نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

كتاب الأعمال في اليمين أو في الشمال :

تشير الآية الحادية عشرة إلى موضوع جديد وهو إتيان كتاب الأعمال ، فيؤتى الأشرار والأشقياء كتابهم بشمائلهم أمّا الصالحون والأخيار فيؤتون كتابهم بأيمانهم ، وهذه علامة فارقة لتمييز الأخيار من الفجار في محكمة العدل الإلهي : (فَأَمّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَه ...) ، وعلى العكس : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُوْتَ كِتابِيَه* وَلَم أَدْرِ مَا حِسَابِيَه* يالَيْتَها كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) ، فهل أنّ اليد اليمنى واليسرى إشارة إلى هذا العضو الخاص من البدن أم هو كناية عن الخير والشر ، ولماذا اليد اليمنى كناية عن الخير ، واليسرى كناية عن الشر؟

لقد ورد هذا المعنى (كاحتمال) في تفسير (في ظلال القرآن) ولكن نقول لا توجد ضرورة لهذا التأويل لأنّ إتيان كتاب أعمال الصالحين باليد اليمنى ، والأشرار باليد اليسرى وسيلة لتمييزهم والتعرف عليهم.

أمّا كلمة (هاؤم) فهي على رأى الكثيرين من المفسرين وأرباب اللغة مركبة من (هاء) وهي اسم فعل (أمر) بمعنى خذ و (ميم) وهو ضمير جمع مذكر مخاطب ، وهذه الكلمة تعامل معاملة فعل الأمر فيقال (هاءَ ، هاءِ ، هائماً ، هاؤُم ، هاتُن (للمفرد ، المذكر والمفرد المؤنث والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث) وأحياناً تبدل الهمزة بالكاف فيقال : (هاكَ ، هاكِ ، هاكما ، هاكن) أمّا الهاء الواردة في آخر كلمتي (كتابِيَهْ وحَسابِيهْ) فيطلق عليها اصطلاحاً ب (هاء السكون) وهي ليست بضمير وإنّما هي للاستراحة في الكلام وليس لها مفهومٌ خاص والأصل : (كتابيَ) و (حِسابيَ).

ولقد ورد في حديث عن عبدالله بن حنظلة المعروف بغسيل الملائكة وهو من شهداء أُحد ، قال : إنّ الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته فيقول له أنت عملت هذا ، فيقول نعم أي ربّ ، فيقول له : إنّي لم أفضحك به وإنّي قد غفرت لك ، فيقول عند ذلك هاؤم اقرؤا كتابيه إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه ، حين نجا من فضيحته يوم القيامة (١).

__________________

(١). تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٦١ ؛ تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢٥٦ ولو أنّ هذا الحديث نقل عن عبدالله بن حنظلة ولكنه قد سمعه بالواسطة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٦١

لقد ورد نفس هذا المعنى بشيء من الاختلاف (إيتاء كتاب أعمال الأبرار باليمين والفجار بالشمال) في الآية الثانية عشرة من الآيات السالفة الذكر : (فَأَمّا مَن أُوتِىَ كِتابَهُ بيَمِينِه فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَرآءَ ظَهْرِهِ* فَسَوفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً).

فذكرت الآيات السابقة أنّ كتاب أعمال الفجار يؤتى بالشمال ، أمّا هذه الآيات فذكرت أنّ كتاب الفجار يوتى (وراء الظهر) ويراد بهذا المعنى أنّ المجرمين عندما يعطون كتبهم بشمائلهم فانّهم ولشدّة حيائهم يجعلون أيديهم وراء ظهورهم حتى تقل رؤية الجمع لهذا السند ، سند الجريمة والفضيحة ، أو لأنّ أيدي الشمال مغلولة وراء ظهورهم فكما أنّهم جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم في الحياة الدنيا فهنا تجعل كتب أعمالهم وراء ظهورهم ، أو لكون وجوههم مقلوبة وراء ظهورهم ولأجل رؤية كتب أعمالهم فهم يأخذون كتبهم من وراء ظهورهم ولا منافاة لأي من هذه المعاني الثلاثة للآية وما ورد في الآيات السابقة.

ما المراد بـ (الأهل) الذي ذكرته الآية الكريمة؟

قيل : إنّ المراد بالأهل هم النساء والأولاد والآخرين من أهل الإيمان الذين يدخلون الجنّة قبلهم ، وقيل : إنّ الأهل هنا إشارة إلى الحور العين ، وقيل : إنّ المقصود بالأهل هم سائر المؤمنين الذين لهم سبق قدم في الجنّة وذلك لأنّ المؤمنين كلهم أهل لبعضهم البعض ، وفي الحقيقة (إنّهم جزء من أُسرة واحدة) ، ونرى أنّ التفسير الأول هو الأنسب بدليل أنّ نفس هذا التعبير ورد في الآية ١٣ من نفس السورة ويراد به الأسرة والزوجة والأولاد والأقرباء ، واتحاد السياق يدلّ على أنّ المعنى واحد.

ولقد قسمت الآية الثالثة عشرة هذا التقسيم (أصحاب اليمين وأصحاب الشمال) بشكل آخر : (فَأَصْحَابُ المَيمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ* وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ).

«الميمنة» : مشتقة من مادة (اليمن) بمعنى السعادة والبركة ، ولقد فسرها البعض وقال : إنّها مأخوذة من مادة (يمين) أي اليد اليمنى ، يقولون : إنّهم الأفراد الذين يعطون كتبهم

٦٢

بأيمانهم (صحيح أنّ مادة يمن) و (يمين) مشتقة من أصل واحد ولكن يعني أحدهما الخير واليمن والسعادة ، ويعني الآخر اليد اليمنى التي يرونها مظهراً من مظاهر البركة.

ويعتقد الراغب ـ كما ورد في مفرداته ـ أنّ أساس الكلمتين يحمل نفس مفهوم اليد اليمنى فيرى أنّ الخير واليمن والبركة تحصل بالأفعال التي تنجز بواسطة اليد اليمنى.

فهذه الكلمة جاءت بمعنى الخير والبركة ويقابلها كلمة المشئمة.

«والمشئمة» : مشتقة من (شؤم) وعلى قول صاحب كتاب مقاييس اللغة أنّ المعنى الأصل لهذه الكلمة هو نفس اليد اليسرى وأنّهم يعتقدون بأنّ اليد اليسرى والأعمال التي تنجز بواسطتها إشارة إلى الشر وسوء الحظ .. ولهذا استعملت كلمة شؤم بهذا المعنى وبهذا السياق ، ويكون المراد من (أصحاب الميمنة) و (أصحاب المشئمة) في الأصل نفس معنى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال الذين يؤتون كتبهم إمّا باليمين أو بالشمال ، وبهذا فإنّ تفسير الآية بمجموعة تكون (سعيدة مسرورة) واخرى (شقية تعيسة) بعد المعنى الثاني من معاني الآية الكريمة ، ولقد فسر الفخر الرازي أصحاب الميمنة ب (أصحاب الجنّة) إذ يقول (١) :

هم أصحاب الجنّة وتسميتهم بأصحاب الميمنة إمّا لكونهم من حملة كتبهم بأيمانهم وإمّا لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى كما قال تعالى : (يَسعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). (الحديد / ١٢)

وإمّا لكون اليمين يراد به الدليل على الخير ، والعرب تتفاءل بالسانح وهو الذي يقصد جانب اليمين من الطيور إذ يتفاءلون بها بالخير ، والتي تطير من الشمال ، بالشر.

جملة (ما أصحاب الميمنة وما أصحاب المشئمة) جاءت على صيغة استفهامية ، وهذه إشارة إلى المقام الرفيع جدّاً للطائفة الاولى والمقام الدنيء جدّاً للطائفة الثانية فكان منزلة وبركات الطائفة الاولى من العلو والسمو بحيث تخرج عن مستوى تفكير الإنسان ، وهذا التفسير كناية لطيفة عن هذا المعنى ، على عكس التعبير الثاني الذي هو كناية عن شدّة

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٤٢.

٦٣

الانحطاط والتدني ، ومع عدم ورود كلام عن كتاب الأعمال في هذه الآيات إلّاأننا إذا أخذنا سائر الآيات القرآنية التي جاءت فيها هاتان الكلمتان بنظر الاعتبار يكون التفسير أعلاه مناسباً لهذا المعنى.

أمّا الآية الرابعة عشرة من الآيات السالفة الذكر والتي وردت في نفس سورة الواقعة : (وَأَصْحَابُ الَيمِينِ مَاأَصحَابُ الَيمِينِ* فِى سِدرٍ مَّخْضُودٍ) (وَأَصحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُوْمٍ وَحَمِيمٍ).

فقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآيات نفس المعاني التي وردت في تفسير الآيات السابقة.

فقيل : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم أو هم أصحاب اليمين والبركة أو تعيسو الحظ أو الذين يتجهون نحو الجنّة من اليمين أو نحو الجحيم من اليسار أو هم الذين يظهر نورهم على يمينهم (١).

صحيفة أعمالنا أمام أنظار الجميع :

نلاحظ في الآية الخامسة عشرة تعبيراً جديداً حول صحف الأعمال وهذا التعبير عميق المحتوى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ).

«نشرت» : مشتقة من مادة (نشر) بمعنى الفتح ، أمّا سبب ذكر هذا التعبير بخصوص كتاب الأعمال فامّا لكون الكتاب يطوى أثناء الموت ويعاد فتحهُ عند الحساب يوم القيامة ومثله كمثل الملف الذي يُغلَق بختم المحقق ثم يفتح أثناء المحكمة ، وإمّا أن تكون الصحف كلّها مجموعة عند الله تبارك وتعالى وتنشر وتقسم بين أصحابها يوم القيامة.

لقد انتخب بعض من المفسرين أحد المعنيين السالفين ، واحتمل البعض الآخر كليهما ، ونحن نقول : إنّ التفسير الأول هو الأنسب لسياق الآية ، على أيّة حال فإنّ صحف الأعمال

__________________

(١). تفسيرالتبيان ، ج ٩ ، ص ٤٩٣ ؛ وتفسيرالبيان ؛ وتفسيرالكبير ؛ وتفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

٦٤

سوف تنشر في ذلك اليوم بحيث لا يطلع عليها أصحابها وحسب بل يطلع عليها أهل المحشر أيضاً وتستذكر جميع الأعمال المنسية ، وهذا هو أحد عوامل الفرج واستبشار الصالحين ، وعذاب وثبور وخزي أهل النّار ، وهذه شهادة على هذا المعنى. ولذا تقول الآية: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقيمَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنْشُوراً). (الاسراء / ١٣)

يستفاد ممّا ورد في مجموع الآيات السالفة الذكر أنّه إضافة إلى إحاطة وعلم الله تبارك وتعالى بأعمال الناس وشهادة الجوارح وسائر شهود يوم القيامة فإنّ أعمالنا مسجلة في كتاب ، وهذا التسجيل يؤدّى بواسطة رسل وملائكة الله.

وفي يوم القيامة يؤتى الأخيار صحائف أعمالهم بأيمانهم والأشرار بشمائلهم وتنطق هذه الكتب وتخبر عن كل ما فيها ، وتنشر الصحف وتعرض على الخلائق ويطلع أهل المحشر على أسرار وأخبار هذه الصحف ، فأصحاب اليمين يتلقون كتبهم مسرورين مستبشرين ويدعون الجميع لقراءة كتبهم ، أمّا أصحاب الشمال فيعلو صراخهم وعويلهم وثبورهم من شدة خوفهم وهلعهم.

ونحن نجد في هذه التعابير الكثير من الجوانب التربوية ، سنتعرض إليها في فقرة التوضيحات.

* * *

توضيحات

١ ـ صحف الأعمال في الروايات الإسلامية

إنّ لموضوع كتب الأعمال أو صحف الأعمال صدىً واسعاً في الروايات الإسلامية ، وقد جاءت بعض الروايات كتعبير للآيات السابقة ، وهناك روايات مستقلة عن الآيات.

وسنشير إلى بعض من هذه الروايات التي تتضمن كل واحدة منها جوانب تربوية هامة : ١ ـ نقرأ حديثاً ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة دفع إلى الإنسان كتابه ثم قيل له اقرأ ، قلت : فيَعرفُ ما فيه؟ فقال : إنّ الله يذكره فما من لحظةٍ ولا كلمةٍ ولا نقل قدمٍ

٦٥

ولا شيء فعله إلّاذكره كأنّه فعله تلك الساعة! فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيره إلّاأحصيها» (١).

٢ ـ نقرأ في إحدى خطب نهج البلاغة أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام قال : «ونستغفره ممّا احاط به علمه وأحصاه كتابه ، علم غير قاصر وكتاب غير مغادر» (٢).

٣ ـ جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «وليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب ، فأمّا المؤمن فيؤتى كتابه بيمينه» (٣).

٤ ـ ونقرأ حديثا آخر للإمام الصادق عليه‌السلام : «إِنّ الله تبارك وتعالى إذا إراد أن يحاسب المؤمن أعطاه كتابه بيمينه وحاسبه فيما بينه وبينه فيقول : عبدي فعلت كذا وكذا وعملت كذا وكذا. فيقول : نعم يارب قد فعلت ذلك. فيقول : غفرتها لك وأبدلتها حسنات. فيقول الناس سبحان الله أما كان لهذا العبد سيئة واحدة؟ وهو قول الله عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَميِنِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٤).

٥ ـ نقل في سننن الترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير ، وأمّا العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي : فأخذ بيمينه وأخذ بشماله» (٥).

إنّ هذا التعبير تضمن إشارة إلى (تطاير الكتب) الذي جاء في عبارات مختلفة ، واتضح من خلال هذا الحديث أنّ صحف الأعمال تتحرك من محلها الأصل (عند العرش أو عليين أو سجين الذي هو مركز جمعها) فتلقى بيد صاحبها فهذا التعبير يدل بوضوح على أنّ كتاب الأعمال هو ليس صفحة الروح الإنسانية بل هو الآثار التي تثبت خارج وجوده (تأمل).

__________________

(١). بحارالأنوار ، ج ٧ ، ص ٣١٥.

(٢). نهج البلاغة ، خطبة ١١٤.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٣١٨ ، ح ١٤.

(٤). المصدر السابق ، ص ٣٢٤ ، ح ١٧.

(٥). سنن الترمذي ، ج ٤ ، ص ٦١٧ ، ح ٢٤٢٥.

٦٦

٢ ـ ماهية صحف الأعمال

ممّا لا شك فيه أنّ صحف الأعمال الذي تعرض يوم القيامة ليست كمثل الأوراق والدفاتر والكتب المتداولة وإنّما هي نقوش معبرة غير قابلة للانكار ، فلو أنّ كتاب الأعمال كمثل هذه الأوراق والدفاتر المستعملة اليوم لاستوجب الأمر ملايين الأوراق لكتابة أعمال الإنسان خلال فترة عمره ولما أمكن للجميع مطالعة مثل هذا الكتاب ولما كان موجباً لخزي وفضح الأشرار وفخر الأخيار ، في حين يستفاد من الآيات والروايات أنّ أعمال الإنسان مثبتة بحيث يمكن الوقوف عليها بإلقاء نظرة واحدة ، إضافة إلى ذلك أنّ الخطوط والنقوش الاعتيادية ليست بالشكل الذي لايمكن انكارها ، في حين يتضح من الآيات والروايات أنّ خطوط هذا الكتاب ليست قابلة للانكار وهي سند حي وواضح لكل شخص وحتى لأصحابها.

نتطرق هنا بدقّة إلى بعض التفاسير المختلفة التي قيلت بخصوص صحف الأعمال:

١ ـ قيل في تفسيرها : (هي بعينها نفس الإنسان التي رسخت فيها آثار أعماله بحيث نقشت بها).

وجاء ما يطابق هذا التعبير في كتاب المرحوم الفيض الكاشاني حيث يقول : «إنّ كتاب الأعمال هو كناية عن نفس الإنسان التي رسخت فيها آثار أعماله» (١) ، إلّاأنّ هذا المعنى الكنائي لايتوافق مع ظواهر آيات القرآن الكريم وذلك لأنّ القرآن يذكر إتيان كتاب أعمال أصحاب اليمين بأيمانهم وكتاب الفجار بشمائلهم أو من وراء ظهورهم وهذا التعبير لا يتلائم مع التفسير المذكور إلّاإذا حمل تعبير (يمين) و (شمال) وسائر التعابير الاخرى على المعنى الكنائي وهذا خلاف الظاهر وهو غير جائز بدون دليل ، إضافة إلى ذلك لا يمكن أن يتوافق هذا التعبير مع تطاير الكتب الذي ذكرناه سابقاً.

٢ ـ للمرحوم العلّامة الطباطبائي تعبير آخر في هذا الصدد فيقول في تفسير الميزان مستفيداً من الآية الشريفة : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ...). (آل عمران / ٣٠)

__________________

(١). تفسير الصافي ، ذيل الآية ١٣ من سورة الاسراء.

٦٧

«إنّ الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حدّ الكتب المعمول بها فيما بيننا في الدنيا فهي نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عياناً ولا حجّة كالعيان ، إنّ كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان محجوب وراء حجب الغفلة وإنّما يخرجه الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله» (١).

كذلك لا ينسجم هذا المعنى بما يتعلق ب (الملائكة الكاتبين) وسائر الصفات الأخرى التي وردت في الآيات والروايات وذلك لأنّ المراد من حقائق الأعمال على الظاهر هو نفس الآثار التي تترك أثراً في داخل نفس الإنسان ، وهنا يرد نفس الإشكال على تفسير المرحوم الفيض الكاشاني.

ولقد ذكر صاحب كتاب (روح المعاني) نفس هذا التفسير بشيء من التفصيل ثم اعترف بأنّ هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم (٢) ، ومن الممكن أن يقال : كما تترك أعمال الإنسان أثراً في داخل نفسه كذلك تترك أثراً في العالم الخارجي أيضاً ، وتترك أثراً في الفضاء والهواء وعلى الأرض التي يعيش عليها وفي كل شيء ، وكأنّ أعماله نقشت بها نقشاً طبيعياً غير قابل للانكار.

وهذه النقوش تنقش في أعماق هذه الموجودات بواسطة قوى عالم الوجود والملائكة ، ويوم القيامة يكشف عنها الحجب وتظهر للعيان وتعطى بيد كل إنسان وتكفي نظرة واحدة عليها للاطلاع على حال كل شخص.

ومن البديهي أنّ هذه الآثار لا يمكن إدراكها والاحساس بها في هذه الدنيا رغم أنّها موجودة ومثبتة ، وعندما يأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه هذا الغطاء ويصبح البصر حديداً فسوف نراها عياناً ونقرأُها فنصدق.

وقد استطاع علماء اليوم من خلال دراسة علم الآثار ودراسة المتحجرات المتبقية من

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٥٨. ذيل الآية ١٣ الاسراء.

(٢). تفسير روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ٣٢.

٦٨

الكائنات الحية منذ ملايين السنين أن يكتشفوا ـ إضافة إلى شكل هياكلها ـ الكثير من حقائق حياتها مع أنّ المتحجر ليس حيواناً بعينه بل هو بقايا منه بقيت لحقب طويلة داخل الطبقات الأرضيّة.

الصخور الأرضيّة هي في الواقع كتاب أعمال وأشكال تلك الحيوانات مدون بخطوط غير قابلة للانكار.

نحن لا نقول إنّ كتاب الأعمال الذي يعرض يوم القيامة هو على هذه الصورة وذلك لأننا ذكرنا أكثر من مرّة أننا لا ندرك من القيامة والمسائل المتعلقة بها إلّانزراً يسيراً ، ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون الأثر الطبيعي هو نفس الأثر ، ومن المناسب هنا أن نذكر حديثاً للإمام الصادق عليه‌السلام ورد في تفسير الآية ١٤ من سورة الاسراء : «يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه ، حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها» (١).

٣ ـ احتمل البعض أنّ كتاب الأعمال هو (الضمير الباطن) للإنسان فقد أثبت علم النفس اليوم أنّ أعمال الإنسان تؤثر في وجدانه أو اللاشعور ، وهذا التعبير لا يختلف عن تعبير الفيض الكاشاني وسائر المفسرين الذين أشرنا إليهم سابقاً ، وفي الواقع أنّ هذا التعبير هو تعبير جديد مشتق من المعنى القديم ، والتفسير الثالث هو الأنسب من بين التفاسير الأربعة.

على أيّة حال يجب أن نقول بما أنّ مسألة كتاب الأعمال وردت في القرآن الكريم وأكدتها الروايات المختلفة لذا يجب أن نؤمن بها حتى وإن لم ندرك مفهومها ومحتواها بشكل تفصيلي ، مثلها كمثل سائر المسائل المتعلقة بيوم القيامة ، أو أنّ كتاب الأعمال هو مجموعة الآثار التي خطتها أعمالنا خارج وجودنا وتجمع يوم القيامة وتوضع بين أيدينا حسب الأمر الإلهي ، وبتعبير آخر هي مجموعة الآثار التكوينية التي يمكن تشبيهها من بعض الوجوه بالأفلام أو أشرطة التسجيل أو ما شاكلها.

ونحن لا نجزم بأنّ الأمر هكذا بل نقول أنّ هناك أوجه للشبه بينها.

__________________

(١). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧ ، ح ١١٥.

٦٩

٣ ـ فلسفة كتاب الأعمال

ممّا لا شك فيه أنّ البيان المفصل لكتاب الأعمال في الآيات القرآنية والروايات ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا وأقوالنا ونيّاتنا إلّا أحصاها يهدف بالدرجة الاولى إلى إيجاد آثار تربوية على نفس الإنسان.

ولقد ذكرنا أنّ القرآن اتخذ من بيان جميع المعارف الواقعة وسيلة لتهذيب النفوس وتكامل الأرواح وتنمية مكارم الأخلاق وتقوية عامل التقوى عند الإنسان ، كما أنذر الناس كافة ليراقبوا أفعالهم وأقوالهم وسلوكهم وصرّح بأنّ كل شيء في كتاب وسوف تعرض الأعمال من خلاله يوم القيامة من غير نقصان.

حقّاً إنّ الاحاطة العلمية لله تعالى هي فوق كل شيء ، ومن يؤمن إيماناً كاملاً بالاحاطة العلمية لله وحضوره الوجودي في كل شيء وفي كل زمان لا حاجة له بكتاب الأعمال ولكن في الغالب يمكن أن يكون الالتفات لهذه الحقيقة منشأً لكثير من الآثار على أغلب الناس ، فمن يعلم بأنّ هناك أشرطة لتسجيل صوته أينما كان وهناك جهاز مجهز بأفلام لتصوير كل حركاته وسكناته ، سرّها وعلنها ، ظاهرها وباطنها ، وأنّ هذه الأشرطة والأفلام سوف تعرض على شكل ملف كامل غير قابل للانكار في احدى المحاكم الكبيرة ، فيقيناً أنّ مثل هذا الإنسان سوف يراقب كل أفعاله وأقواله وسلوكه بشكل كامل وتكون التقوى هي الحاكمة على ظاهره وباطنه.

إنّ الإيمان بكتاب الأعمال الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها والإيمان بالملائكة الذين يراقبون الإنسان ليلاً ونهاراً ويحصون عليه كل أعماله ، وكذلك الاعتقاد بأنّ هذه الصحف سوف تنشر يوم القيامة في ساحة المحشر ويكشف فيها عن جميع السرائر فتوجب الخزي والفضيحة أمام الأصدقاء والأعداء ، كلّها لها أثر عجيب في الكفّ عن الذنوب وارتكاب المآثم.

هذا على عكس كتاب الأبرار الذي يكون موجباً للفخر والكرامة في المحشر وحتى أنّه أفضل وأعلى وأكثر تأثيراً ممّا ذكر في مقال الشريط والفلم ، وهذا عامل مهم جدّاً للتزود من

٧٠

الأعمال الصالحة ، ولولا ضعف الإيمان أحياناً ووجود حجب الغفلة التي تكون العامل في أبعاد الإنسان عن هذه الحقائق المهمّة لكان الاعتقاد بهذا المبدأ القرآني كافياً لتربية وتزكية كل إنسان.

ونذكر هنا إنّ بعض الأدعية تتضمن دروساً تربوية للإنسان وتركز على ابراز هذا المعنى فنقرأ في الدعاء المعروف بدعاء كميل : «وكل سيئةٍ أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني ، وجعلتهم شهوداً عليّ مع جوارحي ، وكنت أنت الرقيب عَليَّ من ورائهم والشاهد على ما خفي عنهم».

ونختم هذا البحث بذكر حديث للإمام الصادق عليه‌السلام ، جاء في الاحتجاج للطبرسي أنّه : سأل رجل الإمام الصادق عليه‌السلام : عن علة وجود الملائكة المأمورين بتثبيت الأعمال الصالحة والسيئة ونحن نعلم بأنّ الله (عالم السر والخفيات وما هو اخفى).

فقال الإمام عليه‌السلام : «استعبدهم بذلك وجعلهم شهوداً على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبةً وعن معصيته أشدّ انقباضاً ، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك تشهدُ!» (١).

٤ ـ أقسام كتب الأعمال

كما أشرنا سابقاً ومن خلال الآيات القرآنية أنّ هناك ثلاثة أنواع من كتب الأعمال :

الأول : هو الكتاب الذي يختص بكل إنسان ويعرض جزئيات الأعمال ويعطى باليمين أو بالشمال.

ولقد ورد هذا المعنى في كثير من الآيات التي سبق ذكرها ومن جملتها : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقَاهُ مَنْشوُراً* إِقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). (الاسراء / ١٣)

إنّ تعبير (كُلَّ انْسانٍ) ، وكذلك تعبير (كِتابَكَ) إشارة واضحة إلى كتاب الأعمال الخاص ،

__________________

(١). الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٩٥.

٧١

وكذلك جملة : «هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَه» ، وجملة : «يا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتابِيَه» وفي سورة الحاقة الآيات ١٩ ، ٢٥ إشارات اخرى إلى هذا المعنى.

الثاني : كتاب أعمال الامم ، أي الكتاب الذي تجمع فيه أعمال الامة كما ورد قوله تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا). (الجاثية / ٢٨)

وقد ورد تعبير كتاب بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع وهذا يدل على أنّ المراد (الامة الواحدة).

الثالث : الكتاب الذي تثبت فيه أعمال جميع الأمم وكافة الناس من الأولين والآخرين ، فهو بمثابة السجل المركزي العام الذي تسجل فيه جميع الحسابات ، ولقد أشار إليه تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الُمجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ). (الكهف / ٤٩)

وجاء هذا التعبير بصورة أوضح في قوله تعالى بعد ذكر الأموات وبيان كتابة الأعمال وآثارها من قبل الله تبارك وتعالى : (وَكُلَّ شَىءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ). (يس / ١٢)

فورد الكتاب في هذه الآية بصيغة نكرة (التي تفيد الأفراد) وهذا يدل على أحصاء جميع أعمال الخلائق بل إنّ كل الأشياء جمعت في كتاب واحد.

وقد أشار المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان إلى هذه الكتب الثلاثة (١) : ولو أنّ هناك اختلاف بين الآيات التي استشهد بها وبعض هذه الأقسام التي ذكرناها.

ويمكن أن نستفيد من الآيتين ٧ ، ٨ من سورة المطففين أنّ (الأبرار) أو (الفجار) كل منهم له كتاب خاص وهذا يعدّ النوع الرابع من كتب الأعمال.

على أيّة حال فلا توجد أيّة منافاة بين هذه الكتب ، ولا مانع من تسجيل عمل ما في عدّة كتب وسجلات مختلفة لغرض التأكيد والدقّة ، وهذا ما نلاحظه في حياتنا اليومية.

إنّ هذه الكتب وعلى اختلاف أنواعها كلّها تؤكد على حقيقة واحدة مفادها أن يكون الإنسان واعياً يقظاً وليعلم بأنّ أعماله لم تسجل في مكان واحد بل إنّها مثبتة في عدّة أماكن وسجلات ، ومن غير الممكن أن يصدر من الإنسان عملٌ ما ولا يحاسب عليه يوم القيامة ، ويجب أن نعلم بأنّ الله تعالى هو الرقيب على الإنسان من وراء كل هذه الكتب والشهود.

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ٣٤٨.

٧٢

٥ ـ خصائص كتاب الأعمال

من مجموع الآيات والروايات السابقة يمكن تحديد الخصائص الآتية لكتاب الأعمال وهي :

١ ـ كتاب الأعمال هو صحيفة عمل لمجموع عمر الإنسان وهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها.

٢ ـ كتاب الأعمال حي ناطق ولا مجال فيه لأدنى شك أو ريب وهو غير قابل للانكار ، وكل شخص يتمكن من الفصل والحكم بمشاهدته وحتى المجرمون أنفسهم.

٣ ـ إنّ كاتبي صحيفة الأعمال ملكان وقد عبّر عنهما القرآن ب (رقيب) و (عتيد) ـ وكما ذكرنا ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ ملائكة الليل والنهار منفصلون عن بعضهم البعض وكل واحد منهم يعطي مكانه للآخر ، ولقد أشارت بعض آيات القرآن الكريم إشارة عابرة إلى هذا المعنى.

٤ ـ يظهر من بعض الروايات أنّه إضافة إلى ذلك يوجد ملائكة آخرون توكل بهم مهمّة تسجيل بعض الأعمال الخاصة كما ورد في حديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول ، فاذا جلس الأمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر» (١).

٥ ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ الحسنات تكتب فوراً أمّا السيئات فتكتب بعد حين (لعل صاحبها يتوب عن فعله).

ونختم هذا البحث بذكر بعض الجمل القيمة من أدعية الإمام السجاد عليه‌السلام والتي وردت في (الصحيفة السجادية) ولنردد معه هذا الدعاء : «اللهم يسر على الكرام الكاتبين مؤنتنا ، واملأ لنا من حسناتنا صحائفنا ولا تخزنا عندهم بسوء أعمالنا» (٢) وفي مكان آخر قال : «فصل على محمد وآله واجعل ختام ما تُحصى علينا كتبة أعمالنا توبة مقبولة» (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٥٨٧ ، ح ٨٥٠ ، ولعل مفهوم الحديث هو إذا تأخر المصلي عن الوقت المحدد لصلاة الجمعة فسوف لن يكتب اسمه في تلك الصحف.

(٢) الصحيفة السجادية الدعاء ٦.

(٣) المصدر السابق ، الدعاء ١١.

٧٣
٧٤

٤ ـ حضور الأعمال

تمهيد :

المطّلعون على الآيات القرآنية يعلمون جيداً بأنّ بعضاً منها يتحدث عن حضور الأعمال يوم القيامة.

أي أنّ عمل كل شخص يعرض أمامه في ذلك اليوم خيراً كان أو شراً ويكون موجباً لسروره وسعادته أو عذابه ومعاناته ، موجباً للفخر والكرامة أو للفضيحة والعار.

فهل بالإمكان بقاء أعمال الإنسان التي هي عبارة عن مجموعة حركات تمحى وتزول بعد انقضائها؟ وهل من الممكن أن يتحول «العمل» الذي هو جزء من مقومات وجود الإنسان إلى مادة وجسد ويظهر بصورة مستقلة؟

إنّ الكثير من المفسّرين عجزوا عن الإجابة عن هذه الأسئلة ، فما كان لهم من حيلة إلّا إلى الحدَس والتقدير ، فقالوا مثلاً إنّ المراد ب (حضور الأعمال) أو مشاهدة العمل «حضور وشهادة جزاء العمل ، ثوابه أو عقابه».

ولكننا نعتقد اليوم بأنّ لكل من هذه المسائل جواب وعلى هذا الأساس لا نجد أي دليل لانكار ظواهر هذه الآيات التي تدلّ على تجسّد أعمال الإنسان.

والجدير بالذكر ، أنّ محتوى هذه الآيات ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار معناها الحقيقي لا المجازي ـ ذات معنى عميق ونافذ ومؤثر ، ويحلّ لنا الكثير من المشاكل ويجيب عن الكثير من الأسئلة التي تطرح حول عالم القيامة والحساب ، كما تترك أثراً كبيراً ومفيداً في حياة الإنسان من الناحية التربوية ، وقبل أن نتناول هذا الموضوع نمعن خاشعين في بعض الآيات

٧٥

القرآنية التي تشير إلى مسألة حضور الأعمال :

١ ـ (يَومَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم* فَمَن يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ). (الزلزال / ٦ ـ ٨)

٢ ـ (وَوَجَدُوا مَاعَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً). (الكهف / ٤٩)

٣ ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّاعَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَاعَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً). (آل عمران / ٣٠)

٤ ـ (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَاكَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَّاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). (١) (الزمر / ٤٨)

٥ ـ (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (آل عمران / ١٨٠)

٦ ـ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ). (التكوير / ١٢ ـ ١٤)

٧ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُم وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ). (الاحقاف / ١٩)

٨ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّاعَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ). (الزمر / ٧٠)

٩ ـ (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتُظْلَمُونَ). (٢) (البقرة / ٢٧٢)

١٠ ـ (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّاكَسَبَتْ). (البقرة / ٢٨١) (آل عمران / ١٦١)

١١ ـ (يَومَ يُحْمَى عَلَيهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هَذَا مَاكَنَزْتُم لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). (٣) (التوبة / ٣٥)

١٢ ـ (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٤) (الطور / ١٦) (التحريم / ٧)

* * *

__________________

(١). وجاء نظير هذا المعنى في الآية ٥١ من سورة الزمر.

(٢). هناك آيات اخرى بهذا المضمون ، النمل ، ١١١ ؛ آل عمران ، ٢٥ ؛ هود ، ١١١.

(٣). الزمر ، ٢٤ تفيد نفس المعنى.

(٤). هناك آيات اخرى بنفس المضمون ، وفي الأعراف ، ١٤٧ و ١٨٠ ؛ سبأ ، ٣٣.

٧٦

جمع الآيات وتفسيرها

يومئذ كلٌ يرى عمله :

لقد أشارت الآيات الاولى الواردة في آخر سورة الزلزال ثلاث مرّات إلى مسَألة رؤية الأعمال (يَومَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) و (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ) ثم (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ).

«اشتاتا» : جمع (شت) على وزن (شط) بمعنى «التفرق» ، وقد يكون سبب تفرق صفوف الناس في ذلك اليوم ورود كل امة بإمامها أو أن يتفرق أهل الإيمان عن أهل الكفر والعلماء عن المتعلمين والشهداء عن غيرهم (١).

«مثقال» : بمعنى وزن ، والذرة هي الأجزاء الصغيرة جدّاً ، لذا فقد فسّرت الذرة أحياناً بذرات الغبار واخرى بالنملة الصغيرة جدّاً ، ويشير ظاهر الآيات بوضوح إلى أنّ الأعمال الصالحة أو السيئة تتجسد أمام صاحبها في المحشر ، ولو أنّ بعض المفسّرين ـ وبسبب عدم قبولهم لمسألة تجسم الأعمال للأسباب التي أشرنا إليها في بداية الموضوع ـ قالوا بالتقدير فقدروا كلمة «جزاء» ، والمراد حضور ومشاهدة جزاء الأعمال ، وقال البعض : إنّ الرؤية هنا بمعنى العلم والمعرفة أي المشاهدة بعين العقل ، وقال البعض الآخر : المراد مشاهدة كتاب الأعمال.

ومن المسلّم أنّ التفاسير الثلاثة لا تتوافق مع ظاهر الآية وذلك لأنّ تقدير أخذ (الجزاء) أو (صحف الأعمال)، مخالف لظاهر الآية والرؤية هنا بمعنى المشاهدة بالعين لا بالقلب التي تنصب مفعولين، فمن المعلوم أنّ الرؤية القلبية تتعدى إلى مفعولين والرؤية الظاهرية تتعدى إلى مفعول واحد، وفي هذه الآية لا نرى إلّامفعولاً واحداً لا أكثر (فتأمل).

والجدير بالذكر أنّ ابن عباس وبالرغم من كونه أقدم المفسّرين قد قبل هنا بمسألة رؤية الأعمال ، فيقول في رواية وردت عنه :

«ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شرّاً إلّاأراه الله إيّاه ، أمّا المؤمن فيغفر له سيئاته

__________________

(١). تاج العروس في شرح القاموس مادة (شت) ويقول البعض أنّها جمع شتيت والبعض الآخر جمع شتات.

٧٧

ويثيبه بحسناته ، وأمّا الكافر فيردّ حسناته تحسيراً له» (١).

ونرى في أحاديث المعصومين الواردة في تفسير الآيات تعابير واضحة تدلل على رؤية وحضور الأعمال ، منها ماقاله أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المعنى :

«فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده» (٢).

* * *

ونجد في الآية الثانية تعبيراً آخر في هذا المعنى ، فبعد الإشارة إلى كتاب الأعمال قال تعالى : (وَوَجَدُوا مَاعَمِلُوا حَاضِراً).

وقال تعالى : (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً).

لقد استبعد جمع من المفسّرين فكرة حضور الأعمال في هذه الآية فقد فسروها أحياناً بمعنى حضور أخبار الأعمال في كتاب الأعمال وأحياناً اخرى بمعنى حضور جزاء الأعمال ولكن البعض الآخر احتمل حضور نفس العمل (٣).

وعلى حد قول المرحوم العلّامة الطباطبائي «يمكن أن يكون ذيل الآية شاهداً على هذا الموضوع ، وذلك لأنّ حضور نفس العمل لإثبات نفي الظلم عنه تعالى أفضل وأوضح» (فتأمل جيداً).

* * *

ولقد طرحت الآية الثالثة هذا التعبير بصراحة وتفصيل أكثر ، وذلك لأنّ الكلام كان يدور في الآية السابقة حول الكافرين والمجرمين ، أمّا في هذه الآية : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّاعَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) ، فهناك قولان في تفسيرها :

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٤.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٥٠.

(٣). تفسير روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ٢٦٧ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ٢٥٤.

٧٨

الأول : هو أن يجد كل إنسان ما عمل من أفعال الخير والشرّ محضرة يوم القيامة.

الثاني : هو أن يجد كل إنسان ماعمل من أعمال الخير محضرة ويود أن تكون هناك فاصلة زمانية بينه وبين أعماله السيئة ، ويرجع هذا الاختلاف في تفسير الآية إلى مكان الوقوف فيها ، فمنهم من قال : «إنّ الوقوف بعد (محضراً) ومنهم من قال : إنّ الوقوف بعد سوء» (١).

لكن النتيجة في كلا التفسيرين واحدة ، وذلك لأنّ المستفاد من المعنى الثاني أيضاً هو حضور أعماله السيئة لديه وإن كان يتمنى وجود فاصلة بينه وبينها.

وقد ورد احتمال آخر لبعض المفسرين فيرى أنّ المجرمين يودون لو أنّ بينهم وبين السوء الذي عملوه أمداً بعيداً أو أن بينه وبين هذا اليوم أمداً بعيداً (٢).

ومن المعلوم أنّ الإنسان يتمنى أن يكون بينه وبين الامور التي ينفر منها فاصلة مكانية بعيدة ، في حين أنّ المراد بـ (أمداً بعيداً) الذي ورد في الآية الكريمة يقصد بها الفاصلة الزمانية البعيدة.

ومن الممكن أن يكون سبب هذا التعبير هو أنّ احتمال الحضور والتلاقي يكون أكثر في الفواصل المكانية ، أمّا احتماله في الفواصل الزمانية فهو معدوم.

فمثلاً أنّ الشخص الذي يعيش خلال سنوات الحرب العالمية يشعر بنوع من القلق والاضطراب ، حتى وإن كان بعيداً عن ساحة العمليات العسكرية ، أمّا الذين تفصلهم فواصل زمنية (بعيدة) عن تلك الحرب فهم لايشعرون بأي قلق أو اضطراب بسببها.

ومن المعلوم أنّ (الأمد) يأتي دائماً للزمان ، ويقول الراغب في مفرداته : «إنّ معناه يقترب من معنى (أبد) مع فارق بسيط هو أنّ (أبد) زمان ليس له أي حد محدود ، أمّا (أمد) فهو زمان له حد مجهول».

__________________

(١). الحالة الاولى (الواو) وما عملت من سوء استئنافية ، أمّا الحالة الثانية فلكون الواو : عاطفة فجملة «تود» جملة حالية.

(٢). ورد هذا الاحتمال في تفسير روح البيان ، ج ٢ ، ص ٢١ ؛ وفي تفسير في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٥٦٩.

٧٩

فالحديث في الآية السابقة يدور حول حضور الأعمال ، وتتحدث هذه الآية عن احضار الأعمال ، أي إنّها تتناول موضوعاً أوسع ، ووِفقها فإنّ الله تعالى وبقدرته المطلقة يحضر جميع الأعمال الصالحة والسيئة شاء صاحبها أم أبى ، ولذا قال بعض المفسّرين : إنّ هذا التعبير هو أكثر اخافة وفزعاً من تعبير الآية السابقة.

* * *

ونواجه في الآية الرابعة تعبيراً جديداً أيضاً حول هذا الموضوع ، قال تعالى : (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَاكَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَّاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

«بدا» : مشتقّة من مادة (بدو) بمعنى الظهور التام ، ولهذا قالوا للبراري (البادية) لظهورها بعكس المدن التي كانت تحاط بالأسوار والحصون فتختفي وراءها.

«سيئات ما كسبوا» : تعني أعمال السوء ، وقد فسّرها البعض بمعنى جزاء هذه الأعمال ، أو أنّهم قدروا كلمة جزاء ، ولكن ظاهر الآية يفيد أنّ أعمالهم السيئة تظهر واضحة جلية في ذلك اليوم ، وذلك لأنّ السيئات ـ جمع سيئة ـ تعنى العمل السيء وليس سوء العمل (تأمل جيداً).

ومن الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الكثير من الأعمال السيئة في هذا العالم تخفي صورتها الحقيقية مثل الرياء الذي يراد به غير الله تعالى ، ولكن في ذلك اليوم وهو يوم الكشف عن السرائر ويوم الظهور يكشف عن الوجه الحقيقي لجميع الأعمال ، كما نقرأ في الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير هذه الآية : «هي الأعمال حسبوها حسنات فوجدوها في كفة السيئات».

وهذا الحديث بدوره شاهد آخر على نظرية تجسّم الأعمال (١).

* * *

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ١٢١.

٨٠