نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

١
٢

٣

٤

المقدمة

الطرق إلى الله ... :

كما ورد في بداية هذا الكتاب فإنّ هناك حبلاً ممتداً من أعماق قلب كل إنسان متصلاً بالله عزوجل ، فتنطلق في روضةِ روح كلِ انسانٍ انشودةٌ تعبر عن هذا الإرتباط ، ولهذا السبب ، ونظراً لكثرة النفوس الإنسانية ، فإنّ الطرق إلى الله لا حصر لها ، ولكلّ إنسان نوع خاص به من الإدراك والشعور بالنسبة لله سبحانه وتعالى.

ولكن مع كل هذه الاختلافات فإنّ وجهة الجميع واحدة ، العالم بأسره منقاد له ، وينمو في أعماقِ روحِ كلِ إنسانٍ برعم من معرفة ذاته وصفاته ، وتُزهر في قلب كل إنسانٍ زهرةٌ من أزهار معرفته.

ويرتفع دائماً من «الوادي الأيمن» نداءُ (إِنّى أَنا رَبُّكَ) ويدعو الفطرة السوية الكامنة في كل النفوس الإنسانية إليه بصوت : (فَاخْلَع نَعْليكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوى). (طه / ١٢) يأمر الجميع بأن يسيروا بكل خضوع وخشوع واحترام وحذر شديد في الوادي المقدّس.

ويوصي جميع بني آدم بأن يعملوا بوصيته مثلما عملت مريم عليها‌السلام عندما أوصاها بقوله : (وَهزّى اليكِ بِجذْعِ النَّخْلةِ). (مريم / ٢٥)

فيهزّون الأغصان المثمرة لشجرة التوحيد لتتساقط عليهم ثمرات الإيمان والمعرفة الطيبة.

وأن لا يخشون أبداً من نيران شرك النمروديين ، وأن يكونوا إبراهيميين فيدخلونها بكل اطمئنان وهدوء ليطفئوا نيران الشرك المحرقة ويحيلونها إلى روضة للتوحيد.

وأن يركبوا في سفينة المعرفة المنجية كما ركبها نوح ، ليُغرق كل الذين يدعون ويلهجون بغيره ـ حتّى الكنعانيين منهم ـ.

٥

وأن ينهالوا بالضرب على رأس «السامري» دون وجل ، ويحرقوا بنار غضبهم المقدّسة عِجله الذهبي المنمَّق الذي يتسبب في جذب قلوب المتعلّقين بالدنيا ومحبّي الثروة واكتناز الذهب وينثروا رماده في بحر الفناء!

أجل فإنّ سالكي هذا الطريق يكرّرون ما قام به الأنبياء المرسلون في سيرهم الظاهري في هذا العالم من خلال سيرهم الباطني للوصول إلى الهدف والمراد وهو «معرفة الله».

وفي نهاية المطاف يلبّون النداء الروحي لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قولوا لا إله إلّاالله تفلحوا» ، فيقتربون من أعلى مقامات الفلاح والفوز من خلال ترديدهم لنغمة التوحيد الروحية السامية بجميع أجزاء وجودهم «حتّى الوريد والشريان».

فيخرجون بهذا السير والسلوك الإلهي من «دار الطبيعة» ليجدوا طريقهم إلى «دار الحقيقة» ومقام القرب الإلهي.

* * *

ولكن النقطة المهمّة تكمن في أنّ هذا الطريق يمتاز بكثرة المنحدرات والمرتفعات والمنعطفات التي تكمن في مسالكها شياطين الجنّ والإنس ، الذين يبذلون الجهد الجهيد و «بزخرف القول» لحرف سالكي هذا الطريق عن مسيرتهم لأنّ إمامهم وزعيمهم إبليس أقسم بعزّة الله وجلاله منذ البدء لإغواء بني آدم ، ولعلمه بأنّه «رجيم» ومطرود من حضرته ، فانّه يدعو الآخرين لاتباعه والاصطباغ بصبغته.

إنّ «الوسواس الخنّاس» هي صفة للشياطين الذين يضعون النقاب على وجوههم ، كالغول الاسطوري في قصص العرب ، يسيرون عدّة أيّام في جادة الصواب ، وبعد أن يجذبوا مجموعة من الناس إلى صفوفهم ، ينحرفون عن الصراط المستقيم ، ويلقون بهم في الأودية السحيقة «للضالين» و «المغضوب عليهم».

إذن ماذا ينبغي القيام به؟

وأين طريق النجاة؟

٦

يا ترى ، هل يمكن طي هذا الطريق بواسطة العقل المجرّد ، على الرغم من أنّ العقل يعد وسيلة من الوسائل التي وهبها الله تعالى للإنسان فهو نور من الأنوار الإلهيّة؟!

أم يجب ركوب أجنحة الوحي والصعود إلى سماء المعرفة ، فنتجاوز ضوء الشمع والمصباح ، ونمدُ أيدينا نحو الشمس المتلألئة ، فنستمد العون من نورها للوصول إليه ، لنحصل على الدليل من ذاته على ذاته؟

حيث إنّ مضمون حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنِ ابتَغى العِلْمَ في غيره (غير القرآن) أَضَلَّهُ الله» (١) ، ينصّ على ذلك ، وهل يوجد غيره ، يعرفه حقّ معرفته ليتمكّن من تعريفه للآخرين؟

إنّ هذا الكتاب وهو المجلّد الثالث من التفسير الموضوعي ل «نفحات القرآن» هو عبارة عن جهدٍ متواضع في هذا المجال لمعرفة الله في مختلف الطرق بتوجيه آيات القرآن المجيد ، وتأييد حكم العقل بلسان النقل ، وترسيخ اسس البرهان بآيات الوحي.

محرّم الحرام ١٤١٠ ه‍ ق قم المقدّسة ـ الحوزة العلمية

مرداد ١٣٦٨ ه‍ ش ـ ناصر مكارم الشيرازي

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٨٩ ، ص ٢٧.

٧
٨

براهين معرفة الله

١ ـ برهان النظم (قد ذكر سابقاً)

٢ ـ برهان التغيّر والحركة

٣ ـ برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)

٤ ـ برهان العلة والمعلول

٥ ـ برهان الصدّيقين

٦ ـ الطريق الباطني لمعرفة الله (الفطرة)

٩
١٠

تمهيد :

بالرغم من أنّ الطرق إلى الله لا حصر ولا حدود لها ـ وكما يقول بعض العلماء : إنّ السبل إلى الله هي بعدد الخلائق : «الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق» (١) ـ إلّاأنّه توجد خمس طرق عقلية رئيسية وطريق فطري واحد لإثبات ذات الله المقدّسة ، والطرق العقلية هذه عبارة عن :

١ ـ برهان النظم.

٢ ـ برهان الحركة.

٣ ـ برهان الوجوب والإمكان (الفقر والغنى.

٤ ـ طريق العلّة والمعلول.

٥ ـ برهان الصدّيقين.

والطريق السادس هو طريق «الفطرة» والسلوك «الباطن» والبحث في أعماق الروح الإنسانية ، ومن الملاحظ أنّ القرآن الكريم قد استند إلى هذه الطرق أجمع ، غير أنّ أشمل البراهين التي يطرحها للمعارضين هو (برهان النظم) الذي يثبت وجود ذلك المبدئ الأزلي وما يملكه من علم وقدرة ، وذلك من خلال عرض عجائب الخلق والآثار البديعة والأنظمة العجيبة في عالم الوجود ولذا خُصّص أكثر الجزء الثاني من (نفحات القرآن) لشرح هذا البرهان وتبيان موارده ـ وشواهده في القرآن الكريم.

__________________

(١) نقله البعض بعبارة (عدد أنفاس الخلائق) ويعني أنّ كلّ نفس يتنفّسه الإنسان هو طريق الله. ولكن هذه الجملة لم نجدها بصورة حديث في مصادرها بل وردت في كلمات العلماء.

١١

والآن نتابع سائر الطرق القرآنية لإثبات وجود الله ، ثمّ نتحدّث عن قضيّة الفطرة في ظلّ التوجيهات القرآنية.

هذه صورة إجمالية عن أبحاث هذا الجزء.

نؤكّد مرّة اخرى ونكرر بأنّ هذه الأبحاث لا تُقدّم كأبحاث فلسفية أو كلامية ، بل كأبحاث في التفسير الموضوعي كما تقتضيه طبيعة الكتاب ، أي أنّنا نسير في هديّ الآيات القرآنية ونستضيء بتوجيهات هذا النور الإلهي ، ولو كانت ثمّة قضايا اخر فإنّا سوف نتحدّث عنها تحت عنوان (إيضاحات) ، وأبحاثنا ـ في الحقيقة ـ لا تستوجب غير ذلك ، لأنّها في غير هذه الحالة سوف تفقد أصالتها كأبحاث تفسيرية.

* * *

١٢

٢ ـ برهان التغير والحركة

تمهيد :

إنَّ عالمنا الذي نعيش فيه هو في حالة تغيير وتغيّر دائم ، فلا يبقى الوجود على حالة واحدة ، وكلّ شيء يعيش حالة من التغيّر والتغيير.

ويبدو أنّ نطاق حياة البشر والحيوانات والنباتات المقترنة بالتغيير والحركة أوسع وليس بوسع أحد أن ينكر هذا التغيير والتبدّل على صعيد نفس الإنسان أو على صعيد عالم المادّة ، فالإنسان يواجه مشاهد مختلفة من هذا التغيير ليلاً ونهاراً ، بل إنّ ظاهرتي (الليل والنهار) هما من أوضح النماذج عن التغيير والتبدّل في العالم.

هذه التغيّرات والتغييرات والحركات التي تحكم العالم تدلّ بوضوح على وجود مركز ثابت تنشأ منه ، وكأنّ الجميع يدور حول هذا المركز الثابت على محيط دائرة.

والتغيير والحركة في الموجودات يعدان بمثابة شاهد على حدوث الموجودات ، كما أنّ حدوثها دليل على وجود خالقها.

هذا الاستدلال ـ الذي سَيرِدُ شرحُهُ بالتفصيل مستقبلاً ـ ورد في الآيات القرآنية بلطافة خاصّة ، وبهذه الإشارة نرجع إلى القرآن الكريم كي نقرأ هذه الآيات :

(وَكَذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَّمَا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَءَا القَمَر بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّم يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ* فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكبَرُ فَلمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَومِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّى وَجَّهتُ وَجْهِىَ لِلَّذِىْ فَطَرَ السَمَاواتِ والأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكِينَ). (الأنعام / ٧٥ ـ ٧٩)

١٣

شرح المفرادت :

١ ـ «أفل» : و «أفلت» مشتقة من مادة (افول) وتعني الإختفاء كما يقول جمع من اللغويين ، ولكن (الراغب) في (المفردات) أكثر دقّة حيث يقول : الافول يعني اختفاء الأجسام النيّرة كالشمس والقمر ، والصحيح هو ما يذهب إليه الراغب ، لأنّ هذا المعنى هو المتبادر من إطلاق هذا اللفظ ، كما أنّه ذو معنى كنائي في بعض المجالات ، فمثلاً يعبّر عن موت العالم ب (الافول) ، وفي ذلك ـ في الحقيقة ـ تشبيه بالشمس أو النجم ، والتعبير بالافول والغروب هو بهذا اللحاظ.

٢ ـ كلمةُ «بازغ» و «بازغة» مشتقةٌ من المصدر (بزوغ) بمعنى الشروق وانتشار النور ، كما يذهب إليه الراغب في المفردات فيقول هو في الأصل يعني اخراج دم الحيوان بُغية العلاج ثمّ استعمل بمعنى الطلوع.

أمّا ابن منظور فانّه يقول في (لسان العرب) : الأصل فيه بمعنى الفتق ويستعمل في موارد فتق العروق في الإنسان أو الحيوان من أجل العلاج وبما أنّ طلوع الفجر وأمثاله يشقّ ظلام الليل لذا استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى.

٣ ـ «كوكب» : مشتقٌ من «وكب» أو (كوَب) وقد فسّره الكثير بمعنى (النجم) ، ولكن الراغب في المفردات فسّره بمعنى (النجم عند الطلوع) ، وعندما يفسّره البعض بمعنى كوكب (الزهرة) فهو من قبيل المصداق الواضح له ، لأنّ كوكب الزهرة هو أشدّ النجوم تلألؤاً ولمعاناً.

كما يطلق هذا اللفظ أحياناً على الوسيم والجميل ، أو الجزء المهمّ من كلّ شيء ، وعلى كبير القوم أيضاً ، ولكنّها معانٍ مجازية في الظاهر.

أمّا «قمر» : وإن كان معروفاً ، ولكن توجد هنا نقطة جديرة بالإلتفات وهي أنّ الكثير من اللغويين صرّحوا بأنَّ لفظ «القمر» يطلق في فترة تمتدّ من الليلة الثالثة وحتّى الليلتين الأخيرتين من الشهر ، وعليه لا يطلق لفظ القمر في الليلتين الأوليين ولا في الليلتين الأخيرتين بل يطلق لفظ (الهلال) ، لأنّ اللغويين يعتقدون بأنّ (القمر) و (القمار) من أصل

١٤

واحد ويعني الغلبة ، وبما أنّ نور القمر في الليلة الثالثة يتغلّب على أنوار النجوم المجاورة ، لذا أطلق عليه هذا اللفظ (١).

«شمس» : هذا اللفظ وإن كان له معنى معروف ولكن من الجدير أن نذكر هذه الملاحظة وهي أنّ لفظ الشمس يطلق على الكوكب نفسه وعلى النور الساطع منه أيضاً.

وبما أنّ الشمس غير ثابتة في السماء وهي في حركة دائبة (بالنسبة لنا سكّان الأرض) لذا يطلق هذا الاصطلاح على الأشخاص الفوضويين والحيوانات الجموحة فتُعرف بـ (الشَموس).

جمع الآيات وتفسيرها

إبراهيم عليه‌السلام يواجه عبدة الأصنام بمنطق قوي :

تحدثت الآية الاولى عن إراءة الله سبحانه (ملكوت) السماوات والأرض لإبراهيمعليه‌السلام كي ينبعث اليقين في نفسه بمشاهدتها ، وتتجدّد الحياة في إيمانه الفطري حيث تقول (وَكَذلِكَ نُرى ابرَاهِيمَ مَلَكوتَ السَّماوَاتِ والأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنينَ) (٢).

إنّ المقصود من (إراءة ملكوت السماوات والأرض) هو مشاهدة حكومة الله ومالكيته لعالم الوجود بملاحظة الموجودات المتغيّرة في هذا العالم [لأنّ لفظ (ملكوت) مشتق من (ملك) بمعنى الحكومة والمالكية ، وزيادة الواو والتاء للتأكيد] هذه الحاكمية المطلقة والمالكية المسلّمة لله على العالم جاءت بالتفصيل في الآيات اللاحقة ، وهذه الآيات ـ في الحقيقة ـ جاءت على صورة البيان (الإجمالي) و (التفصيلي) وهو من الأساليب القرآنية المعروفة في بيان القضايا المهمّة ، ففي البداية تذكر القضية بشكل مغلق كي يستعدّ السامع ثمّ تشرع بشرحها [التعبير بفاء التفريع في «فلمّا» إشارة واضحة إلى هذا الأمر].

__________________

(١) لسان العرب ؛ مفردات الراغب ؛ كتاب العين.

(٢) يقول بعض المفسّرين بأنّ في تشبيه الآية إشارة إلى أنّنا كما أريناك ـ يانبي الإسلام ـ ملكوت السماوات والأرض فانّا قد أريناها إبراهيم أيضاً (وعليه ففي الآية جملة مقدّرة).

١٥

على أيّة حال فإنّ القرآن اعتمد تبيان هذا الإجمال في الآيات اللاحقة ، فبدأ أوّلاً بالنجوم وبيّن استدلال إبراهيم عليه‌السلام في إبطال مذهب عبدة النجوم بهذا النحو : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هذَا رَبِّى).

التعبير بـ «رأى كوكباً» مع أنّ نجوماً كثيرة تظهر في الليل ـ فيه إشارة إلى نجم كبير ولامع لفت نظره إليه ، وبما أنّ كوكب «الزُهرة» يظهر أوّل الليل و (كوكب) يعني (النجم عند طلوعه) يتعزز بذلك التفسير الذي يميل إليه أغلب المفسّرين وهو أنّ النجم كان الزُهرة أو المشتري اللذين كانا يعتبران في العصور القديمة من الآلهة المعبودة عند المشركين ، ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في إحدى الروايات بأنّ هذا النجم هو كوكب الزُهرة.

على كلّ حال فإنّ هذا النجم لم يدم طويلاً حتى أفل ، فقال إبراهيم عليه‌السلام : (... لَااحِبُّ الآفِلينَ).

مرّة اخرى التفت إبراهيم إلى بزوغ (القمر) من وراء الافق فأضاء السماء والأرض بنوره الأخاذ والجميل فقال إبراهيم عليه‌السلام : (هَذَا رَبّى).

ولكن لم يدم طويلاً حتّى تعرّض القمر إلى مصير النجم واختفى وراء الافق وعادت السماء مظلمة ، (عندئذ قال إبراهيم عليه‌السلام الذي كان يسعى للوصول إلى حقيقة وكنه المعبود : (لَئِن لَّم يَهِدِنى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ).

وبهذه الطريقة تبين أنّ سعي الإنسان لا يكفي للوصول إلى الحقّ ، بل يجب أن يتعزز بالعون والعناية الإلهيّة وكي لا يكون من الضالّين ، ومن المؤكّد أنّ هذا الإمداد والعون يشمل الذين يجهدون أنفسهم في ابتغاء الحقّ ، وطلب معرفة الله سبحانه وتعالى.

وأخيراً انتهى الليل ، وأخذ الظلام يلم ستائره التي أسدلها على السماء ، وبزغت الشمس فجأةً بوجهها النيّر المتلألئ من الشرق وألقت بأشعتها الذهبية على الجبال والصحاري ، (فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هذا أَكبَرُ) (١).

__________________

(١) «الشمس» وإن كانت مؤنثاً مجازياً ويجب أن يشار إليها ب (هذه) ولكن نعلم أنّ قضيّة المذكر والمؤنث سهلة وهنا يمكن أن يكون (هذا) إشارة إلى (الموجود) أو (المشاهد).

١٦

ولكن بانتهاء النهار وسقوط الشمس في جوف الليل المظلم واختفاء صورتها خلف حجاب الغروب ، نادى إبراهيم عليه‌السلام : (يَاقَومِ إِنِّى بَرىِءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ).

لقد فهم إبراهيم عليه‌السلام من خلال مشاهدته لغروب الشمس وأفول النجم وغياب القمر ، بأنّ كل ما رأى ما هي إلّامخلوقات خاضعة لقوانين الخلقة كالأفول والغروب والتغيير ، وفهم بأنّ هناك قوّة خفية لا يعتريها التغيير والغروب والافول أبداً ، وهذه القوة تتمثل بالذات الإلهيّة المقدّسة.

* * *

وقال : إنّي وَجّهتُ وجهي إلى مَن خلق السماوات والأرض ، ولا أُذعن للشرك أبداً ، إنّي موحّد كامل التوحيد وعابد وعبد مخلص : (إِنِّى وَجَّهتُ وَجهِىَ لِلذَّى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكيِنَ).

هل وقعت الحوادث الثلاثة في ليلة واحدة أم في ليلتين؟

قال بعض المفسّرين ـ نظراً لعجزهم عن تصوّر وقوعها في ليلة واحدة ـ أو في ليلتين ، فقد قالوا إنّ ظاهر الآيات يدل على أنّها تعاقبت في ليلة واحدة ونهار واحد وهذا ممكن تماماً ، لأنّ كوكب الزهرة يظهر منتصف الشهر وبوضوح في أوّل الليل ثمّ يأفل سريعاً ، ثمّ يظهر القمر بدراً من افق الشرق [والتعبير بـ «بازغ» يدلّ على أنّ القمر كان بدراً أو قريباً منه] وعندما يختفي القمر في افق الغروب لا تلبث الشمس حتّى تشرق ، وبهذا الترتيب تكون الوقائع الثلاث قد حصلت في ليلة واحدة ونهار واحد.

وهذا الأمر ليس مهماً ، المهم أن نعرف هو كيف يمكن لشخص مثل إبراهيم عليه‌السلام وبهذه المكانة العلمية والعرفانية ومع الأخذ بنظر الاعتبار عصمة ومقام الأنبياء وحتى قبل بعثتهم ، أن يجرى على لسانه مثل هذا الكلام والذي يحمل في طياته شركاً ظاهراً؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بطريقين :

الأوّل : بقرينة الآيات الواردة حيث يقول : (يَاقَومِ انّى بَرىِءٌ مَّمّا تُشرِكُونَ) يُفهم أنّه كان

١٧

في حالة التحدّث والكلام والجدال مع المشركين ونعلم أنّ مدينة بابل كانت تضم عبدة النجوم والقمر والشمس.

إنَّ المعلّم الذكي والمتحدّث الماهر عندما يواجه المعارض اللجوج المعاند فلا يقابله بمعارضة عقيدته فوراً بل يماشيه فترة ، وبتعبير آخر يتحرّك مع الموجة قليلاً ثمّ يركبها ، وبهذا النحو يكون إبراهيم عليه‌السلام في بداية الأمر معهم ظاهراً لكي يريهم ضعف عقيدتهم ومنطقهم عند افول هذه الأجرام السماوية ، وهذا الاسلوب في النقاش مؤثّر ونافذ ومقبول كثيراً ولا يتنافى مع ما لإبراهيم عليه‌السلام من مقام في التوحيد والمعرفة.

في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في جوابه للمأمون الذي كان يعتقد بتعارض هذه الآيات مع عصمة الأنبياء أنّه قال : «... إنّ إبراهيم عليه‌السلام وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ... وكان قوله هذا على الإنكار والإستخبار ...» (١).

والتفسير الآخر هو أنّ إبراهيم عليه‌السلام ألقى هذا الكلام بشكل فرضي ، والمحقّقون يواجهون ذلك في الغالب عند التحقيق.

للإيضاح نقول : يتوصّل الإنسان تارةً إلى قضيّة ما عن طريق الاستدلال الوجداني والشواهد الفطرية ولكنّه يريد أن يجعلها في إطار البرهان العقلي ، فيستعين بفرضيات مختلفة ويدرس مستلزمات كلّ فرضية حتّى يصل إلى ما يريد.

فمثلاً : يتوصّل المحقّق إلى أصالة الروح بوجدانه ويرغب في إقامة البرهان على ذلك فيفترض الروح مادّية أو أنّ المادّية من خواصها ثمّ يدرس اعراض المادّة وخواصها ومستلزماتها فيصل أخيراً إلى أنّ الماديّة (أو اعراض المادّة) لا تنسجم مع الظواهر الروحية فينفيها الواحدة تلو الاخرى حتّى يبلغ تجرّد الروح.

وإبراهيم عليه‌السلام أيضاً ولكي يسلك طريق التوحيد المنطقي والذي توصّل إليه بوضوح في أعماق روحه يفترض فرضيات مختلفة ويقول (هذا ربّي) و (هذا ربّي) ثمّ يصل إلى بطلان

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام باختصار ، بنقل من تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ٢١٤.

١٨

هذه الاحتمالات بافولها وغروبها حتّى يقول أخيراً : (إِنّىِ وَجَّهتُ وَجهىَ لِلَّذى فَطَر السَمَاواتِ وَالأَرضَ) (١) ويكمل توحيده المستدل.

ونلاحظ في بعض الروايات إشارات خفيفة إلى هذا المضمون ، كما نقرأ عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمّةً وَاحدةً) الآية في حديث طويل ... وفي آخره يقول الراوي : قلت له : أفي ضلال كانوا قبل النبي أم على هدى؟

قال عليه‌السلام : «لم يكونوا على هدى بل كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم الله أما تسمع لقول إبراهيم عليه‌السلام : (لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين) أي ناسياً للميثاق» (٢).

ولكن القرائن الموجودة في الآيات والروايات التي وردت عن الإمام الرضا عليه‌السلام في هذا المجال أكثر تلائماً مع التفسير الأوّل.

* * *

العلاقة بين الأفول والحدوث :

لقد استدلّ إبراهيم عليه‌السلام بافول الكواكب والشمس وغروبها على نفي الوهيتها ، وقال بأنَّ هذه الموجودات لا يمكنها أن تكون آلهة للعالم ، والكلام هنا كيف يمكن توضيح هذه العلاقة؟

توجد هنا آراء مختلفة :

١ ـ (الأُفول) علامة التغيير ، بل هو لون من التغيير ، والتغيير دليل على نقص الموجود ، لأنّ الموجود الكامل من كلّ جهاته لا تتَصوّر فيه الحركة ولا التغيير لأنّه لا يفقد شيئاً ولا

__________________

(١) وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات أعلاه منها الإستفهام الإستنكاري والإستفهام بقصد الإستهزاء وأمثاله ، وخاصّة في تفسير التبيان وتفسير الفخر الرازي حيث أوردا احتمالات عديدة ، ولكن لا ينسجم أي منها مع لحن الآية.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٣٦ ، ح ١٤٨.

١٩

يكتسب شيئاً فهو الكمال المطلق ، وعلى ذلك فإنّ الموجودات المتغيّرة والمتحرّكة تكون ناقصة حتماً فهي إمّا تفقد كمالاً ، أو أنّها تبحث عن كمال جديد ، والموجود الناقص لا يمكن أن يكون واجب الوجود.

٢ ـ الموجود المقرون بـ (الافول) معرّض للحوادث ، وكلّ ما كان معرّضاً للحوادث لا يمكن أن يكون قديماً وأزليّاً وواجب الوجود لاستلزامه الجمع بين (الحدوث) و (الأزلية) وبين هاتين الظاهرتين حالة من التضاد.

٣ ـ كلّ حركة تحتاج إلى محرّك من الخارج ، فإن كان ذلك المحرّك متحرّكاً فعلينا أن نبحث عن محرّك آخر حتّى نصل إلى وجود ليس فيه حركة مطلقاً.

٤ ـ الحركة ـ وخاصّة الحركة نحو الافول ـ دليل على أنّ عالم المادّة صائر إلى الفناء [وهو أصل الكهولة و (الأنتروبي) الذي سنشيرُ إليه] وكلّ ما كان مصيره الفناء لا يكون أبديّاً حتماً ، ومثل هذا الموجود لا يكون أزليّاً قطعاً ، وبذلك لا يمكن أن يكون واجب الوجود.

إنَّ كلّ واحدة من هذه الاستدلالات التي ذكرت يمكن أن تكون لها القابلية على استدلال النبي إبراهيم عليه‌السلام بها ، ويمكن أن يكون كلام إبراهيم إشارة طريفة إليها جميعاً.

ينقل (الفخر الرازي) عن بعض المحقّقين : أنّ استدلال إبراهيم من السمو والشمول ما يجعله مورداً لاستفادة الخاصّة والمتوسّطين والعوام.

أمّا الخاصّة فانّهم يفهمون حقيقة (الإمكان) من (الافول) وكلّ موجود ممكن هو بحاجة إلى خالق ، وهذه السلسلة متّصلة حتّى تنتهي بالطاهر المنزّه من الإمكان ولا سبيل إلى ذاته ، كما نقرأ في قوله تعالى : (وأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنتَهَى). (النجم / ٤٢)

وأمّا المتوسّطون فانّهم يفهمون من الافول مطلق الحركة وأنّ كلّ متحرّك حادث وكلّ حادث محتاج إلى وجود القديم الأزلي ، وأمّا العوام فانّهم يفهمون الغروب من الافول ويشاهدون الشمس والقمر والكواكب تمحى وتضمحل عند الغروب وتزول سلطتها وحكومتها ، ومثل هذه الأشياء لا تصلح للُالوهية ، إذن جملة : (لا احبُّ الآفِلِينَ) كلام يستفيد منه (المقرّبون) و (أصحاب اليمين) و (أصحاب الشمال) وهذا أكمل وأوضح برهان (١).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٥٢.

٢٠