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا). (نوح / ٧)

ولم يكن حال المشركين بأقل من هؤلاء ، بل كأنّهم ورثوا قوم نوح المعاندين الذين تحدث عنهم القرآن : (وَقَالَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَاتَسْمَعُوا لِهَذا الْقُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). (فصلت / ٢٦)

إنّ هذه الجماعة التي لها أتباع ومقلدون في كل عصر وزمان لا يسمحون لأنفسهم بالتحقيق في ما يجري أبداً ، إنّهم جهلة حمقى يخشون نور الشمس كأنّهم الخفافيش ، يلجأون إلى الظلمة دائماً ، ويفتخرون بالجهل ، إنّهم أكثر حرماناً من الجميع لأنّهم أعداء تفضحهم الشمس.

__________________

(١) تحف العقول ، مواعظ النبي ، ص ٤٠.

١٨

٢ ـ الدافع العاطفي

تمهيد :

ثمة مثل معروف يقول : «إنَّ الناس عبيد الأِحسان».

ورد نفس هذا المعنى تقريباً في حديث عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام : «الإنسان عبد الاحسان» (١).

وورد عنه عليه‌السلام : «بالإِحسانِ تملك القلوب» (٢).

وفي حديث آخر عنه أيضاً : «وأفضِلْ على من شِئتَ تكن أميره» (٣).

وجذور كل هذه المفاهيم في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول : «إنّ الله جعل قلوب عباده على حبّ من أحسن إليها وبغضِ مَنْ أساء إليها» (٤).

والخلاصة هي أنّ هنالك حقيقة تقول : إنَّ الذي يسدي خدمة لشخص أو ينعم عليه نعمة فسيكون عطفه هذا عليه منطلقاً من حبّه له ويكون هذا الآخر محباً لمن اسدى إليه الخدمة والنعمة ، يحب أن يتعرف عليه تماماً ويشكره ، وكلما كانت هذه النعمة أهم وأوسع ، كان توجه العواطف نحو «المنعم» و «معرفته» أكثر.

ولهذا جعل علماء علم الكلام «العقائد» مسألة «شكر المنعم» ـ ومنذ القِدَم ـ إحدى الدوافع على التحقيق حول الدين ومعرفة الله.

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) المصدر السابق.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٧ ، ص ٤٢١.

(٤) تحف العقول ، ص ٣٧ (قسم من كلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

١٩

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ «شكر المنعم» هو قرار عاطفي قبل أن يكون قراراً عقلياً.

نختم هذه الإشارة ببيت شعر لأبي الفتوح البستي الشاعر العربي المعروف :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

بعد هذه الإشارة ننتقل إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات أدناه :

١ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (النحل / ٧٨)

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (النحل / ١٤)

٣ ـ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). (النحل / ١١٤)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

شكر المنعم سلّم إلى معرفة الله :

تتحدث الآية الأولى عن أهميّة النعم الإلهيّة لتحرك في الناس روح الشكر وتدعوهم عن هذا الطريق إلى معرفة «المنعم» ، إنَّ الحديث عن النعمة وسيلة للمعرفة ، فقد تحدث القرآن عن «العين» و «الأذن» و «العقل» بقوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

فعن طريق السمع تتعرفون على العلوم النقلية وعلوم الآخرين.

وعن طريق البصر ومشاهدة أسرار الطبيعة وعجائب الخلقة تتعرفون على العلوم التجريبية ، وعن طريق العقل تتعرفون على العلوم العقلية والتحاليل المنطقية.

ومع أنّ هذه المواضيع الثلاثة معطوفة على بعضها في هذه الآية بالواو ولا تعني بالضرورة الترتيب ، إلّاأنّه ليس من المستبعد أن يكون هذا هو الترتيب الطبيعي لها ، لأنّ

٢٠