نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

الشوك ، أشدّ مرارة من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحرّ من النّار ، سمّاه الله ضريعاً) (١).

ويفهم من جملة (لَا يُسمِنُ وَلَايُغنِى مِن جُوعٍ) أنّ مثل هذا الطعام لا يقوّي الجسم ولا يشبع من الجوع ، بل هو طعام غصص وهو بذاته نوع من العذاب ، كما نقرأ في قوله تعالى : (وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً الِيماً). (المزمل / ١٣)

ولكن ينبغي عدم التعجب من مثل هذا العذاب الصارم الذي هو في انتظار المجرمين الذين كانوا يملأون بطونهم في هذه الدنيا بأنواع الأطعمة اللذيذة الدسمة والحلوة والتي يحصلون عليها بالتجاوز على حقوق الآخرين بأنواع المظالم والتعدّي ، بينما توجد حولهم الكثير من البطون الجائعة التي لم تشبع طيلة عمرها ولا حتّى مَرّة واحدة ، ويموت سنوياً ملايين الأشخاص جوعاً في البلدان الأخرى وفي الوقت الذي يرمي المجرمون بالفاضل من طعامهم في المزابل ، يجب أن يأكلوا مثل هذا الطعام في العالم الآخر.

ونرى هنا ضرورة إعادة الكلام الذي كررناه مَرّات متعددة وهو أنّ هذه التعابير كلها إشارات إلى أليم العذاب في العالم الآخر ، وإِلّا فلا نعم الجنّة ولا عذاب جهنّم يمكن إدراكها من قبلنا نحن المحبوسين في سجن الدنيا ، وكل ما نشاهده هو شبح يترائى لنا من بعيد.

وهنا يرد اعتراض بديهي وهو أنّ الآية (٦) من سورة الغاشية تفيد أنّ طعام أهل النّار هو من «الضريع» فقط : (لَيسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَريِعٍ) بينما تذكر الآيات الآنفة نوعين آخرين من طعام أهل النّار وهما «الزقّوم» و «غسلين». وكذلك الآية ٣٦ من سورة (الحاقّة) تحدّثت عن الغسلين وقالت : إنّه الطعام الوحيد لأصحاب جهنّم.

وقد وردت أجوبة مختلفة عن هذا السؤال ، وأهمها الثلاثة الآتية :

١ ـ إنّ كلمات «الضريع» و «الزقّوم» و «الغسلين» تعطي جميعاً معنىً واحداً وهو النبات الخشن كريه الطعم والرائحة والذي ينمو في جهنّم (لكن هذا التفسير لا يتّسق مع ما جاء بشأن الغسلين في الكثير من كتب التفسير واللغة).

٢ ـ اعتبر البعض كلمتي «الزقّوم» و «الضريع» بمعنى واحد وهو ما سبقت الإشارة إليه

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ـ ١٠ ، ص ٤٧٩ ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٢١

ويمثل طعام أصحاب النّار ، أمّا «غسلين» فهو شرابهم ، والتعبير عن الأشربة بالطعام ليس بالأمر الجديد.

٣ ـ أنّ الأطعمة الثلاثة المذكورة أعلاه يختص كل لون منها بطائفة خاصة من أصحاب النّار مستقرة في طبقة واحدة منها ، وهذا الجواب هو الأنسب من بينها.

* * *

وفي الآية الخامسة تكرر الحديث عن الشراب الرديء لأصحاب النّار ، فقالت الآية الشريفة في وصف حالهم : (انَّا اعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَان يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهِل يَشوِى الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً).

يُلاحظ أنّ هذه العقوبات القاسية قد أُعدّت للظالمين الذين كانوا يعيشون مُنعمين مُترفين في هذه الدنيا خلف ستائر رقيقة ملوّنة يحتسون أنواع وألوان الشراب السائغ اللذيذ وتزهو حفلات شرابهم بسُقاة صبوحي الوجوه ، أمّا في جهنّم فهم يتعذبون خلف ستائر من نار وحينما يطلبون الماء يُسقون بماء كأنّه المعادن المذابة وحرارته دموع اليتامى وآهاتهم لأنّ ما يظهر هناك هو تجسيد لما كان هنا.

فهل يمكن شرب الماء الذي تشوي حرارته الوجوه؟ يدل هذا على أنّ بُنية الإنسان تختلف هناك كثيراً عمّا هي عليه هنا ، وأنّ بناءها قد وضع بالشكل الذي يحتمل كل هذه الامور ، فهو يذوق الألم والعذاب من غير أن يموت ، أو أنّ ذلك إشارة إلى أنّه حينما يرى مثل هذا الماء ينصرف عن تناوله ويبقى يتلوّى في نار العطش.

وكلمة «المُهل» على وزن (قُفْل) تعني ـ كما قال جماعة من المفسّرين وأصحاب اللغة ـ ما يتبقى في أسفل آنية الزيت فيكون وسخاً كريه الرائحة عادة.

وقال المرحوم الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان : «إنّه المعدن المذاب في حين خصصه بعضهم بالنحاس المذاب» وقيل إنّه ماء أسود فجهنّم سوداء وماؤها أسود وشجرها أسود

٣٢٢

وأهلها سود (١). وقال آخرون : «إنّه ضرب من القَطِران ، وقيل : هو السمّ» (٢).

إنّ هذه المعاني وإن كانت متفاوتة ، إلّاأنَّ نتيجتها واحدة وهي الألم والعذاب الأليم لأصحاب النّار.

* * *

وفي القسم السادس من الآيات يلاحظ تعبيران آخران بخصوص أشربة أصحاب النّار ، وهما «الحميم» و «الغساق» وقد جاء أحدها إلى جانب الآخر ، فتقول الآية : (لَّايَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً* إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً). (النَّبأ / ٢٤ ـ ٢٥)

وقد فسّر أكثر المفسرين كلمة «الحميم» بمعنى الماء الحار الحارق ، والكلمة مشتقّة من «حَمَّ» وتعني الحرارة ، و «الغساق» مأخوذ من المصدر «غَسَق» وتأتي هذه الكلمة أحياناً بمعنى الظلام وأحياناً بمعنى الجريان والانسياب ، وهو هنا الصديد الذي تنضح به أجسام أصحاب جهنّم.

وممّا لا يخفى أنّ الشخص الذي يكون إلى جانب النّار أو في داخلها يصيبه العطش الشديد ، وحتّى في أجواء الصيف الحارّة يغلب مثل هذا العطش ولا يروى إلّابتناول مقدار من الشراب البارد ، أمّا أصحاب النّار فلا شراب بارد لديهم ، بل إنّ شرابهم حار كحرارة النّار فيزيد من عطشهم.

ولكن هل يعني هذا الكلام أنّهم عند مشاهدتهم لهذا الشراب ينصرفون عن تناوله ويبقون يتحرّقون في نار العطش؟ أم أنّهم يشربونه بالاجبار ، فيتزايد عطشهم شيئاً فشيئاً؟ إنّ التعبير عن تلك الحالة بكلمة «الذوق» يجعل الموقف مناسب للتفسير الثاني.

رغم أنّ البعض يميل إلى تفسير كل هذه العبارات والتهديدات بخصوص أصحاب النّار تفسيراً معنوياً وروحياً ، كنتيجة للابتعاد عن الله والاقتراب من أُفق الشياطين ، ولكن كما قُلنا مراراً لا يحق لنا حمل الألفاظ على خلاف ظاهرها بلا قرينة واضحة.

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٤٦٦ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٤٠١١.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٤٠١١.

٣٢٣

وفي المجموعة السابعة والأخيرة من هذه الآيات ورد ذكر شراب أصحاب النّار بتعابير اخرى ، كما في الآية الشريفة : (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِّنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسقَى مِنْ مَّاءٍ صَدِيدٍ* يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيْغُهُ وَيَأتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِميِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ).

كلمة «الصديد» أصلها (الصد) وتعني الاعراض والعدول والانحراف عن الشيء ، ثم أُطلقت على الخراج والصديد الذي يتجمع بين الجلد واللحم أثناء حصول أي جرح وربّما سبب ذلك هو انحراف المزاج وتغيّره من السلامة إلى المرض.

يقول الراغب في المفردات : وضرب مثلاً لطعام أهل النّار (بأنّه طعام رديء وكريه الرائحة والطعم).

والدليل على كونه فاسداً ورديئاً هو أنّهم لا يشربونه عن رغبة أبداً بل كرهاً واجباراً ويتحملونه جرعة فجرعة ، وهم في موقف مرير ومؤلم وكأنّ الموت يتهددهم من كل صوب إِلّا أنّهم خلقوا بالشكل الذي لا يموتون فيه حتى مع نيل جزائهم.

ومّما يسترعي النظر هنا هو أنّ هذا العذاب الأليم المذكور في هذه الآية والآيات الاخرى يختص بالظالمين والجبابرة والطغاة (حيث وردت أحياناً كلمة «طاغين» وأحياناً كلمة «جبار» وكلمة «الظالمين» في أحيان أُخرى وهذه هي عاقبة الظلم والجور وما هي إلّا تجسيداً لما صدر عنهم من عذاب بحق الأبرياء الذين كانوا كثيراً ما يقضون السنوات الطويلة في سجونهم لا يذوقون إلّاأردأ أنواع الطعام والشراب ، ويتعرّضون لأشدّ العذاب حتى أنّ مظاهرهم تتغيّر ولا يعود أحد يميزهم حتّى امّهاتهم (كما هو الحال في وقائع سجناء الحجّاج الرهيبة. وفي عصرنا الحالي رأينا أو سمعنا بنماذج منها بحق المسجونين في سجون الطغاة).

فهل أنّ أمثال هؤلاء لا يستحقّون مثل ذلك العذاب؟

يتّضح من مجموع ما ورد في هذه الآيات أنّ إحدى أسوأ العقوبات التي يواجهها أهل النّار هي الطعام والشراب أي الأشياء التي ينبغي أن يلتذ بها الإنسان فتصبح وبالاً عليه

٣٢٤

وسبباً للعذاب والألم. وقد وُصف طعامهم بـ «الزقوم» حيناً وبـ «الضريع» حيناً وبـ «الغسلين» حيناً آخر ، ووصف شرابهم بكلمات من قبيل : «المهل» و «الصديد» أحياناً أو «الغساق» أحياناً أُخرى ، وهي على العموم أوصاف للأطعمة والأشربة الحارّة المحرقة الكريهة الطعم والرائحة ، وكلّما تمعنّا في أعمال هؤلاء المجرمين في الدنيا وما ارتكبوه بحق المظلومين ، فلن نعجب من شدّة تلك العقوبات.

ندعو الله تعالى أن يجنّبنا بلطفه وكرمه كل ذنب تتبعه مثل هذه العقوبات.

* * *

٤ ـ ثياب أهل النّار

تمهيد :

كل شيء في النّار عليه صبغة العذاب والعقاب ، حتّى الثياب التي تلبس عادة للوقاية من الحر والبرد ووسيلة لمواجهة بعض الأضرار التي قد تصيب البدن ، وتُتّخذ كذلك كأداة للزينة والتجمّل ، نعم ، حتّى هذه الثياب تتحول هناك إلى واحدة من أسباب الألم والعذاب.

نعود إلى القرآن بعد هذا التمهيد السريع ونقرأ خاشعين الآيات الآتية :

١ ـ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّنْ نَّارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِم الحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِم وَالجُلُودُ* وَلَهُم مَّقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّمَا ارَادُوا ان يَخْرُجُوا مِنهَا مِنْ غَمٍّ اعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَريِقِ). (الحج / ١٩ ـ ٢٢)

٢ ـ (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ* سَرَابِيلُهُمْ مِّن قَطِرَانٍ وَتَغشَى وجُوهَهُمُ النَّارُ). (إبراهيم / ٤٩ ـ ٥٠)

جمع الآيات وتفسيرها

أشارت الآية الاولى إلى طائفة من الكفّار الذين يجادلون باستمرار حول الخالق جلّ شأنه ، فتقول : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّنْ نَّارٍ).

٣٢٥

فهل يُفهم من هذا الكلام أنّ النّار محيطة بهم من كل جانب وكأنّها غدت لباساً لهم؟ أوقطعاً حقيقية من النّار قد فُصّلت لهم وخيطت على هيئة الثياب؟ ظاهر الآية يشير إلى صحّة التفسير الثاني ، والأكثر إيلاماً لهم من ذلك أنّهم : (يُصَبُّ من فَوقِ رؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ). ثم تصف الآية فعل هذا الماء الحميم على بطونهم وجلودهم قائلة : (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِم وَالجُلُودُ).

كلمة «يصهر» : مأخوذة من المصدر «صَهْر» على وزن «نَهْر» ويعني إِذابة الشحم أو ما أشبهه ، وتُطلق أيضاً على كل ما يحمى ويتغير بفعل حرارة الشمس.

ثم تتحدث الآية عن العقوبات الأُخرى قائلة : (وَلَهُم مَّقَامِعُ مِن حَدِيدٍ).

«المقامع» : جمع «مِقمع» على وزن «مِنْبَر» وفُسّرت أحياناً بمعنى السوط وأحياناً أُخرى بالعمود الذي يُضرب به على رأس الشخص.

ثم أخيراً تصوّر الآية وضعهم الأليم بالهيئة الآتية : (كُلَّمَا ارَادُوا ان يَخْرُجُوا مِنهَا مِنْ غَمٍّ اعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَريِقِ).

لا شك أنّ هذه العقوبات المؤلمة حتى وإن حصل أقل منها في الدنيا تؤدّي إلى موت الإنسان : لكن البناء الجسدي للمجرمين هُناك يكون بالشكل الذي لا يؤدّي إلى القضاء عليهم لتنفيذ هذه العقوبات ، ليذوقوا جزاء أعمالهم. وهذا يدل على أنّ القوانين السائدة في ذلك العالم تختلف عمّا هو موجود في عالمنا هذا ، (فتأمّل).

* * *

نُشاهد في الآية الثانية تعبيراً جديداً عن ثياب أهل النّار ، ورد فيها : (سَرَابِيلُهُمْ مِّن قَطِرَانٍ وَتَغشَى وجُوهَهُمُ النَّارُ).

«سرابيل» : جمع (سربال). قال الراغب في المفردات ، هو القميص من أي مادة كان.

وورد نفس هذا المعنى أيضاً في «لسان العرب» و «صحاح اللغة» ، وفسّرها البعض الآخر بأي نوع من الثياب.

٣٢٦

وجاء في كتاب «التحقيق» أنّ السربال يعني الثوب الذي يغطّي القسم الأعلى من البدن ، وكلمة «سروال» بمعنى الشيء الذي يغطّي الجزء الأسفل منه ، وأُطلقت لفظة السربال أيضاً على القماش الذي لم يُخط وُيلقى على البدن وعلى الدرع التي تلبس في الحرب.

أمّا «القطران» (ويُلفظ أحياناً قَطْران وأحياناً قِطران) فيعني مادّة سوداء قابلة للاحتراق وتبعث عند احتراقها رائحة كريهة ، وتستخرج هذه المادّة من شجرة تسمّى (أبْهَل) وتُغلى حتّى تصبح صلبة القوام وتطلى بها أبدان الجمال لعلاجها من الجرب فكانوا يعتقدون أنّ هذه المادة تزيل الجرب (١).

وهناك نوع آخر من القطران أيضاً ويستخرج أثناء تقطير الفحم الحجري لإعداد الغاز منه.

ويُفهم من بعض الكتابات أنّ القطران سائل دهني لاصق يُستخرج من الأخشاب التي تفرز الصمغ ومن أشجار أُخرى ، ويُستفاد منها في البيطرة لعلاج الالتهابات (٢).

وعلى أيّة حال يُستفاد من الآية المذكورة أنّ أبدان أهل النّار تُغَطّى بمادة سوداء قابلة للاحتراق بدل الثياب ، وكل شيء فيها على العكس ممّا يتوقعه الإنسان من الثياب ، فهو يتوقع أنّ الثياب زينة ، وتقي الإنسان من مخاطر الحر والبرد ، إلّاأنّ هذه الثياب المخصصة لأهل النّار قبيحة وكريهة المنظر ، وكريهة الرائحة أيضاً. وتحترق في نار جهنّم.

هذا جزاء من كان يتبختر أمام اليتامى والمستضعفين الحُفاة بأفخر أنواع الثياب الموشّاة بالذهب يتفاخرون عليهم فيحرقون قلوبهم ، فهذا نصيب الظلمة والمجرمين من الثياب في يوم القيامة.

* * *

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٩ ، ص ١٤٨.

(٢) قاموس فرهنك معين ، كلمة (قطران).

٣٢٧

سائر العذاب الجسدي لأهل النّار :

تمهيد

تمثّل جهنّم مبدئياً مركز الغضب الإلهي وكل شيء فيها مطبوع بطابع العذاب والعقاب بألوانه وأشكاله المختلفة التي يتصورها الذهن أو لا يتصورها ومُعَدٌّ للظالمين والمجرمين.

وقد أشار القرآن الكريم في مواضع متفرقة إلى جوانب من ذلك العذاب (سوى ما تمّ ذكره) ، نقرأ نماذج منها في الآيات الآتية :

١ ـ (وَاصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّن يَحمُومٍ* لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) (الواقعة / ٤١ ـ ٤٤)

٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلنَاهُمْ جُلُوداً غَيرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً). (النساء / ٥٦)

٣ ـ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَومَ يُحمَى عَلَيهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزتُمْ لِأَنْفُسِكُم فَذُوقُوا مَاكُنْتُم تَكْنِزُونَ). (التوبة / ٣٤ ـ ٣٥)

٤ ـ (وَاذَا أُلقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوا هُنَالِك ثُبُوراً* لَّاتَدْعُوا اليَومَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً). (الفرقان / ١٣ ـ ١٤)

٥ ـ (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ). (المؤمنون / ١٠٤)

٦ ـ (اذِ الْأَغْلَالُ فِى اعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ في النَّارِ يُسْجَرُونَ). (غافر / ٧١ ـ ٧٢)

٧ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العَذابِ* قالُوا اوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ). (غافر / ٤٩ ـ ٥٠)

* * *

٣٢٨

جمع الآيات وتفسيرها

٥ ـ سائر عذابهم الجسدى

رياح مهلكه ، وظلال محرقة :

قَسَّمت الآية الأولى الناس إلى ثلاث فئات وهي : فئة «المقربين» و «أصحاب اليمين» و «أصحاب الشمال». ثم قالت عن أصحاب الشمال (وهم الذين يتسلمون كتبهم بيد بشمائلهم دلالة على سوء عملهم) إنّهم : (فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّن يَحمُومٍ* لَّابارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ).

وفي الحقيقة أنّ النّار كالجنّة فيها ماء وهواء ونسيم وظل ، ولكن ياله من نسيم ، فقد سمّاه القرآن بـ «السموم».

«السموم» : مأخوذة عن كلمة (السم) وتعني الهواء اللافح من شدّة حرارته الذي يدخل المسام (الفتحات الدقيقة على جلد الإنسان) ويسبب هلاكه.

(وقد سمّيت كلمة «السَم» بهذا الاسم لأنّها تنفذ إلى جميع دقائق وثغرات الجسم ، لأنّ السَمَّ على قول الراغب يعني أي فتحة دقيقة كفتحة الأبرة وفتحة الأنف والأُذن) (١).

ويوجد لديهم ماء أيضاً إلّاأنّه حار وقاتل ، ولديهم ظل إلّاأنّه من دخان أسود كثيف وحار!

حين يتعرض الإنسان للحرارة الشديدة في هذه الدنيا ، فإمّا أن يجعل نفسه عرضة لمهب النسيم أو يدخل في الماء أو يلتجيءُ إلى الظل ، وهذه الثلاثة كلها حارة وقاتلة هناك على العكس من الجنّة التي تكون أماكنها الواحدة أبرد من الأُخرى وأكثر إثارة للبهجة والارتياح.

* * *

__________________

(١) جاء «قاموس اللغة» إنّ كلمة «السموم» تُطلق على الرياح الحارّة التي تهب في النهار وهي في مقابل «الحرور» وهي الرياح الليلية الحارّة.

جاء الفخر الرازى في تفسيره : إنّ السموم هي الرياح المتعفّنة التي عندما يستنشقها الإنسان يتعفن قلبه فيهلك. (التفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٩٨).

٣٢٩

وأشارت الآية الثانية إلى واحدة أُخرى من العقوبات الصارمة للكفرة ، فقالت : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً) (١).

ثم تضيف : (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلنَاهُمْ جُلُوداً غَيرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً).

والجملة الأخيرة هي في الحقيقة إجابة عن هذا السؤال : هل أنّ عذاباً كهذا ممكن؟ وإن كان ممكناً فهل هو عادل؟! القرآن يقول : إنّ هذا على الله يسير ولا يتعارض مع حكمته أيضاً.

وعُرِض بين المفسرين سؤال معروف وهو : إذا تبدّلت هذه الجلود بجلود أُخرى ، فما ذنب هذه الجلود الجديدة حتّى تتعذب؟

طرح المفسرون الكبار اجابات متعددة عن هذا السؤال وأفضلها هو جواب الإمام الصادق عليه‌السلام حين أجابَ عن السؤال الذي طرحه «ابن أبي العوجاء» بعد قراءة هذه الآية : «ماذنب الغير»؟

فأجاب الإمام عليه‌السلام جواباً غنيّاً ومقتضباً : «هي هي وهي غيرها».

قال : فمثل لي في ذلك شيئاً من أمر الدنيا قال : «نعم أرأيت لو أنّ رجلاً أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها فهي هي وهي غيرها» (٢).

ووفقاً لهذه الرواية ، فإنّ جلوداً جديدة ستنشأ من الجلود الأُولى فتتغيّر الصورة مع الحفاظ على وحدة المادّة.

وقال جماعة أيضاً : إن كانت الصورة والمادة غير الصورة والمادّة للجلود السابقة عندئذٍ لا تحصل أيّة مشكلة لأنّ عذاب القيامة تذوقه الروح لا الجلد ، ورأوا أنّ التعبير بـ «ليذوقوا العذاب» دليل على صحة هذا القول. ولهذا السبب كثيراً ما يحصل ويرتكب الإنسان ذنباً بعضو فينزل العقاب على عضو آخر ، كأن يشرب الخمر مثلاً فيضرب ثمانين سوطاً على ظهره ، فيكون هذا في مقابل ذاك وايذاء الجسم وسيلة لايذاء الروح.

__________________

(١) يبدو أن تنكير النّار هنا لتبيان عظمتها.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٤ ، ح ٣١٤.

٣٣٠

وفي الآية الثالثة إشارة إلى جزاء طائفة أُخرى من المسيئين من الذين كانوا يكنزون الذهب والفضة والدراهم والدنانير ولا يؤدّون ما عليها من حقوق شرعية فتقول الآية الشريفة : (وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

ثم تشير الآية إلى جانب من هذا «العذاب الأليم» وتُضيف : (يَومَ يُحمَى عَلَيهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم) ، ويقال لهم حينها : (هَذَا مَا كَنَزتُم لِأَنْفُسِكُم فَذُوقُوا مَاكُنْتُم تَكْنِزُونَ).

يُعطي هذا التعبير إجابة عن سؤال مهم بخصوص الآيات المتعلّقة بالعذاب الإلهي الشديد يوم القيامة ، وهو أنّ هذا الجزاء يُعتبر ثمرة لأعمال العباد ونتيجة فعلهم تتجسد لهم يوم القيامة على هذه الشاكلة ، فهم في الحقيقة يذوقون أفعالهم تماماً كالشخص الذي يسرف عدّة أيّام في تناول الخمر فيقع فريسة لأمراضٍ مؤلمة وشديدة ويبقى يعاني منها طوال حياته.

زنزانات جهنّم الانفرادية :

يواجهنا في الآية الرابعة نموذج آخر من العقاب المتنوع الذي يلقاه أهل النّار إذ تقول : (وَاذَا أُلقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوا هُنَالِك ثُبُوراً).

فيقال لهم لا فائدة من صياحكم وصراخكم هذا فهو لا ينفع شيئاً ، فمصائبكم جمّة تستحق الثبور والويل : (لَّاتَدعُوا اليَومَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً).

ويتضّح جيداً من هذا التعبير أنّهم ليسوا أحراراً حتّى في جهنّم فهم في ما يشبه الزنزانات مقيّدون بالاغلال والسلاسل حتّى تتعالى أصواتهم ولكنّها لا تحلّ لهم أيّة مشكلة.

كلمة «مقرنين» مأخوذة من المصدر «قرْن» ، وتعني في الأصل ـ كما قال الراغب في ـ المفردات : اجتماع شيئين أو أكثر لسبب من الأسباب ، ولهذا يطلق على الحبل الدي تُربط به الأشياء (قَرَن) على وزن كلمة «وَطَن» وُيقال «قَرْن» للقوم والجماعة الذين يعيشون في

٣٣١

زمان واحد ، ويُطلق أحياناً على الزمن لوحده ، وحينما تدخل هذه الكلمة في باب التفعيل فذلك دلالة على الكثرة والشدّة.

ولهذا فقد جاء أحياناً تفسير كلمة «مقرنين» في هذه الآية بمعنى شد وتوثيق أيدي وأرجل أهل النّار ، وقال آخرون أيضاً : يربط أهل النّار في ذلك اليوم جماعات جماعات بسلسلة طويلة وهذا تجسيد للارتباط الفكري والعملي للمجرمين الذين كانوا يتعاونون في هذه الدنيا على الفساد والظلم والعدوان على حقوق المظلومين ويتآمرون عليهم.

ولكن لو التفتنا إلى عبارة «مكاناً ضّيقاً» لوجدنا التفسير الأول هو الأنسب ، وهذا أيضاً تجسيد لأعمالهم في هذه الدنيا حين كانوا يزجّون بالأبرياء في الزنزانات ويقيّدونهم بالسلاسل ، أو يفرضون عليهم مثل هذه القيود في الحياه الاجتماعية فيصبحون كالسجناء مسلوبي القدرة على أيّة حركة.

«الثبور» : في الأصل بمعنى الهلاك رغم أنّ صاحب «مقاييس اللغة» قد ذكر له ثلاثة معانٍ وهي : الهلاك ، والمراقبة ، واللين. ولذا يقال للأرض المتراكم ترابها فوق بعضه كالنورة «ثَبرة».

ولكن قد تكون كل تلك المعاني راجعة في الأصل إلى معنى الهلاك ، لأنّ اجتياز مثل هذه الأراضي لايخلو من الخطورة ، ، ولما كان الإنسان يشدد في حماية نفسه وممتلكاته في المواقف الحرجة لذا فقد استخدمت هذه الكلمة بمعنى المراقبة أيضاً ، وعلى أيّة حال فانَّ العربي عندما كان يواجه أمراً خطيراً كان ينادي «واثبوراه» ومعناه : واويلتاه لقد هلكت وهذا مايعكس شدّة الأذى والشعور بالألم.

ولعل التعبير : (لَّاتَدعُوا اليَومَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ، فيه إشارة إلى العوامل المتعددة للهلاك أو شدّة أو طول مدّة هذه العوامل في جهنّم ، وعلى أيّة حال فهذا أيضاً تجسيد لأعمالهم التي كانوا يمارسونها في هذا العالم وما كانوا يرتكبونه من ذنوب وما يسبّبونه لعباد الله من المصائب والمآسي وما يفتحونه عليهم من أبواب الهلاك من كل صوب.

* * *

٣٣٢

ونلاحظ في الآية الخامسة وجه آخر من وجوه هذا العذاب الأليم ، فتقول : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ولهذا : (وَهُم فِيهَا كَالِحُونَ).

كلمة «تلفح» : مأخوذة من المصدر «لَفْح» على وزن (فَتْح) وتعني على قول معظم أصحاب اللغة تأثير حرارة الشمس والنّار والرياح السموم على الوجه وتغييره ، وتُطلق هذه الكلمة أيضاً على ضربة السيف لشباهتها بضربة حرارة الشمس ولهيب النّار ورياح السموم.

وتُستخدم أحياناً كلمة «نفح» بدلاً من كلمة «لفح» على المراحل الأخف.

و «كالحون» : مشتقة من «الكلوح» ومعناها ـ حسب ما يراه الكثير من أهل اللغة والمفسّرين هو التعبيس والتقطيب ، بينما تبقى الشفاه مفتوحة وهذه الحالة تحصل على وجوه أصحاب جهنّم بسبب شدّة لهيب النّار وهي تمثّل في مجموعها وصفاً لتأثير ضربات لهيب النّار على وجوههم وهو أمر مؤلم جدّاً على تلك الوجوه التي كانت كثيراً ما تقطب بوجوه المستضعفين ، والشفاه التي تبقى منفصلة عن بعضها للاستهزاء بهم والانتقاص منهم بضحكات السخرية.

إنّ هذه الأعمال القبيحة المؤلمة تتحول في نهاية المطاف إلى عذاب أليم لهم.

* * *

وفي القسم السادس من هذه الآيات يطالعنا نمط جديد من الجزاء الذي يتعرض له هؤلاء ، إذ تقول الآية إنّهم يطلعون سريعاً على نتائج أعمالهم وحينها : (اذِ الْاغلَالُ فِى اعنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ) ، ثم تضيف الآية : (يُسْحَبُونَ* فِى الحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ).

«الاغلال» : جمع «غل» ، «والسلاسل» جمع «سلسلة» واختلافهما هو أنّ الغل حلقة توضع في رقبة أو أيدي وأرجل السجناء والسلسلة هي ما يوثق أو يشد به السجناء أو توضع مباشرة على اليد والرجل والرقبة.

وكلمة «يُسحبون» مأخوذة من المصدر «سَحْب» على وزن (سَهْل) ولهذا السبب يُقال

٣٣٣

للغيوم «سحاب» لأنّها تنسحب على صفحة السماء على نطاق واسع (١).

ويرى بعضهم أنّ هذه الكلمة تعني السحب على الأرض (٢) وهذا مالا يتّسق والآية موضع بحثنا ، ولا مع بعض مشتقاتها ككلمة السحاب.

واشتقت كلمة «يُسجرون» من المصدر «سَجْر» وهو على وزن (زَجْر) وجاء لها ثلاثة معان في كتاب مقاييس اللغة وهي : المل ، والمزاح ، والاذكاء. لكن بعضهم يُرجع هذه الفروع الثلاثة إلى أصل واحد ويقول : المعنى الأصل لها هو الهيجان والتساقط من شدّة الامتلاء ، ولهذا اطلقت كلمة «مسجور» و «سجير» على النّار المذكاة أو المتّقدة وعلى البحر الطافح الموّاج ، وعلى الصديق الحميم الذي يفيض بالمحبّة والاثارة.

واستناداً إلى ما سبق ذكره ، فهم يُغلّون ويُشدّون بالسلاسل أولاً ومن ثم يدخلون في الماء الحار المحرق ثم في النّار ، ومن الواضح أنّ ادخالهم في النّار بعد الماء الحار سيكون أشدّ ألماً.

وهذا تجسيد لأعمالهم التي كانوا يمارسونها بحق الأبرياء في الدنيا إذ كانوا يذيقونهم أبشع صنوف العذاب ، حيث يصادرون حرّياتهم ويسحبونهم بالسلاسل والأغلال.

نستخلص من مجموع هذه الآيات أنّ عقوبات أهل النّار هي ممّا لا يسع لها الوصف ، ولا يتحملها أشدّ الناس قوّة وجلداً ، إنّها عقوبات أشد ما تكون من القسوة والإيلام.

* * *

توضيح

لماذا يكون العذاب الإلهي شديداً إلى هذا الحد؟

إنّ شدّة وتنوّع وطول مدّة هذه العقوبات تثير هذا التساؤل لدى الكثير من الناس ، وهو كيف ينسجم هذا العذاب الأليم مع اللطف الربّاني ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، كيف

__________________

(١). مقاييس اللغة ؛ ومصباح اللغة ؛ ومفردات الراغب.

(٢). التحقيق في كلمات القرآن الكريم ؛ وتفسير الميزان في ختام الآية موضع البحث.

٣٣٤

تتناسب العقوبات المذكورة مع أعمال أصحاب الجحيم؟ ولعل عدم القدرة على تقديم إجابة شافية على هذا الاعتراض دفع جماعة إلى حملها على معانٍ مجازية أو القول إنّها عقوبات روحية.

لكن الالتفات إلى النقطة التي تُعتبر المفتاح لحلّ مثل هذه المشاكل ، والتي لفتنا إليها الانظار مَرّات متعددة سيُساعد على فكّ هذا اللغز ، وهي أنّ هذه العقوبات تمثل على الأغلب تجسيداً لأعمال الإنسان وهي حصيلة لها.

وهو مانشاهد نماذج مختلفة منه في عالمنا هذا.

فهناك مثلاً أشخاص يقعون ضحية لبعض أنواع الإدمان الخطيرة لمجرّد تحقيق لذّة وهمية عابرة ، وهذا الإدمان يؤدّي عادة إلى استهلاك كل طاقاتهم وسريعاً ما يتحوّلون إلى كائنات منهكة مُصابة بأنواع الأمراض القاتلة التي يظلّون يعانون منها ومن آلامها بقيّة أعمارهم أو أنّهم يتعرضون للاصابة ببعض الأمراض المستعصية على العلاج ـ نتيجة للانحرافات الجنسية ـ أمثال مرض الايدز ،

إنّ الإنسان عندما يرى الأشخاص المصابين بهذا المرض يتأسى ويحزن على حالهم ويتأسف على ماهم فيه من العناء.

فهل يمكن القول : لماذا تصبح حصيلة هذا الادمان أو هذا الانحراف على هذه الدرجة من الشدّة وطول المدّة؟ إذ لايوجد بينهما أي تناسب منطقي.

ولو تفوّه أحد بمثل هذا الكلام ، لقيل له على الفور : هذه هي نتيجة عملهم وقداخطروا وانذورا بها من قبل. ويصدق نفس هذا المعنى على العذاب الذي يلقاه أصحاب جهنّم أيضاً فقد حذّرهم تعالى وأنذرهم مِراراً في القرآن الكريم ولكنّهم كانوا معاندين.

وقد لوحظ في كثير من الأحيان أنّ بعض الأشخاص قد تعرّضوا إلى حوادث السيارات ـ لعدم اهتمامهم بمراعاة اصول السوق ـ فاصيبت منهم الأيدي والأرجل أو العمود الفقري وظلوا يعانون الألم طوال حياتهم ، في حين كان باستطاعتهم تجنّب كل ذلك من خلال الالتزام الصحيح بتعليمات المهنة ، فحينما يدور الحديث عن نتائج العمل وآثاره الطبيعية.

٣٣٥

لا يبقى هناك أي مجال لطرح التساؤلات الواردة أنفاً. إضافة إلى ذلك يوجد بين أصحاب النّار أشخاصٌ جلبوا للآخرين مثل هذا العناء وهذا العذاب ، ولو تمعّن الإنسان في أنواع التعذيب التي تُمارس في عالم اليوم ـ ناهيك عمّا جرى منه في العصور الغابرة ـ لأيقن أنّ مرتكبيها يستحقون بالتأكيد هذه العقوبات الشديدة ، بل إنّ ظلم الظالمين يصل أحياناً إلى حد يبلغ مرحلة من التفنن والتمادي بحيث يحسب الإنسان عدم وجود أيّة عقوبة تناسب ما اقترفه من جرائم.

* * *

٣٣٦

٥ ـ العذاب الروحي

تمهيد :

كما توجد في الجنّة نعم وفيرة ولذيذة للجسم والروح ، إذ يكمل أحدهما الآخر ولا يمكنهما الانفصال عن بعضهما بسبب اقتران المعاد الجسمي بالمعاد الروحي ، فكذلك توجد في جهنّم عقوبات لكلا النوعين ، والآيات الشريفة الواردة في هذا الحقل تثبت صحّة هذا القول : فلنقرأ خاشعين هذه الآيات :

١ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). (الحج / ٥٧)

٢ ـ (رَبَّنَا انَّكَ مَنْ تُدخِلِ النَّارَ فَقَدْ اخْزَيتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ انصَارٍ). (آل عمران / ١٩٢)

٣ ـ (كُلَّمَا ارادُوا انْ يَخْرُجُوا مِنهَا مِن غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ). (الحج / ٢٢)

٤ ـ (رَبَّنَا اخْرِجْنَا مِنْهَا فَأِنْ عُدْنَا فَانِّا ظَالِمُونَ* قَالَ اخْسَئوُا فِيهَا وَلَاتُكَلِّمُونَ). (المؤمنون / ١٠٧ ـ ١٠٨)

٥ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوماً مِّنَ العَذَابِ* قَالُوا اوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الكَافِريِنَ الَّا فِى ضَلَالٍ). (المؤمن / ٤٩ ـ ٥٠)

٦ ـ (اذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوُا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً). (الفرقان / ١٢)

٧ ـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا انْفُسَكُمْ وَاهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّايَعْصُونَ اللهَ مَاأَمَرَهُمْ وَيفعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ) (١). (التحريم / ٦)

__________________

(١). هناك أيضاً آيات اخرى تحتوي على نفس هذه المضامين وردت في سور : المجادلة ، ٥ ؛ السجدة ، ٢٠ ؛ الأعراف ، ٥٠ ؛ الحاقة ، ٣٥.

٣٣٧

٨ ـ (وَنَادَى اصْحَابُ الجَنَّةِ اصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَّاوَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ان لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). (الأعراف / ٤٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الحزن والهم القاتل والحسرة اللامتناهية :

المقصود من العقوبات والآلام الروحية مجموعة من الممارسات التي تضغط على روح الإنسان ونفسه وإن كانت لاتؤثر على جسمه في الظاهر أو أنّ لها تأثيراً ثانياً إذ تؤذي الجسم مباشرة وتؤلم الروح أيضاً.

فنرى في الآية الاولى نموذجاً للقسم الثاني إذ تقول : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ).

لم يتسع حديث القرآن هنا لاعطاء مزيد من الايضاحات حول كيفية هذا العذاب ، والاسلوب الذي يؤدّى لِاهانة وإذلال أصحاب النّار ، بل أشار إلى الموضوع إشارة عامّة تشمل ـ بلا شك ـ جميع الجوانب المهينة في عذاب جهنّم التي تؤدّي إلى إذلال المستكبرين الطغاة ودفعهم إلى أدنى درجات الذلّة.

وقد احتمل بعض المفسّرين «كالقرطبي» أنّ العذاب المهين إشارة إلى المصير الذي آل إليه المشركون في معركة بدر ، ولكن لو التفتنا إلى الآية السابقة التي تحدثت عن «جنات النعيم» للمؤمنين لرأينا أنّ الآية دالّة على العذاب المهين الموجود في النّار.

وعلى كل حال يدل هذا التعبير الذي ورد عدّة مَرّات في القرآن الكريم على أنّ عذاب الجحيم مقرون بأنواع الاهانات التي تؤلم كلّا من الروح والجسد ، وهذا تجسيد للتحقير والاستهانة التي كانوا يبدونها للأنبياء والمؤمنين والمستضعفين من أهل الإيمان ، وهذا مايستلزم أن يتلقّوا في ذلك اليوم نتيجة عملهم بهذه الصورة.

وفي الآية الثانية كان الحديث عن فضيحة أهل النّار وهذا هو عذاب معنوي مؤلم ، فقد نقلت لنا الآية ذلك على ألسنة العلماء من أهل الإيمان الذين اطلقت عليهم «أولو الألباب»

٣٣٨

فقالت : (رَبَّنَا انَّكَ مَنْ تُدخِلِ النَّارَ فَقَد اخْزَيتَهُ وَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ انصَارٍ).

«أخزيته» : مأخوذة من (الخزي) ولها معانٍ عديدة في كتب اللغة مثل : سوء الحال ، والابتعاد ، والذلّة ، والافتضاح ، والاستهانة ، ونفس هذه المعاني وردت في كلام المفسّرين أيضاً (١).

ويتضّح من سياق الآية أنّ العقوبات النفسية يوم القيامة أكثر إيلاماً ، لأنّ اولي الألباب يطلبون من الله عزوجل أن لا يدخلهم النّار ويقولون : إنّك من أدخلته النّار فقد أخزيته إشارة إلى أنّ الشيء الأسوء من النّار هو ذلك الخزي ، تماماً مثل بعض الأشخاص الذين لا يأبهون كثيراً لدخولهم السجن ولكنهم يحرصون كثيراً على عدم انتشار هذا الخبر ، لأنّ انتشاره يؤدّي إلى فضيحتهم في المجتمع وهو ما يعتبرونه أشدَّ إيذاءً وإيلاماً من السجن ذاته.

أمّا جملة : (وَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ انصَارٍ) ، فهي إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنَّ كل مايجري عليهم اليوم إنّما جاء نتيجة لظلمهم ، فمن الطبيعي أن يفتضحوا هناك ويُذلّوا ولا يجدون ناصراً ولا معيناً ، (هذا التعبير لا يتنافى طبعاً مع قضّية الشفاعة لمن يستحقّها ، لأنّ المقصود هنا نفي الناصر الذي يعين الظالمين بقدرته ونفوذه ، لا عن طريق الاستعانة بالقدرة الرّبانية).

* * *

وتطرّقت الآية الثالثة إلى موضوع الغم والحزن الذي يعاني منه أصحاب جهنّم وهو ما يعكس آلامهم النفسية ، وقالت : (كُلَّمَا ارَادُوا انْ يَخْرُجُوا مِنهَا مِن غَمٍّ اعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ).

قال الكثير من المفسّرين إنّهم كلما أرادوا الخروج من هذا الغم والتحرر منه واللجوء إلى أطراف جهنّم ، يقوم خزنتها بإرجاعهم بالهراوات أو المقامع النّاريّة ، لأنّ الآية السابقة قد

__________________

(١). مقاييس اللغة ؛ مصباح اللغة ؛ صحاح اللغة ؛ لسان العرب ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الحكيم ؛ وجاء في تفسير مجمع البيان معنيان آخران لكلمة الخزي وهما : الهلاك ، والوقوف في موقف الفضيحة والذل.

٣٣٩

أشارت إلى هذا المعنى وخاصّة الجملة التي تنص على : (وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ). (الحجّ / ٢١)

وجملة : (وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ) التي تُقال لهم من باب التقريع والاستهانة تُعتبر هي الاخرى نموذجاً لهذا العذاب النفسي (١).

كثرة اللوم والتقريع :

نواجه في الآية الرابعة صورة جديدة للإهانة والاحتقار التي يلقاها أصحاب النّار وهذا ـ كما قلنا ـ نوع من العذاب النفسي الأليم ، وتقول الآية المباركة : (رَبَّنَا اخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَانَّا ظَالِمُونَ)، فيقال لهم من قبل الله تعالى : (قَالَ اخسَئُوا فِيهَا وَلَاتُكَلِّمُونَ).

وقد صَرّح جميع أصحاب اللغة والمفسرون بأنّ كلمة «اخسأ» تعبير يُستخدم لطرد الكلب وإن استخدامه هنا فيه دلالة على احتقار هؤلاء الظلمة والمستكبرين.

ولعل كلمة «لاتكلّمون» أكثر منها مرارة واستهانة ، فالمولى الكريم الرحيم يطرد عبده ويقول له لا تكلّمني أبداً ، وهذا هو نفس المعنى الذي أشارت إليه العبارة الواردة في دعاء كميل : «فهبني ياإلهي وسيّدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك».

ولكن لماذا يواجه هؤلاء مثل هذا العذاب النفسي القاتل؟ تزيح الآيات التالية الستار عن هذه القضّية فتقول : (انَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّن عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا وَانتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى انْسَوْكُمْ ذِكرِى وَكُنْتُمْ مِّنهُمْ تَضْحَكُونَ). (المؤمنون / ١٠٩ ـ ١١٠)

فكانت نتيجة ذلك الاستهزاء والضحك على المؤمنين أن أصبحتم اليوم عرضة للاستهزاء والاحتقار ، وهذا في الحقيقة تجسيد لأعمالكم!

* * *

__________________

(١). كلمة «الحريق» وإن كانت هنا اسم مصدر إلّاأنّ لها معنى الفاعل ، أمّا على قول البعض الآخر فهي صيغة مبالغة (أو صفة مشبّهة» ، وعلى قول الراغب ف «الحريق» هنا بمعنى النّار وهذا التفسير يبدو أكثر ملائمة لأنّه أضاف العذاب إلى الحريق.

٣٤٠